الفصل الحادي عشر

ربما يدَّعي الأشخاص الذين لا يَملكون سوى معرفة سطحية بالحياة والأوقات التي تُقضَى هنا أنَّ متجر البقالة، وليس ورشة الحِدادة، كان هو النادي الريفي الحقيقي؛ أي المكان الذي تُناقَش فيه سياسات البلدة، وتُمتدَح فيه أفعال كبار المسئولين أو تُستنكَر، وتُنتقَد فيه الحكومة. صحيح أنَّ متجر البقالة كان نادي القرية، حين يتطوَّر مكان مثل كورنرز ليُصبحَ قرية، لكنَّ ورشة الحدادة عادةً ما كانت أول مكان يُشيَّد في البقعة التي يُقدَّر لها أن تشهد إقامة قرية في نهاية المطاف. كانت هي النواة الأساسية. ومع نمو مكانٍ ما وتسلُّل الرفاهية التي تَنتزع نشاط الناس وطاقاتهم إليه، كان متجر البقالة يحلُّ محلَّ ورشة الحدادة رويدًا؛ لأنَّ الناس كانوا يَجدُون أن الجلوس على برميل خشبي صغير أو صندوق من المقرمشات في البقالة أكثر راحةً من المقاعد القليلة المتاحة في ورشة الحدادة، وفوق ذلك، كان المَتجر في فصل الشتاء، بموقده الصندوقي الأحمر الساخن مكانًا للدفء والبهجة، لكنَّ الاستمتاع بمثل هذا الجو المريح كان يقتضي أن يعيش أعضاء النادي بالقُرب منه؛ لأنه لا أحد كان ليَجرُؤ على تحمُّل عواصف ليل شتوي كندي، وقَطع ميل أو اثنين عبر الجليد، ليَستمتِعَ حتى بملذات متجر البقالة. لذا كان متجر البقالة في الأساس ناديًا قرويًّا وليس ناديَ بلدة.

ومع تقدُّم الحضارة، وجد الحدَّاد بالطبع أنه من المستحيل أن ينافس البقَّال. فلم يكن يستطيع تقديم إغراءات مُماثلة. وصار متجر البقالة أقرب من ورشة الحدادة في تلبية الانغماس المُستحَب في الملذات على غرار نوادي «أثينيوم» أو «ريفورم» أو «كارلتون». فقد كان يُشبع شهية الإنسان ويُزوِّده بشحنة من التحفيز الفِكري للنقاش والجدل. فعادةً ما كان المتجر يضمُّ صندوقًا مفتوحًا من البسكويت المملَّح، ومع أنَّ هذا البسكويت دائمًا ما كان جافًّا، إلا أن مضغَه كان مُمتعًا حين يُؤكَل ببطء. ودائمًا ما كان برميل البندق مَكشوفًا بلا غطاء. أمَّا الزبيب، فكان موجودًا في صندوقه المربَّع، الذي كان يَحمل ورقةً زرقاءَ مكتوبًا عليها «ملقا»، أسفل صورة ملونة لبعض قاطفي العنب الإسبان المبتهجين على الأرفُف الواقعة خلف المِنْضَدة، وكان يُوضع بزاوية مناسبة لعرض مُحتوياته لكل الوافِدِين، غير أنَّ وضعَه في هذا المكان كان يتطلَّب من رُواد المتجَر مدَّ الذِّراع لمسافة طويلة جدًّا ووقاحة أشد من المُعتاد كي يأخذوا منه بلا حساب، لكنَّ برميل سكر موسكوفادو البُني كان موضوعًا حيث كان الجميع يَستطيعون غمسَ أيادِيهم فيه، في حين أنَّ مَن كان يجلس على برميل المسامير التي كان طولها يبلغ ثلاث بُوصات كان يستطيع مدَّ ذراعِه إلى نافذة العرض من فوقه، حيث كانت السكاكر ذات الألوان العديدة تستعرض نفسها، مع أنَّ الشخص الذي كان يأخذ منها كثيرًا دون استئذان كان يلقى استياءً؛ لأنَّ آداب الذَّوق العام في النادي كانت تَقتضي عدم اختلاس الأشياء الباهظة. وكان البقَّال نفسه يضع حدودًا على أخذ السكاكر، وعادةً ما كان يُوبِّخ مَن يأخُذ منها كمية ثانية توبيخًا لطيفًا:

«هل أضيف هذه إلى حسابك يا سام، أم ستَدفع ثمنَها الآن؟»

كانت كل هذه المأكولات الشهية تُؤخذ بشيءٍ من الاختلاس، وعادةً ما كان مُختلسُوها يتصنَّعون قسماتٍ شاردة كما لو أنَّ الاختلاس لم يكن مقصودًا. لكنَّهم كلهم كانوا زبائن جيِّدين لدى البقَّال، ولا شكَّ أنه كان يعتبر هذه الاختلاسات جزءًا من التجارة، كالظواهر التجارية التي شهدتها الأزمنة اللاحقة مثل تقديم هدية للزبون مع كل رطل من الشاي، أو تقديم ساعة مجانية مع كل حُلَّة. ومع ذلك، لم يكن يتفوَّه بأي شيء إلَّا إذا أساء الزبائن استِغلال كرمَه، ونادرًا ما كان هذا يحدث.

كانت ليالي الشتاء كثيرًا ما تشهد إقامة وليمة مُبهجة مفعمة بالصخب والمرح، وكانت مثل هذه الولائم تُسهِم في تخفيف حمولة الأرفف وإثقال درج النقود. فعادةً ما كانت تشهد الإنفاق ببذخ على مَحار الخلجان الصغيرة. كان محار الخلجان يَرِدُ من بالتيمور بالطبع في علب قصدير دائرية؛ إذ كان يُدخَل إلى كندا قبل وقت طويل من العلب القصديرية المربعة التي صارت تأتي الآن في فصل الشتاء من المدينة نفسها الشهيرة بالقواقع ذات الصدفتَين. كان محار الخلجان يُطهى جزئيًّا قبل تعليبِه، كي يَحتفظ بصلاحيته في أيِّ مناخ، كما تقول الإعلانات. ولم يكن يحتاج إلى وضع ثلج من حوله، كما يحدث مع العلب القصديرية المربَّعة التي تَحوي المحار النيِّئ في العصر الحاضر. وعادةً ما كان أحد الحاضِرين يقترح إقامة الوليمة قائلًا:

«ما رأيكم في تناول وجبة من محار الخلجان؟»

ثم كان يَجمع اشتراكًا نقديًّا قيمته عشرة سنتات أو نحو ذلك من كل عضو، وكان المبلغ الإجمالي يُنفَق على عدة علب من محار الخلجان وبضعة أرطال من البسكويت. ثم كان المحار يُطهى في طستٍ قصديري فوق سطح الموقد. وكانت مُحتويات العلب تُفرَغ في هذا الصحن السهل الاستعمال، ثم يُضاف إليها الحليب وقِطع البسكويت المكسورة، لإضفاء ثخانة وتماسُك على المنتج النهائي. ودائمًا ما كان يوجد كمٌّ وفير من الأطباق؛ إذ كان المتجر يُلبِّي احتياجات الحي من الأواني الفخارية. وكان يوجد كذلك كمٌّ وفير مِن الملاعق؛ لأنَّ متجر البقالة كان يجب أن يحوي كل شيء. ما الذي قد يحتاج إليه أكثر الرجال طمعًا أكثر من ذلك؟ وفي إحدى الليالي التي شهدت إسرافًا أشدَّ تهورًا من المعتاد، اختُتمت الوليمة بعدة علب قصديرية من الخوخ، الذي لم يكن يحتاج إلى طهو، بل مجرَّد رشة من السكر. ودائمًا ما كان البقَّال خبيرًا في طهو محار الخلجان وفتح علب الخوخ.

كان ثمَّة شعورٌ عامٌّ بين الأعضاء بأنهم يُواكبون الحياة العصرية بعض الشيء بالانغماس في هذه الولائم، وكان بعض الرجال الأكبر سنًّا والأكثر خبرة يحتجُّون احتجاجًا واهيًا على ما وصل إليه العصر من انغماس في الملذات، ولكن كان يُلاحَظ أنهم لم يَمتنعُوا قَط عن تناول نصيبِهم من هذه الولائم.

أمَّا الرجال الأصغر والأكثر طيشًا، فكانوا يَقُولون: «الإنسان لا يعيش سوى حياة واحدة.» وكأنَّ ذلك يُبرِّر الإسراف؛ إذ نادرًا ما كان أحد الأعضاء يغادر المتجر بعد تلك الولائم من دون أن يكون قد أنفق خمسة عشر سنتًا، لا سيما حين يتناول الخوخ بالإضافة إلى المحار.

لم يكُن متجر البقالة الكائن في كورنرز قد أُنشئ إلا مُؤخَّرًا، وحتى ذلك الحين، لم تكن تَعتبرُه ورشة الحدادة مُنافسًا. فقد كان ماكدونالد هو مَلِك المنطقة التي يعيش ويَعمل فيها بأكملها، وكانت ورشته هي المُلتقَى المُفضَّل في نطاق أميال من حولها. وكذلك كانت ورشة الحدادة هي المركز الوطني للحي، شأنها في ذلك شأن أيِّ ورشة حدادة بالطبع ما دام يُمكِن أن تحلَّ السنادين محل القذائف المدفعية في إطلاق التحيات الرسمية والعسكرية. ففي الرابع والعشرين من مايو الذي يوافق عيد ميلاد الملكة، ويُحتفَل به محليًّا باعتباره اليوم الوحيد في العام، باستثناء أيام الأحد، الذي يكون فيه وجه ماكدونالد نظيفًا ولا يؤدي فيه أي عمل، كانت أصداء السنادين تدوي في أرجاء المنطقة. وفي ذلك اليوم العظيم، كان البقال يورِّد البارود اللازم، الذي كانت قيمته تُساوي ثلاثة من شلنات يورك، الذي يعادل الواحد منه ستة بنسات ونصف بنس. كان حمْل السندان يتطلب رجلين، مع قدرٍ كبير من أصوات الشخير من شدة المَجهود، لكنَّ ماكدونالد، حين تكون حشود الحاضرين هائلة، كان يجعل مسألة حمله تبدو تافهة؛ إذ كان يرفعه على كتفِه ثم يُطوِّحه على المرج الأخضر أمام ورشته. كان يوجد في جسم السندان الحديدي فتحة مربعة، وحين كان السندان يُوضع مقلوبًا على رأسه، كانت هذه الفتحة تصبح في الأعلى. كانت تُملأ بالبارود، وتُدَق فيها بواسطة مطرقة ثقيلة سدادة خشبية، محفور بها شق. وبذلك كان البارود يتناثر من الشق على سطح السندان، ثم تتراجَع حشود الحاضرين إلى الوراء حابسة الأنفاس. كانت هذه اللحظة شائقة للغاية. فقد كان ماكدونالد يخرج راكضًا من ورشته حاسر الرأس، ممسكًا بقضيب حديدي طويل، ثم يُنزل طرفَه المُترجرِج الشديد السخونة على السندان، بينما يَصيح بصوت مُرعِب: «انظروا واحذروا!» ثم يُصدِر البارود المتناثر صوت هسهسة وفرقعة للحظة، وبعدها تنطلق القذيفة مُدوية، وتتصاعد سحابة كبيرة من الدخان إلى أعلى وسط هتافات حماسية تدوي أصداؤها من الغابات المحيطة. ثم يَنطلق المُساعِد، حاملًا وعاء البارود، إلى السندان ويسكب المسحوق المتفجر الأسود في الفتحة، بينما يقف مساعد آخر جاهزًا بالسدادة والمطرقة. وبعدها يمتلئ الهواء برائحة البارود المُحترِق الطيبة، ويَستنشقُها كل الصغار باستِمتاع؛ لأنهم صاروا يُدركُون آنذاك ماهية الحرب الحقيقية. هكذا كانت التحية المَدفعية تُطلَق، وهكذا كانوا يَحتفلُون بعيد الميلاد الملَكي كما ينبغي.

وحين كان يتوافَر لديهما سندانان، كان العرض المدفعي يُصبِح أشد حيوية وإثارة؛ إذ كانوا لا يَحتاجون آنذاك إلى سدادة. فقد كانت فتحة السندان السُّفلي تُملأ بالبارود، وكان السندان الآخر يُوضَع فوقه. وكان هذا أسرع بكثير من دقِّ سدادة داخل فتحة السندان، وذا مفعولٍ تفجيري مُذهِل يُضاهيها تقريبًا. كان السندان العلوي يرتعش صعودًا وهبوطًا كالضفدع المُثقَل برصاصة على ظهره في رواية مارك توين، ثم يسقط على جانبه. وبعدها يتصاعد الدخان كالمعتاد، ويكون الصوت المدوي مُمتعًا كدوي فرقعة السندان الواحد.

عرف ييتس كل هذه الأشياء وهو جالس في ورشة الحدادة؛ لأنهم كانوا لا يزالون في شهر مايو، وكانت الأجواء لم تَصفُ بعدُ من دخان السنادين ذات الأصداء المدوية. كان كل الحاضرين متلهفين لإخباره بعظمة هذا اليوم. وكان سماعه التفاصيلَ من شخصٍ أو اثنين كافيًا ليجعله يُبدي ندمه على أنه لم يكن حاضرًا ليرى بنفسه. بعد الحادثة التي أسقطت ييتس، صار يتعامل مع الموجودين بسلاسةٍ بالغة وأصبح واحدًا منهم، إن جاز القول. فقد جاء التصريح بحقيقة أنه كندي الأصل في صالحه، وإن كانت إقامته الطويلة في الولايات المتحدة قد أفسدتْه.

كان ماكدونالد يعمل بكل كدٍّ في ثنْي القُضبان الحديدية الطويلة مُشكِّلًا بها حدوات. وعادة ما كان يوجد صف مُمتدٌّ من حدوات غير مُكتمِلة تَعتلي عارضة خشبية مسودَّة كأنَّهن فُرسان بلا أجساد، وكانت هذه العارضة تمرُّ عبر الورشة من الأعلى، أسفل السقف مباشرة. كانت هذه الحدوات نتاجَ عمل ماكدونالد في أيامه التي تَشهد بعض الفراغ نسبيًّا، وكانت جاهزة للتركيب على حوافرِ أيِّ حصان يأتي من أجل تركيب حدوات، ولكن في هذه المرة، كان هذا المَخزون قد تعرَّض لتكالُب شديد عليه إلى حد أنه نفَد، وبدا أنَّ الحدَّاد اعتبر نفاد المخزون عارًا عليه؛ لأنه أخبر ييتس مرارًا بأنه كان في أغلب الأحيان يدَّخر حوالي ثلاثين حدوة في الأعلى من أجل اللجوء إليها وقت الحاجة.

وعندما حان وقت العمل بالمطرقة الثقيلة، تَقدَّم أحد الحاضرين وأرجَحها طارقًا بها بالتناوب مع ماكدونالد، الذي كان يَطرق بمطرقة خفيفة عادية، في مهمَّة تتطلَّب أُذُن دقيقة لديها القدرة على تمييز التوقيت المناسِب للطرق. وكان من المفترض أن يتولى ساندي تقديم هذه المساعدة، لكنَّه لم يكن أنانيًّا، كما قال، وكان مسموحًا لأيِّ شخص يريد إظهار براعته بأن يُؤدي هذه المهمَّة. وفيما بدا أنَّ ساندي يقضي معظم وقته في نفْخ الأكيار، وحين لم يكن يُردِّد آراء الرئيس، كما كان يُناديه، كان يُثني على مهارة الطارق الهاوي المؤقَّت في استخدام المطرقة الثقيلة. كانت هذه المهمة ممتعة للهواة، وكانت قديمة ومملة لساندي؛ لذا لم يعترض قط على هذا التدخل في مهامِّه، مؤمنًا بإعطاء الجميع فرصة، لا سيما حين يتعلق الأمر بأرجحة مطرقة ثقيلة. أعاد المشهد كله ييتس إلى أيام شبابه، خاصةً حين كان ماكدونالد، وهو يضع اللمسات الأخيرة على حِدوته، يترك المطرقة ترن من حين إلى آخر بقعقعة موسيقية على السندان، مُصدرة رنينًا متناغمًا يُطرب الأذن، وكأن السندان يُشكِّل جوقة مصاحبة لمهارته الحركية التلقائية. كان رجلًا يتمتع بخفة يد حقيقية، وكان السندان فرقته الموسيقية.

سرعان ما بدأ ييتس يَستمتِع بزيارته إلى نادي البلدة. وحين بدأ الأعضاء يتعاملون معه بألفة، وجدهم كلهم رجالًا من الطراز الأول، والأهم من ذلك، أنهم كانوا مُنصتين له بإعجاب وامتنان. كان واضحًا أنَّ حكاياته كلها جديدة عليهم، ولا شيءَ يَجعل المرء في حالة ذهنية ودية ولطيفة أسرع من مُستمعين متعاطفين ذوي آذان مُصغية. لم يكن أحد يُضاهي ييتس في قدرته على سرد حكاية سوى قلة قليلة من الأشخاص، لكنه كان يَحتاج إلى تجاوب من مُستمعِين مُهتمِّين. كان يكره أن يشرح المغزى من حكاياته، كأيِّ راوي حكايات بالطبع! وكان أي مُستمتِع بارد وناقد كالبروفيسور يُجمِّد نَبْع السرد من مصدره. وفوق ذلك، كان من عادات رينمارك الكريهة أنَّه كان يتتبَّع الحكاية حتى يبلغ أصلها، وكان ييتس يتضايق من أن يَسرد حكاية عصرية ثم يكتشف أن أريستوفان، أو أي مُتصيِّد آخر من عصور ما قبل التاريخ للنوادر الطريفة التي سيحكيها الرجال لاحقًا، قد سبقه إلى سردها بألف عام أو نحو ذلك. أمَّا حين يكون المُستمِع سريعًا في فهم مغزى حكاياتك، ويَضحك عليها من أعماق قلبه، فستميل غالبًا إلى استِحسان حسِّه السليم وتقدير رفقته.

بعدما أُلبِسَ الحصانان حدواتهما وهَمَّ بارتليت الصغير، الذي كان سعيدًا بالانطباع الذي تركه ييتس، بالرحيل، اعترض الرفاق كلهم على رحيل النيويوركي. وقد كان هذا تملُّقًا صادقًا.

سأله باري العصا: «لِمَ العجلة يا بارتليت؟ لا يُمكن أن يكون لديك أي شيء لتفعله عصر اليوم، إن عُدت إلى البيت. لقد فات أوان تعويض ما ضاع من وقت العمل. وإذا بقيت، فسيبقى؛ أليس كذلك يا سيد ييتس؟ سيَضبط ماكدونالد الإطارات ويَحتاج إلينا جميعًا كي نُشاهدَه ونرى أنَّه يَضبطها كما ينبغي؛ أليس كذلك يا ماك؟»

رَد الحدَّاد قائلًا: «نعم، أتلقَّى منك عونًا كثيرًا حين تُوجَد عصًا تَحتاج إلى برْي.»

وأضاف شخص آخر، كان متلهفًا لعرض كل مُغريات المكان التي ينبغي عرضها: «ثمَّ سيُعقَد الاجتماع المطوَّل الليلة في مبنى المدرسة.»

فقال باري العصا: «بالضبط، لقد نسيتُ ذلك. إنها الليلة الأولى؛ لذا يجب أن نكون كلنا هناك لنُشجِّع بيندرسون العجوز. ستَحضُر الليلة يا ماكدونالد، أليس كذلك؟»

لم يُجِب ماكدونالد، لكنه التفَتَ إلى ساندي وسأله بوحشية لماذا بحق اﻟ… واﻟ… يقف محدقًا ببلاهة هكذا. ولماذا لم يَخرُج ليُجهِّز العُدَّة لضبط الإطارات؟ ولماذا يدفع له أجرًا بحق الجحيم، على أي حال؟ ألا يوجد ما يكفي من العاطلين المتسكِّعين لينضمَّ إلى مصافِّهم؟

تلقَّى ساندي هذا التوبيخ برباطة جأش، وحين أدار الحدَّاد ظهره، هزَّ ساندي كتفَيه وقضم قضمة جديدة من كتلة التبغ التي أخرجها من جيب بنطاله الأمامي، غامزًا بعينه إلى الآخرين وهو يفعل ذلك. ثم تَبِع ماكدونالد إلى خارج الورشة على مهل، وقال هامسًا للباري حين مرَّ به:

«ما كنتُ لأُغضِبَ العجوزَ لو كنت مكانك.»

ثم خَرَج الجمعُ من الورشة، ما عدا أولئك الجالسين على الدكة. وهنا سأل ييتس:

«ما خطْب ماكدونالد؟ ألا يحب الجلسات المطوَّلة؟ وبالمناسبة، ما هي الجلسات المطولة؟»

«إنها جلسات تجديد ديني؛ جلسات دينية، كما تعلم، لإرجاع الخُطاة عن ذنوبهم.»

فقال ييتس: «حقًّا؟ ولكن لماذا تكون مطولة؟ هل تستمر أسبوعًا أو اثنين؟»

«نعم، أظن أنَّ هذا هو السبب، وإن كنت للأمانة لا أعرف سبب التسمية الحقيقي. لطالَما كانت الجلسات المطولة ترمز إلى الشيء نفسه منذ صغري، وقد اعتبرناها تعني ذاك الشيء دون التفكير في السبب.»

«وماكدونالد لا يحبها؟»

«حسنًا، الوضع كالتالي: إنه لا يُريد أبدًا حضور جلسة مطولة، لكنه لا يَستطيع الغياب عنها. إن حاله كحال سكِّير مع حانة الناصية. لا يَستطيع أن يتجاهَلَها، ويعلم أنه سيقع في المحظور إذا دخلها. دائمًا ما يكون ماكدونالد أول مَن يصعد إلى دكة التائب. فهذه الجلسات تَجذبه إليها كل مرة. فيصبح شديدَ التديُّن طوال أسبوعين، ثم يعود إلى الذنوب. لا يبدو أنَّه يستطيع منْع نفسه سواءٌ من الرجوع عن الذنب أو الرجوع إليه. أظنُّها ستجذبه إليها في نهاية المطاف، وسيلتزم ويُصبح قائد إحدى المجموعات فيها، لكنه لم يَلتزم إلى الآن.»

«إذن فهو لا يحبُّ سماع الحديث عن هذا الموضوع؟»

«بالطبع. وليس من الآمن استفزازه به ولو على سبيل المزاح. وللأمانة، سررت حين سمعته يُوبِّخ ساندي بألفاظ نابية؛ إذ عرفت آنذاك أنَّ كل شيء على ما يُرام، وساندي يستطيع تحمله. فماكدونالد يُصبح رجلًا بشعًا في التعامل معه حين يكون غاضبًا. ولا يستطيع أحد في الحي التعامل معه حينئذٍ. أفضِّل تلقِّي ضربة بمطرقة ثقيلة على أن أواجه ماكدونالد في ساعة غضبه. ولكن ما دام يتفوه بالألفاظ النابية، فلا بأس. بالمناسبة، ستبقَى حتى تحضر الجلسة؛ أليس كذلك؟»

«أظنني سأبقى. سأرى ما الذي يَنوي بارتليت الصغير فعله. إن المسافة ليست بعيدة على أن نَمشيها، على أيِّ حال.»

«سيوجد في طريقكما الكثير من الفتيات الحسناوات الليلة بعد الجلسة. لا أعرف، لكني شخصيًّا سأُهروِل صوب هذه الناحية بعد انتهاء اللقاء. فهذه هي المنفعة الأساسية التي أَجنيها من هذه الجلسات، على أيِّ حال.»

نزل باري العصا وييتس من على الدكة، وانضما إلى الحشد في الخارج. جلس بارتليت الصغير على ظهر أحد الحصانَين غيرَ راغبٍ في المغادرة بينما كان الحدَّاد يضبط الإطارات.

صاح قائلًا حين خرج رفيقه من الورشة: «هل ستأتي يا ييتس؟».

قال ييتس وهو يدنو منه ويُربِّت على الحصان: «أظنُّني سأبقى لأَحضُر الجلسة.» فلم يكن يُريد اعتلاء الحصان والرحيل في وجود هذا التجمُّع المهم.

قال بارتليت الصغير: «حسنًا، أظنني سأحضر الجلسة أيضًا، ثم أستطيع أن أريك طريق العودة إلى المخيم.»

قال ييتس: «شكرًا لك، سأكون في انتظارك.»

ركض بارتليت الشاب بحصانه بعيدًا وسرعان ما اختفى عن الأنظار وسط سحابة من الغبار. وكان الآخرون قد رحلوا أيضًا بخيولهم التي أُلبِسَت حدواتها، ولكن جاء عدة وافدين جدد، وازداد الجمعُ بدلًا من أن ينقص. جلسوا حول ساحة الورشة الخارجية على السياج أو بعض جذوع الأشجار المقطوعة الملقاة على جانب الطريق.

كان القليل منهم يُدخِّن فيما كان الكثيرون يمضغون التبغ. فقد كانت هذه طريقة ملائمة ومريحة لتناول التبغ، ولم تكن تحتاج إلى ثقاب، فضلًا عن أنَّها أكثر أمانًا للرجال الذين كانوا يضطرون إلى التردد على مخازن الحبوب القابلة للاشتعال.

أُضرِمَت حلقة من النيران أمام الورشة، واستُخدم لحاء شجر البلُّوط وقودًا أساسيًّا لإضرامها. وكانت الإطارات الحديدية لعجلات العربات الخشبية مُستتِرَة وسط هذه الحلقة النارية. كان ماكدونالد وساندي مُنشغلَين بتجهيز العُدة وبدا وَجهاهما أشدَّ بشاعة في ضوء الشمس الساطع ممَّا كانا في ظلام الورشة المُعتِم نِسبيًّا، فأضفَيا عليهما مظهر رُوحَين شريرتَين على وشك حضور مشهد تعويذة سحرية كانت الحلقة النارية هي علامته المَرئية. استقرَّ بالقُرب من حلقة النار أربع دعامات متقاطعة مكوَّنة من أربع عوارض خشبية مُربَّعة المَقطع، وكانت عليها عجلة بلا إطار حديدي في وضعية مُسطَّحة، وكان محور العجلة موضوعًا في الفتحة المربَّعة التي تشكَّلت وسط هذه الدعامات. ودائمًا ما كان المزارعون الكسالى يمتنعون عن ضبط إطارات عجلات عرباتهم إلى أن تَفسد تمامًا وتُصبح غير قابلة للتثبيت عليها. فكانوا يُؤجِّلون اليوم المحتوم مرارًا وتكرارًا بنقع العجلات من الليل حتى صباح اليوم التالي في بِركة صغيرة من المياه في متناولهم دون عناء، ولكن مع اقتراب حلول الطقس الأدفأ والأشد جفافًا، تصبح هذه الحيلة غيرَ كافية، حتَّى وإن دُعِّمَت بحشوِ أسافينَ خشبية بين الإطار والعجلة، ويُصير من الضروري ضبط الإطارات استعدادًا للعمل في فصل الصيف. فكثيرًا ما كان الإطار الفاسد يَتدحرَج على الطريق العام الرملي، ويُضطر المزارع على مضض إلى استعارة قضيبٍ خشبي من أقرب سياج، ويضعُه ليُسند به محور العجلات، ثمَّ يضع العجلة العارية وإطارها على العربة، ويقودُها ببُطء إلى أقرب ورشة حدادة وهي «تعرج كبطة جريحة»، بينما يترك القضيب وراءه أثرًا أشبه بزحف ثعبان على الطريق الترابي.

كان الحدَّاد قد قطع الإطار ولَحَمه في وقتٍ سابق مُقللًا محيطه، وحين صار ساخنًا كفاية، رفعه مع ساندي بملقطين في يدَي كلٍّ منهما من حلقة النار المُستعرة. ثم ضغطاه من حول حافة العَجلة المُلتهبة وطرَقا عليها بالمطرقة، وسرعان ما سكبا المياه الباردة حول الموضع الأحمر الساخن من دلوين كانا في مُتناولهما، فأحاطت بهما غيوم من البخار، وانكمَشَ الحديد بسرعة مُنضغطًا بإحكام على الخشب حتى التحمت وَصلَتا اللحام معًا بطقطقة. ولم يكن مُمكنًا أن تشهد هذه العملية أيَّ تلكُّؤ أو تباطؤ؛ إذ كان ضروريًّا أن يتمَّ العمل بسُرعة، وإلَّا تكون النتيجة عجلةً فاسِدة. كان ماكدونالد، الذي ظل يبصق بالتناوب وسط النار والبخار، مُستمتعًا بهذا العمل الذي يُتقنُه. وحتى ساندي اضطر إلى العمل على قدم وساق بأقصى سرعة دون أن يَحظى بثانية واحدة يستطيع أن يقول فيها إنَّ كتلة التبغ التي بحوزته مِلكه. ظلَّ ماكدونالد يعمل بصخب وحماس مُهتمًّا بأدق التفاصيل، لكنَّه مع ذلك أنجز قدرًا هائلًا من العمل في وقت قصير إلى حدٍّ لا يُصدَّق، وكان يسبُّ ساندي طوال الوقت، لكنَّ هذا الرجل النافع الكُفء لم يَردَّ الشتائم بمِثلها قط، مُكتفيًا بغمزة إلى الحشد الحاضر حين سنحت له الفرصة، قائلًا في سرِّه:

«العجوز في حالٍ مُمتازة اليوم.»

وهكذا أمتع كل واحد نفسه: ماكدونالد؛ لأنَّه كان البطل الرئيسي في مهرجان صاخب للعمل؛ وساندي؛ لأنَّ المرء يستطيع أن يَمضغ التبغ طوال الوقت مهما كانت صعوبة عمله؛ وحشد الحاضرين؛ لأنَّ مشهد النار والمياه والبخار كان جميلًا ولم يكن عليهم فعل أي شيء سوى الجلوس حوله والمشاهدة. غربت الشمس رويدًا رويدًا بينما غادر المُتفرِّجون واحدًا تلو الآخر لأداء أعمالهم المنزلية والاستعداد للجلسة المسائية. وذهب ييتس مع باري العصا إلى بيته بدعوة منه، واستمتَعَ بوجبتِه المسائية أيما استمتاع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤