الفصل السادس

كانت مارجريت هوارد تقف عند طاولة المطبخ وهي تعجن العجين. كانت الغرفة تُسمَّى بالمطبخ، لكنها لم تكن كذلك، إلَّا في فصل الشتاء. فقد كان الموقد يُنقَل منها في فصل الربيع إلى كوخٍ مُلاصق للبيت يُمكِن الوصول إليه بسهولة عبر الباب المفتوح المؤدي إلى شرفة المطبخ.

وحين كان الموقد يُدخَل إلى الغرفة أو يُخرَج منها، كان هذا مؤشرًا على اقتراب حلول الصيف أو رحيله. كان بمثابة البندول الثقيل الذي كان تأرجحه إلى هذا الاتجاه أو ذاك يشير إلى التغييرين الكبيرين في السنة. ولم يكن المزارع وأولاده يكرهون أيَّ مهمة في المزرعة أشدَّ من كرههم لتغيير مكان الموقد كل ستة أشهر. فقد كان السخام يتساقط منه، وكانت المداخن تتذمر بصريرٍ حادٍّ مُزعِج من تركيبها معًا مجددًا، بينما كان الموقد نفسه ثقيلًا ومُنهِكًا، وكان أغلب أوجاع الظهر لدى أهل الريف يعود تاريخها إلى رحلة الموقد من الكوخ الخارجي إلى المطبخ.

كان المطبخ نفسه عبارة عن مبنًى من طابق واحد، وكان بارزًا من خلف البيت الريفي المكوَّن من طابقين، ما جعل الشكل كله على هيئة حرف تي. وكانت توجد شرفة أرضية على كلٍّ من جانبي المطبخ، بالإضافة إلى شرفة بمُحاذاة مقدمة المنزل نفسه.

كان كُمَّا مارجريت مُشمَّرين إلى مرفقَيها تقريبًا، كاشفين عن ذراعين بيضاوين جميلتين. وكانت بين الحين والآخر تُعفِّر لوح العجن بالدقيق ببراعة لتمنع التصاق العجين، وبينما كانت تضغط راحتي يديها في كتلة العجين الإسفنجية الملساء البيضاء، كانت الطاولة تُصدِر صريرًا وتأوهًا كأنها تشتكي. قطعت لفة العجين بالسكين إلى كُتلٍ ربَّتت عليها حتى اتخذت الشكل المنشود، ورصَّتها متجاوِرة، كالتلال الثلجية الصغيرة، في الصاج الحديدي الأسود.

في هذه اللحظة، سمعت مارجريت نقرًا على باب المطبخ المفتوح، واستدارت مذعورة؛ إذ كان بيتها نادرًا ما يأتيه زوَّار في ذلك الوقت من اليوم، ولأن الجيران نادرًا ما كانوا يَتنازَلُون ويلتزمون بمثل هذه الشكليات كالطرق على الباب. تورَّدت الفتاة خجلًا حين أدركت أنَّ هذا الزائر هو الرجل الذي تحدَّث إليها في اليوم السابق. كان يقف مبتسمًا في المدخل، حاملًا قبعته في يده. لم تتفوَّه الفتاة بكلمة تحية أو ترحيب، لكنها وقفت تحدق إليه واضعة يدها على الطاولة المكسوَّة بالدقيق.

قال ييتس بابتهاج: «صباح الخير يا آنسة هوارد، هل لي أن أدخل؟ ظللت أطرق الباب الأمامي لبعض الوقت دون جدوى، لذا استدرت وجئت إلى هنا بلا إذن.»

رَدت مارجريت قائلة: «لم أسمَع طرقك.» تجاهَلت دعوته للدخول، لكنه اعتبر الإذن شيئًا مُسلَّمًا به، ودخل ثم جلس من تلقاء نفسه جِلسة رجلٍ جاء ليبقى. وأضافت: «يجب أن تعذرَني لمواصلة عملي؛ فالخبز في هذه المرحلة لن ينتظر.»

«بالتأكيد، بالتأكيد. أرجو ألَّا تدعيني أقاطعك. كنت أصنع خبزي بنفسي لسنوات، ولكن ليس بتلك الطريقة. وأنا سعيد بأنك تصنعين الخبز؛ لأنني جئت لأرى إن كان بإمكاني شراء بعضٍ منه.»

«حقًّا؟ ربما يُمكنُني أن أبيع لك بعض الزبد والبيض أيضًا.»

ضحك ييتس بطريقته المبتهجة العفوية المعتادة، التي كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقدرته على المُضي قُدمًا في الدنيا. فقد كان من الصعب أن يظل شخص بهذه الطبيعة المرحة المتفائلة غاضبًا لفترة طويلة.

«آنسة هوارد، أرى أنكِ لم تغفري لي كلامي يوم أمس. بالتأكيد لم تظنِّي أنني قصدته. في الحقيقة لقد قُلته على سبيل الدعابة، لكنَّني مُستعدٌّ للاعتراف، حين أتذكره الآن، بأن الدعابة كانت سخيفة بعض الشيء، ولكن على كل حال، فمعظم دعاباتي مبتذلة نوعًا ما.»

«أخشى أنني أفتقر إلى حسٍّ دعابيٍّ.» فقال ييتس بثقة عفوية: «كل النساء كذلك، أو على الأقل كل مَن قابلتهن طوال حياتي.»

كان ييتس جالسًا على كرسي خشبي، كان قد وضعه آنذاك عند نهاية الطاولة، وأماله إلى الخلف حتى استقرت كتفاه على الحائط. كانت قدماه مستقرتين على عارضة الكرسي السفلية، وكان يلوِّح بقبعته يمينًا ويسارًا، ليُهوِّي لنفسه؛ إذ كان الجو في المطبخ ساخنًا. وفي هذا الوضع، استطاع رفع ناظريه إلى وجه الفتاة الجميلة التي كانت واقفة أمامه، والتي كان جبينها الناعم مشوبًا بأخفِّ علامات العبوس الطفيف. لم ترمق الشاب الواثق من نفسه ولو بنظرةٍ خاطفة، بل أبقت عينيها ثابتتين على عملها بكل عزم وإصرار. وفي هذا الصمت، كانت الطاولة تُصدر صريرًا بينما كانت مارجريت تعجن العجين. أحسَّ ييتس بشعورٍ غيرِ معتاد بالإحراج يتسلل إليه، وأدرك أنَّه سيُضطرُّ إلى إعادة بناء المحادثة على أساس جديد. كان من السخف الجَلِي أن يتعرَّض مُواطن نيويوركي واسع الحيلة سريع البديهة للإحراج بالبرود غير المُبرَّر لفتاة ريفية في براري كندا، بعدما سَبَق وأن تحاور بلا خجل أو حرج مع رؤساء وأعضاء في مجلس الشيوخ وجنرالات وغيرهم من عظماء أمة عظيمة.

قال أخيرًا، حين أصبح صرير الطاولة لا يُطاق مع أنه كان خافتًا: «لم تُتَح لي الفرصة لتقديم نفسي كما ينبغي. اسمي ريتشارد ييتس، وقد جئتُ من نيويورك. أخيِّم في هذا الحي، للتخلُّص من إجهاد ذهني، إن جاز القول، نتيجة سنوات من العمل الأدبي.»

كان ييتس يعرف من خبرته الطويلة أنَّ السبيل الأسرع والأضمن لنيل ثقة أنثى هو كسب تعاطفها. وخطر بباله أنَّ عبارة «الإجهاد الذهني» ستكون جيدة؛ لأنها ستُشير إلى العمل بجِدٍّ حتى وقت متأخر من الليل وعين الطالب المُتفاني الغائرة من شدة السهر.

سألته مارجريت بارتياب، رامقة إياه للمرة الأولى بنظرة خاطفة من عينها الداكنة: «هل عملك ذهني إذن؟».

ضحك ييتس بشيء من عدم الارتياح قائلًا: «نعم.» كان واضحًا أنَّ رصاصته قد خابت. «ألاحظ من نبرتِك أنَّك تظنين على ما يبدو أن قدراتي الذهنية ضعيفة. يَنبغي ألَّا تحكمي بالمظاهر يا آنسة هوارد. فمعظمنا أفضل ممَّا يبدو، وإن كان المتشائمون عكس ذلك. حسنًا، كما كنت أقول، تتكون رفقة التخييم من رفيقين. ونحن مختلفان جدًّا في كل شيء لدرجة أننا صديقان مقربان. رفيقي هو السيد ستيلسون رينمارك، أستاذ مادةٍ ما لا أتذكرها في كلية يونيفرستي كولدج في تورنتو.»

وهنا أبدت مارجريت بعض الاهتمام بالمحادثة لأول مرة.

«البروفيسور رينمارك؟ سمعت عنه.»

«عجبًا! لم أكن أعرف إطلاقًا أنَّ شهرة البروفيسور قد تغلغلت إلى ما وراء حرم الجامعة، إن كان للجامعة حرم. صحيح أنه أخبرني بأنها مزودة بكل سبل التطور الحديثة، لكنني كنت أظن آنذاك أنَّ هذا مجرد تفاخُر من ريني.»

اشتدَّ العبوس الظاهر على جبين الفتاة، وسرعان ما أدرك ييتس أنَّه خسر أرضًا جديدة في محاولاته لاستهلال حوارٍ معها، إن كان قد كسب أي أرض أصلًا، وهو ما بدأ يشك فيه بالفعل. كان من الواضح أنها لم تستحسن حديثه العفوي السطحي عن الجامعة. وبينما كان يَهمُّ بقول شيءٍ ما يُظهر احترامه لهذه المؤسسة؛ لأنه لم يكن ليتحدث بازدراء عن أيِّ شيء، ولا خط الاستواء نفسه، إذا رأى أنَّه قد يكسب ود مستمعه بأن يفعل عكس ذلك، خَطَر بباله أنَّ اهتمام الآنسة هوارد كان مُنصبًّا على الرجل، وليس الجامعة.

تابع حديثه قائلًا: «في هذا العالم يا آنسة هوارد، نادرًا ما تَجد الجدارة الحقيقية مكافأتها، أو على الأقل، تُبدي المكافأة بعض التمنُّع على إظهار نفسها في الوقت المناسب ليتسنَّى للمرء الاستمتاع بها. والبروفيسور رينمارك رجل كفء وجدير بالتقدير إلى حدِّ أنني ذُهلت بعض الشيء حين علمت أنك تعرفينه. أنا سعيد من أجله لأنه معروف لديك؛ لأنَّه لا شخص أجدر منه بالشهرة إطلاقًا.»

قالت مارجريت: «لا أعرف شيئًا عنه، سوى ما كتبه شقيقي في رسائله. فشقيقي طالب في الجامعة.»

«أهو كذلك حقًّا؟ ولأي غرض التحقَ بالجامعة؟»

«التعليم الجيد.»

ضحك ييتس.

«حسنًا، هذا شيء يعود على المرء بفوائدَ عديدة حين يحوزه. كثيرًا ما تمنَّيت لو أنني تلقيت تدريبًا جامعيًّا. ومع ذلك، لا يَلقى التدريب الجامعي القدر الذي ربما يستحقُّه من تقدير في مكتب صحيفة أمريكية.» وأضاف بنبرةٍ أظهرت أنه لا يريد أن يكون مجحفًا في حق رجل ذي تعليم جامعي: «ومع ذلك، أعرف بعض الخريجين الجامعيين صاروا مراسلين جيدين جدًّا في نهاية المطاف.»

لم تردَّ الفتاة، بل أولت انتباهًا حادًّا بما كان بين يديها من عمل. كانت لديها موهبة الصمت النادرة، وكانت هذه الفترات الفاصلة من الصمت تحرج ييتس، الذي كان أكثر ما يَتباهى به مرارًا هو قدرته على التفوق في الكلام على أيِّ رجل في العالم. فقد كان ما يلقاه من معارضة، أو إساءة حتى، مجرد حافز يَستفز استرساله في الكلام، أما الصمت فكان يُربكه.

صاح أخيرًا بشعور أشبه باليأس، قائلًا: «حسنًا، لنترك هذا النقاش الحيوي المُحتدِم عن موضوع التعليم، ونستأنف الحديث عن موضوع العيش الأكثر عملية. هل تصدقين يا آنسة هوارد أنني خبير في صناعة العيش؟»

«أظنُّك قد قُلت بالفعل إنك كنت تصنع عيشك بنفسك.»

«آه، نعم، لكنِّي قصدت آنذاك أنني أصنعه بعرق قلمي الرصاص الجميل. ومع ذلك، كنت أصنع العيش في أيام صِباي، وأعتقد أن بعضًا ممَّن كانوا يعيشون عليه ما زالوا على قيد الحياة إلى اليوم. حين يفكر المرء في مدى قدرة الجسد البشَري على التحمُّل يجدها مُذهلة. كنت أتولى مهمة الخبز ذات شتاء في أحد مخيمات قطع الأخشاب من الأشجار. اعتدت آنذاك أن أُفرِّغ جوال دقيق في حوض مصنوع من جذوع الأشجار المقطوعة، وأسكب عليه دلوًا أو اثنين من الثلج المذاب، وأقلِّب بمِعولٍ على غرار مساعد البنَّاء في صنع الملاط. لم تكن صناعتي للخبز تتَّسم بشيء من التفاهة أو الوضاعة. فقد كنت أعمل في تجارة الجملة.»

«أشفِق على الحطابِين التعساء.»

«شفقتك في غير محلِّها تمامًا يا آنسة هوارد. يجب أن تُشفقي عليَّ أنا لأنني كنت أضطر إلى الرضوخ لمثل تلك الشهيات التي كان هؤلاء الرجال يَجلبونها معهم من الغابة. صحيح أنهم لم يَشتكُوا قَط من جودة الخبز، لكنَّهم أحيانًا ما كانوا يبدون بعض التذمر بشأن الكمية. كنتُ أطعِم آلة درس الحنطة حِزَم الحنطة، وكنت أطعِم آلة نشر الخشب جذوع الشجر المقطوعة، لكنَّ شرهَ هاتَين الآلتَين كان لا شيء مقارنةً بشره قاطع أخشاب ضخم عاد للتو من قطع الأشجار. فكلُّ ما يُريده آنذاك هو قدرٌ كافٍ، ووفير، من الخبز. ولم تكن لتُرضيه كمية محددة منه. بل يريد الخبز كله دُفعةً واحدة، ويريده فورًا. وإن وُجِدت أي ضرورة للاغتسال، يؤجله إلى ما بعد الوجبة. لا أعرف شيئًا، باستثناء الصحف الصباحية، لديه شهية تجاه أشياء متنوعة مثل رجال الغابات.»

لم تتفوَّه الفتاة بأي تعليق، لكنَّ ييتس رأى أنها مهتمَّة بحديثه رغمًا عنها. كان الخبز آنذاك في الصاج، وكانت الفتاة قد سحبت الطاولة إلى وسط أرضية المطبخ، واختفى لوح الخَبز، ونُظِّف سطح الطاولة. وبحركة خفيفة ورشيقة من يديها، ألقت فوق سطح الطاولة المفرش الأبيض الناصِع، الذي انساب عليها في موجات حتى استقرَّ في مكانه أخيرًا بهدوء كسطح بِركة ساكن صافٍ تحت ضوء القمر. أدرك ييتس أنَّ الطريق إلى النجاح يَكمُن في إبقاء زمام الحوار بين يديه، وعدم الاعتماد على أي رد. فبهذه الطريقة، قد يستطيع المرء عَرض مخزونه من المعرفة على أفضل وجه ممكن، مثيرًا به إعجاب المستمعين إليه وحيرتهم، حتى وإن كان مخزونه لا يَحوي سوى عيِّنات مثل بضاعة التاجر الرحَّالة، غير أنَّ التاجر الرحَّالة الضليع في عمله يستطيع ترتيب عيِّناته على طاولة غرفته في فندق ترتيبًا يُعطي مَن يشاهدها فكرةً عن مدى اتساع المخازن التي أُخِذَت منها وغزارة محتوياتها.

قال ييتس بجديةِ رجل علَّامة: «الخبز موضوع مثير جدًّا للاهتمام. فهو موضوع تاريخي، بل وموضوع إنجيلي أيضًا. فقَد ورَد ذكره في الكتاب المقدس كطعام أكثر من أي طعام آخر. إنه يُستخدم في الأمثال الروحانية، وفي الإشارة إلى عِبرة. «يجب ألَّا تعيش على الخبز وحده».»

وهنا رأى طيفًا طفيفًا من البريق في عين الفتاة، فخشيَ أن يكون استِشهاده خاطئًا. كان يعلم أنه لم يكن آنذاك في معرض الجزء الأكثر درايةً به من بين عيناته من مخزون المعرفة؛ لذا سارع بالعودة إلى الجانب التاريخي من موضوعه. لم يكن أحد يُضاهي ييتس في قدرته على الانزلاق إلى سلوكيات وأفعال تجعله على المحك سوى قلَّة قليلة من الناس، لكنَّ فطنته الطبيعية دائمًا ما كانت تُعيده إلى أرضٍ أكثرَ صلابة.

قال: «لقد مرَّ الخبز في هذا البلد بثلاث مراحل مُميزة، ومع أنني من أقوى المؤمنين بالتقدُّم، ولكن في حالة أهم مادة غذائية لدينا، أرى أنَّ خبز العصر الحاضر أدنى جودة من الخبز الذي كانت تصنعه أمهاتنا، أو ربما ينبغي أن أقول جدَّاتنا. فالعصر الحاضر، مع الأسف، يتحوَّل بخُطًى سريعة ليصبح عصر الآلات، وصحيح أنَّ الآلات ربما تكون أسرع، لكنها بالتأكيد لا تُضاهِي دقة العمل اليدوي القديم. يُوجد كاتب جديد في إنجلترا يُدعى راسكن لديه تعصُّب شديد ضد الآلات. إنه يودُّ أن يَراها وقد أُبيدت؛ على الأقل هذا ما يقوله. سأرسل في طلب أحد كتبه، وسأُطلعُك عليه، إذا سمحتِ لي بذلك.»

«من المؤكَّد أنَّكم، في نيويورك، لا تَصفُون مؤلِّف كتاب «الرسامون المُعاصِرون» وكتاب «الأنوار السبعة للهندسة المعمارية» بأنه كاتب جديد. فوالدي يَقتني أحد كتبه الذي لا شك أنَّ عمره حوالي عشرين عامًا.»

كان هذا أطول حديثٍ وجَّهته إليه مارجريت، وقد سَحَره وأوقعه في حبها، كما قال للبروفيسور لاحقًا في وصف تأثيره. واعترف للبروفيسور، ولكن ليس للفتاة، بأنه لم يقرأ قَط أي كلمة من تأليف راسكن طوال حياته. وأما هذه الإشارة التي أشارها إلى ذاك الكاتب، فكانت نقلًا عن شخص آخر ذكرها، وكان قد أدرجها من قبلُ في إحدى المقالات وكان لها تأثيرٌ قويٌّ مبهر. فقد بَدَت آنذاك جملة «كما يقول السيد راسكن» ذات وَقعٍ جيد في مقالة صحفية؛ إذ أضفت عليها طابعًا من سعة المعرفة والبحث. ومع ذلك، لم يكن السيد ييتس في هذه اللحظة مستعدًّا لخوض نقاش عن عمر الكاتب الإنجليزي أو محاسنِه.

قال: «آه، حسنًا، عمليًّا، فراسكن ليس جديدًا بالتأكيد. ما قصدته أنه يُعد — آآه — في نيويورك … بالأحرى — كما تَعلمين — جديدًا نسبيًّا … جديدًا نسبيًّا. ولكن، كما كنت أقول عن الخبز، فقَد أنتَج عصر الخبز القديم في زمن الأكواخ المبنية من جذوع الأشجار، كما يُمكنُني أن أسميه، ألذَّ رغيف صُنع في هذا البلد. كان ذلك هو الخبز الأبيض السميك الذي كان يُخمَّر بمزيج من اللبن والملح والدقيق ودقيق الذرة، وكان يُخبَز في غلاية حديدية مستديرة ذات قعر مسطح. هل سَبق لكِ أن رأيتِ غلاية الخَبز التي كانت تُستخدم قديمًا؟»

«أظن أنَّ السيدة بارتليت لديها واحدة، لكنها لم تَعُد تستخدمها الآن أبدًا. كانت تُوضَع على الجمر الساخن، أليس كذلك؟»

قال ييتس، مُلاحِظًا في سرور أن جمود الفتاة قد بدأ يلين، كما عبَّر عن ذلك لنفسه: «بالضبط. كان الفحم الساخن يُخرَج وكانت الغلاية تُوضَع عليه. وحين كان الغطاء يستقر في مكانه، كان يُوضع بعض الفحم الساخن فوقه. كان الخبز متماسكًا وأبيضَ وحلوًا من الداخل، وتكسوه ألذ قشرة ذهبية من كل الجوانب. آه، كان ذلك خبزًا بحق! لكني ربما كنت أقدره لأنني دائمًا ما كنت جائعًا في تلك الأيام. ثم جاء ذلك التطوير المزعوم المسمَّى بالموقد الهولندي الصفيحي. وكانت هذه هي المرحلة الثانية في تطور الخبز في هذا البلد. كان يَنتمي هو الآخر إلى عصر المنازل المبنية من جذوع الأشجار والمَدافئ المفتوحة. كان الخبز يُخبَز بالحرارة المباشرة من النار والحرارة المنعكِسة من الصفيح المصقول. أظن أنَّ مواقد عصرنا الحالي المصنوعة من الحديد الزهر أفضل من هذا المَوقد الهولندي، وإن كانت لا تَرقى لمكانة الغلايات القديمة.»

لو كانت مارجريت من قراء صحيفة «نيويورك أرجوس»، لكانت ستلاحظ أنَّ الحقائق التي عرضَها ضيفها قد ذُكرت بالفعل في هذه الصحيفة، بتفصيلٍ أكبر، في مقالة بعنوان «خبزنا اليومي». وفي خضمِّ الصمت الذي خيَّم بعدما أنهى ييتس خطبته المطوَّلة عن زاد الحياة البشرية، كُسِر السكون بصيحة طويلة حادة. بدأت تلك الصيحة بنغمة متواصِلة ممتدَّة وانتهت بصيحة مطوَّلة أدنى من الأولى بنصف نغمة. لم تَكترث الفتاة بها، لكن ييتس هبَّ مُنتفضًا على قدميه.

قال: «باسم اﻟ… ما هذا؟»

ابتسمت مارجريت، ولكن قبل أن تَستطيع الرد، كُسِر السكون مرةً أخرى بما بدا أنه نغمات بوق قادمة من مسافة أبعد.

قالت: «الأول كان صوت كيتي بارتليت تُنادي الرجال من الحقل ليعودوا إلى البيت لتناول الغداء. فالسيدة بارتليت مدبِّرة منزل مُمتازة، وعادة ما تسبق الجيران في إعداد الوجبات ببضع دقائق. أما الثاني، فكان صوت بوق قادمًا من مسافة أبعد على الطريق. وهذا ما قد تأسَى عليه لأنَّ تطورات عصر الصفيح قد امتدَّت إلى نداء الغداء، تمامًا كما حل موقدك الصفيحي محل غلاية الخبز الأفضل. أحب صيحة كيتي أكثر بكثير من البُوق الصَّفيح. فأنا أراها أكثر موسيقية، مع أنها جعلتك تنتفض حسبما بدا.»

صاح ييتس صيحةَ إعجاب جريئة، قائلًا: «أوه، أنتِ تَستطيعين التحدُّث!» فتلوَّن وجه الفتاة قليلًا من الخجل وانطوت على نفسها مرة أخرى. «وتستطيعين السخرية من معرفة الآخرين التاريخية أيضًا. أيهما تستخدمين إذن: البوق الصفيحي أم الصوت الطبيعي؟»

«لا هذا ولا ذاك. إذا نظرت إلى الخارج، فسترى رايةً أعلى صارية. هذه إشارتنا.»

خَطر ببال ييتس أنَّ الفتاة قصدت بهذا تلميحًا إلى أنه قد يرى أشياء عديدة في الخارج تُثير اهتمامه. شعر بأنَّ زيارته لم تُحقِّق النجاح الباهر الذي كان يتوقَّعه. بالطبع كان البحث عن الخبز مجرد ذريعة. كان يتوقَّع أنه سيَستطيع محو الانطباع السلبي الذي كان يعلم أنه تركه بمحادثته المَرِحة المفعَمة بالحيوية على طريق ريدج في اليوم السابق، وأدرك أنَّ موقفه ما زال كما هو. كان قدرٌ كبير من نجاح ييتس في الحياة يرجع إلى أنه لم يكن يدري بالهزيمة قط حين يتعرض لها. أبى الاعتراف بالهزيمة في تلك اللحظة، لكنه رأى أنه، لسببٍ ما، لم يكسب أي أفضلية في مناوشة تمهيدية. لذا استنتج أنَّه سيكون من الأفضل أن ينسحب بوقار، ويستأنف المنافسة في وقتٍ ما في المستقبل. كان غير معتادٍ أي شيء من قَبيل الرفض أو الصد إلى حدِّ أن كلَّ خصاله القتالية كانت في غاية الاستنفار، وقرَّر أن يُظهر لتلك الفتاة المتبلدة أنه ليس بالرجل الذي يُمكِن الاستِخفاف به.

وبينما كان ينهض، فُتح باب القِسم الرئيسي من البيت، ودخلت منه امرأة تجاوَزَت منتصف العمر بقليل بدا عليها أنها كانت جميلة في الماضي بلا شك، لكنَّ وجهها المُنهكَ الباهت كان يَحمل قسمات الإعياء الصبور الذي غالبًا ما ينتج من انقضاء فترة الشباب في إعانة زوجٍ على التغلُّب على العناد الشديد لمزرعة أمريكية مليئة بالأشجار. فعادةً ما يكون المنتصر في مهمة استصلاح المزرعة مهزومًا. وكان جليًّا من النظرة الأولى إليها أنها الأم التي ورثَت منها الابنة حسنها. لم تَبدُ السيدة هوارد متفاجئة برؤية شخص غريب يقف في بيتِها؛ ففي الواقع، بدا أنها قد فقدَت قدرتها على الاندهاش من أي شيء. عرَّفت مارجريت أحدهما إلى الآخر بهدوء، وشرعَت في تحضيراتها للوجبة. حيَّا ييتس السيدة هوارد بحفاوة شديدة. قال إنه قد أتى باحثًا عن خبز. كان يظن أنه ذو قدرٍ من الدراية بالخبز وصناعتِه، لكنه علم آنذاك أنه جاء في وقت مُبكِّر للغاية من النهار. وأعرب عن أمله في أن يَحظى بشرف تكرار زيارته.

قالت السيدة هوارد بقلق مِضياف: «لكنَّك لن ترحل الآن؟»

أجاب ييتس بنبرة متباطئة: «يُؤسفُني القول إنني قد مكثت وقتًا أطول من اللازم بالفعل. ورفيقي، البروفيسور رينمارك، أيضًا قد خرج للبحث عن المؤن الغذائية عند جيرانكم، آل بارتليت. لا شك أنه قد عاد إلى المخيم منذ وقت طويل، وسيكون في انتظاري.»

«لا خوف من ذلك. فالسيدة بارتليت لن تَسمح أبدًا لأي شخص بمغادرة منزلها قبل وجبة وشيكة.»

«أخشى أن أسبِّب متاعبَ إضافية إذا بقيت. فأنا أتصور أنَّ كل بيت ريفي لديه ما يكفيه من المشاغل وفي غنًى عن استقبال أي متشرِّد عابر يمرُّ به مصادفة. ألا تتَّفقين معي هذه المرة يا آنسة هوارد؟»

لم يكن ييتس راغبًا في الرحيل، لكنَّه لم يُرِد البقاء إلَّا إذا تلقَّى دعوة من مارجريت نفسها إضافةً إلى دعوة أمها. انتابه شعور غامض بأن مُمانعته الرحيل تُحسَب له، وبأنه يتحسَّن. لم يستطِع أن يتذكر أي مرة لم يرضَ فيها دون نقاش بأي شيء قَسَمتْه له الآلهة، وهذا الشعور المُفاجئ غير المُعتاد بالتواضُع جعله يظن أنَّ ثمة أغوارًا في طبيعتِه لم تُسبَر حتى تلك اللحظة. ودائمًا ما يَسعد المرء حين يُدرك أنه أعمق مما كان يتصوَّر.

ضحكت السيدة هوارد ضحكة خافتة؛ لأن ييتس شبَّه نفسه بمُتشرِّد، وقالت مارجريت ببرود:

«شعار الأم أنَّ زيادة فرد واحد أو نقصانه لن يُحدثا أي فارق.»

«وما شعارك يا آنسة هوارد؟»

قالت السيدة هوارد مُجيبةً بالنيابة عن ابنتها: «لا أظن أنَّ مارجريت لديها أي شعار. إنها كأبيها. تقرأ كثيرًا وتتحدَّث قليلًا. إنه يقرأ طوال الوقت، ما لم يكن مُضطرًّا إلى العمل. أرى أنَّ مارجريت قد دَعتك بالفعل؛ لأنها وضعت طبقًا إضافيًّا على المائدة.»

قال ييتس: «آه، إذن سيُسعدني كثيرًا قبول الدعوة الشفهية وتلك المتمثِّلة في الصحن الفخاري. أشعر بالأسى تجاه البروفيسور الذي سيَتناول وجبته وحيدًا بجوار الخيمة؛ فهو يستميت من أجل الالتزام الشديد بالواجب، وأنا متيقِّن من أنَّ السيدة بارتليت لن تستطيع إبقاءه في بيتها.»

وقبل أن تستطيع السيدة هوارد الرد، تهادَى في الهواء إليهم من الخارج، حيث كانت مارجريت موجودة، صوتٌ مبتهِج لم يَجد ييتس صعوبةً في إدراك أنه صوت الآنسة كيتي بارتليت.

قالت: «مرحبًا يا مارجريت! أهو هنا؟»

كان الرد غير مسموع.

«أوه، تعرفين مَن أقصد. ذاك الرجل المغرور الوافد من المدينة.»

من الواضح أنَّ مارجريت وجَّهت إليها توبيخًا وتحذيرًا.

«حسنًا، لا يُهمُّني إن سمع. سأخبره بذلك في وجهه. لعلَّه يَستفيد منه.»

وفي اللحظة التالية، ظَهرت فتاةٌ ذات طلة ساحرة في المدخل. كانت تموُّجات شعرها الشقراء التي كانت تتطاير حول كتفَيها تَحمل فوقها، بعفوية وعشوائية، قبعة أخيها المصنوعة من القشِّ ذات الحافة العريضة المتآكلة. وكان وجهها متوردًا من الركض، ولم يكن يُوجد أدنى شك في حقيقة أنها فتاة جميلة للغاية.

قالت للسيدة هوارد: «كيف حالك؟» ثمَّ حيَّت ييتس بإيماءة، وصاحت قائلة: «كنتُ أعرف أنك هنا، لكني جئتُ لأتأكَّد. ستَنشب حرب في بيتنا. لقد احتجزت أمي البروفيسور في البيت بالفعل، لكنه لا يَعرف ذلك. إنه يظن أنه سيعود إلى الخيمة، وهي تُعبِّئ الأشياء التي يريدها، وتفعل ذلك ببطء شديد ريثما أعود. لقد قال إنك ستكون في انتظاره في الغابة بكل تأكيد. أخبرناه، أنا وأمي، بأنَّه يَنبغي ألا يقلق بشأن ذلك. فأنت لن تترك مكانًا فيه طعام شهي حتى ولو مِن أجل كلِّ أساتذة العالم.»

فقال ييتس مُتضايقًا بعض الشيء من صراحتها: «أنتِ بارعة في الحُكم على الأشخاص يا آنسة بارتليت.»

«أنا كذلك بالتأكيد. البروفيسور أدرى منك بكثير جدًّا، لكنه مع ذلك لا يدرى بالحظِّ السعيد حين يواتيه. في حين أنك تدري به. إنه رجل عنيد متحفظ.»

«وأيهما أكثر استمالةً لإعجابك يا آنسة بارتليت: رجل عنيد متحفِّظ أم رجل مغرور؟»

ضحكت الآنسة كيتي من أعماق قلبها دون ذرة شعور بالحرج. «تقصد الأكثر استمالة لكراهيتي. لا أعرف بالتأكيد. مارجريت، أيهما أبغض؟»

نظرَتْ مارجريت نظرةَ تأنيب إلى جارتها حين سألتها بَغتة هكذا، لكنَّها لم تقل شيئًا.

فضحكت كيتي مرةً أخرى واتَّجهت فجأة نحو صديقتها بخطوات وثابة وطبعت قبلة صغيرة، كنقرة طائر، على كل وجنة من وجنتيها، وصاحت قائلة: «حسنًا، يجب أن أغادر، وإلَّا ستُضطر أمي إلى تقييد البروفيسور لإبقائه»؛ ومن ثم انطلقت بسرعة وخفَّة كأنها غزال صغير.

علَّق ييتس حين خفت صوت رفرفة تموجات شعرها وفستانها المنسوج من القطن، قائلًا: «فتاة غريبة.»

فصاحت مارجريت بتشديد قاطع: «إنها فتاة طيبة.»

قال ييتس متسائلًا: «لم أقل شيئًا عكس ذلك. ولكن ألا ترين أنها صريحة بعض الشيء في آرائها عن الآخرين؟».

«لم تكن تعرف أنك تسمعها حين همت الحديث في البداية، وبعد ذلك أصرَّت على موقفها بجرأة وتحدٍّ. هذه عادتها. لكنها فتاة لطيفة وطيبة القلب، وإلَّا لما تحمَّلت عناء المجيء إلى هنا لمجرد أنَّ صديقك شخص فظ.»

قال ييتس، مسارعًا إلى الدفاع عن صديقه كما سارعت الفتاة إلى الدفاع عن صديقتها: «أوه، ريني قد يتسم بأي شيء إلَّا الفظاظة. فكما كنتُ أقول منذ لحظة، إنه يَستميت من أجل الالتزام الشديد بالواجب، وإذا كان يظنُّ أنني أنتظره في المخيم، فلا شيء سيُبقيه. أمَّا الآن، فسيَحظى بغداء طيب في سلام عندما يعرف أنني لا أنتظره، وهذا الغداء أطيب مما سيَتناوله حين أتولَّى مهمة الطهي.»

وبحلول هذا الوقت، كانت الإشارة الصامتة على صارية العلم قد أدَّت مهمَّتها، ووصل والد مارجريت وشقيقها قادمين من الحقل. وضعا قبعتَيهما العريضتين المصنوعتين من القش على سقف شرفة المطبخ، ثم أخذا الماء في وعاء قصديري من برميل تخزين مياه الأمطار، ووضعاه على دكَّة في الخارج، وشرَعا في الاغتسال بنشاط وحيوية.

كان السيد هوارد أكثر اهتمامًا بضيفِه من ابنته حسبما بدا. كان ييتس يتحدَّث بطلاقة وعفوية، كما كان يفعل دائمًا حين يحظى بجمهور متعاطف من المستمعين، وأظهر معرفة عفوية دون أي كُلفة بكبار الشخصيات في العالم، أبهرت رجلًا كان قد قرأ الكثير عنهم، لكنه كان محرومًا بعض الشيء من التعامل المباشر مع هذه الأوساط الصاخبة. كان ييتس يعرف الكثير من الجنرالات المشاركين في الحرب الأخيرة، وكل الساسة. لم يكن بين رجال السياسة رجل نزيه، حسبما ذكر الصحفي، في حين أنَّ قلَّة قليلة فقط من الجنرالات هم مَن لم يرتكبوا أفدح الأخطاء. كان يعتبر العالم كنزًا هائلًا من الأناس العاديِّين، فيه العباقرة الحقيقيون مدفونون بعيدًا عن الأنظار، إن كان لهم وجود أصلًا، وهو ما بدا محلَّ شكٍّ بالنسبة إليه، وفيه أولئك المتربعون على القمة قد وصلوا إليها إمَّا بحياكة المؤامرات أو لأنَّ الظروف هي التي دفعتهم إلى هناك. كانت آراؤه في بعض الأحيان تُثير نظرة تألُّم على وجه الرجل العجوز، الذي كان متحمسًا بأسلوبه الهادئ، وكان لديه أشخاص يَراهم أبطالًا. كان هذا الرجل ليُصبح جمهوريًّا متعصبًا لو كان يعيش في الولايات المتحدة، وكان قد تابَع حرب السنوات الأربع الأمريكية الأهلية من خلال الصحف باهتمام بالغ وانهماك شديد. كان يرى أنَّ ولايات الشمال كانت تُحارب من أجل مبدأ الحرية الإنسانية العظيم الخالد، وانتصرت بجدارة. غير أنَّ ييتس لم يكن لديه مثل هذه الأوهام. فقد قال إنها كانت حربًا بين الساسة. فلم يكن للمبادئ مكانٌ فيها ولا صِلة. كانت ولايات الشمال على أتم الاستعداد لترك العبودية قائمة لو لم يُفرض عليها هذا الموقف اضطرارًا بسبب القصف المدفعي الذي شُنَّ على حصن سمتر. كما أن أسلوب إدارة الحرب لم يلقَ استِحسان السيد ييتس على الإطلاق.

قال: «أوه، نعم، أظن أنَّ جرانت سيدخل التاريخ كأحد الجنرالات العظماء. الحقيقة أنَّه ببساطة كان يعرف كيفية الطرح. هذا كل ما في الأمر. لقد كان يَحظى بتلك الميزة الإضافية المتمثِّلة في الافتقار التام إلى الخيال. كان لدينا العديد من الجنرالات أعظم من جرانت، لكنَّ التخيُّلات كانت تؤرِّق بالهم. فالتخيُّل من شأنه أن يُدمِّر أفضل جنرال في العالم. أصغِ إليَّ، لنأخذك مثالًا. إذا افترضنا أنك قتلت رجلًا بلا تَعمُّد، سيؤرقك ضميرك طوال ما تبقَّى من حياتك. فكِّر إذن في الشعور الذي سينتابك إذا تسبَّبت في وفاة عشرة آلاف رجل دُفعةً واحدة. سيُحطِّمك ذلك تمامًا. قد يسفر الخطأ الذي يرتكبه إنسان عادي عن خسارة بضعة دولارات، وهي خسارة يُمكِن تعويضها، أمَّا إذا أخطأ الجنرال، فلا يُمكن تعويض الخسارة أبدًا؛ لأن أخطاءَه تُقدَّر بأرواح الرجال. يقول «اذهبوا» حين كان ينبغي أن يقول «تعالوا.» يقول «اهجموا» حين كان ينبغي أن يقول «تراجعوا.» ما النتيجة حينئذٍ؟ خمسة أو عشرة أو خمسة عشر ألف رجل طُرِحوا قَتلى في ميدان المعركة، والكثير منهم أفضل منه. لم يَنتَبْ جرانت أيٌّ شيء من هذا الشعور. لقد كان يَعرف ببساطة كيف يطرح، كما قلت من قبل. الأمر هكذا: لديك خمسون ألف رجل ولديَّ خمسة وعشرون ألفًا. حين أقتل خمسة وعشرين ألفًا من رجالك وتَقتل خمسةً وعشرين ألفًا من رجالي، يتبقى لديك خمسة وعشرون ألفًا ولا يتبقَّى لديَّ أحد. حينئذٍ تُصبح المنتصر، وتُهلِّل لك جحافل الجماهير الحمقاء، لكنَّ هذا لا يَجعلك الجنرال الأعظم إطلاقًا. لو كان لي لديه عدد مُقاتلي جرانت، وكان جرانت لديه عدد مُقاتلي لي، لانقلبت النتيجة. لقد عقد جرانت العزم على إجراء عملية الطرح البسيطة هذه، وأجراها؛ بل ربما أجراها بسرعة كما كان أي رجل آخر ليُجريها، وكان يعلم أنه حين يفرغ منها، ستتوقَّف الحرب حتمًا. هذا كل ما في الأمر.»

هزَّ الرجل المسنُّ رأسَه. وقال: «لا أظنُّ أنَّ التاريخ سيتبنَّى وجهةَ نظرِك سواء عن دوافع مَن هُم في السُّلطة أو الطريقة التي أُديرت بها الحرب. لقد كانت نضالًا نبيلًا وعظيمًا، خاضَه برُوح بُطولية أولئك المغيَّبون الذين كانوا على خطأ، وتحدَّاهم أولئك مَن كانوا على صواب بعنادٍ وتضحيات هائلة بأرواحهم.»

قال هوارد الصغير للصحفي بفظاظة أثارت عبوس والده: «كم كان من المُؤسِف أنك لم تستطِع أن تريَهم كيفية خوض الحرب.»

قال ييتس بلمعةٍ فكاهية في عينَيه: «حسنًا، أُومن في قرارة نفسي بأنَّني كنتُ سأمنحُهم بعض النصائح القيِّمة. ومع ذلك، فات أوان التحسُّر على إهمالهم.»

فأضاف الشابُّ القليلُ الحياء: «أوه، ربما ما زالت لديك فرصة. يُقال إنَّ الفينيانيين قادمُون هذه المرة لا محالة. يجب أن تتطوَّع، إما في صفوفنا أو صفوفهم، وتُظهِر لنا كيفية خوض الحروب.»

«أوه، فزَّاعة الفينيانيين محضُ هراء! لن يُغامِروا. فهُم يُحاربون بأفواههم. هذه هي الطريقة الأكثر أمنًا.»

قال الشاب بنبرةٍ ذات مغزًى ضِمني: «أصدِّقك.»

ربما لأنَّ الشاب كان من التهوُّر بحيث تفوَّه بهذه التعليقات، فقد تلقَّى ييتس دعوة ودية حارَّة من السيد هوارد وزوجته إلى زيارة مزرعتهما بقدر ما يشاء. وقرَّر ييتس أن يستفيد من هذا الامتياز، لكنه كان سيُصبح أشد تقديرًا له لو أضافت الآنسة مارجريت إليه دعوة منها، غير أنها لم تفعل؛ ربما لأنها كانت منشغلة تمامًا بالاعتناء بالخبز. ومع ذلك، كان ييتس يعرف أن التقدم الظاهري في بناء علاقة ودية مع امرأة نادرًا ما يساوي تقدمًا حقيقيًّا. وقد خفَّفت هذه المعرفة من خيبة أمله.

وبينما كان عائدًا إلى المخيم، تأمَّل مشاعره بشيء من الدهشة. كانت وتيرة الأحداث سريعة، حتى بالنسبة إليه، وهو ذاك الذي لم يكن بطيئًا قَط في أي شيء تولى أمره.

قال لنفسه: «هذه نتيجة الفراغ. فهذه هي المرة الأولى التي أحظى فيها بفترة راحة منذ خمسة عشر عامًا. لم يكد يمرُّ يومان من إجازتي، وها أنا ذا واقع في حبٍّ ميئوس منه!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤