الفصل الأول

الأرض والأجواء

(١) وصف بلاد الهند العام

يتألف من الهند عالَم مستقل في الكون من الناحية الطبيعية، فالطبيعة، كما يظهر، قضت على الهند بعزلة أبدية؛ لِما أحاطتها به من جبال هائلة، ومن بحار ذات أمواج مُزْبِدة تلطم سواحلها غير المِقراة،١ ويكفي المرء أن ينظر إلى حدودها؛ ليشعر بنشوء حضارة ثابتة فيها تقريبًا، وبهضمها للعناصر الأجنبية التي أغارت عليها، ولا تزال بلاد الهند الأرضَ المقدسةَ الحافلة بالأسرار التي حكى عنها شعراؤها الأقدمون، وظلَّت بلاد الهند الحصن المنيع مع إغراء كنوزها للفاتحين، واقتحام الكثيرين منهم لها في غضون القرون، ومع ما يبدو من سهولة مواصلاتها الحديثة التي زالت بها جميع العوائق، وقَرُبت بها كلُّ المساوف، فلا تجد طريقًا مهمًّا يمر من جبال هِمَالْيَة، ولا تجد ميناء سهلًا على شواطئها، فبلاد الهند هي، بالحقيقة، أكثر البلاد انغلاقًا وأصعبها انفتاحًا، ولم يخطر ببال شعب قديم عَمَرها أن يخرج منها بعد أن استوطنها.
وتلوح بلاد الهند المنعزلة أنها خلاصة العالم بتنوع مناظرها، فللهند كل الأجواء بسبب اتساعها وتفاوت ارتفاع بقاعها الكثيرة، فبينما يكون الحر شديدًا إلى الغاية في سواحل ملبار وكورومندل وسهول البنجاب ترى ربيعًا ساحرًا في رِداف الجبال وريحًا صرصرًا تلطم صُرُود٢ الشمال العالية وأغطيةً من الثلوج مشابهةً لما في القطبين تسترُ شواهق هِمَالْيَة، وبينما تجري السيول مسرعةً في أوائل يونيو إلى السواحل الجنوبية الغربية فتغمرها وتملأ جداولها ينظر فلاحو أوريسة ووادي السِّنْد الذين أعياهم الجفاف إلى سمائهم الصافية الحاقدة ضارعين باحثين في الرمال المحرقة عن أثر الأنهر الكبيرة النافدة.

وتشتمل بلاد الهند ذات المناظر الرائعة والعوارض المختلفة على سهول الغَنْج الخصيبة القريبة من صحاري تِهار الغُبر الدُّكْن، وعلى الأودية المُنْبِتة الواقعة بين هضاب الدَّكَن الجُرْد الجديبة، وعلى ما لا نظير له في الدنيا من الشِّعاف الهائلة المتصدعة المهيمنة على واحدة كشمير الجميلة المعدودة دُرَّة العالم.

ويمكن تفسيرُ تلك الظواهر الطبيعية التي رُئِي تسميتُها بنزوات الطبيعة في الهند بنتوء اليَبَس وعِظَم نَوْفه وبتفاوت توزيع المياه، فقد نجم عن ذَيْنِكَ السببين أن نشأ ألف بلد في بلد واحد، وأن جُمِعت الأماكن والأجواء في مساوف غيرِ متباعدة بما يزيد عن بضعة كيلو مترات مع انفصال بعض أمثالها عن بعض بألوف الفراسخ في خريطة العالم.

فلذلك نرى أن نعرف، قبل كل شيء، ارتفاعات بلاد الهند، واتجاه مجاريها، وعدد هذه المجاري وقيمتها، وسنُضيف إلى ما نعلمه من مسايل بلاد الهند وأنهارها بحثًا في توزيع أمطارها ورياحها الموسمية، فلِسماء الهند المِدْرار تقويم خاصٌّ ذو نتائج لا تقلُّ أهمية عما يجرى فوق بَرِّها.

وبلاد الهند مربعة الأضلاع مقسومةٌ إلى مثلَّثين متقاربين ذَوَيْ قاعدة مشتركة، فقِمَّة المثلث الشمالي هي ذروة جبل ننغا الذي هو من أعظم جبال هِمَالْيَة وقمة المثلث الجنوبي هي دروة جبل كُمَارى، والخط الذي يُعَدُّ قاعدةً مشتركة لذَيْنِكَ المثلثين هو الوَهْدة الضيقة العميقة الممتدة من خليج كَمْبي إلى نهر الغَنْج فيجري فيها نهر نَرْبَدَا ونهر سون اللذان يتَّجه أحدهما إلى الغرب والآخر إلى الشمال الشرقي.

وليس مجريَا ذَيْنِكَ النهرين وحدهما ما يُحَدُّ به ذانك القسمان الطبيعيان لبلاد الهند، بل يفصل بينهما، أيضًا، سلسلة جبال وِنْدهيَا في شمال تلك الوهدة، وسلسلة جبال سات بورا في جنوبها، فمن ثم تحول ثلاثة حواجز دون غزو الأجنبي للقسم الجنوبي من بلاد الهند برًّا على الأقل، وسترى أن شواطئ هذا القسم الجنوبي ليست أقلَّ صلاحًا للدفاع عن تلك الحواجز الثلاثة.

ويتألف من المثلث الشمالي «الهندوستان الحقيقية»، وورد ذكر هذه الكلمة، التي تعني «بلاد الهندوس»، في أقدم أقاصيص الإغريق.

fig1
شكل ١-١: خريطة الهند «تشتمل علي اتساع يعدل ٧٥٠ فرسخًا تقريبًا، وفيها ذكر للأمكنة المحتوية على أهم المباني، وتعدل كل درجة عرض نحو ١١٢ كيومترًا»، «من تخطيط المؤلف».

أَجَلْ، يرى الغربيون أن نهر السِّنْد أعار من اسمه البلاد الحافلة بالأسرار الواقعة فيما وراءه فما فَتِئُوا يطمعون فيها، غير أنه لا يُسَلَّم بهذا على عِلَّاته ما احتمل اشتقاق اسم «الهند» من اسم الإله «إندرا».

والأمر مهما يكن فإن اسم الهند قد أطلق على كثير من البلدان، فمن ذلك أن تمثلت بلاد الهند لخيال الأوربيين أرضًا لكل عجيب ومنبعًا لكل ثروة، فبحثوا عن طريقها فبَدَوْا ضحية الأوهام في الغالب، فظن «كريستوف كولونب» أنه بلغها بسفنه حينما وصل إلى الدنيا الجديدة، فكان ما نعلمه من تسمية الدنيا الجديدة ببلاد الهند الغربية، ومن ذلك تسمية كثير من جُزُر آسيا والأوقيانوس بالاسم الذي أطلقه الإغريق على وادي السِّنْد.

وأما نحن فنقصد بكلمة الهند في هذا الكتاب شبه الجزيرة التي تحيط بها جبال آسام وهِمَالْيَة وكارا كورم وهندوكش وسليمان والبحر، ونقصد بكلمة «الهندوستان» المثلث الشماليَّ من بلاد الهند، ونقصد بكلمة «الدَّكَن» المثلث الجنوبي منها.

(٢) الهندوستان

يتألف أكبر حد للهندوستان من جبال هِمَالْيَة التي هي أعلى سلسلة في الكرة الأرضية، والتي ينظر الهندوس إلى شعافها المقدسة باحترام فيسمونها «سَقف الدنيا»، وتبدو هذه الجبال العظيمة في مجموعها كمصوَّر ضخم مائل يزيد ارتفاع طرفه الأعلى عن ستة آلاف متر، ويبلغ معدَّل علوِّه المتوسط أربعة آلاف متر، وتجد بين ذلك السد المنيع الهائل من الشواهق ما يصل ارتفاعه إلى ثمانية آلاف متر أو تسعة آلاف متر.

وأظهر ما يبدو ذلك في القسم الغربي من جبال هِمَالْيَة، ويتسع عرض هذه الجبال فوق منابع الأنهر الكبرى: السِّنْد والغَنْج وجَمْنَة وسَتْلِج، ثم تختلط هذه الجبال بهضاب التِّبت العالية، ثم تفقد منظرها الملتوي فتمتدُّ من هنالك هضاب واسعة كئيبة تزيد ارتفاعًا عن أعلى ذُرَى جبال أوروبا، فما هي بالتابعة جغرافيًّا للهند ولا للتركستان ولا للتبت، وما هي بالتي ينمو فيها نبات، وما هي بالتي يجد الماء الذي يتجمَّع فيها أحيانًا منفذًا أو مُنحدَرًا ليسيل منه، وما هي بالتي يَصلُح هواؤها لتنفُّس السائح المِقدام، فهي «بلاد الموت الكريهة» كما يدعوها به أهالي تلك الأصقاع.

لم تُمسح ذُرَى كارا كورم المرهوبة المشرفة على جبال هِمَالْيَة في أي زمن، فقد يأتي زمن تخلع فيه إحداها مَلِك الجبال غوري شَنْكَر الرائع الخالع لبركان أند: جمبورازُو الذي عُدَّ أعلى جبل في العالم زمنًا طويلًا.

يقوم طود غوري شنكر متوجهًا إلى القسم الشرقي من جبال هِمَالْيَة، ويتألف من اتجاه شوامخ ديوَل غِيري وغوري شنكر وكنجنجنغها خطٌّ مستند إلى ما وراء هِمَالْيَة يعدُّ في مجموعه سلسلة تلك الجبال الحقيقية من غير أن يشتمل على الذُّرى المهمة، على حين تمتد إلى الشمال وإلى الجنوب سلسلتان أخريان مُتَآزِيَتَانِ تسمى إحداهما غنغ ديسري المشرفة على التِّبت، وتسمى الأخرى هِمَالْيَة الدنيا التي هي أقل ضخامة من تلك فتهبط بالتدريج بين روافد نهر الغَنْج الشمالية.

وتشغل جبال هِمَالْيَة أرضًا تزيد مساحتها على مساحة فرنسا، وهي أمنع مِتْرَاس أقامته الطبيعة بين بلدين أو أمتين، ومن الصعوبة أن تجد رابطةً بين أراضي شمال الهند العالية وأودية الجنوب الواسعة العميقة سواء في أمر السكان أو في أمر الطبائع والأخلاق.

fig2
شكل ١-٢: قرية دنكور في جبال هِمَالْيَة الغربية.

ولا يربط الهند بالصين غير طريقين ناقصين، وهما: طريق سِملا، وطريق دارجيلنغ الواقعتان على طرفي جبال هِمَالْيَة، وهذا إلى أنك تصادف بين حين وآخر سائحًا أو تاجرًا مخاطرًا يمر من التبت إلى وادي الغَنْج واضعًا متاعه الخفيف، أحيانًا، على ظهر معز أو متن ضائنٍ؛ لعجز أي حيوان آخر عن مجاوزة مَساربَ وعرةٍ معوجَّة مخيفة كالتي تُبْصَر في مُنحدَرات تلك الجبال.

وتكون تلك المسارب على حافة نهر في الغالب، بَيْدَ أنه ليس لمجاري المياه التي تنبُع في جبال هِمَالْيَة جوانب يسهل اجتيابها خطوة بعد خطوة ما هَوَتْ هذه المجاري، على العموم، في مضايق مظلمةٍ، ومسايلَ ممزِّقةٍ للصخور خارقة لها خرقًا بليغًا ممتدة بين الصخور القائمة، وما أكثر ما يُسمع خريرها من أعماق الهُوِيِّ والوِهاد فتُجاب إذ ذاك على جُذُول٣ الشجر أو بواسطة جبل، ثم يُصعد في طُنْف٤ صخرة يصاب بها المرء من تخيله بالثَّوَل٥ والدُّوار.

لم تسلم بلاد الهند من غزو الفاتحين لها من الشمال مع ذلك، فقد حلم أمراء الغرب المقاحيم، منذ أقدم القرون، بالاستيلاء على هذا القطر الغني الذي جاء في الأساطير أنه يدُرَّ الحجارة الكريمة ويُخرج النبات العجيب.

وفي الشمال الغربي من النطاق المخيف المنيع الذي ضربته الطبيعة حول بلاد الهند ثغرة نهر كابل؛ فمن ضفاف هذا النهر ولج الإسكندر والمغول والأفغان وغيرهم في شبه جزيرة الهند.

ولا مِرَاء في أن أولئك الفاتحين ساروا على الدَّرب الذي سَلَكه قدماء الآريين، ولا تَجِد طريقًا أخرى غير هذا الدرب يسهل على أي جيش أن يمر منها إلى أرض الإله إندرا، ويقوم وراء تلك الثُّغرة حاجز آخر من جبال سليمان المتصلة بجبال خيبر، فتكفي لوقف غزو الأجنبي مع أنها دون تلك الجبال أهميةً بمراحل.

وإذا ما استثنيت ذلك المَنْفَذ، الذي يدافع عنه بموقع بشاوَر وقلعة أتُك في الوقت الحاضر، وجدت جميع حدود بلاد الهند البرية منيعةً يتعذَّر اقتحامها تقريبًا.

ويظهر في طرف المنحنى الشرقي الكبير، الذي أكسبته جبال هِمَالْيَة شكل سيف، ثُلْمَةٌ كبيرة جوَّفها نهر بَرَهْمَا بوترا، فمن هذه الثُّلْمَة استطاع أناس من الجنس الأصفر أن يدخلوا بلاد الهند في دور قديم، وذلك بعد جهود عظيمة؛ لما نراه في كل سنة من انغلاق وادي بَرَهْمَا بوترا الأعلى الذي لم يقع ارتياده حتى الآن، وذلك بفعل ما ينجم عن رياح الجنوب الموسمية من الطوفان، فما ينزل على هذه المنطقة من الأمطار الهائلة يؤدي إلى طمس معالم كل طريق مسلوكة، ويحوِّل الأنهار إلى سيول، والسهول إلى مستنقعات وغُدْران، ويوجب نموَّ نبات يعوق السير، وانتشار أبخرة وخيمة قاتلة مفسدة للهواء في كل حين، فلا نصادف في الأرض بلادًا مجهولة كتلك المنطقة مع قربها من الأمكنة العامرة.

fig3
شكل ١-٣: منظر في وادي السِّنْد «مملكة كشمير».

وتكتنف جبال آسام ضفَّة نهر بَرَهْمَا بوترا اليسرى، وينحني مجرى هذا النهر عند سفوح جبال كهاسي وجبال غارو التي هي أخرى الحلقات المحيطة بشمال الهند.

ويحيط ذلك النطاق بالسهل الهندي الغَنْجيِّ الذي تتألف الهندوستان الحقيقية منه، وينخفض هذا السهل رويدًا نحو خليج البنغال من جهة ونحو بحر العرب من جهة أخرى، ويقسم وادي السِّنْد ووادي الغَنْج ذلك السهل إلى منطقتين مختلفتين أشدَّ الاختلاف متباينتين منظرًا، ويبدو هذا الانقسام بارزًا في الجنوب بجبال أرَاولي التي يرتبط فيها أعالي جبل آبو، ويكاد هذا الانقسام يكون غير بادٍ في الشمال.

ووادي الغَنْج هو من أكثر بقاع الأرض سكانًا وخِصبًا وغنًى، ولا يقال مثل هذا عن وادي السِّنْد الذي يشتمل على الصحراء الهندية الكبرى الوحيدة، ويفسَّر تباين ذَيْنِكَ الواديين باتجاه ذَيْنِكَ النهرين اللذين يجرى أحدهما موازيًا لسلسلة الجبال التي يخرجان منها، ويجري الآخر عموديًّا بالنسبة إلى هذه السلسلة، فكلما سار نهر الغَنْج نال من جبال هِمَالْيَة التي يحاذيها روافد لا ينضُب لها معين بما يسيل إليها من مياه أحواض الثلج فيروي الحقول والمزارع التي يمرُّ منها بوفرة، وكلما ابتعد نهر السِّنْد عن الجبال خفت مياهه وقلت روافده؛ لضياع كثير منها في الرمال، وعجزها عن شقِّ مسايل لها، فإذا كانت مقاطعة البنجاب ذات الأنهر الخمسة خصيبةً لم تلبث هذه الأنهر الخمسة أن تؤلف نهرًا واحدًا متوجهًا وحده إلى الجنوب الغربي تاركًا عن يساره أراضي واسعةً خالية جديبة كئيبة.

ومن المحتمل أن كان جميع وادي السِّنْد في غابر الأزمان مغمورًا بالبحر فجعل منه البحر خليجًا واسعًا، ونرى أن سهول شمال الهند وطبقات الجنوب من أسفل هِمَالْيَة قد تكوَّنت حديثًا ما كانت الصخور البِلَّوْرِية والألواح الحجرية في أواسط هِمَالْيَة وما وراءها، وما كانت أقسام هِمَالْيَة المركزية وحدها مؤلفةً من الصوان والجلاميد المتحولة.

ويدل ما حول قمم هِمَالْيَة من بقايا نبات البحر، ومن رواسب الملح على مُكث مياه البحر بهضاب تلك الجبال زمنًا طويلًا.

fig4
شكل ١-٤: منظر في جبل آبو «راجبوتانا».

وتشمل سلاسل الجبال الصغيرة الكثيرة، الممتدة من جبال هِمَالْيَة إلى منطقة البنجاب العليا، النظر بتركيبها ومنظرها، ونذكر منها «سلسلة الملح» التي يشاهد فيها، عدا رواسب الملح ومختلف المناجم، نماذجُ لجميع الصخور المترجِّحِ تكوينها بين الدور الجيولوجي الأول والدور الجيولوجي الثالث، فنشأ عن لطم أمواج البحر لسفوحها، وشقِّ الأمطار لشعافها منذ القدم تصدعها على شكل عجيب نالت به منظر الأبراج والقلاع التي أتقن الإنسان صنعها، وذلك إلى أنها كانت مستورة بالحصون التي لا تزال أطلالها الرائعة ماثلة على ذُرَى صخورها الناهضة، فيتمثل بها المتأمل بقايا آطام القرون الوسطى المملوءة بها بلاد الغرب، وذلك إلى أن هذا الشبه واقعيًّا أكثر منه عاطفيًّا ما أدى إليه قيام تلك المعاقل الدفاعية في البنجاب وبُنْدِيل كِهَنْد من استعباد البلاد، وزيادة طغيان الأمراء الإقطاعيين، كما حدث في فرنسا بعد الغزو النورماني.

والأرض في جنوب وادي الغَنْج ترتفع بهضاب مالْوَا وبُنْدِيل كِهَنْد، ثم تبدو سلسلة جبال وِنْدهيَا.

وَتُعَدُّ سلسلة جبال وِنْدهيَا «حجابَ الهند الحاجز»؛ فلهذه السلسلة أهمية كبيرةٌ؛ لفصلها بين حضارتين وجوَّين وأرضين وعِرقين، فبينما يسود العنصر الغازي، أي العِرق الآريُّ، السهلَ الهندي الغَنْجي يقطن بهضبة الدَّكَن الكبرى، التي لها الوقاية بخندق نَرْبَدَا العميق وبسلسلتين من الجبال، العِرق الدراويديُّ الفطري الخالص المحافظ على أخلاقه وأوصافه الجثمانية ومعتقداته القديمة الثابتة مع مر القرون.

(٣) الدَّكَن

تألفت من الدَّكَن جزيرة حين كانت مياه المحيط تغمر، في سالف العصور، معظمَ السهل الهندي الغَنْجي فتلطِم الأمواج سفوح الجبال المحيطة به، ثم ارتدَّت هذه الأمواج عن شواطئه الضيقة التي تهيمن عليها الهضبة القديمة من ارتفاع يترجَّح بين أربعمائة متر وستمائة متر.

وفي الدَّكَن، لذلك، قسمان مختلفان بمنظريهما وإنتاجيهما وبالعروق التي تقيم بهما، فيتألف القسم الأول من الشواطئ الدنيا الواقعة على بحر العرب والمشتملة على:

كونكن الشمالي وكونكن الجنوبي وملبار ومن الشواطئ: كورومندل وسكهر وأوريسة الواقعة على خليج البنغال، ويتألف القسم الثاني من الهضبة الواسعة المائلة من الغرب إلى الشرق، فتحيط بها جبال سات بورا وتوابعها، وسلسلة كهات الفاصلة لها عن المنطقة الساحلية تقريبًا.

وتسمَّى سلسلتا الجبال اللتان تفصلان الدَّكَن عن البحر بكَهَات الغربية وكهات الشرقية، وتقل سلسلة كهات الشرقية عن سلسلة كهات الغربية ارتفاعًا، وإليها يستند أسفل الهضبة، ويتخلل هاتين السلسلتين عدة أنهر تصب مياهها في خليج البنغال تبعًا لميل تلك الجهة العام.

وسلسلة كهات الغربية أكثر انتظامًا من تلك، وتتألف من حَلَقَات متصلة متوجهة عموديًّا إلى الساحل.

وبينما تبرز كهات الغربية الوعرة من ناحية البحر شامخةً بذُراها التي صدعتها أمطار الرياح الموسمية العاصفة تبدو أقلَّ روعة من الهضبة المشرفة عليها، وسلسلة كهات الغربية هذه لا ترتفع عن الشاطئ بأكثر من ١٢٠٠ متر، وهي ليست غير جلاميد قديمة محافظة على وضعها العام، وتغمر الأمواج هذه الجلاميد حيث يضيق الشاطئ في بعض الأمكنة، ويقطعها بين مسافة وأخرى فجاج٦ تصل بين السهول العليا والمنطقة الساحلية، وَيُعَدُّ بُهُور كهات أهمَّها، وهو الذي سمي قديمًا بمفتاح الدَّكَن.

وتتسع سلسلة كهات الغربية في الجنوب، فكان لها بهذا الاتساع منظر أقلُّ وحشة من ذلك، وكان لقسمها المعروف بنِلْ غيري «الجبال الزرق» من سحر المنظر وحسن الجو ما دُعِيَت معه بسويسرة الدراويديَّة.

وتنفرج وراء نِلْ غيري «الجبال الزرق» فجوة٧ بال كهات التي هي أهم انخفاض فيها، وتنتهي السلسلة برأس كماري.

وفجوة بال كهات أكبر طريق يصل بين الشاطئين، ويمرُّ من هذه الفجوة في الوقت الحاضر خط حديدي يربط مدينة مدراس بمدينة كالي كَت.

وإذا ما عصفت الرياح الموسمية الشمالية الشرقية على خليج البنغال وقفت جبال كهات تلك الرياح، وأمكن السفن أن تمخَر في بحر العرب بسلام، ولكن السفن إذا ما أصبحت أمام فجوة بال كهات كانت في بحر مائج، وذلك لأن الإعصار يتغوَّر في هذه الفجوة فيمر منها؛ ليثير أمواج الشاطئ الآخر من شبه جزيرة الهند.

وعُدَّ جميع شواطئ الدَّكَن الدنيا انتصارًا على البحر في وقت قريب من دورنا، ثم وُقِف ارتفاع هذه الشواطئ، ودَلَّت المشاهدات الحديثة على حدوث عكس ذلك في بعض جهات الهند، واكتُشفت بقايا غابة غاطسة بالقرب من بمبي، ويلوح أن منطقة الجزر المستَغْدِرة٨ الناشئة حديثًا في مصب نهر الغَنْج والمسماة سُنْدُرْبَن والبقعةَ القائمة عليها مدينة كلكتة ستخسفان، ذات يوم، في هُوَّةٍ هائلة تُجوِّفها الأمواج، وينساب التراب نحوها ويَتِيهُ فيها المِرْجاس٩ مع سهولة تعيين حافاتها.

ولا يكون للنبات أثرٌ في هضبة الدَّكَن التي سترتها حجارة البراكين في غابر الأزمان، لو لم ينشأ عن الأمطار الغزيرة التي تغمرها في كلِّ سنة حلٌّ لهذه الحجارة البركانية في كثير من الأمكنة، وسحق لها، ثم كسحها وظهور أوديةٍ تؤدي كثرة مياهها وحرارة جوِّها إلى نمو نبات وافر عجيب فيها.

واستطاعت أصقاع الدَّكَن العليا أن تقاوم حَمَلات الغزو المتتابعة، وأن تظل ذات صبغة خاصة بفضل سلسلتي الجبال القائمتين في شمالها وبفضل الخندق العميق الذي حفره نهر سون ونهر نربدا؛ فالحقُّ أن في جنوب جبال وِنْدِهِيَا بقايا قدماء سكان الهند والعنصر الدراويدي ومراكز الدفاع ضد غزو الأجنبي.

ورأس كمارِي هو أقصى نقطة في بلاد الهند، وتقع جزيرة سيلان بجانبه.

ومع أنه ليس من برنامجنا أن نَصِف سكان جزيرة سيلان، ولا أن ندرس تاريخها نرى أن نقول بضع كلمات عن جغرافيتها وجغرافية الجزر القريبة من الهند فنختم بذلك بحثنا الإجمالي في أرض الهند الناتئة التي يمكن تسميتها بهيكل الهند العظمي.

تكاد جزيرة سيلان، التي تَعْدِل مساحتها اثنتي عشرة مديرية فرنسية، تتصل بشبه جزيرة الهند، وإلى جزيرة سيلان تمتد متوجهةً سلسلةٌ من الجُزَيرات التي نَعُدُّ راميشوَرَم ومنار أهمها، فيتركب منتصف سلسلة الجُزيرات هذه من صخور وأكثبة يغمرها الماء بضع أقدام فتعرف بجسر راما، وتنفذ ثلاثة معابر فقط هذا السَّدَّ الطبيعي، وجُعل أحد هذه المعابر في الزمن الأخير صالحًا لسير السفن الصغيرة.

وفي شمال جسر راما ينقر خليجان شواطئ الهند، ويبدو أحد ذَيْنِكَ الخليجين مأمنًا للسفن الفارَّة من الرياح الموسمية.

وتقسم جزيرة سيلان إلى قسمين: يقع أحدهما في الشمال حيث السهول التي ينمو فيها نبات البلاد الحارة، ويقع الآخر في الجنوب حيث الجبال، وذُرْوَة آدم التي يبلغ ارتفاعها ٢٢٠٠ متر هي أشهر ذُرَى سيلان وإن لم تكن أعلاها، ففيها يتبصَّر الهندوسي الساذج أثر قدم بُدَّهة المقدسة.

وفي الجنوب الغربي من الهند توشِّي البحر المحيط مئات الجزر المعروفة بجزر لَكْ ديب وجزر مال ديب. وجزر مال ديب هذه هي التي استوقفت النظر فأوحت إلى العلماء كثيرًا من الفرضيات، فرأى العالِم الشهير داروين أنها شماريخ١٠ جبالٍ غابت عن الأنظار، ونشأت هذه الجزر عن تجمُّع الحيوانات ذات الشكل النباتي، وتبدو كل واحدة منها على شكل دائرة من الجلاميد محيطةٍ ببحيرة داخلية، وتكتسب تلك الجزائر المختلفة شكل دائرة أيضًا، وتبدو في مجموعها ذات وضع عام منسجم.

(٤) وصف أنهار الهند الكبيرة

لا تكفي المياه التي تجري فوق الهند لإخصاب جميع أراضيها مع أنها أكثر بلاد الأرض رِيًّا، ولا تُمَدُّ مجاري الهند بالماء إمدادًا متماثلًا في كل سنة وفصلٍ فضلًا عن تفاوت توزيعها، فلا يلبث نهرها الذي يتَّسع ويعْمُق في الفصل الماطر أن يَضْمُر ويصبح ضحضاحًا في دور الجفاف، وإذا كانت سُحُب الرياح الموسمية دون العادة زاد تقلصه وقلَّ خصب الحقول التي تستقي منه، وليس بقليلٍ أن تغيِّر أنهار الهند مجاريها فتنقل بذلك أسباب الرخاء والخير من مكان إلى آخر وتؤدي بذلك إلى جدب المكان الذي هجرته وإقفار مدنه وعُمران المكان الذي هاجرت إليه وزُخور سكانه.

والهندوس، لكي يتلافَوا ما قد يطرأ على الأنهار من نقص عظيم ويتداركوا ما قد يصيبهم من خُسْرٍ كبير، اتخذوا في كل زمن طرقًا للريِّ مصنوعةً، فأقاموا الأسداد التي تَقِف المياهَ وتسلكها في القنوات أو في الأهوار١١ التي احتفرتها يد الإنسان، وأنشئوا الحياض الواسعة التي تسطم١٢ واديًا بأسره في بعض الأحيان، ونذكر مما صنعته شعوب الهند في هذا المضمار سدَّ كاويري الذي لا يزال قائمًا مع أنه شِيدَ منذ خمسة عشر قرنًا، وأحواضَ حيدر آباد التي يبلغ وجه أكبرها أربعة آلاف هكتار، وبحيرات مهوبا الكبرى في بُنْدِيل كِهَنْد.

ولا مَعْدِل لمياه الهند عن أحد الاتجاهين: خليج البنغال الذي يتقبَّل معظمها، وبحر العرب، وإليك أهم أنهر الهند:

وادي الغَنْج

يرى الهندوس لكلِّ نهر صفةً إلهيةً؛ لما يحمله من البركات، وما ينشره من الخيرات في الأمكنة التي يمر منها، ولكنك لا تجد نهرًا قُدِّس مثل نهر الغَنْج، وإن شئت فقل الغَنْغا كما يسميه الأهالي، ما عبدوه كإلاهة.

وينبع نهر الغَنْج، كأكثر روافده، فيما وراء هِمَالْيَة، ثم يجاوز همالية قبل أن يوغل في السهل، ويتألف نهر الغَنْج من السَّيْلَين: أَلَكْنَنْدَا وبَهَاكي رَتِي المتدفقين من كتل الجليد التي يزيد ارتفاع محالِّها على أربعة آلاف متر، ويَعُدُّ الهندوس من الأماكن المقدسة ذَيْنِكَ المصدرين والجبال التي تعلوهما، ويرون فيهما الخطوة الأولى لتاج شِيوا، فطوبى للهندوسي الذي يستطيع أن يتسلق دَرَجَها مهما أصابه من نَصَبٍ.

والأوربيون، على الخصوص، هم أول من ارتقى ذلك المعراج فوجدوا أن بهاكي رتي يتدفق من طاقه الجليديِّ، فلما رأى حجيج الهندوس، الذي كانوا يقفون دون مدخل المراتج١٣ حتى أوائل هذا القرن، ذلك الإقدام تشجعوا على الارتقاء إلى ما هو أعلى فهلكوا حين ذهبوا لإتمام مناسكهم عند منابع ذلك النهر المقدس.

ويُدعى المكان الذي يختلط فيه السيلان: ألكنندا وبهاكي رتي ﺑ «الملقَى الإلهي»، ويقوم هنالك معبد يزوره الهندوس كثيرًا، وتجذب معابد هَرْدَوَار الواقعة دون ذلك، وذلك في شهر مارس وشهر أبريل من كل سنة، مئات الألوف من الحجَّاج فيخيِّم حولها هؤلاء الذين قد يبلغ عددهم مليونين أحيانًا، ولا يقصدها هؤلاء جميعهم عن تقوى مع ذلك، بل تجد بينهم من يؤمُّونها سعيًا وراء الربح والغُنْم.

وتنْبُع جمنة، التي هي من أكبر روافد نهر الغَنْج، من جبال هِمَالْيَة غيرَ بعيدة من منبعه، وتُقدَّس جمنة كالغَنْج نفسه تقريبًا، وفي مجمعهما قامت الله آباد «مدينة الله».

وأُنشئت مدينة بنارس الشهيرة على شكل مدرَّج في الضفة اليسرى من النهر غيرَ بعيدة من الله آباد، وبنارس هذه هي المدينة المقدسة بالمعنى الصحيح، وهي مركز الهند الديني وعاصمة البرهمية.

وكان من احترام الهندوس لنهر الغَنْج، أو «لأمِّهم الغنغا»، أن ثاروا على الإنجليز حينما حفروا قناة دوآب الصالحة للريِّ وسير السفن، فحولوا المياه المقدسة إليها، وهذه القناة التي تسير من هَرْدوار، وتنتهي إلى كان بور هي أعظم قنوات العالم التي من نوعها؛ لما تطلَّبه حفرها من كسح ترابٍ كالذي تطلَّبه حفر قناة السويس.

ولم يكن الإنجليز أقلَّ خَطَلًا من الهندوس حينما حاولوا منعهم من إلقاء جثث موتاهم في نهر الغَنْج، فما فتئ الهندوس يمارسون هذه العادة ما تفلَّتوا من مراقبة قاهريهم، ويقوم ذلك على ربط الميت برمث١٤ صغير ذي مصباح، ثم تركه للأمواج المتقاذفة، فإذا ما أرخى الليل سدوله رُئِي من بعيد تسكُّع١٥ تلك الأرْماث السابحات على وجه المياه الأسحم.١٦

وتَعظُم جمنة قبل أن تنضم إلى الغَنْج بما تتلقاه في أثناء سيرها من الروافد المهمة التي نذكر منها جمبل وسِنْدَها.

ويتجه نهر الغَنْج إلى الجنوب الشرقي قبل أن يجتمع بجمنة، ثم يسير إلى الشرق فإلى الجنوب، فتتلقى ضفته اليمنى نهر سون، وتتلقى ضفته اليسرى روافد كثيرة جارية من وراء هِمَالْيَة، كغوغرا وغنداك وبهاك متى وكوسى.

fig5
شكل ١-٥: ضفاف الغَنْج ببنارس.

وتجاوِز تلك الروافد منطقة ترَائِي المشئومة قبل أن توغل في السهول التي ترويها بمياهها فتَهَبَ لها خِصْبًا لا مثيل له، ويطلق اسم تَرَائِي على الأراضي المستنقعة الواقعة في سفوح الجبال، ولا يمكن الإنسان أن يقيم بمنطقة تَرَائِي، ويخاطر الإنسان بنفسه إذا ما جابها.

وتبدو جبال هِمَالْيَة سدًّا شامخًا عظيمًا فتقف سُحُب الرياح الموسمية الماطرة فتوجب انصباب وابلها١٧ في المنحدرات الجنوبية فينجم عن ذلك رطوبة شديدة في البقعة الدنيا التي تلي تلك المنحدرات فتُستر بنباتٍ مُتَعَصٍّ وتَصْرَى١٨ فيها غُدُرٌ١٩ حَمِئَة٢٠ فيغدو هواؤها وَبِيئًا قاتلًا، فإذا عَدَوْتَ هذا الجزء الضيق المستطيل العاقر الغامر٢١ وجدت وادي الغَنْج أكثر بلاد الدنيا ثمرًا ودَرًّا.
ويُغيِّر نهر الغَنْج هيئته بحسب الفصول فتطمو٢٢ مياهه في فصل الفيض وتطغى فتغمر ما لا حدَّ له من الأراضي فيرتدُّ الزراع أمامها؛ ليحرثوا الحقول البعيدة التي تُستنبت بين الفصلين، ثم ليعودوا حين يعود ذلك النهر إلى مجراه تاركًا لهم أطيانًا خصيبة.
وتحوِّل أضواج٢٣ الغنج العظيم أوضاعها بسرعة، فيصعب تعيين مجراه وملاقيه بدقة، وتتحوَّل بعد كل فيضان شعابه الكثيرة التي ينصب بها في البحر وما تحيط به هذه الشعاب من الجزر المستغدرة،٢٤ وبذلك تعود المرافئ، التي ترسو فيها السفن الكبيرة، غير صالحة لإيواء زوارق الصيد، ومدينة كلكتة وحدها هي التي أنفق الإنجليز عليها كثيرًا من المال، وقاموا في سبيلها بعظيم الأعمال، التي لا بد من تجديدها؛ ليجعلوا منها ميناءً صالحًا لاستيعاب السفن في كل وقت.
وكانت مدينة غور رأس دلتا الغَنْج فيما مضى، ولم يلبث سكان هذه المدينة التي كانت عاصمة لدولة عظيمة أن هجروها عندما هجرها ذلك النهر فعادت لا تكون اليوم سوى خرائب وأطلال ذات أدغال.٢٥

وينقسم نهر الغَنْج إلى عدة شُعَب عندما يقترب من مصبه، وبَدْما التي هي من أهم هذه الشُّعب تسير لتتصل بجَمُونا التي هي بَرَهْمَا بوترا الحقيقية، وبهاغي رتي، التي هي أكثر تلك الشعب قدسًا، جزء من بهاغي رتي التي تمر من كلكتة باسم هوغلى فتَصِلها بالبحر.

وليست مياه الغَنْج أغزر ما يصبُّ في خليج البنغال، بل يدفق أغزر المياه في مِيغِهنا التي هي مصبُّ بَرَهْما بُتْرَا، وفي ميغهنا تتعذر الملاحة، تقريبًا، لشدة جري الماء، ولما تسفر عنه الأكثبة من العوائق والمراتيج٢٦ التي يرتفع عبابها٢٧ عدة أمتار، ثم ينهال فتسمع له جلجلة كقصف المدفع.

ويتجمع حول جزائر سُندرْبَن بعض الرمال التي يأتي بها نهر الغَنْج فتقدَّر بعدة مئات الألوف من الأمتار المكعبة فتزيد هذه الجزائر اتساعًا.

ويظهر أن الدلتا تهبط بالتدريج بدلًا من أن تتَّسع على حساب البحر، وأن الهوَّة التي تَفْغَر فاها أمام مصابِّ الغَنْج ستبتلع هذه الدلتا.

وتتقعر هُوَّة، كتلك، أمام مصابِّ أخي الغَنْغَا: نهر السِّنْد العظيم الذي يجري إلى الشاطئ الآخر من شبه جزيرة الهند حاملًا مقادير وافرة من الرمال، ولكن هذه الرمال لا تعتِّم أن تذهب مع الجريانات الناشئة في البحر فوق تلك الهوة.

ويبلغ طول مجرى نهر الغَنْج ٢٤٢٠ كيلو مترًا.

وادي السِّنْد

يقلُّ وادي السِّنْد عن وادي الغَنْج رِيًّا وخصبًا وانتظامًا: وتغمر صحراء تِهار التي تفصله عن بقية الهند أكثر من نصفه، ويكون معزولًا عن شبه جزيرة الهند لو لم تصله بسهل الغَنْج أراضٍ زراعيةٌ محاذية للمنطقة الجبلية.

تلك الأراضي هي البَنْجَاب، أو «البلد ذو الأنهر الخمسة» الذي مر منه جميع الفاتحين، بعد أن ساروا ونهرَ كابل فأوغلوا في الهند، وفي البَنْجَاب وحدها تجد المدن الكثيرة الأهل والحقول الغنيةَ غنى الحقول التي يسقيها نهر الغَنْج.

ويكون وادي السِّنْد في الصيف جافًّا لافِحًا، ولا تكون مياه روافده كافية لجلب الرَّخاء أو لبقاء ما هو موجود، وظاهرة هذه الروافد أن تضعُف كلما ابتعدت عن مِنطقة الجبال وأن يبطؤ جريها، ويقل فيضها كلما اقتربت من البحر، وليس بقليل أن يغور بعضها في رمال الصحراء قبل أن يبلغ اليمَّ٢٨ كَسَرَسْوَتي، ولا يتم ما بقي منها سيره إلا بعد أن يجتمع بعضه إلى بعض ويصبَّ في السِّنْد.

وأسماء الأنهر الخمسة التي تنبع من جبال هِمَالْيَة الغربية فتشتهر البَنْجَاب بها هي: ست لج وجناب وبياس وجهلم وراوي.

وينبع نهر السِّنْد ورافده المهم سَتْ لَج من السلسلة المركزية العظمى التي يخرج منها نهر الغَنْج ونهر جمنا أيضًا، ولكن السِّنْد وست لج تابعان لمنحدر ما وراء هِمَالْيَة الجنوبي، فيطوفان بجميع سلسلة هِمَالْيَة فيُجوِّفان فيها فجاجًا عميقة قبل الوثوب على السهل، ومما يحدث أن يقف سيرهما انقضاض الجلاميد فتتجمع مياههما على سُمُطٍ كبيرة إلى أن تتغلب على الجلاميد فتدفق من فوقها بشدة فتغمر ما تحتها، وتقضي على مدن بأسرها في بعض الأحيان.

ويجري نهر السِّنْد من الشرق إلى الغرب مسافةً غير قصيرة فيتغشَّى ننغابربت، ثم يخرج من المنطقة الجبلية بالقرب من هري بُور متوجهًا إلى الجنوب، ثم يتلقى عن اليمين الرافد كابل المهم الذي هو باب للتجارة والمغازي.

ويقوم الحصنان أتُك وبيشاور على السِّنْد ورافده كابل لحراسة الإمبراطورية الإنجليزية الهندية، ويقطع السِّنْد خطٌّ حديديٌّ ممتدٌّ إلى الحدود.

وسهل وادي السِّنْد مستوٍ، فليس فيه من الانحدار ما تتوجه به الأنهار التي ترويه، فتتسكع هذه الأنهار مبدِّلة مجاريها أمام أي عائق، وتعدل الأنهر الجافة، التي تحوِّل الأراضي الواسعة إلى صحار بعد خصب، الأنهر الجارية كثرةً، وتُبْصر عدة قنواتٍ فارغة لا تلبث أن تمتلئ بسرعة وقت الفيضان فتصل بين روافد نهر السِّنْد، وتؤلف بينها شبكة معقدة متقلبة على الدوام.

وليست مصابُّ نهر السِّنْد أقلَّ تقلبًا مما تقدم، فهي تنسدُّ بما تحمله من الرمال الكثيرة فتحدث منافذ أخرى، فيؤدي ذلك إلى تعذر الملاحة فيه تقريبًا، كما يؤدي إلى استحالة ازدهار أي ميناء في مخارجه، وأما روافده فتكون تارة مجاري واسعة صالحة لسير السفن الكبيرة، وتكون تارةً مجاري مبسوطة فيستطيع السياح أن يعبروها خوضًا.

وينحرف نهر السِّنْد بالتدريج نحوَ الغرب فضلًا عن تقلب أضواجه،٢٩ ويُفترض أن مياهه كانت توزَّع توزيعًا متساويًا، وأنه كان يتلقَّى روافد أكثر مما يتلقى الآن، وأن الصحراء كانت أضيق مما هي عليه اليوم، ودليلنا على ذلك تسمية كتب الهندوس القديمة لتلك المنطقة ببلاد «الأنهر السبعة» لا بلاد «الأنهر الخمسة» كما تسمَّى في الوقت الحاضر، ومما جاء في تلك الكتب القديمة وصفٌ لأنهر بأنها مجارٍ واسعة مع أنها غير موجودة في زماننا، ومما نصَّت عليه تلك الكتب أن سَرَسْوَتِي كان نهرًا جليلًا متدفقًا إلى أن يصب في نهر السِّنْد غضبان أسِفًا على فرار الإلهة، مع أنه يمَّحي اليوم في رمال الصحراء، وإلى مثل هذا المصير ينتهي كثير من المجاري، وإن لم تغُر تمامًا ما ادَّخلت في مسيل واقع تحت الأرض، وما ثبت ذلك من الآبار التي تُحْفَر في اتجاهها بعيدةً بعض البعد من المكان الذي توارت فيه.

ونهر السِّنْد أطول أنهار الهند، ويبلغ طول مجراه ٢٩٠٠ كيلو متر.

وادى نَرْبَدا ووادى تابتي

نَرْبَدَا وتابتي نهران يفصِلان هما والجبالُ التي يمران بينها المنطقتين الكبيرتين: الهندوستان والدَّكَن، وطول مجرى نَرْبَدَا ١٢٨٠ كيلو مترًا، وطول مجرى تابتي ٧٠٠ كيلو متر.

وينبع نهر نَرْبَدَا في جبال أمر كنتك التي هي عقدة جبال الهند الوسطى، ويجري من الشرق إلى الغرب بسرعة نحو البحر، وذلك في مجرى ضيقٍ عميق واقع بين سلسلة جبال سات بورا وسلسلة جبال وِنْدهيَا، ولا يصلح للملاحة؛ لما فيه من الشلالات الكثيرة، ويبدو ذا مناظر ساحرة عند مضيق «صخور الرخام الأبيض» غير البعيد من منبعه فتجري المياه منه صافيةً هنالك فيكتسب معها صباح مساء ألوانًا عجيبة بفعل أشعة الشمس.

ويقدِّس الهندوس نهر نَرْبَدَا بعد نهر الغَنْج، ويأتون إليه من الأماكن البعيدة؛ ليغتسلوا في مياهه، وليأخذوا من ضفافه حِصِيًّا يتخذونها تمائم وتعاويذ غالية قادرة، وكان من تزاحم الحجيج على ضفافه في كل زمن أن فُتح الدَّكَن للمؤثرات الأجنبية بما لا يتم بقوة السلاح.

ويصب نهر نَرْبَدَا في خليج كمبي غير بعيدٍ من مصب نهر تابتي الأقل أهمية والأكثر فيضًا، وتقوم مدينة سُورت على مصب نهر تابتي، فتدفع عنها المياه بالأسداد المُحكمة.

وتقع ثلاثة أنهر صغيرة في شمال نهر نربدا؛ فتجري من الجبال المحيطة بسهل كجرات فتصب في خليج كَمْبي، وأهم هذه الأنهر الثلاثة نهر ماهي الذي يبلغ مجراه ٥٣٠ كيلو مترًا، ونهر سابَرْمَتِي الذي يمر من مدينة الله آباد الشهيرة فلا يزيد طول مجراه على ٣٠٠ كيلو متر.

أودية الدَّكَن

لا يصب نهر مهمٌّ بين مصب نهر تابتي، ورأس كماري من شواطئ بحر العرب، فقد بلغت جبال كَهات الغربية من القرب إلى الساحل، ما لا تكون به المياه المنحدرة منها غيرَ جداول؛ فتتحول هذه الجداول إلى سيول بفعل رياح الجنوب الغربي الموسمية.

ويتكون من ثغرة بال كهات ممرٌّ لنهر بوناني الصغير الذي ينبع في شرق الجبال، ويختلط هنالك منحدرَا الدَّكَن الكبيران، وينبع بعض روافد كاويري من غرب جبال كهات.

والساحل الذي يقع في جنوب بوناني ذو غدران كثيرة محاذية لشاطئ البحر متصلٍ بعضها ببعض، ويتألف من هذه الغدران قناة صالحة للملاحة، ويفضِّل ربابنة السفن السير في مياهها الهادئة على السير في البحر المحيط، وتكاد تجارة كوجين وترانكور تتم بها.

أودية الدَّكَن الشرقي

لا أنهار كبيرة في الدَّكَن غير التي تجري شرقًا إلى خليج البنغال، ومن هذه الأنهار نهر سبماريكا الذي يُرَى بعد مصب نهر الغَنْج، والذي ينحدر من عاليات جوتا ناغبور فيصب في البحر بعد أن يسير ٥٠٠ كيلو متر.

ونهر مَهَانَدِي البالغ طوله ٨٣٠ كيلو مترًا هو أهم الأنهر بعد ذلك، فإذا ما اجتمع هذا النهر بنهر بيترني البالغ طوله ٥٥٠ كيلو مترًا وبرهمني البالغ طوله ٦٥٠ كيلو مترًا تألفت بلا انقطاع في ساحل أوريسة دلتا واسعة تمتد تحت البحر إلى مسافة بعيدة مع زيادة غِريَنها.

ويتفتت تراب الدَّكَن البركاني بفعل الأمطار ومياه الفيضان، وتحمل الأنهار الرمال والنُّثار؛ لتودع الساحل إياها فتزيدها تلك الدلتا سمكًا.

وتجمَّعت بالقرب من مصب مهاندي لفافة رمال فاشتملت على بحيرة شِلكا التي تصلها قناة بالبحر.

والجفاف أظهر ما يصاب به ساحل أوريسة الذي تجوبه شعاب مهاندي الكثيرة، فكان ما تراه من بؤس سكانه وتوحشهم، فإذا تفلَّت ساحل أوريسة من هذا الجفاف، أحيانًا، فلكي يخرِّبه الفيضان، وساحل أوريسة هذا بلغ من الانخفاض والاستواء ما يغمره به البحر في الغالب فينشأ عنه ما لا يتصوره إنسان من التلف والضرر، وساحل أوريسة هذا أصيب في سنة ١٨٦٦ بإعصار فخرَّب قُراه وأهلك ١٢٠٠٠٠٠ شخص من سكانه، وذلك بعد قحطٍ نجم عن الجفاف فأمات ربعهم.

والجفاف آفة الدَّكَن، والهنودُ، لكي يدفعوه، يقيمون الأسداد ويُنشئون الحياض الصالحة لوقف طِفَاح أمطار الرياح الموسمية المؤدية إلى ضِخَم الأنهر في بعض أوقات السنة، وذلك كالحواجز التي صُنعت في مصاب مهاندي وغوداوري وكرشنا لتُحوِّل المياه، عند الفيضان، إلى قنوات الري أو إلى البرك المصنوعة، ويقدس الهندوس تلك الأنهر ويقيمون الشعائر على ضفاف كل واحد منها.

ويقع نهر غوداوري، الذي هو أعظم أنهر الدَّكَن والذي يبلغ طوله ١٤٤٠ كيلو مترًا، تحت نهر مهاندي ثم يليه نهر كرشنا الذي يبلغ طوله ١٣٠٠ كيلو متر، ثم نهر بنار الذي يبلغ طوله ٥٧٠ كيلو مترًا، ثم نهر كاويري الذي يبلغ طوله ٧٥٥ كيلو مترًا.

fig6
شكل ١-٦: مضيق صخور الرخام على ضفاف نَرْبَدَا بالقرب من جبل بور.

ويجري نهر كرشنا في مجرى ضيق فلا يصلُح للملاحة، ويفقد مياهه بما يرويه من ضفافه، ولكن أهميته تبدو ما قَطَع شبه جزيرة الهند من الشرق إلى الغرب، وما فصل مِنطقتين وفرَّق بين حضارتين، فليذهب إلى المنطقة الجنوبية منه من يرغب في درس طبائع الشعب الدراويدي ولغته؛ ليبصر أنها أقلُّ فسادًا بالعناصر الغريبة مما في أي مكان آخر.

وبلغ كثير من الفاتحين نهر كرشنا مجاوزين جبال وِنْدهيَا وجبال نَرْبَدَا وجبال سات بورا وتوابعها الممتدة إلى مصب نهر الغَنْج، ولم يعبر الفاتحون كرشنا أو لم يستطيعوا أن يعبروه بكثرة فيختلطوا بالمغلوبين اختلاطًا تختلف به سحنات الشعوب الدراويدية القديمة.

وأول ما علمه الغرب عن تلك المنطقة المنقطعة هو ما أتى به التجار الذين قصدوا سواحلها فملئوا الأخيلة بالأقاصيص العجيبة عنها، ولا غَرْوَ، فتلك هي بلاد الهند الحقيقية، تلك هي البلاد التي تجمع الشمس حرارة أشعتها في أبازيرها وتوابلها وتجمع أنوارها الوهاجة في حجارتها الكريمة.

شواطئ الهند ومرافئها

ظل الوصول إلى جنوب الهند مقصورًا على البحر زمنًا طويلًا مع صعوبة ذلك، وليس في شواطئ شبه جزيرة الهند الممتدة من مصابِّ نهر السِّنْد إلى مصاب نهر الغَنْج مكان يسهل بلوغه بحرًا أو بقعة صالحة لإنشاء ميناء عليها، ولا نذكر مرافئ بمبي ومدراس وكلكتة البحرية العظيمة ما قامت هذه المرافئ بعزم الإنسان وعمله.

ومع اشتقاق كلمة بمبي من كلمة «الفُرْضة الصالحة Bonne Baie»، كما قيل، فإن نزول السياح والسلع إليها لا يتم بغير صعوبة، فإذا كانت هذه الفرضة رائعة فإنها عاطلة من أرصفة، ولا تعدُّ مدراسُ ملجأ للسفن، فترسو هذه السفن في عرض البحر، وترسل ما فيها من العروض والأمتعة والركاب إلى البر في قوارب أو أطواف٣٠ لا تسير في اللجج من غير خطر، واليوم تشتمل مدراس على رصيف يبلغ ٣٣٥ مترًا مع خرابه غير مرة فيما مضى، ويفكر القوم في حفر خليج لها، ولم يسهل الاقتراب من كلكتة في أي زمن، وتقوم سلامة مينائها المفتوح وسلامة فرع الغَنْج الغربي هوغلي الصالح للملاحة على متصِل الأعمال.

وإذا عَدَوْتَ ساحل ملبار الذي يشتمل على بضعة مرافئ صغيرة صالحة لإيواء المراكب وجدت جميع شواطئ الهند خطرة، ولم ترَ مكانًا مناسبًا في خليج البنغال، وكلنغابَتم، الواقعة بين دلتا مهاندي ودلتا غودافري، وحدها هي الملائمة لبعض الرسو على مسافة ستمائة كيلو متر.

(٥) الأجواء

بلاد الهند من أشد بلاد الدنيا حرًّا، واختلاف بلاد الهند في الارتفاع يجعل لكل منها جوًّا خاصًّا، فيستطيع السائح أن يقطع فيها درجاتٍ متباينةً من الحرارة في بضعة أيام.

ومثل هذه الانتقالات يلاحظ في جبال هِمَالْيَة على الخصوص، فبينما يتوج الثلج والجليد ذُرَى تلك الجبال الرائعة تتمتع منحدراتها بجو معتدل كجوِّ فرنسا وإيطاليا، وتكاد سفوحها تُلفَح بحرارة دائرة الانقلاب الصيفي.

والحد الذي تَثبُت الثلوج فوقه من جبال هِمَالْيَة عالٍ، ويترجح ارتفاعه بين ٤٠٠٠ و٥٠٠٠ متر، ولا يسقط الثلج تحت هذا الارتفاع إلا قليلًا، وإذا ما سقط ذاب سريعًا، وفي القسم الغربي من جبال هِمَالْيَة يُمسك واسع الهضاب كُتَلَ الجليد، وفي ذلك القسم الغربي يكون لديها من الوقت ما تكوَّن فيه، على حين تنهال كُوَم الثلج في منحدرات جبال هِمَالْيَة الشرقية الواقفة.

ولا تجد لحقول الجليد التي تُشاهد في هِمَالْيَة الغربية وفي كاراكورم مثيلًا في غير البقاع القطبية، وتترجَّح تلك الحقول بين ٢٥ و٣٠ و٥٠ كيلو مترًا طولًا، وهي مشهورة بما تقدُّه من النِّثَارِ في أثناء انهيالها، ومما يحدث أحيانًا أن يتجمع التراب بين الجلاميد فينبت فيه العشب فيحجب كتل الجليد الكئيبة غطاءٌ أخضر.

وتمتد في جبال هِمَالْيَة الأمامية بقاع يترجح ارتفاعها بين ١٠٠٠ و٣٠٠٠ متر، فيذكِّرنا جوها وإنتاجها بأفضل بقاع أوروبا، فإليها يجيء الإنجليز في كل سنة باحثين عن ملاجئ فرارًا من قيظ الصيف ببلاد الهند، فيستردون فيها قوتهم التي أوهنها حرُّ السهل، ففيها أقاموا «مدن الصحة» التي تُعَدُّ سِملا ومسوري ودارجي لِنغ أهمَّها.

وإلى سِمْلا ينتقل أكابر الموظفين في بدء فصل الحر، فتصبح مقر الحكومة لبضعة أشهر، فيعتقد المرء أنه أضحى بإنجلترا عند تأملها وتأمل ما فيها من غاب البلوط والزَّين والأشجار المثمرة المألوفة في الغرب.

وفي الهند نواحٍ كثيرة لها ما لتلك المنطقة من الروعة، وأهمها جبال نِلْ غيري التي تبدو في الجنوب ممتدة من جبال كهات الغربية، ففي تلك الجبال أُنشئت، أيضًا، مدن للصحة، وَتُعَدُّ أوتاكمند أعظمها شأنًا، ولتلك المدن جوٌّ أكثر اعتدالًا من جو منحدرات هِمَالْيَة ما اتفق لها ربيع دائم وثمرات الصيف، وما غرَّدت الطيور الأوربية والصيقان الشقر والعنادل والبلابل في أدغالها، وإليها جلب الإنجليز عصافير دُورِيَّة ففرَّخت وكثرت حول بيوتها.

وإذا استثنيت تلك المناطق وجدتَ حَرَّ بلاد الهند يترجح بين درجة الصفر والدرجة ٥٢ بمقياس سَنتِغْراد.

وظاهرة مقاطعة البَنْجَاب أن تجمع أقصى درجة البرد وأقصى درجة القيظ في الهند، وأن تنقلب الأجواء فيها أكثر مما في غيرها.

وكلما سار الإنسان إلى جنوب الهند بدا له تناقص الفروق بين الصيف والشتاء، فإذا بلغ أقصى الهند رأى استواء الجوِّ في مختلف الفصول.

أَجَلْ، إنه يجد هنالك ارتفاعًا في الحرارة بسبب درجة العرض، ولكن نِسَام٣١ البحر تلطفها، وهي تترجح بين ٢٦ و٢٨ درجة بمقياس سنتغراد في جميع أيام السنة.

ويُميَّز في الهند ثلاثة فصول وهي: فصل المطر ويدوم من مايو إلى أكتوبر، وفصل البرد ويدوم من نوفمبر إلى آخر فبراير، وفصل الحر ويدوم من أول مارس إلى أول يونية، ويختلف زمن كل فصل بين منطقة وأخرى اختلافًا جزئيًّا، وأصلح فصول الهند على العموم هو الذي يستطيع الأوروبيون أن يسيحوا أو يستقروا فيه من غير سوء، أي الذي يبدأ في أكتوبر وينتهي في أبريل.

ويصبح الحر مضنيًا في الشهرين أبريل ومايو، فيقاسي الأهلون في أثنائهما كبير عناء، فيبلغ الحر في وادي السِّنْد وفي سواحل الدَّكَن شدة لا تجد مثلها في بقعة من الدنيا، فيغيض الحر مياه الأنهر ويُذْوي النبات، فتشخص الأبصار إلى السماء الصافية فيحجب هذه السماء في نهاية الأمر، كبقية الطبيعة، ضبابٌ من الغبار الدقيق الخانق فتبدو الشمس من خلالها قُرصًا نَحِسًا عاطلًا من الشعاع.

هنالك ينفد صبر الناس، فينتظرون الفَرَج فيرتقبون ما في أفق الجنوب من الرياح الموسمية الماطرة التي تجيء صائلةً هائلةً للخير حاملةً.

الرياح الموسمية

لا تجد حادثة، كالرياح الموسمية، متجبرةً في ظاهرها نافعةً في نتائجها.

يرى الإنسان سُحُبًا كثيفة تتلبَّد في السماء في يوم أو يومين، ثم تهتز وتُقبل وئيدة٣٢ غاشية نصف الأفق بغطاء مأتَمي على حين يضيء نصفَ الأفق الآخر بيوتُ القرى البِيضُ وضفاف الأنهر، ثم لم يلبث الجميع أن يُعَتِّم، فهنالك ترتعج٣٣ البروق وتقصف الرعود وتنزل الصواعق بما يمزِّق القلب ويخلع الفؤاد، ثم تتشقَّق الأضوار٣٤ الطاخية٣٥ كالظروف والقِرَب المملوءة فينهمر طوفانها على الأرض، ويملأ مجاري الأنهار الجافة، ويحوِّلها إلى سيول، فتجرع الأراضي المتلظِّية من مياهه المباركة فتبدو للناظر حياة جديدة آتية من السماء؛ لتسري في عروق العالم فيعود إلى شبابه.

ولم تُعَتِّم تلك الزوبعة الأولى أن تهدأ فتنقشع تلك الغيوم المكفهرَّة عن سماء ضاحكة وعن نبات رطيب نضير يخرج فورًا فيعود إلى الأحياء نشاطهم، ويتحول كل شيء في بضعة أيام، ولكن رياح الجنوب الغربي الموسمية لا تنفكُّ تجيء من فوق البحر في خمسة أشهر أو ستة أشهر حاملةً الرطوبة والندى خافقةً ماطرة بين حين وحين.

ذلك هو فصل المطر، وذلك ما يحدث في السواحل الجنوبية الغربية، ولا يحدث مثله في بقاع الهند الأخرى من كل وجه ومن حيث الزمن والأحوال، وإليك ما قيل في مصدر ذلك الحادث وسيره من النظريات الجديدة:
يهُبُّ ببلاد الهند ريحان مختلفتان مقتسمتان لأيام السنة، تخفق إحداهما من الشمال الشرقي فتدوم من نوفمبر إلى مايو، وتخفِق الأخرى من الجنوب الغربي فتدوم في الأشهر الستة الأخرى، فأما الريح الأولى فتأتي من آسيا الوسطى غير مارَّة بغير البُرُور فلا تحمل قابَّةً،٣٦ فتُدعى بالريح الموسمية الجافة، فتختلط بالرياح التي تهبُّ بين دائرتي الانقلاب من الشرق إلى الغرب، فلا تكون حادثة ذات طابع خاصٍّ، وأما الريح الثانية فتجوب البحر الهنديَّ فتحمِل أبخرة يُسفر تكاثفها عن وابل هاطل، فتدعى بالريح الموسمية الماطرة، فهي وليدة تفاوت توزيع البُرُور والبحار وقيظ الصيف في أشهره الثلاثة.

تمتد طبقات هواء الهند في آخر الفصل الحارِّ وتنبسط شيئًا فشيئًا بفعل ارتفاع الحرارة فتتصاعد في الجو فتتحول الهند إلى أتون مستغيث فتهتزُّ حينئذ السحب التي تغشى البحر الهندي وتسير لتملأ ذلك الفراغ الحادث، وتدوم على هذه الحال إلى أن يعود التوازن الذي اختلَّ في الجو، وإذا أصبحت سُحُب رياح الجنوب الغربي الموسمية فوق شواطئ الهند وَقَفَتْها جبال كهات وحملتها على الانصباب في جانبها الغربي، فيؤدي هذا الوابل الهاطل إلى تصدُّع تلك الجبال وتقطيعها بروجًا ومِسَلَّات، واكتسابها منظرًا ساحرًا عجيبًا خاصًّا بها.

وإذا استطاعت تلك السُّحب أن تنفذ سلسلة كهات كان ذلك وهي أقل قَطْرًا فصبَّت في جانب هذه السلسلة الشرقي وفي هِضاب الدَّكَن مياهًا دون تلك مرتين أو ثلاث مرات، وهي إذ تعجز عن قطع جبال كَهات الشرقية تجري إلى الشمال الشرقي غير حاملة قطرةً إلى شاطئ كورومندل.

والرياح الموسمية الشمالية الشرقية هي التي تروي، بما لا يكفي، منطقة كورومندل بعد أن تحمل بعض السحب من خليج البنغال.

والجفاف بليَّةُ منطقة كورومندل في الحقيقة، وليس في الهند مكان يحتاجُ إلى الحياض المصنوعة كهذه المنطقة، فأُنشئ فيها من الحياض الكثيرة ما تبلغ مساحته أحيانًا مساحة الأراضي الزراعية التي يرويها.

وحينما تكون الرياح الموسمية الجنوبية الشرقية فوق البنغال تقطع البحرَ ثانية فتنحرف بفعل جبال بن ماني وآسام فتهبُّ عموديةً على شواطئ سُنْدَرَبْن كأنها آتية من الجنوب توًّا، وهي إذ تكون حاملة سُحُبًا كثيفة في هذه المرة تُغَوِّر٣٧ في وادي بَرَهْمَا بوترا العليا، فهنالك، حيث جبال آسام وطرف سلسلة هِمَالْيَة الشرقي، تُنزل من الأمطار الهائلة ما لا مثيل له في الدنيا، فقُدِّر ارتفاع ما سقط منه في سنة ١٨٦١ على جيرابونجي، الذي هو من شوامخ كهاسي، بعشرين مترًا، فنجم عن ذلك أن تصدَّعت شِعاف تلك المنطقة كما في جبال كهات.
وتغير الرياح الموسمية بعد ذلك تغييرًا تامًّا، فهي إذ تعجز عن مجاوزة جبال هِمَالْيَة تجري محاذية لهذه الجبال متوجهة إلى الشمال الغربيِّ فتنشر الرطوبة في طريقها، ثم تصل إلى البنجاب الذي ينتظرها ليَسُحَّ٣٨ فيه وِقْرُها.٣٩

ولا يكفهر جو البَنْجَاب إلا في أواخر يونية، وتجوب الرياح الموسمية تلك السبل بصولة متناقصة في عدة شهور، وينال وادي السِّنْد وساحل أوريسة أسوأ حصة من مياهها، فإذا ما ساء الحظ فقلَّ مقدار ما يأخذانه من الماء عادةً، مع عدم كفايته، أسفر ذلك عن مجاعة أشد من الغزو والوباء، فهلك مئات الألوف من الناس، فليس من العبث، إذن، أن عَبَد الهندوسُ الأنهارَ والآلهة التي توزِّع على الأرض مياه الخير والبركة، جاء في المهابهارتا: «يأتينا المطر من الآلهة فيَهَب لنا النبات الذي هو قِوَام نعمة الإنسان.»

ويرى الإنسان في الدَّكَن الجنوبي المناظر المختلفة التي هي وليدة الري المتفاوت، فالمطر ينزل عليه، بالحقيقة، نزولًا غير متساوٍ بسبب الموانع الجبلية وما إليها، فهنا يهطل مدرارًا فيخرج نباتٌ بري جامح فتقوم غابة استوائية، وهناك تجد حقولًا حقيرة تنبت فيها الخيازر٤٠ نباتًا متفرقًا، وهنالك، حيث التراب البركاني، تبصر الجدب والجفاف.
أَجَلْ، إن المجاعات التي تنشأ عن تفاوت نزول الأمطار هي أشد ما تُبتلى به بلاد الهند، ولكنها ليست كلَّ ما تصاب به، فلتُضَف إليها الأعاصير والهَيْضَة٤١ والحمَّيات.

ترتفع الأعاصير فتخرب كل شيء يعترض لها، وتثير أمواج البحر أحيانًا فتقذفها إلى مسافات بعيدة، ومنشأ الأعاصير هو ما بين رُكام الجوِّ من تفاوت، وفي أواخر فصل الحر، على الخصوص، تهبُّ الأعاصير فوق شواطئ كورومندل وَسكْهر وأوريسة، وما تحدثه الأعاصير من الضرر يذهب بلُبِّ الرشيد، ومن ذلك أن غرقت في سنة ١٧٨٩ منطقة مدابُولم القريبة من مصاب غوداوري فهلك ألوف من الناس، فحملت السفينة ليفيفرية مسافة فرسخ في البر، ومن ذلك أن دُمِّرت في سنة ١٨٦٤ مدينة مجهلي بُتَم المتوسطة الأهمية الواقعة على ذلك الساحل، ومن ذلك الخراب الذي تُعَرَّض له جُزُر سُنْدَرَبْن الرملية التي يتألف منها مَصَابُّ نهر الغَنْج فيتعذَّر دفعه.

وفي غدران جزر سُنْدَرَبْن تلك وبين أبخرتها المنبعثة من التراب الرطيب، وفي غياضها المتعصية الوبيئة بؤرة الْهَيْضَة الآسيوية الدائمة مع تقطُّع تفشِّيها في بقية بلاد الهند، وفي منطقة تَرَائِي ذاتِ المستنقعات الواقعة في سفوح جبال هِمَالْيَة مصدر حُمَّيَات الآجام التي لا تقلُّ فتكًا عن الهيضة، فليُقم بتلك المنطقة أو ليُوغل فيها من يرغب في الموت، فالموت، وإن لم يلاقه فيها على الدوام، يُنْشِب أظفاره فيه إذا ما غفل عنه فيندر أن يتفلَّت منه.

ولا يقال، مع ذلك، إن بلاد الهند الرائعة، التي لا ينضُب لها مَعِين، وبيئةٌ في مجموعها، فيمكن الأوربيين أن يستقرُّوا بها من غير أن يخاطروا بأنفسهم ما سلكوا سبيل الرشاد فبدَّلوا منازلهم فيها، وغيروا ما هم فيه من هوائها وأجوائها بحسب الفصول، وهذا لا يكون لزمن طويل مع ذلك، فقد هدتهم التجارب إلى استحالة اختيارهم لها وطنًا ثابتًا فتراهم يرسلون أولادهم إلى إنجلترا ليُنَشَّئوا فيها، ما تألَّف ممن يبقى منهم في الهند عِرق منحط سخيف ضعيف محكوم عليه بالأفول قريبًا، وما أحسن قولَ بعضهم: «يتصف جيل البِيض الأول في بلاد الهند بالضَّعف والسُّخف، ويتصف جيلهم الثاني فيها بالعجز والكَسَح، ولا تسمع عن جيلهم الثالث فيها خبرًا.»

والهند إذا أريد وصفها وصفًا أساسيًّا قيل إنها بلادٌ حارَّة يقل فيها الاحتياج إلى المساكن والملابس والمآكل، وتكثر فيها الأراضي الخصيبة التي تُخرج، بغير عمل، ما يُضطر إليه الأهلون من المحاصيل القليلة، ففي أحوال كتلك لا يتطلب الصراع من أجل الحياة كبير جهودٍ، فلا ينمو فيها خُلُق المبادرة والنشاط والحزم، فكأنه كتب على العروق الخاضعة لمثل تلك الأحوال أن تكون مستعبَدة، فهي تظل فريسة للفاتحين، مستعدة للعمل بأوامر الغالبين.

هوامش

(١) المِقْراة: الكثيرة الضيافة.
(٢) الصرود: جمع صرد، وهو المكان المرتفع من الجبال.
(٣) الجذول: جمع جذل، وهو من الشجرة أصلها الباقي بعد ذهاب فروعها.
(٤) طُنْف الصخرة: ما نتأ منها.
(٥) ثَوِلَ الرجل يَثْوَلُ ثَوْلًا: حَمُق.
(٦) الفج: الطريق الواسع الواضح بين جبلين.
(٧) الفجوة: الفرجة بين الشيئين.
(٨) استغدر المكان: صارت فيه غدران، وهي جمع غدير، والغدير: قطعة من الماء يتركها السيل.
(٩) المرجاس: حجر أو ما يشابهه يُشد في حبل فيُدلَّى في الماء ليُعلَم عمقُه.
(١٠) الشماريخ: جمع شمراخ؛ وهو رأس الجبل.
(١١) الأهوار: جمع هور، وهو البحيرة تجري إليها مياه غياض وآجام فتتسع.
(١٢) من سطم الباب يسطمه سطامًا: أغلقه وردَّه.
(١٣) المراتج: جمع مرتج وهو الطريق الضيقة.
(١٤) الرمث: خشب يُضم بعضه إلى بعض ويُركَّب في البحر، ويُجمع على أرماث.
(١٥) تسكع في سيره: لم يهتد لوجهته.
(١٦) الأسحم: المسود.
(١٧) الوابل: المطر الشديد.
(١٨) صَرَى الماء يَصْرَى صَرًى: طال مكثه وتغير.
(١٩) الغُدُر والغدران: جمع الغدير وهو قطعة من الماء يتركها السيل.
(٢٠) الحمئ: الماء خالطته الحمأة أي الطين الأسود.
(٢١) الغامر: الأرض الخراب.
(٢٢) طما الماء يطمو طموًا: ارتفع وملأ النهر.
(٢٣) الأضواج: جمع الضوج وهو منعطف الوادي.
(٢٤) استغدر المكان: صارت فيه غدران.
(٢٥) الأدغال: جمع الدغل، وهو الشجر الكثيف الملتف.
(٢٦) المراتيج: جمع المرتاج، وهو ما يغلق به الباب.
(٢٧) العباب: معظم السيل وارتفاعه.
(٢٨) اليم: البحر.
(٢٩) الأضواج: جمع الضَّوْج، وهو منعطف الوادي.
(٣٠) الأطواف: جمع الطوف، وهو قطع خشب تُشد فتصير كهيئة سطح، ويُرْكب عليها في الماء أو تُحمل عليها الأثقال.
(٣١) النسام: جمع النسيم.
(٣٢) وئيدة: على تؤدة.
(٣٣) ارتعج البرق: تتابع.
(٣٤) الأضوار: جمع الضور وهو السحابة السوداء.
(٣٥) الطاخية: المظلمة.
(٣٦) القابة: القطرة من المطر.
(٣٧) غور الماء: ذهب في الأرض.
(٣٨) سح: سال وانصب غزيرًا.
(٣٩) الوقر: السحاب المثقل بالماء.
(٤٠) الخيازر: جمع الخيزران.
(٤١) الْهَيْضَة: الكوليرا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤