تمهيد
قد يكون للأحداث الصغيرة التي لا تبدو مهمةً تداعيات كبيرة. وفي حالتي، كان هذا الحدث تعليقًا غيَّر حياتي، ولولاه ما كنت لأعكف على هذه «المقدمة القصيرة جدًّا».
في الخمسينيات، كان فصلي المدرسي «يدرس» الأجسام الصلبة والسوائل والغازات مع معلم الفيزياء روجر ستون. كان هناك الكثير من المعلومات حول الغازات والأجسام الصلبة، لكننا لم نتناول دراسة السوائل. «من فضلك يا سيدي. ماذا عن السوائل؟» «هذا سؤال مُثير للاهتمام بالفعل يا فيني! السوائل معقَّدة جدًّا. لكن هناك رجل في كلية بركبيك في لندن يُحاول أن يفعل شيئًا حيالها.» ثم رن الجرس معلنًا نهاية الحصة.
بعد بضع سنوات، وبمجرد حصولي على شهادتي الجامعية في الفيزياء، وأتساءل إذا كان عليَّ السعي لاقتحام المجال البحثي، برزَتْ أمامي هذه التعليقات مرةً أخرى. لذا أرسلتُ رسالة إلى ذلك «الرجل في كلية بركبيك». وأعقب ذلك مقابلة شائقة، غير رسمية تمامًا، وانتهى الأمر بي بالعمل مع ديزموند بيرنال على «محاولة فعل شيء حيال» السوائل.
قبل نصف قرن، لم نكن نفهم حقًّا كيف تنتظِم الجزيئات في السوائل. لم تكن لدَينا فكرة واضحة عن طبيعة بنياتها؛ إذ كان يُعتقد في الغالب أنها إما أجسام صلبة بلورية مُضطربة، وإما غازات كثيفة. أما الآن، وبفضل التقدُّم في التقنيات التجريبية، مثل تشتُّت النيوترونات، وتشتُّت الأشعة السينية، والمدعومة بحوسبة عالية القدرة، صِرنا نعرف الكثير عن بِنى وخصائص السوائل البسيطة، وأيضًا السوائل المُثيرة للاهتمام والأشد تعقيدًا، مثل الماء الذي تقوم عليه حياتنا.
في هذا الكتاب، أحاول أن أقدم السمات البنيوية الأساسية للماء التي تُعطي أطواره السائلة والصلبة والغازية الخصائص التي تتمتع بها، وأتطرَّق أيضًا إلى بعضٍ من المجالات العديدة التي تُشكِّل فيها هذه الخصائص أهميةً في مجالات مختلفة من العلوم. لكن لا يزال هناك أشياء لم نتوصَّل إلى فهمٍ كامل لها بعد. لقد كشف الماء عن بعض «أسراره». لكن لا يزال هناك الكثير يتعين القيام به قبل أن نستطيع القول بأن لدَينا فهمًا كاملًا للماء.