بذور البرتقال الخمس

عندما أُلْقِي نظرةً عابرةً على ملاحظاتي وسجلَّاتي الخاصة بقضايا شيرلوك هولمز ما بين عامَي ١٨٨٢ و١٨٩٠، أجد عددًا كبيرًا منها يتَّسم بخصائص غريبة ومثيرة للاهتمام مما يجعل من الصعب أن أُقرر أيها أختار وأيها أترك. ومع ذلك، فقد اكتسب بعض تلك القضايا بالفعل شُهرة من خلال الصحف، ولم يُتِح بعضها الآخر مجالًا لإظهار تلك الميزات الخاصة التي تمتَّع صديقي بقدرٍ كبير منها، والتي تهدف هذه الصحف إلى إبرازها. كذلك أربكَ بعضُ القضايا مهارته التحليلية، ومن شأنها أن تكون، كالقصص، بدايات بلا نهايات، بينما لم تُحَل قضايا أخرى إلا جزئيًّا، ولها تفسيراتها المبنية على الحَدْس والتخمين بدلًا من الدليل المنطقي الكامل الذي كان يُفضِّله كثيرًا. ومع ذلك فإن واحدة من تلك الأخيرة، كانت لافتة للغاية في تفاصيلها، ومُذهلة للغاية في نتائجها، وإن ذلك يُغريني لسرد وقائعها، بصرف النظر عن أن ثمة نقاطًا ذات صِلة بها، لم تُحَل كُليًّا قط، وعلى الأرجح لن تُحلَّ أبدًا.

حملت لنا سنة ١٨٨٧ سلسلة طويلة من القضايا المتفاوتة الأهمية، التي أحتفظُ بسجلاتها. ومن بين العناوين الرئيسية في تلك السنة، تحضُرني مغامرة مجلس البارادول، ومغامرة جمعية الرهبان الهُواة، التي امتلكت ناديًا فاخرًا في قبو أحد مخازن الأثاث، وأيضًا الحقائق المتَّصلة بفقدان السفينة البريطانية «صوفي أندرسون»، والمغامرات الفريدة لعائلة جرايس باترسون في جزيرة أوفا، وأخيرًا قضية التسمُّم في كامبرْويِل. في المغامَرة الأخيرة، كما قد تذكرون، استطاع شيرلوك هولمز، من خلال إعادة مَلْء ساعة القتيل، أن يُثبتَ أنها كانت قد مُلئت قبل ساعتين، وأن المُتوفَّى، بِناءً على ذلك، كان قد ذهب للنوم في تلك الأثناء؛ وهو الاستنتاج الذي كان له أعظم أهمية في حلِّ القضية. قد أستعرض كل هذه القضايا لاحقًا، لكن أيًّا منها لا تتَّسم بتلك السمات الفريدة التي اتَّسمت بها سلسلة الملابسات الغريبة التي أنا بصدد وصفها الآن.

كُنا في أواخر شهر سبتمبر، وكانت عواصف الاعتدال الخريفي تهبُّ بعنف غير مسبوق. على مدار اليوم، كانت الريح تعوي والأمطار تَقصِف النوافذ، حتى إننا هنا في قلب مدينة لندن العظيمة والعريقة، اضطُرِرنا إلى التوقُّف لبعض الوقت عن ممارسة حياتنا الطبيعية، وملاحظة تجلِّيات تلك القوى الطبيعية العظيمة التي تزأر في وجه الإنسان المتواري خلف قضبان حضارته، كأنها وحوش جامحة حبيسة. وحالَما حلَّ المساء، ازدادت العاصفة شِدة وصخبًا، وعوتِ الريح وانتحبت في المدخنة كالطِّفل. جلس شيرلوك هولمز على أحد جانبَي المدفأة مُضطربَ المزاج، يُرتِّب سجلات الجريمة خاصَّته، بينما كنت أنا على الجانب الآخر من المدفأة، مُستغرِقًا في واحدة من قصص كلاك راسل البحرية الجميلة، حتى بَدا لي وكأن عواء العاصفة في الخارج قد امتزج مع النص، وأن زخَّات المطر تمتدُّ لتتَّصل باندفاع أمواج البحر. كانت زوجتي في زيارة لمنزل والدتها، ولبضعة أيام عُدتُ مرة أخرى إلى مسكني القديم في شارع بيكر.

قلتُ متطلِّعًا إلى رفيقي: «عجبًا، كان ذاك بالتأكيد جرس الباب. من عساه يأتي الليلة؟ لعله أحد أصدقائك؟»

أجابني: «ليس لدي أصدقاء غيرك. كما أنني لا أرحِّب بالزوَّار.»

«ربما كان عميلًا إذن؟»

«لو كان كذلك، فلا بدَّ أنها قضية خطيرة. فلا شيء أقل من ذلك يُمكن أن يحمل أحدًا على المجيء في يومٍ كهذا، وفي ساعة كهذه. ولكنَّني أُرجِّح احتمال أن تكون إحدى صديقات صاحبة البيت.»

غير أن شيرلوك هولمز كان مخطئًا في حدسه؛ فقد سَمعنا خطوًا في الردهة وطرقًا على الباب. مدَّ ذراعَه الطويلة ليُحوِّل المصباح عن نفسه إلى الكرسي الخالي الذي لا بدَّ أن الزائر سيَجلس عليه، وقال: «ادخل!»

كان الرجل الذي دخل شابًّا، يبدو في الثانية والعشرين تقريبًا، أنيقًا وحسن الهيئة، وفي ملامحه شيء من الدماثة والرهافة. ودلَّت مظلَّة المطر التي حملها بيده، ومعطفه الطويل اللامع المُقاوم للماء، عن الطقس القاسي الذي عانى منه في طريقه. تفحَّصه شيرلوك هولمز في ضوء المصباح بقلق، واستطعت أن أرى الشحوب البادي على وجهه وعينَيه المرهقتين، كمن يرزح تحت وطأة قلق بالغ.

قال الرجل رافعًا إطار نظارته الذهبي: «أسألك أن تقبَلَ اعتذاري، وأرجو ألَّا أكون متطفِّلًا. يؤسفني أنني جلبت إلى غرفتك الدافئة شيئًا من آثار العاصفة والمطر.»

قال له هولمز: «أعطني معطفك ومظلَّتك، سأعلقهما هنا على المِشجب، وسيجفَّان سريعًا. يبدو لي أنك آتٍ من الجنوب الغربي.»

«أجل، من هورشام.»

«هذا المزيج من الطين والطبشور الذي أراه على مقدمة حذائك مميزٌ للغاية.»

«لقد أتيتُ طالبًا مشورتك.»

«ذاك أمر سهل.»

«ومساعدتك.»

«هذا ليس سهلًا جدًّا دائمًا.»

«لقد سمعتُ عنكَ يا سيد هولمز. سمعتُ من الميجور برندرجاست كيف أنقذتَه من فضيحة نادي تانكرفيل.»

«آه، بالطبع. لقد اتُّهِم زورًا بالغشِّ في لعب الورق.»

«قال إنَّ باستطاعتكَ حلَّ أي شيء.»

«في قوله هذا مبالغة.»

«قال إنك لم تُهزم قط.»

«لقد هُزمت أربع مرات؛ ثلاثًا على يد رجال، وواحدة على يد امرأة.»

«ولكن ما قيمة ذلك مقارنةً بعدد نجاحاتك؟»

«أنت محقٌّ، لطالَما كنت موفَّقًا في العموم.»

«ربما ستنجح إذن في حلِّ قضيتي.»

«رجاءً قرِّب كُرسيك من المدفأة، وتفضَّل بإعطائي تفاصيل قضيتك.»

«إنها ليست قضية عادية.»

«ما من قضية تأتيني عادية؛ فأنا الملاذ الأخير.»

«ومع ذلك فإنني أشكُّ يا سيدي في أن تكون قد سمعت، في كل ما خبرته، عن أحداث أكثر غموضًا واستعصاءً على التفسير، من سلسلة الأحداث التي وقعَت لعائلتي.»

قال هولمز: «إنك تُثير اهتمامي. رجاءً أخبرنا بالحقائق الأساسية من البداية، ويُمكنني بعد ذلك أن أسألك عن التفاصيل التي تبدو لي أكثر أهمية.»

سحب الشاب كرسيَّه ومدَّ قدميه الرطبتين باتجاه اللهب.

تحدَّث قائلًا: «اسمي جون أوبنشو، ولكن على حدِّ علمي، ليس لي علاقة بهذه القضية الفظيعة. فالأمر متوارَث؛ لذا فلكَي أُعطيك فكرة عن الحقائق المتعلِّقة بالقضية، عليَّ أن أعود بك إلى بداية الأمر.

لا بدَّ أن تعلم أنه كان لجدي ولدان؛ عمي إيلايس وأبي جوزيف. امتلك أبي مصنعًا صغيرًا في كونفنتري، أجرى فيه توسُّعات عندما اختُرعَت الدراجات الهوائية، وحصل على براءة اختراع إطارات أوبنشو المتينة، ولاقى عمله نجاحًا مكَّنه من بيعه والتقاعد وهو في سَعة من العيش.

أما عمي إيلايس فقد هاجر إلى أمريكا في شبابه، وعمل مُزارعًا في فلوريدا، حيث أفادت أخباره بأنه قد أبلى بلاءً حسنًا جدًّا. وإبَّان الحرب، قاتل في جيش جاكسون، ثم تحت إمرة هوود؛ حيث ترقَّى إلى رتبة كولونيل. وحينما ألقى الجنرال لي سلاحه، عاد عمي إلى مزرعته، وظلَّ بها مدة ثلاث أو أربع سنوات. وفي حوالي عام ١٨٦٩ أو ١٨٧٠، عاد إلى أوروبا وعاش في ضَيعة صغيرة في مقاطعة ساسكس، بالقرب من هورشام. كان قد جمع ثروة طائلة في أمريكا، والسبب في تركه لذلك البلد هو بُغضه للسُّود، وعدم رضاه عن سياسة الجمهوريين في منحهم الامتيازات. كان رجلًا غريبًا، عنيفًا وحادَّ الطِّباع، ويتفوَّه ببذاءات حينما يغضب، ويَميل للانطواء؛ حتى إنه على مدار كل السنوات التي عاشها في هورشام، أشك أن تكون قدمه قد وطئت البلدة مرة. كان لديه حديقة وحقلان أو ثلاثة حول منزله، وهناك كان يتريَّض، رغم أنه كثيرًا ما كان يلزم غرفتَه لأسابيع متَّصلة. وكان يُفرط في شرب البراندي ويُدخِّن بشراهة، لكنه لم يحتكَّ بالمجتمع قط، ولم يرغب في أن يكون له أيُّ أصدقاء، ولا حتى شقيقه نفسه.

غير أنه لم يُمانع وجودي معه؛ بل في الواقع كان يُحبني؛ إذ كنت صغيرًا في الثانية عشرة أو نحوها حينما رآني للمرة الأولى. كان ذلك في عام ١٨٧٨، بعدما أمضى ثماني أو تسع سنوات في إنجلترا. وقد ترجَّى أبي ليسمح لي بالعيش معه، وكان بالغ اللطف معي، على طريقته. فقد اعتاد في غير أوقات سُكره، أن يلعب معي الطاولة والضامة، وكان يُنيبُني عنه في التعامل مع الخدم والتجار، حتى إنني غدوت في سن السادسة عشرة رب المنزل. كانت المفاتيح كلها معي، وكان باستطاعتي الذهاب أينما شئتُ وفعل ما أحبَبت، ما دمت لا أقتحم عزلته. ومع ذلك، كان يوجد استثناء واحد فقط؛ إذ كانت له غرفة خشبية واحدة في الْعِلِّيَّة، مغلَقة على الدوام، لم يسمح قطُّ لي ولا لأي مخلوق كان بدخولها. وقد دفَعني فضول الصبية إلى أن أُلقي نظرة عليها عبر ثقب المفتاح، لكني لم أَستطِع رؤية أي شيء أكثر من مجموعة من الصناديق والحِزَم القديمة المتوقَّع وجودها في غرفة كتلك.

وذات يوم من أيام شهر مارس من عام ١٨٨٣، رأيت خطابًا عليه طابع بريدي أجنبي موضوعًا على الطاولة أمام صحن الكولونيل. لم يَكُن من عادته أن يتلقى خطابات؛ إذ كانت فواتيره كلها تُدفع نقدًا، ولم يكن له أي أصدقاء من أي نوع. قال وهو يَلتقطُه: «من الهند! الختم البريدي لبونديشيري! ما هذا يا تُرى؟» فتح الظرف بسرعة، فسقطت منه خمسُ بذورِ برتقالٍ مجفَّفة في صحنه مُحْدِثةً طقطقةً. أوشكَت أن تُفلِتَ منِّي ضحكة، لكني كتمتُها حين رأيت التعبير البادي على وجهه؛ فقد فغَرَ فاه، وجحظَت عيناه، وشحب لونه، وظلَّ يُحدِّق في الظرف الذي ما زال يُمسكه بيده المرتعشة، صارخًا: «كيه! كيه! كيه! يا إلهي! يا إلهي! لقد أهلكتني ذنوبي.»

صِحت: «ما الأمر يا عمَّاه؟»

قال: «إنه الموت!» ثم نهَض عن الطاولة وغادَرَ إلى غرفته، تاركًا إياي أرتعدُ من الخوف. تناولتُ الظرف ورأيتُ مكتوبًا بخطٍّ رديء في داخله بحبر أحمر فوق الختم بالضبط، الحرف كيه، مكرَّرًا ثلاث مرات. لم يكن في الظرف شيء آخر عدا البذور المجفَّفة الخمس. ماذا عساه يكون السبب في فزعِه الهائل؟ تركتُ مائدة الإفطار، وبينما كنتُ أصعد الدَّرَج، لقيتُ عمي نازلًا وفي يده مفتاح قديم صدئ، لا بدَّ أنه كان خاصًّا بالعليَّة، وفي اليد الأخرى صندوقٌ نحاسيٌّ صغيرًا يُشبِه الحصَّالة.

أقسم قائلًا: «ليفعلوا ما يَحلو لهم، ولكن والله لأهزمنَّهم!» ثم وجَّه كلامه لي قائلًا: «قُل لماري إنَّني سأحتاج إلى نارٍ في غرفتي اليوم، وأرسلْ في طلب فوردهام، محامي هورشام.»

فعلتُ ما أمَرني به، وحين وصَل المحامي، طَلب مني أن أصعد إلى الغرفة. كانت النار مُستعِرَة، واحتوى الموقد على كومة من الرماد الأسود المُتطاير، كأنه نتاج ورق مُحترِق، بينما قبَع الصندوق المعدني بجوار الموقد مفتوحًا وخاليًا. حينما استرقتُ النظر إلى الصندوق لاحظتُ أن غطاءه مكتوب عليه أحرف «كيه» الثلاثة التي رأيتُها على الظرف في الصباح.

قال عمي: أريد منك يا جون أن تشهد على وصيَّتي. سأترك مزرعتي بكل ما فيها من ميزات وعيوب لأخي، والدك، وستئول إليك بلا شك. إذا استطعتَ التمتُّع بها بسلام، فبِها ونِعْمَت! وإن لم تَستطِع فاعمل بنصيحتي يا بُنيَّ واتركها لألدِّ أعدائك. يُؤسفُني إعطاؤك مثل هذا السلاح ذي الحدَّين، لكن لا يُمكنني أن أعرف ما ستئول إليه الأمور. لُطفًا وقِّع على الورقة حيث يُشير لك السيد فوردهام.

وقَّعتُ مثلَما أُشير عليَّ، وأخذ المحامي الورقة معه. وبقدر ما تتصوَّر، أثَّرت فيَّ هذه الواقعة الغريبة أعمق تأثير، وأخذتُ أفكر فيها وأُقلِّبها في عقلي بكلِّ طريقة مُمكِنة، من دون أن أستخلِصَ منها أي استنتاج. لكنَّني لم أستطِع أن أنفضَ عنِّي ذلك الخوف الغامض الذي خلَّفته تلك الواقعة، على الرغم من أن حدَّة هذا الشعور أخذت تخفُّ بمرور الأسابيع دون أن يَحدُث ما يُعكِّر صفو الروتين المُعتاد لحياتنا. ومع ذلك فقد لاحظتُ تغييرًا اعترى عمي؛ إذ أفرط في الشرب أكثر من أي وقتٍ مضى، وتضاءل اكتراثه بالاختلاط بأي نوع من البشر. كان يَقضي معظم وقته في غرفته وقد أقفل الباب من الداخل، إلا أنه في بعض الأحيان كان يَظهر في حالة من الهياج من أثر الخمر ويَندفِع خارجًا من المنزل إلى الحديقة حاملًا مسدَّسًا في يده، صارخًا أنه لا يَخاف أحدًا، وأنه ما من إنسٍ ولا شيطانٍ سيَحبِسه كما تُحْبَس الخِراف في حظيرة. ومع ذلك، فما إن كانت تَنتهي نوبات الهياج هذه، حتى كان يُسرع في عصبية إلى غرفته موصدًا الباب خلفه بإحكام، كما لو أنَّ الرجل لم يَعُد بوسعه تحدِّي الخوف الرابض في أعماق روحه. في تلك الأوقات، كنت أرى وجهه يتصبَّب عرقًا، حتى في الأيام الباردة، كما لو كان قد خرج للتوِّ من الحمَّام.

حسن، لأصلَ إلى خاتمة القصة، وحتى لا أُسيء استغلال سَعة صدرك، يا سيد هولمز، ففي ليلة من الليالي، دخَل في نوبة من نوبات هياج المخمور تلك، ولم يَخرج منها قط. وحينما ذهبْنا للبحث عنه، وجدْناه مُنكفئًا على وجهه في بركة صغيرة مغطَّاة بزبد أخضر في نهاية الحديقة. لم يكن ثمَّة أثر لأيِّ عنف، ولم يَزِد عمق البرِكة على قدمَين؛ لذا حكَمَت هيئة المحلِّفين بأنه «انتحار»، آخِذين في الاعتبار غرابة أطوار الضحية. غير أنني؛ إذ كنت أعلم مدى نفوره من مجرد فكرة الموت، جابهتُ صعوبةً شديدةً في أن أُقنع نفسي بأنه سعى جاهدًا لملاقاة الموت بنفسه. ومع ذلك فقد أُقفلت القضية، وتقدَّم أبي لحيازة الضيعة، ومبلغ قدره ١٤ ألف جنيه، أُودع في حسابه البنكي.»

قاطعه هولمز قائلًا: «لحظة واحدة! إنَّ قصتك، في ظني، إحدى أكثر القصص التي سمعتُها إثارة على الإطلاق. أخبرني بتاريخ تسلُّم عمِّك للخطاب، وتاريخ انتحاره المزعوم.»

«وصل الخطاب في العاشر من مارس، عام ١٨٨٣، وحدثت الوفاة بعد سبعة أسابيع، ليلة الثاني من مايو.»

«أشكرك. أكمل أرجوك.»

«حينما تسلَّم أبي تركة هورشام، وبناءً على طلبي، تفقَّد بعناية العليَّة التي لطالَما كانت موصَدة. وجدْنا الصندوق المعدني هناك، غير أنَّ محتوياته كانت قد أُتلِفت. وكان على السطح الداخلي لغطائه مُلصَق ورقي مكتوب عليه الحرف «كيه» مكرَّرًا هكذا «كيه كيه كيه» في الأعلى، وقد كُتب تحته: «رسائل، ومذكرات، وإيصالات، وسِجل.» افترضْنا أن هذه الكلمات تُشير إلى طبيعة الأوراق التي أتلَفَها الكولونيل أوبنشو. أما باقي مُحتويات العليَّة، فلم يكن بينها شيء ذو أهمية كبيرة، عَدا عدد كبير جدًّا من الأوراق المبعثَرة والدفاتر التي تحتوي على مذكِّرات عمي في أمريكا. كان بعضها يعود إلى زمن الحرب، وظهَر فيها أنه أدَّى واجبه على خير وجه، واشتُهرَ بشجاعته كجنديٍّ. وكان قسمٌ آخر من المذكِّرات يعود إلى عصر إعادة إعمار الولايات الجنوبية، وكان معظمُها يتعلَّق بالسياسة؛ إذ كان من الجليِّ اضطِلاع عمِّي بدور مؤثِّر في معارضة الساسة الانتهازيِّين الذين جاءوا من الولايات الشمالية.

على كُلِّ حال، كنَّا في بداية عام ١٨٨٤ حين أتى أبي ليُقيم في هورشام، وكان كل شيء على خيرِ ما يُرام، حتى يناير ١٨٨٥. ففي اليوم الرابع بعد رأس السنة، سمعتُ أبي وهو يُطلِق صيحة دهشة عالية بينما كنا نَجلِس معًا على مائدة الإفطار. كان جالسًا وفي إحدى يدَيهِ ظرف فُتح للتوِّ، وفي اليد الأخرى المبسوطة خمس بذور برتقال مجفَّفة. لطالَما سخر مما أسماه قصَّتي التي لا تُصدَّق عن الكولونيل، لكنه كان يبدو حينئذٍ مرتعبًا وفي أشد الحيرة؛ إذ كان الأمر ذاته يتكرَّر معه.

تمتم قائلًا: «عجبًا! ما الذي يعنيه هذا بحق الجحيم، يا جون؟»

اختلج قلبي وقلت: «إنها الحروف كيه كيه كيه.»

نظر إلى داخل الظرف وصاح: «إنها كذلك، ها هي الحروف نفسها، لكن، ما هذا المكتوب فوقها؟»

اختلست النظر من فوق منكبه فوجدت مكتوبًا: «ضعِ الأوراق على المزولة الشمسية.»

تساءل: «أي أوراق؟ وأي مزولة؟»

قلت: «المزولة في الحديقة. لا يوجد غيرها، ولكن لا بدَّ أن الأوراق هي تلك التي أُتلفَت.»

قال وهو يُحاول استجماع شجاعته: «أُف! نحن في بلد متحضِّر، ولا نَقبل بحماقة من هذا النوع. من أين بُلينا بهذا؟»

أجبتُه ناظرًا إلى الختم البريدي: «من مدينة دَنْدِي.»

علَّق قائلًا: «يا لها من مُزحة سخيفة بحق! ماذا عليَّ أن أفعل بالمَزاول والأوراق؟ لن ألتفتَ إطلاقًا إلى هذا الهُراء!»

قلت: «لا بدَّ بالطبع إبلاغ الشرطة.»

قال: «ليَسخروا من محنتي؟ لن أسمح بشيء كهذا.»

قلت: «دعني أنا إذن أقوم بذلك.»

قال: «لا، لن أسمح لك. لن أسمح بإيلاء مثل هذا الهراء أي اهتمام.»

لم يكن الجِدال ليُجدي معه نفعًا؛ إذ كان رجلًا شديد التعنُّت، ومع ذلك فقد حاولتُ مناقشته وأنا مُتشائم في قرارة نفسي.

في اليوم الثالث بعد وصول الخطاب، غادَرَ أبي البيت ذاهبًا لزيارة أحد أصدقائه القُدامى، الميجور فريبَدي الذي كان يتولى قيادة أحد حصون بورتسداون هيل. كنتُ سعيدًا لمغادرته؛ إذ بدا لي أنه سيكون بمأمن مِن الخطر ببُعدِه عن البيت. غير أني كنت مخطئًا في ذلك؛ ففي ثاني أيام غيابه، تلقَّيتُ برقيةً من الميجور، يُناشدُني فيها أن أحضُر في الحال. كان أبي قد سقط في إحدى حُفر الطباشير العميقة التي تَكثُر في المنطقة، ورقَد فاقدًا الوعي ورأسه مهشَّم. عجلت إليه، لكنه قضى نحبه دون أن يَستعيد وعيه أبدًا. كان، على ما يبدو، عائدًا من فيرهام وقت الغسق، وإذ لم يكن خبيرًا بالبلدة، ولم تكن حفرة الطباشير مُسوَّرة، فلم تتردَّد هيئة المحلِّفين في الحُكم بأن حادثة الوفاة كانت، حسب قولهم، «قضاءً وقدرًا». ورغم أنني تفحَّصت بعناية جميع مُلابَسات موته، لم أجد ما يوحي بأنها جريمة قتل. لم يكن ثمَّة أي أثر للعنف، ولا آثار أقدام، ولا سرقة، ولم يُبلِّغ أحد عن رؤيته لغرباء مرُّوا بالطريق. ومع ذلك فلست في حاجة لإخبارك أنه لم يهدأ لي بال، وأنني كنت متأكدًا تمامًا من أن مؤامرة خسيسة قد حِيكت ضده.

وبهذه الطريقة المشئومة، آلت إليَّ التركة. ستسألني لماذا لم أتخلَّص منها، وسأجيبك بأنني كنت مقتنعًا بأن مأساتنا متعلِّقة بشكل أو بآخر بحادثةٍ ما في حياة عمي، وعليه فإن الخطر سيظل قائمًا سواءٌ في هذا المنزل أو غيره.

لقي والدي المسكين حتفه في شهر يناير من عام ١٨٨٥، وقد مرَّ عامان وثمانية أشهر منذ ذلك الحين. في تلك الأثناء عِشت بهناء في هورشام، وكنتُ قد بدأت أستعيد الأمل في أن تكون هذه اللعنة قد زالت عن أسرتي، وأنها قد انتهَت بنهاية الجيل السابق. غير أنني تعجَّلت في الركون إلى الطمأنينة؛ إذ حلَّت بي صباح أمس النَّكبة، بالطريقة نفسها التي حلَّت بها على أبي.»

أخرج الشاب من صدريته ظرفًا مكرمَشًا، والتفت إلى الطاولة ناثرًا عليها خمس بذور برتقال صغيرة مجفَّفة.

وتابع قائلًا: هذا هو الظرف، وعليه الختم البريدي للندن؛ قسمها الشرقي، وفي داخله الكلمات نفسها التي كانت في الرسالة الأخيرة التي تلقَّاها أبي: «كيه كيه كيه.» ثم: «ضع الأوراق على المزولة الشمسية.»

سأله هولمز: «وماذا فعلت؟»

«لا شيء.»

«لا شيء؟»

قال الشاب وقد طأطأ رأسه واضعًا إياه بين يديه البيضاوين النحيلتين: «في الحقيقة، شعرت بالعجز. شعرتُ كما لو أنني أحد تلك الأرانب المسكينة حينما تجد الأفعى قادمة تتلوى باتجاهها. يبدو لي أنني واقع في ربقة شرٍّ لا يرحم، وما من عاصم يعصمني منه.»

صاح به شيرلوك هولمز: «لا! لا! يجب أن تتصرَّف يا رجل، وإلا هلكت. لا شيء سينقذك سوى التحرك. هذا ليس وقت اليأس.»

«لقد ذهبتُ إلى الشرطة.»

«حسنًا!»

«لكنهم استمعوا إلى قصتي باستهزاء. أَجزم بأن المفتش تكوَّن لديه انطباع بأن الخطابات كلها ما هي إلا مقالب، وأن وفاة أبي وعمي كانت محض حادثة طبيعية مثلَما حكم المحلِّفون، وليس لها علاقة بالتهديدات.»

لوَّح هولمز بقبضتيه في الهواء، وصاح: «يا لها من حماقة لا تُصدق!»

«لكنهم، مع ذلك، عيَّنوا لي شرطيًّا، سيُقيم معي في المنزل.»

«هل أتى معك الليلة؟»

«لا؛ فالتعليمات التي لديه كانت تقضي بأن يبقى في المنزل.»

لوَّح هولمز بقبضتيه في الهواء في حنق مرة أخرى.

وصاح به قائلًا: «لماذا أتيت إليَّ إذن؟ والأهم من ذلك، لماذا لم تأتِ في الحال؟»

«لم أكن أعرف؛ إذ لم أُحدِّث الميجور برندرجاست بمشكلتي إلا اليوم، ونصحني بالمجيء إليك.»

«لقد مضى بالفعل يومان منذ أن تسلمتَ الخطاب. كان علينا أن نتحرَّك قبل هذا. ليس بحوزتك أدلة أخرى، على ما أعتقد، غير تلك التي عرضتها علينا، هل ثمَّة تفصيلة مفيدة يمكن أن تساعدنا؟»

قال جون أوبنشو: «هناك شيء واحد.» ثم فتَّش في جيب معطفه، وأخرج ورقة باهتة، تميل إلى اللون الأزرق، ووضعها على الطاولة قائلًا: «أتذكَّر أنه في اليوم الذي أحرق فيه عمي الأوراق، لاحظت أن الحواف الصغيرة غير المحترقة التي بقيت بين الرماد كان لها هذا اللون بالضبط. وجدت هذه الورقة المنفردة على أرضية غرفته، وأميل إلى الاعتقاد بأنها ربما كانت إحدى الأوراق التي من المحتمل أن تكون قد طارت من الرزمة؛ ومن ثمَّ أفلتَت من الحريق. لا أظن أن الورقة ستُساعدنا كثيرًا عدا ما ذُكِر فيها عن البذور، أعتقد أنها صفحة من مذكرات خاصة. الخط المكتوبة به هو خط عمي بلا ريب.»

حرَّك هولمز المصباح، وانحنَينا كلانا ننظر إلى الورقة، التي بدا لنا من حافتها غير المنتظمة أنها بالفعل منزوعة من دفتر. كانت مُعنونةً: «مارس ١٨٦٩»، وتحت هذا العنوان، وردت الملاحظات الغامضة الآتية:

  • الرابع: أتى هدسون. الرصيف القديم نفسه.

  • السابع: وضعتُ البذور لماكولي، وبارامور، وجون سوين، من سان أوجستين.

  • التاسع: انتهى ماكولي.

  • العاشر: انتهى جون سوين.

  • الثاني عشر: زرت بارامور. كل شيء على ما يرام.

قال هولمز وهو يطوي الورقة ويعيدها إلى ضيفنا: «أشكرك! والآن يجب ألَّا تُضيِّع لحظة واحدة تحت أي ظرف. ليس لدينا وقت حتى لمناقَشة ما أخبرتني به. عليك أن تعود إلى البيت فورًا وتتصرف.»

«ماذا ينبغي أن أفعل؟»

«لا يوجد سوى أمر واحد عليك فعله في الحال. يجب أن تضع هذه الورقة التي أريتَنا إياها، في الصندوق النحاسي الذي ذكرته. ويجب أيضًا أن تضع قصاصةً تقول إن عمك أحرق باقي الأوراق، وهذه هي الورقة الوحيدة المتبقية. يجب أن تؤكد ذلك بكلماتٍ تُقنعهم. وبعد أن تفعل ذلك، عليك أن تضع الصندوق على المزولة الشمسية فورًا، كما هي التعليمات. مفهوم؟»

«تمامًا.»

«لا تفكر في الانتقام، ولا في أي شيء من هذا القبيل، في الوقت الحالي. أعتقد أننا قد نصل إلى ذلك بالوسائل القانونية؛ ولكن علينا أن نَنصب فِخاخنا، بينما فخاخهم قد نُصِبَت بالفعل. أولويتنا الأولى هي إزالة الخطر الذي يتهدَّدك. أما الأولوية الثانية فهي كشف الغموض ومعاقبة الأطراف المذنبة.»

قام الشاب وارتدى معطفه قائلًا: «شكرًا لك، لقد منحتَني أملًا وحياة جديدة. سأعمل بنصيحتك بالتأكيد.»

«لا تُضيِّع لحظة واحدة، والأهم من ذلك أن تنتبه لنفسك في هذه الأثناء؛ إذ لا يساورني شك في أنك مهدَّد بخطر حقيقي ووشيك للغاية. كيف ستعود إلى البيت؟»

«بالقطار من واترلو.»

«الساعة لم تبلُغ التاسعة بعد، والشوارع مزدحمة؛ لذا أعتقد أنك ستكون بمأمن، ومع ذلك يجب ألَّا تتساهل في حماية نفسك.»

«بحوزتي سلاح.»

«هذا جيد. غدًا سأشرع في العمل على حلِّ قضيتك.»

«سأراك في هورشام إذن؟»

«لا، سرُّك يَكمن في لندن؛ لذا يجب أن أبحث هناك.»

قال: «إذن سأُهاتفك بخصوص مُستجدات الصندوق والأوراق، في غضون يوم أو يومين. وسأعمل بنصيحتك بحذافيرها.» وصافحْنا مغادرًا. كانت الريح بالخارج لا تزال تُصفِّر والمطر يَنهمِر ويقصف النوافذ. بدا أن هذه القصة الغريبة غير المألوفة قد خرجت علينا من وسط الطبيعة الغاضبة — كهشيم تذروه الرياح في وجوهنا — وها هي الطبيعة تستعيدها مرة أخرى.

جلس شيرلوك هولمز واجمًا هنيهة، وقد طأطأ رأسه وثبَّت عينيه على ألسنة اللهب الحمراء، ثم أشعل غليونه وأسند ظهره إلى كرسيه متطلِّعًا إلى دوائر الدخان الزرقاء التي أخذت تتسابق متصاعدة إلى سقف الغرفة.

وأخيرًا قال: «أعتقد، يا واطسون، أن كل القضايا التي عملنا عليها لا تُضاهي هذه القضية إثارة.»

«ما عدا قضية «علامة الأربعة»، ربما.»

«نعم، صحيح. ما عدا تلك، ربما. ومع ذلك يبدو لي أن جون أوبنشو هذا محاطٌ بأخطار أكبر من تلك التي جابهها آل شولتو.»

سألته: «لكن، هل كوَّنت أي فكرة محدَّدة عن ماهية هذه الأخطار؟»

أجابني: «لا يُساورني شكٌّ في طبيعتها.»

«ما هي إذن؟ من هو كيه كيه كيه هذا؟ ولماذا يلاحق هذه العائلة التعيسة؟»

أغمض شيرلوك هولمز عينيه، ووضع مرفقيه على ذراعي كرسيه، وقد لامست أنامل إحدى يديه أنامل يده الأخرى. وقال: «المحلِّل المثالي لن يستنتج من حقيقة واحدة — ما إن تظهر له من جميع جوانبها — سلسلة الأحداث التي أدَّت إليها فقط، وإنما أيضًا النتائج التي من شأنها أن تترتَّب عليها كافة. فكما استطاع كوفييه أن يصف بدقة حيوانًا كاملًا من خلال تأمل عظمة واحدة، كذلك لا بدَّ أن يكون في مقدور المراقِب — الذي فهم جيدًا حلقة واحدة من سلسلة من الأحداث — أن يُحَدِّد كل الأحداث الأخرى بدقة، سواء السابقة عليها أو اللاحقة. نحن لم نُحِط بعدُ بالنتائج التي يقود إليها المنطقُ وحده. والمشكلات التي حيَّرت كل من حاولوا حلها بمجرد النظر، يمكن حلها بالدراسة. ومع ذلك، فلإجادة هذا الفن أقصى إجادة، من الضروري أن يكون المُحلِّل قادرًا على استخدام جميع الحقائق المتوفِّرة لديه، وهذا في حدِّ ذاته يقتضي ضِمنًا، كما سترى بسُهولة، امتلاكًا للمعرفة بكل فروعها، وهو إنجاز نادر إلى حدٍّ ما، حتى في عصرنا هذا الذي تتوفَّر فيه الموسوعات والتعليم المجاني. ومع ذلك ليس مستحيلًا أن يحوز الإنسان كل المعارف التي من الراجح أن تفيده في عمله، وهذا هو ما سعيت شخصيًّا لتحقيقِه. ذات مرة، إن لم تخنِّي الذاكرة، وصفتَ معارفي المَحدودة في بداية صداقتنا وصفًا دقيقًا للغاية.»

أجبتُ ضاحكًا: «أجل، لقد كانت وثيقة فريدة من نوعها. أتذكر أني أعطيتُك صفرًا في الفلسفة وعلم الفلك والسياسة، وقلتُ إنَّ مستواك في علم النبات مُتذبذِب، لكنه فائق في الجيولوجيا، فيما يخصُّ رصدك لبُقَع الطين من أيِّ مكان في نطاق خمسين ميلًا حول البلدة، وخارج عن المألوف في الكيمياء، وغير منهجي في علم التشريح، ومتميِّز في الأدب الراقي وسجلات الجريمة، وعازف كمان، وملاكم، ومبارز، ومحامٍ، ومُدمِّر لنفسك بتعاطي الكوكايين والتبغ. كانت هذه، على ما أتذكَّر، النقاط الرئيسة في تحليلي لك.»

اتَّسعت ابتسامة هولمز عند ذكري للنقطة الأخيرة، وقال: «حسنًا، سأقول لك الآن ما قلته حينذاك، وهو أن على الإنسان أن يحتفظ في الغرفة العليا الصغيرة من دماغه بجميع الأشياء التي من المرجح أن يستخدمها، ويُمكنه وضع باقي الأشياء جانبًا في حجرة سقط المتاع في مكتبة دماغه، حيث يُمكنه العودة إليها إذا ما احتاج إليها. الآن، أمام قضية مثل هذه التي وُضعَت بين أيدينا الليلة، نحتاج بالتأكيد إلى استحضار جميع مصادرنا. من فضلك ناوِلني الحرف كيه من «الموسوعة الأمريكية» الموضوعة على الرف بجوارك. شكرًا لك. والآن دعنا ندرس الوضع، لنرى ما يمكننا استنتاجه منه. بادئ ذي بدء، يمكننا أن نرجح فرضية أن الكولونيل أوبنشو كان لديه سبب قوي للغاية لمغادرة أمريكا؛ فالرجال في مرحلته العمرية لا يُغيِّرون عاداتهم كلها ويستبدلون طواعيةً حياة الوحدة في بلدة ريفية إنجليزية بمناخ فلوريدا الساحر. إن حبه المبالغ فيه للوحدة في إنجلترا يدلُّ على أنه كان خائفًا من شخص ما أو من شيء ما؛ لذا يمكننا أن نفترض فرضية، يمكن البناء عليها، أن الخوف من شخص ما أو من شيء ما هو ما أدَّى به إلى الخروج من أمريكا. أما ماهية ما أخافَه، فلا يسعنا سوى الاستدلال عليه عن طريق البحث في الخطابات المروِّعة التي تسلَّمها هو ووريثاه. هل لاحظت الأختام البريدية الخاصة لتلك الخطابات؟»

«الأول كان من بونديشيري، والثاني من دَندِي، والثالث من لندن.»

«من شرق لندن. ما الذي تَستنتجه من ذلك؟»

«كلها موانئ؛ لذلك فالمُرسل كان على متن سفينة.»

«ممتاز. لدينا دليل الآن. ليس ثمة شك في وجود احتمال، واحتمال قوي، أن المُرسِل كان على ظهر سفينة. والآن دعنا نتناول نقطة أخرى. في حالة بونديشيري، انقضت سبعة أسابيع بين الوعيد وإنفاذه، بينما استغرَق الأمر في حالة دَندِي ثلاثة أيام أو أربعة فقط. ألا يُشير ذلك إلى أي شيء؟»

«مسافة سفر أطول.»

«لكن الخطاب قطع أيضًا مسافة أطول ليصل.»

«لا يُمكنني أن أفهم المغزى.»

«لدينا على الأقل افتراض بأن المركب الذي يستقلُّه الرجل أو الرجال هو عبارة عن سفينة شراعية. ويبدو أنهم اعتادوا إرسال تحذيرهم الغريب أو رمزهم، ليتقدَّمهم قبل البدء في مهمَّتهم. لاحِظ كم كانت سرعة التنفيذ بعد إرسال العلامة حينما أتت من دَندِي. لو أنهم أتوا من بونديشيري مستقلِّين سفينة بخارية، لكانوا قد وصلوا في نفس موعد وصول خطابهم تقريبًا. ولكن، في الواقع، كانت سبعة أسابيع قد مرت. أظن أن هذه الأسابيع السبعة تُمثِّل الفرق بين سرعتَي قارب البريد الذي جلب الخطاب، والقارب الشراعي الذي أحضر كاتبه.»

«هذا محتمل.»

«ليس محتملًا فقط، بل هو مرجَّح. الآن تفهم مدى الأهمية الفائقة للسرعة في هذه القضية الجديدة، والسبب الذي جعلني أُلحُّ على الشاب أوبنشو في توخِّي الحذر؛ فلطالَما وقعت النكبة في نهاية المدة التي يستغرقها المرسلون في قطع المسافة. لكن هذا الخطاب آتٍ من لندن؛ لذا لا يمكننا التعويل على تأخرهم.»

صحتُ قائلًا: «رحماك يا إلهي! ماذا عساه يعني هذا التعذيب القاسي؟»

«من الواضح أن الأوراق التي حملها أوبنشو ذات أهمية ماسَّة للشخص أو الأشخاص في السفينة الشراعية. أظن أنه من الواضح جدًّا أنهم أكثر من واحد حتمًا. لم يكن رجل واحد ليستطيع تنفيذ عمليتَي قتل بمثل هذه الطريقة التي تَنطلي على هيئة محلِّفين جنائية. لا بدَّ وأن كثيرين كانوا ضالعين في الأمر، ولا بدَّ أنهم كانوا رجالًا أشدَّاء ومقتدرين، عازمين على أخذ أوراقهم، كائنًا من كان من يحوزها. وبهذه الطريقة ترى أن كيه كيه كيه يتجاوز كونه الأحرف الأولى لاسم أحد الأشخاص، لأن يكون رمزًا لجماعة.»

«لكن، لأي جماعة؟»

قال شيرلوك هولمز، منحنيًا إلى الأمام وخافضًا صوته: «ألم، ألم تسمع قط بجماعة «كو كلوكس كلان»؟»

«لم أسمع بهم قط.»

قلَّب هولمز صفحات الكتاب الموضوع على ركبتيه، وقال من فوره: «ها هي، كو كلوكس كلان؛ اسم مشتق من الصوت الناتج عن قدح البندقية. تشكَّلَت هذه الجماعة السرية البغيضة في الولايات الجنوبية على يد عدد من الجنود الكونفدراليين السابقين، عقب انتهاء الحرب الأهلية، وسرعان ما شكَّلت فروعًا محلية لها في مناطق مختلفة من البلاد، من أبرزها تينيسي، ولويزيانا، وكارولينا الشمالية والجنوبية، وجورجيا، وفلوريدا. استغلت نفوذها لأهداف سياسية، في مقدمتها ترهيب الناخبين السود، وقتل وتهجير أولئك المعارضين لآرائها. وعادة ما كان يسبق اعتداءاتها تحذيرٌ يُرسل إلى الشخص المُستهدَف، وكانت طريقة هذا التحذير تتسم بغرابتها وإن كانت مميزةً عادةً؛ غصن من أوراق البلوط في بعض الأماكن، وبذور ليمون أو بذور برتقال في أماكن أخرى. وحينما يتلقَّى الضحية الرسالة، إما أن يتراجع علانيةً عن مواقفه السابقة، وإما أن يُهاجر من البلد. أما إذا اختار التحدي، فسيحصد الموت روحه بلا ريب، وعادةً ما يكون ذلك بطريقة غريبة وغير متوقَّعة. كان تنظيم الجماعة من المثالية بمكان، وكانت أساليبها من النظامية بمكان، إلى درجة أنه ليس هناك حالة واحدة مسجَّلة لنجاح أي شخص في تحدي الجماعة والإفلات من قبضتها، ولا حدث أن تمَّ التوصُّل إلى مرتكبي أيٍّ من اعتداءاتها. وظلت المنظمة مزدهرة لسنوات، بالرغم من جهود حكومة الولايات المتحدة وطبقات المجتمع العليا في الجنوب. وأخيرًا، بحلول عام ١٨٦٩، انهارت الحركة انهيارًا كان مُفاجئًا نوعًا ما، لكن عملياتها المعهودة ظلت تحدث على نحو مُتقطِّع منذ ذلك التاريخ.»

ثم قال هولمز، وهو يضع المجلد من يده: «ستُلاحظ أن تفكُّك الجماعة المفاجئ تصادف مع اختفاء أوبنشو من أمريكا ومعه أوراقهم. ربما كان حريًّا بذلك أن يكون سببًا ونتيجةً. ولا عجب من وجود من يُلاحقه هو وأسرته بإصرار لا يلين. لك أن تعرف أن صفحة مذكراته هذه قد تُدين عددًا من الشخصيات الأعلى مكانةً في الجنوب؛ ومن ثَم فربما يوجد كثيرون ممَّن لن يغمض لهم جفن في الليل، حتى يستردُّوا هذه الورقة.»

«إذن فالصفحة التي رأيناها …»

«هي كما نتوقع. كانت تقول، على ما أتذكَّر: أُرسلت البذور إلى فلان وفلان وفلان؛ ما يعني أن تحذير الجماعة أُرسل إليهم. ثم وردَت بها إشارة إلى النجاح في التخلص من فلان وفلان، أو مغادرته البلد، وأخيرًا أنه تمَّت زيارة الشخص الثالث، وكانت النتيجة، كما أخشى، وبالًا عليه. حسنًا، في اعتقادي، يا دكتور، أننا ربما نكون قد أضأنا شمعة في هذه العتمة، وأعتقد أن الفرصة الوحيدة أمام الشاب أوبنشو في الوقت الحالي، تتمثَّل في تنفيذ ما قلته له. ما من شيء آخر يُقال أو يُفعل الليلة؛ فأعطني آلة الكمان، ودعنا نحاول لنصف ساعة أن نَنسى حالة الطقس البائسة، والظروف الأكثر بؤسًا التي يمر بها رفقاؤنا في الإنسانية.»

في الصباح كانت حالة الطقس قد تحسَّنت، وشقَّت الشمس بأشعتها الخافتة وشاح العتمة الذي لفَّ المدينة الكبيرة. كان شيرلوك هولمز قد بدأ يتناول فطوره بالفعل حينما نزلتُ إليه.

قال لي: «اعذرني لعدم انتظاري لك؛ فأمامي، كما أتوقع، يوم مزدحم بالعمل على قضية ذلك الشاب أوبنشو.»

سألته: «ما الخطوات التي سوف تتخذها؟»

«سيتحدَّد الأمر إلى حدٍّ كبير بناء على نتائج تحرياتي الأولى. قد أضطر، في النهاية، للذهاب إلى هورشام.»

«ألن تذهب إلى هناك أولًا؟»

«كلا، سأبدأ بالمدينة. فقط اقرع الجرس وستُحضِر لك الخادمة قهوتك.»

بينما كنت منتظرًا، التقطت من فوق الطاولة جريدة مطوية وتصفحتُها، فوقع بصري على عنوان أصاب قلبي بالقشعريرة.

صِحت: «هولمز، لقد تأخرْت!»

قال واضعًا فنجانه على المائدة، ومتكلِّمًا بهدوء، غير أنه كان بمقدوري أن ألاحظ تأثره الشديد: «آه! هذا ما كنت أخشاه. كيف حدث الأمر؟»

التقطت عيني اسم أوبنشو، والعنوان هو «مأساة بالقرب من جسر واترلو». وها هي التفاصيل:

بين التاسعة والعاشرة من ليلة أمس، بينما كان الشرطي كوك، من الشعبة إتش، يؤدي خدمته بالقرب من جسر واترلو، سمع نداء استغاثة وصوت ارتطام شيء بالماء. كان الليل حالك الظلام وعاصفًا؛ لذلك وعلى الرغم من أن العديد من المارَّة مدُّوا يد المساعدة، كانت مهمة الإنقاذ مستحيلة إلى حدٍّ كبير. ومع ذلك فقد أُطْلِقَت صافرة الإنذار، وانتُشِل الجثمان في نهاية الأمر بمساعدة شرطة المسطحات. تبيَّن أن الجثمان لشاب اسمه جون أوبنشو، حسبما يظهر من ظرف عُثر عليه في جيبه، وكان يَسكُن بالقرب من هورشام. ويُعتقد أنه ربما كان يسير مسرعًا للحاق بآخر قطار مغادِر لمحطة واترلو، وفي غمرة إسراعه ووسط الظلمة الحالكة، ضل طريقه ووطئ على حافة أحد المرافئ الصغيرة الخاصة بالقوارب النهرية. لم يظهر على الجثة أي آثار للعنف، ولا شكَّ في أن المتوفَّى كان ضحية لحادث مؤسف، من شأنه أن يجذب انتباه المسئولين إلى حالة المرافئ النهرية.

جلسنا صامتَين لدقائق، ولم أرَ هولمز في حياتي أكثر اكتئابًا وتداعيًا.

وأخيرًا نطق قائلًا: «الأمر جارح لكبريائي يا واطسون. إنه شعور تافه، ولا شك، ولكن كبريائي جريح. لقد أصبحَت مسألة شخصية بالنسبة لي الآن، ولإنْ قدَّرني الله سأقبض بيدي على هذه العصابة. لقد أتى إليَّ طالبًا العون، وأرسلته أنا إلى حتفه!» ثم انتفض من كرسيه وأخذ يذرع الغرفة بغضب خارج عن السيطرة، وقد احمرَّت وجنتاه الشاحبتان، وهو يُشبِّك يديه النحيلتين الطويلتين ويحلُّهما بعصبية.

وأخيرًا صاح قائلًا: «يا لهم من شياطين ماكرين! كيف استطاعوا استدراجه إلى هناك؟ الجسر ليس على الطريق إلى المحطة. ولا شكَّ أن الجسر كان مزدحمًا للغاية، حتى في ليلة كهذه، فلم يكن مناسبًا لتنفيذ غرضهم. حسنًا يا واطسون، سنرى لمن سيكون الفوز في نهاية المطاف. أنا ذاهب الآن!»

«إلى الشرطة؟»

«لا، سأكون شرطة نفسي. بعدما أنسج شبكتي، يُمكنهم أن يأتوا لأخذ الذباب، لكن ليس قبل ذلك.»

كنت منهمكًا في عملي طول اليوم، ولم أعد إلى شارع بيكر إلا في وقت متأخِّر من المساء. لم يكن شيرلوك هولمز قد عاد بعد. كانت الساعة تقترب من العاشرة حين دخل، وقد بدا شاحبًا ومرهقًا. توجه إلى المائدة، وقطع قطعة من الخبز، وازدردها بشراهة، وأتبعها بشربة طويلة من الماء.

علَّقت قائلًا: «تبدو جائعًا.»

«أتضور جوعًا. فاتني أن آكل. لم أتناول شيئًا منذ الإفطار.»

«لا شيء؟»

«ولا لقمة واحدة. لم يكن لدي وقت للتفكير في الطعام.»

«وهل نجحت؟»

«تمامًا.»

«هل توصلت إلى دليل؟»

«الأدلة باتت في قبضة يدي. لن يطول الأمر بالشاب أوبنشو دون الثأر له. حسنًا، يا واطسون، دعنا نَسِمهم بوسم شرِّهم نفسِه. لقد فكَّرت في الأمر جيدًا!»

«ماذا تقصد؟»

أخذ برتقالة من الخزانة، وقطَّعها مُخرجًا بذورها على الطاولة. ومن بين البذور، أخذ خمسًا وألقاها في ظرف. وعلى الوجه الداخلي لفتحة الظرف، كتب: «إس إتش من أجل جيه أوه». ثم أغلق الظرف ووجَّهه إلى: «كابتن جيمس كالهون، السفينة «لون ستار»، سافانا، جورجيا».

قال وهو يكتم ضحكته: «سيكون هذا الظرف بانتظاره حين يدخل إلى الميناء، وسيجعل النوم يجافي عينيه. سيعتبره نذيرًا أكيدًا بموته، مثلما حدث لأوبنشو من قبله.»

«ومن هو الكابتن كالهون هذا؟»

«إنه زعيم العصابة. سأنال من الآخرين، لكن هذا أولًا.»

«وكيف توصلت إليه؟»

أخرج هولمز من جيبه ورقة كبيرة ممتلئة بالتواريخ والأسماء، وقال: «لقد قضيت اليوم كله بين سجلات شركة لويد للشحن، وملفات الصحف القديمة، أتتبَّع خط السير المُقبل لكل مركبة مرت بميناء بونديشيري في شهري يناير وفبراير من عام ١٨٨٣. سجلت التقارير مرور ست وثلاثين سفينة ذات حمولة كبيرة، خلال هذين الشهرين. من بين هذه السفن واحدة هي السفينة «لون ستار»، شدت انتباهي على الفور، والسبب هو أنه رغم أن السجلات تقول إنها انطلقَت من لندن، فإن هذا الاسم يُطلق على إحدى الولايات الأمريكية.»

«تكساس على ما أعتقد.»

«لم أكن متأكدًا أي الولايات هي، وما زلتُ غير متأكد، لكني عرفت أن للسفينة أصلًا أمريكيًّا ولا بد.»

«وماذا بعد؟»

«بحثتُ في سجلات دَندِي، وعندما وجدت أن السفينة «لون ستار»، كانت هناك في يناير ١٨٨٥، تأكدت شكوكي. وبعد ذلك استعلمتُ عن السفن الراسية حاليًّا في ميناء لندن.»

«وماذا وجدت؟»

«وصلت السفينة «لون ستار» إلى هنا الأسبوع الماضي. ذهبتُ إلى حوض السفن ألبرت دوك، ووجدت أنها أبحرت مع المد في الصباح الباكر اليوم عبر النهر، متجهةً إلى موطنها في سافانا. فأرسلتُ برقية إلى بلدة جريفسند وعلمت أنها مرت بها في وقت سابق اليوم، وبما أن الريح شرقية، فلا يُساورني شك في أن السفينة تجاوزت الآن ساحل جودوين، وشارفت على جزيرة وايت.»

«ماذا ستفعل إذن؟»

«أوه، لقد أمسكتُ به. هو وزميلاه، كما علمت، هم الأشخاص الأمريكيو المولد الوحيدون على متن السفينة. أما الآخرون ففنلنديون وألمان. وعرفت أيضًا أن ثلاثتهم لم يكونوا في السفينة ليلة أمس. حصلتُ على هذه المعلومة من العامل الذي حمل أمتعتَهم. وحالَما تصل سفينتهم الشراعية إلى سافانا، سيكون القارب البريدي قد حمل هذه الرسالة، وستكون البرقية قد أعلمت الشرطة في سافانا بأن هؤلاء الرجال الثلاثة مطلوبون هنا على وجه السرعة، لاتهامهم بارتكاب جريمة قتل.»

ولكن دائمًا ما توجد ثغرة في أكثر الخطط البشرية إحكامًا، فلم يُقدَّر لقتلة جون أوبنشو أن يتسلَّموا بذور البرتقال التي كانت ستُريهم أن ثمَّة من كان يلاحقهم بعزيمة ومكر يضاهيان عزيمتهم ومكرهم هم أنفسهم. كانت العواصف الخريفية في تلك السنة طويلة وعنيفة للغاية. انتظرنا طويلًا أن يصلنا خبر عن السفينة «لون ستار» من سافانا، ولكن لم يصلنا أي خبر. وفي النهاية، سمعنا أنه في مكان ما بعيد في المحيط الأطلنطي، شوهدت مؤخِّرة قارب محطمة يتقاذفها الموج، والحرفان «إل إس» محفوران عليها، ليكون هذا هو كل ما سنعرفه يومًا عن مصير السفينة «لون ستار».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤