الفصل الثالث

الشعر والوزراء

كان العزيز بالله أول خليفة فاطمي اتخذ له وزيرًا، وكان الوزير يعقوب بن كلس أول وزير في الدولة الفاطمية، ففي رمضان سنة ثمان وستين وثلاثمائة لقَّبَه العزيز بالوزير الأجَلِّ، وأمَرَ ألا يخاطبه أحد ولا يكاتبه إلا بهذا اللقب، فعظمت مكانته حتى كتب اسمه على الطرز وفي الكتب.١ فكان هذا المركز الخطير الذي شغله ابن كلس في هذه الدولة الفتية إذ ذاك من الأسباب التي جعلت الشعراء يسعون إليه وينشدون الشعر في مدحه، وقد رأينا من قبلُ كيف كان ابن كلس أحد العلماء المبرزين، وكيف كان يلقي علوم الدعوة وغيرها على الناس، وكيف كان يؤمُّ مجلسه عدد من القضاة والفقهاء والشعراء ورجال الدولة يستمعون إلى دروسه، ويتناقشون بين يديه، أضِفْ إلى ذلك كله أنه كان كريم اليد يعطي ويجزل العطاء، فلا غرو أن كان الشعراء يلتفون حوله، ويكثرون من مدحه. مدحه أبو الرقعمق، وعبد الله بن محمد بن أبي الجوع، والأمير تميم بن المعز، وكثير غيرهم من شعراء عصره الذين فُقِد شعرهم وضاعت أسماؤهم مع ما ضاع من الأدب الفاطمي.

وقد ذكرنا أن الشعراء الذين رثوه بلغوا مائة شاعر، فمَن هم هؤلاء الشعراء؟ وأين شعرهم؟ الجواب عن ذلك أولًا: عند رجال الدولة الأيوبية الذين عملوا على محو كل أثر علمي أو أدبي للفاطميين لخلاف مذهب الدولتين، وثانيًا: عند المؤرخين والكتَّاب من أهل المشرق الذين كانوا يدينون بالطاعة للعباسيين، فأبوا أن يرووا شيئًا عن شعراء مصر الفاطمية، وثالثًا: عند الأتراك الذين دان لهم العالم الإسلامي مدة طويلة، فأطاحوا بحضارتين من أرقى الحضارات التي شاهدها العالم، وشاهدها تاريخ الفكر البشري، وهما: الحضارة البيزنطية والحضارة الإسلامية، ولم يستطِع الأتراك أن يقيموا حضارة أخرى تقوم مقام هاتين الحضارتين. وكان الأتراك شديدي التعصب للمذهب السني، فأنزلوا نقمتهم على كل ما هو شيعي، أضِفْ إلى ذلك كله المجاعات الكثيرة والاضطرابات العديدة التي سبَّبَتْ محنًا عديدة لمصر، ووصفها المقريزي في كتابه «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، فقد كانت من أشد العوامل في ضياع كتب كثيرة من كتب علماء الفاطميين ودواوين شعر شعرائهم، وهكذا تضافرت قوى عديدة لإبادة العلوم والآداب في العصر الفاطمي، حتى إن الذي بقي من هذا كله أصبح ضئيلًا تافهًا بالنسبة لما كان في عهدهم الزاهر. فقد بقي لنا جزء من قصيدة لأبي الرقعمق في مدح ابن كلس وهي:

لم يدع العزيز في سائر الأر
ض عدوًّا إلا وأخمد ناره
فلهذا اجتباه دوه سواه
واصطفاه لنفسه واختاره
لم تشيد له الوزارة مجدًا
لا ولا قيل رفعت مقداره
بل كساها وقد تخرمها الدهـ
ـر جلالًا وبهجة ونضاره
كل يوم له على نوب الدهـ
ـر وكر الخطوب بالبذل غاره
ذو يد شأنها الفرار من البخـ
ـل وفي حومة الوغى كراره
هي فلت عن العزيز عداه
بالعطايا وكثرت أنصاره
هكذا كل فاضل يده تمـ
ـسي وتضحى نفاعة ضراره
فاستجره فليس يأمن إلا
من تفيا بظله واستجاره
فإذا ما رأيته مطرقًا يعـ
ـمل فيما يريده أفكاره
لم يدع بالذكاء والذهن شيئًا
في ضمير الغيوب إلا أثاره
لا ولا موضعًا من الأرض إلا
كان بالرأي مدركًا أقطاره
زاده الله بسطة وكفاه
خوفه من زمانه وحذاره٢

فالشاعر في هذه الأبيات يمدح الوزير، ولكنه كان يذكر الإمام الفاطمي كلما وسعه فنه ومواهبه في الشعر، فهو لم يستطع أن يغفل الإمام من قصائده، وذلك لقوة الإمام والخلافة الفاطمية إذ ذاك، والوزير نفسه لم يكن ليصدر أمرًا قبل أن يطالِع الإمام به ويستأذنه فيه، وعرف الشعراء ذلك فكانوا يتقرَّبون للوزير حتى يتقرَّبوا به للإمام، فمَدْح الوزير كان وسيلة لغايتهم وهي الاتصال بالإمام، هكذا كان أمر الشعراء مع جميع الوزراء في القسم الأول من العصر الفاطمي، وهو القسم الذي كان الأئمة فيه يسيرون مرافق البلاد، ويختارون الوزراء لمساعدتهم في تنفيذ ما كانوا يصدرونه من أحكام وقوانين، وكان أكثر وزراء ذلك العصر من رجال القلم أمثال الجرجرائي واليازوري وابن المغربي والبابلي وغيرهم من الكتَّاب. ليس معنى ذلك أن الشعراء أفنوا أنفسهم في الوزراء وفي مدحهم، فمن الشعراء مَن هجا الوزراء كالذي رأيناه من هجاء ابن كلس.

وهجاه أبو محمد القاسم الرسي بقوله:

توق معز الدين شؤم ابن كلس
ولا تقبلن منه مقال مدلس
فإنَّا أردناه لكافور شربة
فزاد على تقريرنا ألف مجلس٣

وكذلك روي أن الشاعر جاسوس الفلك هجا الوزير علي بن أحمد الجرجرائي وزير الظاهر لإعزاز دين الله، وكان هذا الوزير أقطع اليدين بسبب خيانة ظهرت عليه أيام الحاكم، فلما ولي الوزارة استعمل العفاف والأمانة، ولكن ذلك لم يمنع الشاعر من أن يقول فيه:

يا أحمقًا اسمع وقل
ودع الرقاعة والتحامق
أأقمت نفسك في الثقا
ت، وهبك فيما قلت صادق
فمن الأمانة والتقى
قُطِعت يداك من المرافق٤

وقال الشاعر الحسن بن خاقان في هجاء الوزير الفلاحي وزير المستنصر:

حجاب وإعجاب وفرط تصلف
ومد يد نحو العلا متكلف
فلو كان هذا من وراء كفاية
عذرنا ولكن من وراء تخلف٥

ونحن نعلم أن الفلاحي كان يهوديًّا وأسلم، وأن أبا سعد التستري مدبر الدولة إذ ذاك كان يهوديًّا، ولذلك قال أحد الشعراء:

يهود هذا الزمان قد بلغوا
غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهم
ومنهم المستشار والملك
يأهل مصر إني نصحت لكم
تهودوا قد تهود الفلك٦

ولكن بعد أن ضعفت الخلافة الفاطمية في عهد المستنصر، وحلت بالبلاد نكبة الشدة العظمى، اضطر المستنصر إلى أن يستعين برجال السيف، وأن يتخذ منهم وزراء له، وأول هؤلاء الوزراء السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبو نجم بدر الجمالي، تولَّى هذه المراتب سنة ٤٦٦ﻫ، ولكنه لم يلبس خلعة الوزارة إلا سنة ٤٦٨ﻫ، وصار صاحب الكلمة النافذة في البلاد التي كانت خاضعة للفاطميين، وأصبح الإمام الفاطمي شبه أسير في يدي الوزير، وظل بدر الجمالي في منصبه إلى أن توفي سنة ٤٨٧ﻫ قبل المستنصر الفاطمي بأشهر، فتولَّى الوزارة بعده ابنه القاسم شاهنشاه الأفضل، وفي عهده بلغت قوة الوزارة وسلطانها أعلى الذرى، حتى إنه بعد وفاة المستنصر سنة ٤٨٧ﻫ لم يعبأ بعقيدة من أهم عقائد الفاطميين في الإمامة، هي النص على مَن يلي الإمامة؛ إذ الإمام لا بد أن ينص قبل وفاته على خليفته، وأن يبلغ ذلك إلى حجته وحجج الجزائر، ولكن الأفضل بن بدر الجمالي أبى أن يجعل الإمامة إلى صاحب النص، وهو نزار بن المستنصر، وجعلها إلى المستعلي بالله وهو ابن أخته، وكان صغير السن؛ وبذلك انقسمت الدعوة إلى فرعيها: النزارية والمستعلية، وكان هذا الانقسام من أهم الأسباب التي أدَّتْ إلى ضعف الدولة الفاطمية، والخلافة الفاطمية، وأضعفت هيبة الإمام بين الناس، وشكَّ في إمامته بعضُ الأتباع والأشياع. ومهما يكن من شيء فقد أصبحت الوزارة هي القوة المحركة للبلاد كلها، فاتجه الشعراء إلى الوزراء يمدحونهم، ويأخذون هباتهم وصلاتهم، وتشَّبَهَ الوزراء في بذخهم بالأئمة، فأسرفوا في كل ما يجلب لهم الشهرة والسرور معًا، وأحاطوا أنفسهم بهالة من أبهة الملك وألقابه؟ واتخذوا لأنفسهم حاشية هي أشبه شيء بحاشية الملوك والسلاطين، وعقدوا مجالس للشعراء على نحو ما كان يفعله خلفاء بني العباس والأئمة الفاطميون إبَّان قوتهم وسلطانهم، فانتقل أكثر الشعراء من مدح الأئمة إلى مدح الوزراء.

وكان من الوزراء مَن ينشد الشعر، فالأفضل بن بدر الجمالي كان شاعرًا، ومن شعره قوله في غلامه تاج المعالي:

أقضيب يميس أم هو قد
وشقيق يلوح أم هو خد
أنا مثل الهلال سقمًا عليه
وهو كالبدر حين وافاه سعد٧

ومن قوله أيضًا في جارية له أمر بضرب عنقها لأنه رآها تتطلع إلى الطريق، وكان شديد الغيرة على نسائه، فلما جيء له برأسها قال:

نظرت إليها وهي تنظر ظلها
فنزهت نفسي عن شريك مقارب
أغار على أعطافها من ثيابها
حذارًا ومن مسك لها في الذوائب
ولي غيرة لو كان للبدر مثلها
لما كان يرضى باجتماع الكواكب٨

فهذه الأبيات التي بقيت لنا من شعر الأفضل تدل على رقة شعور، وقدرة على التعبير عما يخالج النفس من عاطفة شديدة.

وكان الملك الصالح طلائع بن رزيك جيد الشعر، وكان يثيب على شعر الشعراء٩ وكان شاور وولده الكامل وضرغام ممَّنْ ينشدون الشعر — وسنتحدث عنهم جميعًا بعد قليل — فهؤلاء الوزراء الشعراء استطاعوا أن يكوِّنوا لأنفسهم حاشية من الشعراء هي أشبه بحاشية الأئمة الفاطميين إبَّان سلطانهم الفعلي، فكل الشعراء من مصريين ووافدين اتصلوا بهم ومدحوهم.

فممَّنْ وفد على مصر: الشاعر علقمة بن عبد الرزاق العليمي، وفد على بدر الجمالي، ويقول علقمة: قصدت بدر الجمالي فرأيت أشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم على بابه قد طال مقامهم، فلم يصلوا إليه، فبينما أنا كذلك إذ خرج بدر يريد الصيد، فخرجت في إثره، وأقمت معه حتى رجع من صيده، فلما قاربني وقفت على تل من الرمل، وأومأت برقعة في يدي، وأنشدت:

نحن التجار وهذه أعلاقنا
در، وجود يمينك المبتاع
قلت فتشها بسمعك إنها
هي جوهر تختاره الأسماع
كسد علينا بالشآم وكلما
قل النفاق تعطل الصناع
فأتاك يحملها إليك تجارها
ومطيها الآمال والأطماع
حتى أناخوها ببابك والرجا
من دونك الثمار والبياع
فوهبت ما لم يعطه في دهره
هرم ولا كعب ولا القعقاع
يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى
ولجوا إليك جميعهم ما ضاعوا١٠

(١) الأفضل وشعراؤه

ويُعَدُّ عهد الأفضل بن بدر الجمالي من أزهى العصور الأدبية التي شاهدتها مصر الإسلامية، فقد اتصل به عدد كبير من الشعراء، نذكر منهم: مسعود الدولة، وأبا علي حسن بن زبيد، والقاضي ابن النضر المعروف بالأديب، والناجي المصري، وسالم بن مفرج بن أبي حصينة، ومحمود بن ناصر الإسكندراني، ومروان بن عثمان اللكي، وابن البرقي، وظافر الحداد، وأمية بن أبي الصلت … وغيرهم من شعراء الخريدة، ومن الشعراء الذين ذكرهم أمية في رسالته الموسومة «بالرسالة المصرية»، وقد ذكرنا كيف كان الأفضل يجزل العطاء للشعراء، ويجلس إليهم يستمع إلى أشعارهم وروايتهم للشعر، ولعل «الرسالة المصرية» من أقوم الكتب التي تعطينا صورةً صحيحةً عن تلك الحياة الأدبية التي كانت بمصر في عهد الأفضل، ومؤلف هذه الرسالة هو أمية بن أبي الصلت.

أمية بن أبي الصلت ورسالته المصرية

لم يكن أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت مصريًّا، إنما هو أندلسي وفد على مصر في عهد الآمِر بأحكام الله، واستطاع أمية أن يتصل بالأفضل، وكان سبب هذه الصلة هو الأمير مختار تاج المعالي — وكان في منزلة قريبة جدًّا من الوزير — فاتصل به أمية مادحًا وقرَّبَه الأمير مختار، وكان أمية يخدمه أيضًا بصناعتَيِ الطب والنجوم، فأنس به تاج المعالي كما آنس منه العلم والفضل، وكان جمهور المثقفين من المصريين قد التفوا حول أمية يأخذون عنه العلم والآداب، فقدَّمه تاج المعالي إلى الوزير وأثنى عليه، وذكر للوزير ما سمعه من أعيان العلماء، وإجماعهم على تقدُّمه وتميُّزه عن كتَّاب وقته، واشتدت صلة أمية بالوزير، ولكن الحساد من الكتَّاب المقربين للوزير أبوا أن تستمر علاقة أمية بالأفضل، فأخذوا يتحينون الفرص للإيقاع بأمية حتى واتتهم الفرصة؛ ذلك أن الوزير قلب ظهر المجن لتاج المعالي واعتقله، فوجد الكتَّاب السبيل للنيل من أمية، فوشوا به لدى الأفضل؛ فحبسه بالإسكندرية مدة ثلاث سنين وشهر، إلى أن شفع فيه بعض وجوه المصريين، فأطلق سراحه، وسار إلى المغرب، واتصل بالمرتضى أبي طاهر يحيى بن تميم صاحب القيروان، وحظي عنده وحسن حاله إلى أن توفي بالمهدية سنة ٥٢٩.١١
استطاع أمية أثناء إقامته بمصر أن يدرس مصر والمصريين، وأن يعرف أحوالهم وطبقاتهم وطبائعهم، وأن يتحدَّث عن ذلك كله في الرسالة التي عُرِفت «بالرسالة المصرية»، وصف فيها مصر جغرافيًّا، وعرض لبعض المدن المصرية، وتحدَّثَ عن النيل ومنابعه وزيادته ونقصانه، وروى شيئًا مما قيل في النيل من شعر، وما أُنشِد في مهرجان الخليج مما قاله القدماء ومعاصروه، فنستطيع أن نعدَّ هذه الرسالة القيِّمَة من الكتب القليلة الممتعة التي وصلتنا عن هذا العصر، كما أنها مجموعة لأشعار بعض مَن اتصل بهم أمية في مصر أو مَن حفظ لهم شيئًا من الشعر من المصريين. أضِفْ إلى ذلك كله أن أمية ذكر في هذه الرسالة بعض علماء أهل مصر في ذلك الوقت، ولا سيما ممَّن كانوا يتعاطون صناعتَيِ الطب والتنجيم، يقول أمية عن المصريين: والمصريون أكثر الناس استعمالًا لأحكام النجوم، وتصديقًا لها، وتعويلًا عليها، وشغفًا بها، وسكونًا إليها، حتى إنه بلغ من زيادة أمرهم في ذلك إلى أنه لا يتحرك حركة من حركاتهم الجزئية التي لا تحصر فنونها، ولا تحصل أجزاؤها وأنحاؤها، ولا تضبط جهاتها، ولا تقيد غاياتها، ولا تعدد ضروبها إلا في طوالع يختارونها.١٢ ويقول عن أطباء مصر في ذلك العصر: «وأكثر أطبائها المزبرقين نصارى أو يهود.» وفي ذلك يقول بعضهم:
أقول للمسلمين طرًّا
تبغون في طِبِّها اشتهارَا
هيهات حاولتم محالًا
كونوا إذن هودًا أو نصارَى١٣

ويحدثنا عن بعض الشعراء الذين كانوا بعيدين عن الحضرة، فقال عن القاضي علي أبي الحسن بن النضر، المعروف بين أهالي الصعيد الأعلى بالأديب: ذو الأدب الجم، والعلم الواسع، والفضل البارع، وله في سائر أجزاء الحكمة اليد الطولى، والرتبة الأولى، وقد كان ورد الفسطاط يلتمس من وزيرها الأفضل تصرفًا وخدمة، فخاب فيه أمله، وضاع رجاؤه، فقال يعاتب الزمان:

بين التعزز والتذلل مسلك
بادي المنار لعين كل موفق
فاسلكه في كل المواطن واجتنب
كبر الأبي وذلة المتملق
ولقد جلبت من البضائع خيرها
لأجل مختار وأكرم متقي
ورجوت خفض العيش تحت ظلاله
لا بد أن نفقت وإن لم تنفق
ظنًّا شبيهًا باليقين ولم أقل
إن الزمان بما سقاني مشرقي
ولعائبي بالحرص قول بين
لو كنت شمت سحابة لم تطرق
ما ارتدت إلا خير مرتاد ولم
أصل الرجاء بحبل غير الأوثق
وإذا أبى الرزق القضاء على امرئ
لم تغن فيه حيلة المسترزق
ولعمرو عادية الخطوب وإن رمت
حظي بسهم تشتت وتفرق١٤

ويذكر شعراء آخَرين من أهل الصعيد مثل أبي شرف الدجرجاوي المنسوب إلى قرية دجرجا بالصعيد، والشاعر أبي الحسن علي بن البرقي من أهل قوص وغيرهما، فالسيرة المصرية مرآة صادقة للحياة الأدبية في مصر أوائل القرن السادس للهجرة.

كان أمية أستاذًا لبعض المصريين، وذكر ياقوت أن من تلاميذ أمية الذين تلقوا عنه العلم ورووا شعره: أبو عبد الله الشامي الذي ظلَّ مخلصًا لأستاذه، وكان يتردد عليه إبَّان نكبته وسجنه. وينقل ياقوت عن أبي عبد الله الشامي: وكنت أختلف إليه إذ ذاك، فدخلت إليه يومًا فصادفته مطرقًا، فلم يرفع رأسه إليَّ على العادة، فسألته فلم يردَّ الجواب، ثم قال بعد ساعة: اكتب. وأنشدني:

وكان لي سبب قد كنت أحسبني
أحظى به، فإذا دائي هو السبب
فما مقام أظفاري سوى قلمي
ولا كتائب أعدائي سوى كتبي
فكتبت عنه رسالته فقال: إن فلانًا تلميذي قد طعن فيَّ عند الأمير الأفضل.١٥ ويرى ياقوت أيضًا أن الشيخ سليمان بن الفياض الإسكندراني كان ممَّن أخذ العلم عن أمية وروى عنه.١٦ وكان لأمية عدد من الأصدقاء في طليعتهم ظافر الحداد الشاعر الذي صادقه بالإسكندرية، وحزن لسفره وبُعْده عن مصر، فأرسل إليه قصيدة يشكو فراق الصديقين، ويذكِّر أمية بالأيام التي قضَيَاها معًا، والقصيدة هي:
ألا هل لدائي من فراقك إفراق
هو السم لكن في لقائك ترياق
فيا شمس فضل غربت، ولضوئها
على كل قطر بالمشارق إشراق
سقى العهد عهدًا منك عمر عهده
بقلبي عهد لا يضيع وميثاق
يجدده ذكر يطيب كما شدت
وريقاء كنتها من الأيك أوراق
لك الخلق الجزل الرفيع طرازه
وأكثر أخلاق الخليفة إخلاق
لقد ضاءلتني يا أبا الصلت مذ نأت
ديارك عن داري هموم وأشواق
إذا عزني إطفاؤها بمدامعي
جرت ولها ما بين جفني إحراق
سحائب يحدوها زفير يجره
خلال التراقي والترائب تشهاق
وقد كان لي كنز من الصبر واسع
فلي منه في صعب النوائب إنفاق
وسيف إذا جردت بعض غرارة
لجيش خطوب صدها منه إرهاق
إلى أن أبان البين أن غراره
غرور، وأن الكنز فقر وإملاق
أخي، سيدي، مولاي دعوة من صفا
وليس له من رق ودك إعتاق
لئن بعدت ما بيننا شقة النوى
ومطرد طامي الغوارب خفاق
وبيد إذا كلفتها العيس قصرت
طلائح أنضاها زميل وإعناق
فعندي لك الود الملازم مثل ما
يلازم أعناق الحمائم أطواق
ألا هل لأيامي بك الغر عودة
كعهدي، وثغر الثغر أشنب براق
ليالي يدنينا جواب أعادنا
من القرب كالصنوين ضمهما ساق
وما بيننا من حسن لفظك روضة
بها حسدت منا المسامع أحداق
حديث، حديث كلما طال، موجز
مفيد إلى قلب المحدث سباق
يرجيه بحر من علومك زاخر
له كل بحر فائض اللج رقراق
معانٍ كأطواد الشوامخ جزلة
تضمنها عذب من اللفظ غيداق
به حكم مستنبطات غرائب
لأبكارها الغر الفلاسف عشاق
فلو عاش رسطاليس كان له بها
غرام وقلب دائم الفكر تواق
فيا واحد الفضل الذي العلم قوته
وأهلوه مشتاق يشم وذواق
لئن قصرت كتبي فلا غرو إنه
لعائق عذر والمقادير أوهاق
كتبت وآفات البحار تردها
فإن لم يكن رد علي فإغراق
بحار بأحكام الرياح فإنها
مفاتيح في أبوابهن وأغلاق
ومَن لي أن أحظى إليك بنظرة
فيسكن مقلاق ويرقأ مهراق١٧

فهذه القصيدة التي بعث بها ظافر الحداد إلى صديقه أمية بن أبي الصلب، إن دلت على شيء فإنما تدل على مبلغ ما كان يكنه ظافر لصديقه من وفاء وإخلاص وود، وما كان عليه أمية من علم وفضل، وما كان عليه الصديقان من صفاء ووفاء.

أما علاقة أمية بالوزير الأفضل بن بدر الجمالي، فيقول القفطي: «ودخل مصر في أيام أفضلها فلم ينل منها إفضالًا، وقصده للنيل فلم يجد لديه منوالًا.»١٨ ولكني أشك في قول القفطي، وأزعم أن الأفضل قرَّبَ إليه أمية، وأجزل له العطاء، فأشعار أمية في الأفضل أكبر دليل على أن الشاعر كان يميل إلى الأفضل، وكان الأفضل يجزل له النوال. فمن شعر أمية في الأفضل قصيدته التي أنشدها يذكر تجريده العساكر إلى الشام لمحاربة الصليبيين بعد انهزام عسكره في الموضع المعروف بالبصة، وكان قد اتفق في أثناء ذلك أن قومًا من الأجناد وغيرهم أرادوا الفتك بالأفضل، فوقع على خبرهم، وقبض عليهم وقتلهم، والقصيدة هي:
هي العزائم من أنصارها القدر
وهي الكتائب من أشياعها الظفر
جردت للدين والأسياف مغمدة
سيفًا تفل به الأحداث والغير
وقمت إذ قعد الأملاك كلهم
تذب عنه وتحميه وتنتصر
بالبيض تسقط فوق البيض أنجمها
والسمر تحت ظلال النقع تشتجر
بيض إذا خطبت بالنصر ألسنها
فمن منابرها الأكباد والقصر
وذبل من رماح الخط مشرعة
في طولهن لأعمار العدا قصر
يغشى بها غمرات الموت أسد شرى
من الكماة إذا ما استنجدوا ابتدروا
مستلثمين إذا سَلُّوا سيوفهم
شبهتها خلجًا مرت بها غدر
قوم تطول ببيض الهند أذرعهم
فما يضر ظباها أنها بتر
إذا انتضوها وذيل النقع فوقهم
كالشمس طالعة والليل معتكر
ترتاح أنفسهم نحو الوغى طربًا
كأنما الدم راح والظبا زهر
وإن هم نكصوا يومًا فلا عجب
قد يكهم السيف وهو الصارم الذكر
العود أحمد والأيام ضامنة
عقبى النجاح ووعد الله ينتظر
وربما ساءت الأقدار ثم جرت
بما يسرك ساعات لها أخر
الله زان بك الأيام من ملك
لك الحجول من الأيام والغرر
لله بأسك والألباب طائشة
والخيل تردى ونار الحرب تستعر
وللعجاج على صم القنا ظلل
هي الدخان وأطراف القنا شرر
إذ يرجع السيف يبدي خده علقًا
كصفحة البكر أدمى خدها الخفر
وإذا تسد مسد السيف منفردًا
ولا يصدك لا جبن ولا خور
أما يهولك ما لاقيت من عدد
سيان عندك قلَّ القوم أو كثروا
هي السماحة إلا أنها سرف
هي الشجاعة إلا أنها غرر
الله في الدين والدنيا فما لهما
سواك كهف ولا ركن ولا وزر
ورام كيدك أقوام وما علموا
أن المنى خطرات بعضها خطر
هيهات أين من العيوق طالبه
لو كان سدد منه الفكر والنظر
إن الأسود لتأبى أن يروعها
وسط العرين ظباء الربرب العفر
أمر نووه ولو هموا به وقفوا
كوقفة العير لا ورد ولا صدر
فاضرب بسيفك من ناواك منتقمًا
إن السيوف لأهل البغي تدخر
ما كل حين ترى الأملاك صافحة
عن الجرائر تعفو حين تقتدر
ومن ذوي البغي من لا يستهان به
وفي الذنوب ذنوب ليس تغتفر
إن الرماح غصون يستظل بها
وما لهن سوى هام العدا ثمر
ليس يصبح شمل الملك منتظمًا
إلا بحيث ترى الهامات تنتثر
والرأي رأيك فيما أنت فاعله
وأنت أدرى بما تأتي وما تذر
أضحى شهنشاه غيثًا للندى غدقًا
كل البلاد إلى سقياه تفتقر
الطاعن الألف إلا أنها نسق
والواهب الألف إلا أنها بدر
ملك تبوأ فوق النجم مقعده
فكيف تطمع في غاياته البشر
يرجى نداه ويخشى عندي سطوته
كالدهر يوجد فيه النفع والضرر
ولا سمعت ولا حدثت عن أحد
من قبله يهب الدنيا ويعتذر
ولا بصرت بشمس قبل غرته
إذا تجلى سناها أغدق المطر
يا أيها الملك السامي الذي ابتهجت
به الليالي وقر البدو والخضر
جاءتك من كلم الحاكي محبرة
تطوى لبهجتها الأبراد والحبر
هي اللآلئ إلا أن ناظمها
طي الضمير ومن غواصها الفكر
تبقى وتذهب أشعار ملفقة
أولى بقائلها من قولها الحصر
ولم أطلها لأني جد معترف
بأن كل مطيل فيه مختصر
بقيت للدين والدنيا ولا عدمت
أجياد تلك المعالي هذه الدرر١٩

ويذكر المؤرخون أن أمية أرسل وهو في سجنه بقصيدتين إلى الأفضل يمدحه بهما، الأولى لامية مطلعها:

الشمس دونك في المحل
والطيب ذكرك بل أجل

والثانية بائية مطلعها:

نسخت غرائب مدحك التشبيبَا
وكفى بها غزلًا لنا ونسيبَا٢٠

وفي هاتين القصيدتين يتحدَّث الشاعر عن أيامه مع الأفضل، وأيادي الأفضل عليه، ومدائح أمية فيه، ويعتذر إليه من أقوال الوشاة والحاسدين الذين أغرو الوزير به حتى سجنه من غير جرم ارتكبه، فمثل هذه الأبيات التي أنشدها أمية في الاعتذار عن وشاية الواشين، تدل على أن صلة الوزير بالشاعر كانت صلة قوية، وأن الشاعر كان مقرَّبًا للوزير فحسده الناس، وأن الشاعر مدح الوزير فأعطاه الوزير صلات، ومع ذلك نرى القفطي يدَّعِي أن الوزير لم يعطِ الشاعر شيئًا، ويُخَيَّل إليَّ أن القفطي اتهم الأفضل بذلك لأنه حبس الشاعر مدة طويلة.

ومهما يكن من شيء فقد مكث أمية عدة سنواتٍ في مصر، اتصل فيها بالحياة المصرية، وشارك المصريين في أعيادهم وحفلاتهم، وأنشد في ذلك شعرًا حُفِظ بعضه وضاع أكثره، فمما حُفِظ من ذلك قوله في النيل من قصيدة كتبها إلى الأفضل ليلة المهرجان:

أبدعت للناس منظرًا عجبًا
لا زلت تحيي السرور والطربَا
ألفت بين الضدين مقتدرًا
فمَن رأى الماء خالط اللهبَا!
كأنما النيل والشموع به
أفق سماء تألَّقَتْ شهبَا
قد كان من فضة فصار سما
وتحسب النار فوقه ذهبَا٢١

وخرج إلى المتنزهات المصرية كما كان يفعل غيره من أهل مصر عامةً، والشعراء خاصة، ووصف بعضها بالنثر وبالشعر، فمن ذلك قوله في بركة الحبش: فافترشنا من زهرها أحسن بساط، واستظللنا من دوحها بأوفى رواق، وطلعت علينا من زجاجات الأقداح شموس في خلع البدور، ونجوم بالصفاء تنور، إلى أن جرى ذهب الأصيل على لجين الماء، ونشبت نار الشفق بفحمة الظلماء، فقال في ذلك بعضنا (ويقصد نفسه):

لله يومي ببركة الحبش
والأفق بين الضياء والغبش
والنيل تحت الرياح مضطرب
كصارم في يمين مرتعش
قد نسجتها يد الغمام لنا
فنحن من نسجها على فرش
ونحن في روضة مفوفة
دبج بالنور عطفها ووشي
فعاطني الراح إن تاركها
من سورة الهم غير منتعش
واسقني بالكبار مترعة
فهن أشفى لشدة العطش
فأثقل الناس كلهم رجل
دعاه داعي الصبا فلم يطش٢٢

وبالرغم من هذه الأبيات التي تدل على أن أمية نعِمَ في مصر بطبيعتها ولهوها، وقدَّره المصريون لعلمه وأدبه، فحظي بصداقة عدد كبير منهم، فإنه خرج من مصر غاضبًا يهجو مصر والمصريين، شأنه في ذلك شأن دعبل الخزاعي، وأبي تمام، والمتنبي، وغيرهم من ذوي الأطماع التي لا تقف عند حد، فهؤلاء الشعراء وفدوا على مصر لقصد النوال والعطاء من أمراء مصر، فأغدق هؤلاء عليهم ما وسعهم، ولكن هؤلاء الشعراء لا يعرفون إلا العطاء السخي، وويل لمصر والمصريين إذا لم يصلوا إلى مطامعهم، فها هو ذا أمية يهجو المصريين جميعًا بقوله:

وكم تمنيت أن ألقى بها أحدًا
يسلي من الهم أو يعدي على النوب
فما وجدت سوى قوم إذا صدقوا
كانت مواعيدهم كالآل في الكذب٢٣

نعم، هكذا زعم أمية، كما زعم دعبل وأبو تمام والمتنبي من قبلُ، فمصر التي أكرمت هؤلاء الشعراء فمدحوها، هي مصر التي هجوها بعد أن رحلوا عنها.

أبو علي الأنصاري

قلنا إن عددًا كبيرًا من شعراء مصر اتصل بالأفضل بن بدر الجمالي، وأنشدت القصائد الكثيرة في مدحه في الأعياد والمواسم، فمن هؤلاء الشعراء أبو علي حسن بن زبيد الأنصاري الذي أثنى عليه القاضي الفاضل بقوله: «إنه في فنه لم يسمح الدهر بمثله.»٢٤ ويقول عنه صاحب الخريدة: وله قصيدة في مدح أفضلهم يصف خيمة الفرح، يدل إحسانه فيها على أن بحره طامي اللجج، ودره نامي البهج، وأقتبس منها قوله:
مجدًا فقد قصرت عن شأوك الأمم
وأبدت العجز منها هذه الهمم
أخيمة ما نصبت الآن أم فلك
ويقظة ما نراه منك أم حلم؟
ما كان يخطر في الأفكار قبلك أن
تسمو علوًّا على أفق السها الخيم
حتى أتيت بها شماء شاهقة
في مارن الدهر من تيه بها شمم
إن الدليل على تكوينها فلكًا
أن احتوتك وأنت الناس كلهم
يمد من في بلاد الصين ناظره
حتى ليبصر علمًا أنها علم
ترى الكناس وآرام الظباء بها
أضحت تجاورها الآساد والأجم
والطير قد لزمت فيها مواضعها
لما تحققن منها أنها حرم
لديك جيش، وجيش في جوانبها
مصور، وكلا الجيشين مزدحم
إذا الصبا حركتها ماج موكبها
فمقدم منهم فيها ومنهزم
أخيلها خيلك اللاتي تغير بها
فليس تنزع عنها الحزم واللجم
علمت أبطالها أن يقدموا أبدًا
فكلهم لغمار الحرب مقتحم
آمنتهم أن يخافوا سطوة لردًى
فقد تسالمت الأسياف والقمم
كأنها جنة، فالقاطنون بها
لا يستطيل على أعمارهم هرم
علت فخلنا لها سرًّا تحدثه
للفرقدين وفي سمعيهما صمم
إن أنبتت أرضها زهرًا فلا عجب
وقد همت فوقها من كفك الديم
يا خيمة الفرح الميمون طائرها
أصبحت فألًا به تستبشر الأمم

ومنها يقول في مدح الأفضل:

ما قال لا قط مذ شدت تمائمه
وكم له نعم في طيها نعم
لو كنت شاهد شعري حين أنظمه
إذن رأيت المعالي فيك تختصم
أزرتك اليوم من فكري محبرة
في ناظر الشمس من لألائها سقم
ترى النجوم للفظي فيك حاسدة
تود لو أنها في المدح تنتظم

ولكن هذا الشاعر النابه، والكاتب المتقدم في ديوان المكاتبات، لقي حتفه بسبب حسد الشعراء له، ذلك أن ابن قادوس الشاعر أنشد بيتين في هجاء حسن بن الحافظ، ونسبهما إلى ابن زبيد الأنصاري، ودسَّهما في رقاعه، ثم سعى به إلى ابن الحافظ، فلما وجد حسن بن الحافظ البيتين بين رقاع الأنصاري أمر بقتله، ولم يشفع له جودة شعره التي بلغ بها درجة رفيعة بين الشعراء، ولا طول خدمته في ديوان المكاتبات، فإن هذه الأبيات التي رويناها له في وصف الخيمة ومدح الأفضل، إنْ دلَّتْ على شيء فإنما تدل على أن للشاعر خيالًا محلقًا، ومقدرة مطاوعة للقريض مع حسن ديباجة.

كان الشعراء في ذلك الوقت يتجهون بمدائحهم إلى الوزراء، والويل كل الويل للشاعر الذي لا يجعل شعر مدحه لهم، فهو يُبعَد ولا يُلتفَت إليه، مهما ارتفع شعره وأجاد الشاعر، وهذا ما حدث مع الشاعر المعروف بابن مكنسة أبي طاهر إسماعيل بن محمد، فقد انقطع هذا الشاعر إلى مدح عامل من النصارى يُعرَف بأبي مليح، وأكثر أشعاره فيه، ولما توفي هذا العالم رثاه الشاعر بقوله:

طويت سماء المكرمات
وكورت شمس المديح
ماذا أرجي في حياتي
بعد موت أبي مليح
ما كان بالنكس الدنيِّ
من الرجال ولا الشحيح
كفر النصارى بعد ما
عقدوا به دين المسيح

فلما ولي الأفضل الوزارة أراد هذا الشاعر أن يتقرَّب إليه ويتصل به، ولكن الأفضل لم ينسَ شعر ابن مكنسة في أبي مليح، فلم يقبل مدائحه، حتى يئس الشاعر فأرسل إلى الوزير يقول:

مثلي بمصر وأنت ملك
يقال ذا شاعر فقير
عطاؤك الشمس ليس يخفى
وإنما حظي الضرير
وبالرغم من أن هذا الشاعر كان من القلائل الذين مدحهم أمية بن أبي الصلت في رسالته المصرية، وأثنى عليه بقوله: «ومن شعرائها المشهورين: أبو طاهر إسماعيل بن محمد المعروف بابن مكنسة، شاعر كثير التصرف، قليل التكلف، يفتن في نوعي جد القريض وهزله، وضارب بسهم في رقيقه وجزله.»٢٥ فمع ذلك كله لم يُوفَّق إلى أن ينال حظوة عند الأفضل، فظلَّ بعيدًا عن شعراء الوزارة.

ولعل ابن مكنسة كان أحسن حظًّا من الشاعر علي بن عباد بن الإسكندري، فقد كان هذا الشاعر منقطعًا لمدح الوزير أبي علي بن الأفضل عندما كان هذا الوزير مستبدًّا بالبلاد وبالخليفة، بل حبس الخليفة الحافظ، حتى بلغ استبداده حدًّا لا يطاق، واستطاع الحافظ أن يتمكَّنَ منه، وأن يقتله في الميدان، وتتبع كل مَن كانوا على صلة بهذا الوزير الطاغية فقتلهم، ومنهم هذا الشاعر، ويروي العماد أن هذا الشاعر مدح ابن الأفضل بقصيدة مطلعها: «تبسم الدهر لكن بعد تعبيس»، وعرَّض فيها بالخلفاء الفاطميين ولا سيما في قوله:

وقد أعاد إليه الله خاتمه
فاسترجع الملك من صخر بن إبليس٢٦

فكانت هذه القصيدة سبب مقتله، ويقول ابن ميسر: إن الحافظ أمر بإحضار الشاعر، فلما امتثل بين يديه قال له: أنشدني قصيدتك. فأخذ الشاعر في إنشادها حتى قال منها في بيت:

ولا ترضوا عن أنجس المناجيس
يعني الحافظ وآباءه، فأمر حينئذٍ أن يلكمه الغلمان حتى مات بين يديه،٢٧ بل كانت هذه القصيدة سببًا في قتل القاضي ابن ميسر سنة ٥٣١ﻫ، فقد روي أن القاضي عندما سمع الشاعر ينشد القصيدة بين يدي ابن الأفضل قام وألقى عرضيته طربًا، فلما قتل الوزير صُرِف القاضي عن عمله وقُتِل.٢٨ وعن هذا الشاعر يقول ابن فضل الله: «علي بن عباد الإسكندري، شاعر كان يجلو غرر المدائح، وكانت منن الوزراء تستعطف أعنة قصائده، فيرد عليهم مسردها.»٢٩

وكان بين شعراء الأفضل مَن نقم عليه فهجاه، ومن هؤلاء الشاعر الملقَّب بالناجي المصري الذي ذكره أمية في رسالته المصرية، فقد هجا الأفضل بقوله:

قل لابن بدر مقال من صدقه
لا تفرحن بالوزارة الخلقة
إن كنت قد نلتها مراغمة
فهي على الكلب بعدكم صدقة
فأمر الأفضل بنفيه إلى الواحات، فأقام بها عند علم الدولة المقرب بن ماضي.٣٠

ظافر الحداد

على أن عصر الأفضل لم يشاهد شاعرًا مثل ظافر الحداد، بالرغم من كثرة الشعراء وتفوقهم جميعًا في هذا الفن، لكن شعراء ذلك العصر كانوا على حظ من الثقافة والعلم، وكان أكثرهم من كتَّاب الدواوين، أما ظافر فكان حدَّادًا بالإسكندرية، ولم يتلقَّ من العلوم وألون المعرفة إلا بمقدار، وبلغت به شاعريته إلى أن يضعه النقاد ومؤرخو الأدب في مصافِّ أكبر شعراء عصره، واستطاع بشعره أن يجالس العلماء والشعراء، وأن يستمع إلى حوارهم وأحاديثهم، ويأخذ من ذلك كله ما وسعته ذاكرته، فيزيد بها مداركه وثقافته، فقد رأيناه صديقًا لأمية بن أبي الصلت، ويحدثنا ابن خلكان أن الحافظ أبا طاهر السلفي وغيره من الأعيان كانوا يروون عن ظافر الحداد.٣١ واتصل ظافر برجال الدولة فأعجبوا به وبشعره، ولا سيما أن مثل هذا الشعر صدر عن رجل من عامة الشعب في حالة متواضعة من العيش، ويروي ابن خلكان قصة تدل على ذلك كله، تلك هي أن القاضي أبا عبد الله محمد بن الحسين الآمدي دخل على والي الإسكندرية الأمير السعيد بن ظفر، فوجده يقطر دهنًا على خنصره، فسأله القاضي عن سببه، فذكر ضيق خاتمه عليه وأنه ورم بسببه، فأشار عليه القاضي بقطع حلقة الخاتم قبل أن يتفاقم الأمر فيه، فاستدعى ظافرًا الحداد فقطع الحلقة، وأنشد بين يدي الوالي:
قصر عن أوصافك العالم
وكثر الناثر والناظم
مَن يكن البحر له راحة
يضيق عن خنصره الخاتم

فاستحسن الأمير الشعر، ووهب لظافر الحلقة، وكانت من الذهب، ويخيل إليَّ أن الأمير أراد أن يستوثق من شاعرية ظافر، وأن ظافرًا الحداد أدرك ما كان يجول بخاطر الأمير، فاغتنم فرصة وجود غزال مستأنس، قد ربض بين يدي الوالي، وجعل رأسه في حجره، فارتجل ظافر:

عجبت لجرأة هذا الغزال
وأمر تخطى له واعتمد
وأعجب به إذ بدا جاثمًا
وكيف اطمأن وأنت الأسد

فزاد الحاضرون في الاستحسان، وكأني بظافر وقد طمع في أن يعترف الحاضرون بسرعة بديهته، وقدرته على الارتجال، فقد التفت حوله في قاعة المجلس، فوجد شيئًا كان على الباب ليمنع الطير من دخولها، فأنشد:

رأيت ببابك هذا المنيف
شباكًا فأدركني بعض شك
وفكر فيما رأى خاطري
فقلت: البحار مكان الشبك٣٢
فهذه القصة إن دلَّتْ على شيء فإنما تدل على أن الشاعر كان على موهبة لنظم الشعر، وأن شعره طبيعي لا تكلُّفَ فيه، وأنه كان يرتجل الشعر ببديهته، مما جعل الناس في عصره يحبونه، ويعجبون به، وها هو ذا العماد الأصفهاني يحدِّثنا عنه بقوله: «ظافر بحظه من الفضل ظافر، يدل نظمه على أن أدبه وافر، وشعره بوجه الرقة والسلاسة سافر، وما أكمله لولا أنه من مداح المصري والله له غافر، حدَّاد لو أنصف لسُمِّي جوهريًّا، وكان باعتزائه إلى نظم اللآلي حريًّا، أهدى بروي شعره الروي للقلوب الصادية ريًّا، فيا له ناظمًا فصيحًا مفلقًا جريًا.»٣٣ ويُجمِع المؤرخون على أن شعر ظافر الحداد جُمِع في ديوان كبير، ولكن هذا الديوان فُقِد، ولم يبقَ من شعره إلا أبيات من قصائد.

من ذلك قوله:

لو كان بالصبر الجميل ملاذه
ما سح وابل دمعه ورذاذه
ما زال جيش الحب يغزو قلبه
حتى وَهَى وتقطعت أفلاذه
لم يبقَ فيه مع الغرام بقية
إلا رسيس يحتويه جذاذه
مَن كان يرغب في السلامة فليكن
أبدًا من الحدق المراض عياذه
لا تخدعنك بالفتور فإنه
نظر يضر بقلبك استلذاذه
يأيها الرشأ الذي من طرفه
سهم إلى حب القلوب نفاذه
در يلوح بفيك، من نظامه
خمر به قد جال من نباذه؟
وقناة ذاك القد كيف تقومت
وسنان ذاك اللحظ، ما فولاذه؟
رفقًا بجسمك لا يذوب فإنني
أخشى بأن يجفو عليه لاذه
هاروت يعجز عن مواقع سحره
وهو الإمام، فمَن ترى أستاذه؟
تالله ما علقت محاسنك امرأ
إلا وعَزَّ على الورى استنقاذه
أغريت حبك بالقلوب فأذعنت
طوعًا وقد أودى بها استحواذه
ما لي أتيت الحظ من أبوابه
جهدي فدام نفوره ولواذه
إياك من طمع المنى فعزيزه
كذليله وغنيه شحاذه

ومنها أيضًا:

دالية ابن دريد استهوى بها
قوم غداة نبت به بغداذه
دانوا لزخرف قوله فتفرَّقت
طمعًا بهم صرعاه أو جذاذه
من قدر الرزق السني لك إنما
قد كان ليس يضره إنفاذه٣٤

فمن هذه الأبيات وغيرها مما حُفِظ لنا من شعر ظافر نستدلُّ على أن شعره سهل طبيعي، ليس به تكلُّف غيره من الشعراء الذين كانوا يصنعون الشعر صناعة، وقد لاحَظَ العماد أن ظافرًا الحداد كان لحنة، واستشهد بقصيدته الزائية الشهيرة:

حكم العيون على القلوب يجوز
ودواؤها من دائهن عزيز
كم نظرة نالت بطرف ذابل
ما لا ينال الذابل المهزوز
فحذار من تلك اللواحظ غرة
فالسحر بين جفونها مكنوز
يا ليت شعري والأماني ضلة
والدهر يدرك صرفه ويجيز
هل لي إلى زمن تصرم عهده
سبب فيرجع ما مضى فأفوز
وأزور من ألف البعاد وحبه
بين الجوانح والحشا مركوز
ظبي يناسب في الملاحة شخصه
فالوصف حين يطول فيه وجيز
والبدر والشمس المنيرة دونه
فالحسن منه يروق والتمييز
لولا تثني خصره في ردفه
ما خلت إلا أنه مغروز
تجفو غلالته عليه لطافة
فبجسمه من جسمها تطريز
مَن لي بدهر كان لي بوصاله
سمجًا ووعدي عنده منجوز
والعيش مخضر الجناب أنيقه
ولأوجه اللذات فيه بروز
والماء يبدو في الخليج كأنه
أيم لسرعة سيره محفوز
والروض في حلل النبات كأنما
فرشت عليه ديابج وخزوز
والزهر يوهم ناظريه كأنما
ظهرت به فوق الرياض كنوز
فأقاحه ورق، وساقط طله
درر، ونور بهاره إبريز
وكأنما القمري ينشد مصرعًا
من كل بيت، والحمام يجيز
وكأنما الدولاب يزمر كلما
غنت، وأصوات الضفادع شيز
يا رب غانية أضر بقولها
أني بلفظة معدم منبوز
فأجبتها: ما عازني نيل الغنى
لكن مطالبة الحميد تعوز
ما خاب من هضم التفضل ماله
كرمًا ووافر عرضه محروز
فأخذ عليه العماد قوله: «عازني»، والصحيح: «أعوزني»، وأخذ عليه قوله: «تعوز» والصحيح: «تُعْوِز»، وأخذ عليه قوله: «محروز» والصواب: «محرز».٣٥ ولكن نسي العماد أن الشاعر مصري، وقد ذكرنا في أدب مصر الإسلامية صورًا من اللحن الذي وقع فيه كتَّاب مصر وشعراؤها، وقلنا: إن المصريين لا يراعون قواعد الصرف والنحو مراعاة إخوانهم في البلاد الإسلامية الأخرى لهذه القواعد، ونحن لا نستطيع أن نؤاخذ ظافرًا الحداد بهذه الألفاظ التي لم يراعِ فيها قواعد الصرف، فقد كان أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي مع معرفته، إذا أنشد بيتًا من الشعر لم يقم بإعرابه،٣٦ ومَن يتتبع شعراء مصر الإسلامية حتى عصرنا الحديث، فسيجد عدم عناية المصريين بهذه الناحية الهامة التي هي من مقومات الشعر.

ومهما يكن من شيء، فإن حياة ظافر الحداد غامضة؛ لعدم وجود ما يكشف عنها، وقد أجمع المؤرخون على أنه توفي سنة ٥٤٦ﻫ.

(٢) شعراء بني رزيك حتى آخِر الدولة الفاطمية

قُتِل الخليفة الظافر في المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة، فكتب خدَّام القصر إلى طلائع بن رزيك، وإلى قوص وأسوان والصعيد، يخبرونه بقتل الخليفة، ويستنجدونه على القاتل، وأرسل نساء القصر بشعورهن إليه، ولعب الشعر دورًا هامًّا في دعوة طلائع للأخذ بثأر الخليفة، فقد كانت قصيدة القاضي أبي المعالي عبد العزيز بن الحباب المعروف بالجليس، التي أرسلها إلى طلائع بن رزيك، من أشد الرسائل التي وصلت إليه أثرًا في نفسه، فطلائع كان شاعرًا مجيدًا، ويصفه ابن خلكان بقوله: «كان فاضلًا سمحًا في العطاء، سهلًا في اللقاء، محبًّا لأهل الفضائل، جيد الشعر، وقفت على ديوان شعره وهو في جزأين.»٣٧ ولذلك كان وقع القصيدة في نفسه أشد من وقع غيرها من الرسائل.

فمن هذه القصيدة قول الجليس:

دهتني عن نظم القريض عوادي
وشف فؤادي شجوه المتمادي
وأرق عيني والعيون هواجع
هموم أقضت مضجعي ووسادي
بمصرع أبناء الوصي وعترة النـَّ
ـبيِّ وآل «الذاريات» و«صاد»
فأين بنو رزيك عنهم ونصرهم
وما لهم من منعة وذياد
أولئك أنصار الهدى وبنو الردى
وسم العدا من حاضرين وباد
لقد هد ركن الدين ليلة قتله
بخير دليل للنجاة وهاد
تدارك من الإيمان قبل دثوره
حشاشة نفس آذنت بنفاد
وقد كاد أن يطفي تألق نوره
على الحق عاد من بقية عاد
فلو عاينت عيناك بالقصر يومهم
ومصرعهم لم تكتحل برقاد٣٨
جاء طلائع بن رزيك مع رجاله إلى القاهرة، واستولى على الوزارة، وإذا قلنا الوزارة فإنما نقصد أنه تولَّى الحكم الفعلي في البلاد، ولذلك لُقِّبَ بالملك الصالح، وقد أجمع المؤرخون الذين تحدَّثوا عنه على أنه كان يحب العلم والعلماء والشعر والشعراء، وقد رأينا قول ابن خلكان فيه، ونقل العماد عن خطبة ديوان الصالح: «فقد نشرت أيامه مطوي الهمم، وأنشرت رفات الجود والكرم، ونفقت بدولته سوق الآداب بعدما كسدت، وهبت ريح الفضل بعدما ركدت، إذا لها الملوك بالقيان والمعازف، كان لهوه بالعلوم والمعارف، وإن عمروا أوقاتهم بالخمر والقمر، كانت أوقاته معمورة بالنهي والأمر.»٣٩ ووصفه عمارة اليمني بقوله: «فكان مرتاضًا قد شم أطراف المعارف، وتميَّز عن أجلاف الملوك الذين ليس عندهم إلا خشونة مجردة، وكان شاعرًا يحب الأدب وأهله، ويكرم جليسه ويبسط أنيسه.»٤٠ ويروي عمارة قصة وفوده على مصر أول مرة، وكيف دخل متنكرًا في زي رسول من قِبَله على الأجل أبي الهيجاء صهر الملك الصالح، وطلب إليه أن يحمل عنه مئونة السجود عند السلام على الخليفة والوزير، فسأله أبو الهيجاء عن عمارة، فقال له: هو فقيه وعنده طرف من الأدب، فقال: تعني شاعرًا! قال: نعم. قال: هذه نقيصة في حقه. فلما كان في اليوم التالي استدعي أبو الهيجاء للغداء عند الصالح، فقال أبو الهيجاء: عندي رسول صاحب مكة، وكنت أظنه عاقلًا وإذا هو ناقص. فقال له الصالح: وبأي شيء عرفت نقصه؟ قال: لكونه يحسن شيئًا من هذا السحت الذي تعلمه أنت والجليس وابن الزبير. قال الصالح: لعله شاعر؟ قال: نعم. قال الصالح: هاته، هات الرجل. ثم أنشد:
إن الذي تكرهون منه
ذاك الذي يشتهيه قلبي٤١
فهذه القصة إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن الملك الصالح طلائع بن رزيك كان مولعًا بالشعر مقرِّبًا للشعراء، ومن عجب أن يجتمع في بلاطه أكبر أعيان أهل الأدب، مثل: الجليس، والموفق بن الخلال، وابن قادوس، والمهذب بن الزبير، والرشيد بن الزبير … وغيرهم الذين وصفهم عمارة بقوله: «وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانية والرياسة الإنسانية بأوفر نصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذَعي في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم.»٤٢ فهؤلاء الأعلام كانوا يجتمعون في مجلس الملك الصالح يتناشدون الشعر، ويتناظرون في بعض المسائل العلمية والأدبية، ويستمعون إلى شعر الملك الصالح، وفي ذلك يقول صاحب النجوم الزاهرة: «وجعل له مجلسًا في أكثر الليالي يحضره أهل الأدب، ونظَمَ هو شعرًا ودوَّنه، وصار الناس يهرعون إلى نقل شعره، وربما أصلحه له شاعر كان يصحبه، يقال له: ابن الزبير.»٤٣ ويظهر أن الملك الصالح كان ينشد القصيدة أو المقطوعة، ولكنه كان يعرض ما ينشده على المهذب بن الزبير، وعلى غير المهذب ممَّن كان يتوسَّم فيهم مقدرة وكفاية على تثقيف الشعر؛ إذ يحدِّثنا عمارة اليمني: «ودخلت إليه ليلة السادس عشر من رمضان، سنة ست وخمسين وخمسمائة قبل أن يموت بثلاث ليالٍ بعد قيامه من السماط، ولم أكن رأيته من أول الشهر بليلة، فأمر لي بذهب، وقال: لا تبرح. ودخل ثم خرج إليَّ وفي يده قرطاس قد كتب فيه بيتين من شعره عملهما في تلك الساعة، وهما:
نحن في غفلة ونوم وللمو
ت عيون يقظانة لا تنام
قد رحلنا إلى الحمام سنينًا
ليت شعري متى يكون الحمام؟
ثم قال لي: تأملهما وأصلحهما إن كان فيهما شيء. قلت: هما صالحان.»٤٤ فالملك الصالح كان يستعين بفحول الشعر في عصره لإصلاح شعره، وليس في ذلك ما ينقص من قدرته في الشعر، والمؤرخون يحدِّثوننا أن بعض فحول شعراء العرب كانوا يعرضون شعرهم على غيرهم من الشعراء، فمروان بن أبي حفصة شاعر هارون الرشيد الرسمي كان يعرض شعره على بشار بن برد، وكان البحتري يعرض شعره على أبي تمام، وكان أكثر الشعراء يعرضون شعرهم على الأصمعي أو غيره من اللغويين، فإذا كان الملك الصالح طلائع بن رزيك قد استعان بالمهذب أو بعمارة أو بغيرهما من شعراء ذلك العصر لإصلاح شعره، فإن ذلك يدلنا على أن هذا الوزير كان يعرف قيمة الشعر، فلم يستبِحْ لنفسه أن يعرض شعره على الناس قبل أن يتأكَّد من قوة هذا الشعر وصلاحه، ولكن ياقوت ذكر في معجم الأدباء في حديثه عن ابن الزبير: «وقيل إن أكثر الشعر الذي في ديوان الصالح إنما هو عمل المهذب بن الزبير.»٤٥ ولا أدري من أين استقى ياقوت هذا الخبر، وربما اشتبه عليه الأمر فظَنَّ أن ابن الزبير هو صاحب الشعر الذي في ديوان ابن رزيك بدلًا من أنه كان يثقف هذا الشعر، وقد انتهت إلينا قطعة من قصيدة لابن الزبير يتحدَّث فيها عن شعر الملك الصالح، منها:
ولنار فطنته تريك لشعره
عذبًا يروي غلة الظمآن
وعقود در لو تجسم لفظها
ما رصعت إلا على التيجان
وتنزهت عن أن يرى أفوادها
لمواضع الأقراط والآذان
من كل رائقة الجمال زهت بها
بين القصائد غرة السلطان
سيارة في الأرض لا يعتاقها
في سيرها قيد من الأوزان٤٦

فابن الزبير هنا يصف شعر الصالح بهذه الصفات، وإن كان ابن الزبير قد غالى في وصفه له، ولكنه كان يمدح صاحب الملك، ومهما يكن من شيء فإن المؤرخين أجمعوا على أن الملك الصالح كان مُكثِرًا من قول الشعر، حتى جُمِع شعره في ديوان من جزأين، ولكن الذي بقي لنا من هذه المجموعة مقطوعات صغيرة، من ذلك قوله يتغزل:

ومهفهف ثمل القوام سرت إلى
أعطافه النشوات من عينيه
ماضي اللحاظ كأنما سلت يدي
سيفي غداة الروع من جفنيه
قد قلت إذ خط العذار بمسكة
في خده ألفيه لا لاميه
ما الشعر دب بعارضيه وإنما
أهدابه نفضت على خديه
الناس طوع يدي وأمري نافذ
فيهم وقلبي الآن طوع يديه
فاعجب لسلطان يعم بعدله
ويجور سلطان الغرام عليه
والله لولا اسم الفرار وأنه
مستقبح لفررت منه إليه٤٧

ويحدثنا العماد في الخريدة أن أبا الحسن علي بن قيصر أنشد في الملك الصالح قصيدته التي أولها:

لا فرق بين خياله ووصاله
في سرد ماطله وفي تحقيقه

والتي منها:

والله ما للشمس في إشراقها
وضياء بهجته كبعض شروقه
لا تجعل الهجران بعض عقوبتي
فمكلف السلوان غير مطيقه
بلغ إلى الملك الهمام أمانة
تبليغها للحر من توفيقه
حتام حظي في الحضيض وإنه
في الفضل عند الناس في عيوقه
مثلي بمصر وأنت مالك رقه
مثل العقاب مفردًا في نيقه
ولقد أشاع الناس أنك في الورى
من ليس ينفق باطل في سوقه
أبطل بنور العقل سلطان الهوى
واعمل بكل الجهد في تطليقه

فأجابه الصالح بقصيدة منها:

نفق التأدب عندنا في سوقه
وبدا اليقين لنا بلمع بروقه
أهدى لي القاضي الفقيه عرائسًا
فيها بديع الوشي من تنميقه
فأجلت طرفي في بديع رياضه
من ورده وبهاره وشقيقه
فكأنما اجتمع الأحبة فانبرت
يد عاشق تهوي إلى معشوقه
أدب سعى منه إلى غاياته
وأتى فسد عليه مر طريقه
ولقد علمت بأن فضلك سابق
يعتد من جاراه من مسبوقه
فلذا اقتصرت ولم أر الإمعان في
شأو امرئ أصبحت غير مطيقه
وأرى الزمان جرى على عاداته
في جمعه طورًا وفي تفريقه
والشوق في قلبي تضرم وهجه
فمتى أراه يكف عن تحريقه
والدمع من عينيَّ سحَّ، فهل يرى
من بحره يومًا نجاة غريقه
نزهت في بستان نظمك ناظري
فحظيت من زهر الربا بأنيقه
أنت امرؤ من قال فيك مقالة الـ
ـغالي فكل الخلق في تصديقه
وأنا أرى تقديم حاجة صاحبي
من دون حاجاتي أقل حقوقه
وكذا الكريم فمهمل لأموره
لا مهمل أبدًا أمور صديقه
هذا النجاح فكل ما قد رمته
قد عمَّ فانظر منه في تحقيقه٤٨
وهكذا نستطيع من هذه المقطوعات التي بقيت لنا من شعر الصالح، أن ندرك أن الصالح كان من شعراء مصر الذين يهتمون بالمعاني أكثر من عنايتهم باللفظ، وأنه لم يكن من الشعراء الذين يكثرون من التشبيهات والاستعارات، ولكن التشبيهات تأتي في شعره بسيطةً عاديةً من غير تكلُّف ولا تصنُّع، ولم يكن الصالح شاعرًا فحسب، بل كان من علماء المذهب، ويقول المقريزي: إن له قصيدة سمَّاها الجوهرة في الرد على القدرية، وإنه صنَّف كتابًا سمَّاه: «الاعتماد في الرد على أهل العناد»، جمع له الفقهاء وناظَرَهم عليه، وهو كتاب يبحث في إمامة علي بن أبي طالب والأحاديث النبوية التي وردت فيه.٤٩ وتوفي الملك الصالح سنة ٥٥٦ﻫ، وتولى الوزارة بعده ابنه الملك الناصر رزيك بن الصالح، وكان شاعرًا مثل أبيه، ناقدًا للشعر عارفًا بجيده من رديئه، ويقول عمارة عنه: وأما فهمه فكان يعرف جيد الشعر، ويستحسنه، ويثيب عليه.٥٠

وفي رثاء عمارة للصالح ومدح الناصر قال:

لا يقولن جاهل بالقوافي
ذهب الناقد السميع البصير
فالمرجى أبو شجاع عليم
بمقادير أهلهن خبير٥١
ولكن عمارة أثنى عليه الثناء كله؛ لأن الناصر استخدم القاضي الفاضل، يقول عمارة: «ومن محاسن أيامه وما يؤرَّخ عنها، بل هي الحسنة التي لا توازى، واليد البيضاء التي لا تجازى: خروج أمره إلى والي الإسكندرية بتسيير القاضي الأجل الفاضل أبي علي عبد الرحيم بن علي البيساني إلى الباب واستخدامه.»٥٢ فكأن دقة إحساس الملك الناصر، وتذوُّقه للشعر والكتابة الفنية، ومعرفته للجيد من الشعر والنثر، جعلت الناصر يكتشف مواهب القاضي الفاضل الأدبية فيرفعه إلى مرتبة الخدمة في ديوان الجيش بالحضرة، ولولا ذلك لظلَّ القاضي الفاضل مغمورًا مثل كثير من الأدباء والشعراء الذين لم تُتَحْ لهم تلك الحظوة، فجهلهم الناس وغمطت مواهبهم. فلا غرو أن رأينا عمارة اليمني يرفع من شأن هذا الكشف ويعده «الحسنة التي لا توازى، واليد البيضاء التي لا تجازى»، ولو كان يعلم عمارة ما ستأتي به الأيام له، وموقف القاضي الفاضل منه، لجعل هذه اليد البيضاء سوداء، وتلك الحسنة سيئة.

لم تمهل الأيام الملك الناصر؛ إذ قُتِل سنة ٥٥٨ﻫ، وبموته بدأت المنازعات على الوزارة بين شاور وضرغام، وأدى الأمر إلى تدخُّل جيوش نور الدين زنكي في أمر هذه المنازعات، وإلى تدخُّل جيوش الصليبيين لاحتلال مصر، ثم إلى تولية أسد الدين شيركوه، ثم صلاح الدين الأيوبي الوزارة، إلى أن استطاع صلاح الدين أن يقضي على الدولة الفاطمية في المحرم سنة ٥٦٧ﻫ.

ومع هذه الاضطرابات والفتن التي كانت في مصر، لم ينسَ الوزراء الشعر والشعراء؛ فكان شاور يجلس ليستمع إلى مدائح الشعراء، وكان ضرغام ينقد شعر الشعراء، ويذكر عمارة أنه أنشد الوزير ضرغامًا قصيدة منها:

أوجبت في ذمة الأشعار والخطب
دينًا أبا حسن يبقى على الحقب
أيامك البيض لا تحصى، وأفضلها
يوم خصصت به في قاعة الذهب
وفيت للصالح الهادي وقد غدرت
به الصنائع من ناء ومقترب
فقال ضرغام: لو قلت «بعدت» كان أصلح من «غدرت». قلت: إنما أردت مقابلة الوفاء بالغدر. قال: وعلى مقابلتك تنسبنا إلى الغدر.٥٣ ولعل هذه القصة ترينا مقدار فهم ضرغام للشعر، ونفاذ بصيرته في نقده، وفي هذه الأيام العجاف التي أودت بالدولة الفاطمية توفي كبار شعراء العصر؛ فالجليس توفي سنة ٥٦١ﻫ، وفي هذه السنة عينها توفي المهذب بن الزبير، وتوفي الرشيد بن الزبير سنة ٥٦٢ﻫ، ولم يَعُدِ الشعراء يتكسبون كما كانوا يتكسبون من قبلُ؛ فقد ذكر عمارة أنه أنشد شاور قصيدة مدَحَه بها بعد طرد الصليبيين من بلبيس إبَّان وزارته الثانية، ومن هذه القصيدة:
أسمع بذا الفتح المبين وأبصر
واقصر عليه خطا الهناء وأقصر
فتح أضاء به الزمان كأنه
وجه البشير وغرة المستبشر
فتح يذكرنا وإن لم ننسه
ما كان من فتح الوصي لخيبر
فتح تولد يسره من عسرة
طالت، وأي ولادة لم تعسر
حملت به الأيام إلا أنها
وضعته تمًّا عن ثلاثة أشهر

ويقول فيها:

تلقاه أول فارس إن أقدمت
خيل، وأول راجل في العسكر
هانت عليه النفس حتى إنه
باع الحياة فلم يجد من يشتري
ضجر الحديد من الحديد وشاور
في نصر آل محمد لم يضجر
حلف الزمان ليأتين بمثله
حنثت يمينك يا زمان فكفر
يا فاتحًا شرق البلاد وغربها
يهنيك أنك وارث الإسكندر
يقول عمارة: وكانت هذه الأبيات أحد الأسباب التي قوَّت عزمي على الاستعفاء من عمل الشعر؛ لأن الناس فيما تقدَّم كانوا يغنون الشعراء بما ليس يفوقها جودةً.٥٤ وبالفعل عندما قابَلَ شاور بعد ذلك استعفاه عمارة من قول الشعر، وأمر أن ينقل الجاري على الخدمة راتبًا على حكم الضيافة؛ لأن التكسُّبَ بالشعر والتظاهر به أصبح نقيصة في حقه. فسأله شاور: فما منعك أن تستعفي في أيام الصالح وابنه؟ قال عمارة: كانت لي أسوة وسلوة بالشيخ الجليس بن الحباب وبابني الزبير الرشيد والمهذب، وقد انقرض الجيل والنظراء. قال: تعفى. ثم أمر بإنشاء سجل بإعفائه.٥٥ ومع ذلك لم يستطع عمارة ألا ينشد شعرًا في الحوادث التي كانت في هذه الأيام، ولا سيما عندما تولَّى صلاح الدين الأيوبي الوزارة، فقد أنشد عدة قصائد يهنِّئه فيها بانتصاره على الصليبيين، وبنصره لآل بيت الرسول، ويشبِّه جيوش صلاح الدين بأنصار النبي فهو يقول مثلًا:
لك الحسب الباقي على عقب الدهر
بل الشرف الراقي إلى قمة النسر
كذا فليكن سعي الملوك إذا سعت
بها الهمم العليا إلى شرف الذكر
نهضتم بأعباء الوزارة نهضة
أقلتم بها الأقدام من زلة العثر
كشفتم عن الإقليم غمته كما
كشفتم بأنوار الغنى ظلمة الفقر
حميتم من الإفرنج سرب خلافة
جريتم لها مجرى الأمان من الذعر
ولما استغاث ابن النبي بنصركم
ودائرة الأنصار أضيق من شبر
جلبتم إليه النصر أوسًا وخزرجًا
وما اشتقت الأنصار إلا من النصر
كتائب في جيرون منها أواخر
وأولها بالنيل من شاطئ مصر
طلعتم فأطلعتم كواكب نصرة
أضاءت مكان الدين ليلًا بلا فجر
وآبت إليكم يابن أيوب دولة
تراسلكم في كل يوم مع السفر
حمى الله فيكم عزمة أسدية
فككتم بها الإسلام من ربقة الأسر
أخذتم على الإفرنجي كل ثنية
وقلتم لأيدي الخيل مرِّي على «مرِّي»
لئن نصبوا في البر جسرًا فإنكم
عبرتم ببحر من حديد على الجسر
طريق تقارعتم عليها مع العدا
ففزتم بها والصخر يقرع بالصخر
وأزعجه من مصر خوف يلزه
كما لز مهزوم من الليل بالفجر
وكم وقعة عذراء لما اقتضضتها
بسيفك لم تترك لغيرك من عذر
وأيديكم بالبأس كاسرة العدا
ولكنها بالجود جابرة الكسر
أبوك الذي أضحى ذخيرة مجدكم
وأنت له خير النفائس والذخر
ومن كنت معروفًا له فاستفزه
بمثلك تيه فهو في أوسع العذر
توقره وسط النديِّ كرامة
وتحمل عنه ما يئود من الوقر
وتخلفه حربًا وسلمًا خلافة
تؤلف أضدادًا من الماء والجمر
وكم قمت في بأس وجود ورتبة
بما سره في الخطب والدست والثغر
ولو أنطق الله الجمادات لم تقم
لنعمتكم بالمستحق من الشكر
يد لا يقوم المسلمون بشكرها
لكم آل أيوب إلى آخر الدهر
بكم آمن الرحمن أعظم يثرب
وآمن أركان الثنية والحجر
ولو رجعت مصر إلى الكفر لانطوى
بساط الهدى من ساحة البر والبحر
ولكن شددتم أزره بوزارة
غدا لفظها يشتق من شدة الأزر
فهنيتم فتحًا تقدم حله
وبشر أن الكل يتلو على الإثر
وما بقيت في الشرك إلا بقية
تتمتها في ذمة البيض والسمر
وعند تمام الملك آتي مهنئًا
وملتمسًا أجر الكهانة والزجر
ولولا اعتقادي أن مدحك قربة
أرجى بها نيل المثوبة والأجر
لما قلت شعرًا بعد إعفاء خاطري
ولي سنوات منذ تبت عن الشعر
فأوصِ بي الأيام خيرًا فإنها
مصرفة بالنهي منك وبالأمر
وجائزتي: تسهيل إذني عليكم
وملقاكم لي بالطلاقة والبشر٥٦

ولما قُتِل شاور وتولى شيركوه ثم صلاح الدين الوزارة، وجدنا بعض الشعراء يعرضون في أشعارهم بالوزير المقتول، بل يهجونه أقبح هجاء، فالشاعر حسان عرقلة — ولم يكن مصريًّا، إنما وفد مع صلاح الدين إلى مصر، وأنشد شعرًا في الحوادث التي جرت في هذه الأوقات — قال لما قُتِل شاور وتولى شيركوه قال:

لقد فاز بالملك العظيم خليفة
له شيركوه العاضدي وزير
كأن ابن شاذي والصلاح وسيفه
على لديه شيبر وشبير
هو الأسد الضاري الذي جل خطبه
وشاور كلب للرجال عقور
بغى وطغى حتى لقد قال قائل
على مثلها كان اللعين يدور
فلا رحم الرحمن تربة قبره
ولا زال فيها منكر ونكير

وقال في قصيدة أخرى:

إن أمير المؤمنين الذي
مصر حماه وعليَّ أبوه
نص على شاور فرعونها
ونص موساها على شيركوه٥٧

وما كادت تدول هذه الدولة الفاطمية حتى انبرى شعراء الأيوبيين يمدحون ملوكهم، ويقدحون في الدولة الفاطمية ويرمونها بالكفر، وسنتحدث عن ذلك في كتابنا عن الأيوبيين، ويكفي أن نأتي الآن بمثال لهذه الأشعار، فقد قال أحد الشعراء يمدح الأيوبيين:

ألستم مزيلي دولة الكفر من بني
عبيد بمصر، إن هذا هو الفضل
زنادقة سبعية باطنية
مجوس وما في الصالحين لهم أصل
يسرون كفرًا، يظهرون تشيعًا
ليستتروا شيئًا وعمهم الجهل٥٨

وهكذا كان الأمر في الشعر لدى الوزراء، فالشعراء كانوا يلتمسون الأحداث ليمدحوا الوزراء ويتقربوا إليهم، حتى دالت الدولة الفاطمية.

المهذب بن الزبير

هو الحسن بن علي بن إبراهيم بن الزبير المعروف بالقاضي المهذب، كان من أهل أسوان من أصل عربي ينتمي إلى قبيلة غسان، وكان المهذب وأخوه الرشيد من أكبر شعراء ذلك العصر، رحَلَا من أسوان إلى القاهرة، وما زالا يرتقيان في مناصب الدولة حتى بلغا مرتبة القضاء وجالَسَا الوزراء والأمراء … أما المهذب فقد قدَّمَه القاضي الجليس إلى الملك الصالح طلائع بن رزيك، فحظي عنده، وحصل له من الملك مال جم، لم يَنَلْ غير المهذب منه أحد مثله، وأوفد المهذب في سفارة من مصر إلى بلاد اليمن، وهناك أُتِيحت له فرصة جمع كتب الأنساب، اتخذها مصدرًا لكتاب كبير صنَّفَه في عشرين مجلدًا هو «كتاب الأنساب»، اطَّلَع ياقوت الحموي على بعض أجزاء منه، فوصفه بقوله: «فوجدته مع تحقيقي هذا العلم، وبحثي عن كتبه، غاية في معناه لا مزيد عليه، يدل على جودة قريحة مؤلِّفه وكثرة اطلاعه، إلا أنه حذا فيه حذو أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، وأوجز في بعض أخباره عن البلاذري، إلا أنه إذا ذكر رجلًا ممَّن يقتضي الكتاب ذكره لا يتركه حتى يعرفه بجهده، من إيراد شيء من شعره وخبره.»٥٩ فجمع ابن الزبير بين العلم والشعر، وقد ذكرنا في حديثنا عن الملك الصالح أنه كان يعرض شعره على ابن الزبير لتقويمه وإصلاحه قبل عرضه على الناس، ووصف العماد شعره بقوله: «محكم الشعر كالبناء المشيد، وهو أشعر من أخيه، وأعرف بصناعته وإحكام معانيه … ولم يكن في زمانه أشعر منه، وله شعر كثير، ومحل في الفضائل أكثر.»٦٠ ووصف المهذب شعره مرة وهو يعرض بابن الصياد الملقب بالمفيد الشاعر:
فيا شاعرًا قد قال ألف قصيدة
ولكنها عن بيته ليس تبرح
ليهنك، لا هنيت، أن قصائدي
مع النجم تسري أو مع الريح تسرح

وقال مرة أخرى يمدح الوزير الصالح بن رزيك، وكان الوزير يغري الشعراء بعضهم ببعض، ويسر للاستماع إلى نقائض الشعراء وأهاجيهم:

يأيها الملك الذي أوصافه
غرر تجلت للزمان الأسفع
لا تطمع الشعراء فيَّ فإنني
لو شئت لم أجبن ولم أتخشع
إن لم أكن ملء العيون فإنني
بالقول يابن الصيد ملء المسمع
فليمسكوا عني فلولا أنني
أبقى على عرضي إذن لم أجزع
وأهم من هجوي لهم مدح الذي
رفع القريض إلى المحل الأرفع
ولو أنه ناجى ضميري في الكرى
طيف الخيال بريبة لم أهجع
وإذا بدا لي الهجر لم أر شخصه
وإذا يقال لي الخنا لم أسمع
والناس قد علموا بأني ليس لي
مذ كنت في أعراضهم من مطمع٦١

فنحن أمام شاعر عفِّ اللسان، محترم لنفسه بابتعاده عمَّا يعرضه إلى هجاء زملائه، وإذا عرض لأحد الشعراء فإنما يعرض له من ناحية واحدة هي ناحية فن الشعر، فقد كان المهذب شاعرًا من فحول شعراء العربية، ولا أغالي إذا قلتُ إن مصر الإسلامية منذ دخلها العرب، ومنذ عرفت الشعر العربي، لم تُنجِب من أبنائها شاعرًا له شاعرية المهذب، وقوة شعره، وحسن ديباجته، وقد وصلت إلينا عدة قصائد له تدلنا على ذلك كله، فمن ذلك قصيدته التي أرسلها إلى داعي اليمن عندما قبض على أخيه الرشيد، يمدحه ويستعطفه، حتى أطلق سراح أخيه، ففيها يقول:

يا ربع أين ترى الأحبة يمموا
هل أنجدوا من بعدنا أم أتهموا
رحلوا وقد لاح الصباح وإنما
يسري إذا جن الظلام الأنجم
وتعوضت بالأنس روحي وحشة
لا أوحش الله المنازل منهم
لولاهم ما قمت بين ديارهم
حيران أستاف الديار وألثم
أمنازل الأحباب؟ أين هم وأيـ
ـن الصبر من بعد التفرق عنهم؟
يا ساكني البلد الحرام وإنما
في الصدر مع شحط المزار سكنتم
يا ليتني في النازلين عشية
بمنى، وقد جمع الرفاق الموسم
فأفوز إن غفل الرقيب بنظرة
منكم إذا لبَّى الحجيج وأحرموا
إني لأذكركم إذا ما أشرقت
شمس الضحى من نحوكم فأسلم
لا تبعثوا لي في النسيم تحية
إني أغار من النسيم عليكم
إني امرؤ قد بعت حظي راضيًا
من هذه الدنيا بحظي منكم
فسلوت إلا عنكم وقنعت إلا
منكم وزهدت إلا فيكم
ورأيت كل العالمين بمقلة
لو ينظر الحساد ما نظرت عموا
ما كان بعد أخي الذي فارقته
ليبوح إلا بالشكاية لي فم
هو ذاك لم يملك علاه «مالك»
كلا ولا وجدي عليه «متمم»
أقوت مغانيه وعطل ربعه
ولربما هجر العرين الضيغم
ورمت به الأهوال همة ماجد
كالسيف يمضي عزمه ويصمم
يا راحلًا بالمجد عنا والعلا
أترى يكون لكم إلينا مقدم؟
يفديك قوم كنت واسط عقدهم
ما إن لهم مذ غبت شمل ينظم
لك في رقابهم وإن هم أنكروا
منن كأطواق الحمام وأنعم
جهلوا فظنوا أن بعدك مغنم
لما رحلت وإنما هو مغرم
فلقد أقر العين أن عداك قد
هلكوا ببغيهم وأنت مسلم
لم يعصم الله ابن معصوم من الآ
فات، واخترم اللعين الأخرم٦٢
واعتضت بعدهم بأكرم معشر
بدءوا لك الفعل الجميل وتمموا
فلعمر مجدك إن كرمت عليهم
إن الكريم على الكرام مكرم
أقيال بأس، خير من حملوا القنا
وملوك قحطان الذين هم هم
متواضعون ولو ترى ناديهم
ما اسطعت من إجلالهم تتكلم
وكفاهم شرفًا ومجدًا أنهم
قد أصبح الداعي المتوج منهم
هو بدر تم في سماء علاهم
وبنو أبيه بنو رويع أنجم
ملك حماه جنة لعفاته
لكنه للحاسدين جهنم
أثنى عليك بما مننت وأنت من
أوصاف مجدك يا مليكًا أعظم
فاغفر لي التقصير فيه وعده
مع ما تجود به علي وتنعم
مع أنني سيرت فيك شواردًا
كالدر بل أبهى لدى من يفهم
تغدو وهوج الذاريات رواكد
وتبيت تسري والكواكب نوم
وإذا المآثر عددت في مشهد
فبذكرها يبدا المقال ويختم
وإذا تلا الراوون محكم آيها
صلى عليك السامعون وسلموا
وكفى برأي إمام عصرك ناقضًا
ما أحكم الأعداء فيك وأبرموا٦٣

فهذه القصيدة تدلنا على أن الشاعر المهذب بن الزبير كان من الشعراء الذين أعادوا إلينا ذكرى الشعر العربي الرصين وإشراق ديباجته، وأنه كان من الشعراء الذين لم يخدعوا ببهرج اللفظ، ولم تبهرهم زينته، حقيقة قد ألَمَّ ببعض مقابلات بديعية، ولكنه لم يسرف فيها إسراف غيره من الشعراء الذين أعجبوا بالصنعة البديعية، فأفرطوا فيها إفراطًا جعلهم يخرجون الشعر عن طبيعته وسلامته، وأخَلُّوا بالمعنى في سبيل اللفظ. ولنأخذ مثلًا آخَر من قصيدة لهذا الشاعر في مدح الملك الصالح طلائع بن رزيك؛ لنستدل بها على أن فن الشاعر قريب من فن شعراء فحول الأمويين والعباسيين:

أقصر فديتك عن لومي وعن عذلي
أو، لا فخذ لي أمانا من يد القتل
من كل طرف مريض الجفن تنشدنا
ألحاظه «رب رامٍ من بني ثعل»
إن كان فيه لنا، وهو السقيم، شفا
«فربما صحت الأجسام بالعلل»
إن الذي في جفون البيض إذ نظرت
تطريًا في جفون البيض والخلل
كذاك لم يشتبه في القول لفظهما
إلا كما اشتبها في الفعل والعمل
وقد وقفت على الأطلال أحسبها
جسمي الذي بعد بُعد الظاعنين بلي
أبكي على الرسم في رسم الديار فهل
عجبت من طلل يبكي على طلل
وكل بيضاء لو مست أناملها
قميص يوسف يومًا قُدَّ من قُبُلِ
تغني من الدر والياقوت لبستها
لحسنها فلها حلي من العطل
بالخد مِنِّي آثار الدموع كما
لها على الخد آثار من القُبَلِ
كأن في سيف سيف الدين عن خجل
من عزمه ما به من حمرة الخجل
هو الحسام الذي يسمو بحامله
زهوًا فيفتك بالأسياف والدول
إذا بدا عاريًا من غمده خلعت
غمد الدماء عليه هامة البطل
وإن تقلد بحرًا من أنامله
رأيت كيف اقتران الرزق بالأجل
من السيوف التي لاحت بوارقها
في أنمل هي سحب العارض الهطل

ومنها:

أفارس المسلمين اسمع فلا سمعت
أعداك غير صليل البيض في القلل
مقال ناء غريب الدار قد عدم الـ
أنصار لولاك لم ينطق ولم يقل
يشكو مصائب أيام قد اتسعت
فضاق منها عليه أوسع السبل
يرجوك في دفعها بعد الإله وقد
يرجى الجليل لدفع الحادث الجلل
فما تخاف الردى نفس وكم رضيت
بالعجز خوف الردى نفس فلم تبل
إني امرؤ قد قتلت الدهر معرفة
فما أبيت على بأس ولا أمل
إنْ يروِ ماء الصبا عودي فقد عجمت
مني طروق الليالي عود مكتهل
تجاوزت بي مدى الأشياخ تجربتي
قدمًا وما جاوزت بي سن مقتبل
وأول العمر خير من أواخره
وأين ضوء الضحى من ظلمة الأصل
دوني الذي ظن أني دونه فله
تعاظم لينال المجد بالجبل
والبدر يعظم في الأبصار صورته
ظنًّا ويصغر في الأفهام عن زحل
ما ضر شعري أني ما سبقت إلا
أجاب دمعي وما الداعي سوى ظلل
فإن مدحي لسيف الدين تاه به
زهوًا على مدح سيف الدولة البطل٦٤

ولعلك تلاحظ في هذه القصيدة كيف ضمن الشاعر في البيت الثاني إشارةَ امرئ القيس إلى بني ثعل، وقول امرئ القيس:

رب رامٍ من بني ثعل
مخرج كفيه من ستره

وكيف ضمن ابن الزبير في البيت الثالث عجز بيت للمتنبي من قوله:

لعل عتبك محمود عواقبه
فربما صحت الأجسام بالعلل

والشاعر في هذه القصيدة، بل في كل قصائده التي وصلت إلينا من ديوانه الذي فُقِد، يُظهِر شاعرية فحول الشعراء، تلك الشاعرية الطبيعية التي يصدر عنها هذا الشعر الجزل الرصين الذي لا نجد له مثيلًا بين شعر مصر الفاطمية، ولعل ذلك يرجع إلى أن المهذب بن الزبير لم ينشأ في القاهرة أو الفسطاط، ولكنه نشأ في أسوان، وتطَبَّع هناك بالبيئة التي أحاطت به، فهي محافظة أكثر من بيئة القاهرة، وهي إلى البداوة أقرب؛ لبُعْدها أولًا عن بقية بلاد القطر، ولبيئتها الجغرافية التي جعلت منها بلدًا يتميَّز بجو خاص، وتربة هي مزيج من أقسام صحراوية وأخرى صخرية وثالثة خصبة، فالذين يعيشون في هذا البلد أو ينشئون فيه يمتازون بأنهم أقرب إلى البداوة منهم إلى الحضر، فلعل هذا هو السبب في أن شعر المهذب وشعر أخيه الرشيد رصين جزل، لا نجد فيه طراوة شعر أهل القاهرة والفسطاط، ولا نعومة شعر الأمير تميم أو إبراهيم الرسي أو حيدرة العقيلي، ولا شعبية شعر ظافر الحداد.

أُصِيب هذا الشاعر في أواخر أيامه إبَّان وزارة شاور بمحنة كان بريئًا منها؛ فقد حبسه شاور ظلمًا بسبب اتصال أخيه الرشيد بصلاح الدين يوسف بن أيوب إبَّان حصار الإسكندرية، فأخذ المهذب يستعطف شاور، ويرسل إليه الأشعار في مدح ابنه الكامل بن شاور، فمن ذلك قوله:

إذا أحرقت في القلب موضع سكناها
فمَن ذا الذي من بعد يكرم مثواها
وإن نزفت ماء العيون بهجرها
فمن أي عين تأمل العيس سقياها
وما الدمع يوم البين إلا لآلئ
على الرسم في رسم الديار نثرناها
وما أطلع الزهر الربيع وإنما
رأى الدمع أجياد الغصون فحلاها
ولما أبان البين سر صدورنا
وأمكن فيها الأعين النجل مرماها
عددنا دموع العين لما تحدرت
دروعًا من الصبر الجميل نزعناها
ولما وقفنا للوداع وترجمت
لعيني عما في الضمائر عيناها
بدت صورة في هيكل فلو أننا
ندين بأديان النصارى عبدناها
وما طربًا صغنا القريض وإنما
جلا اليوم مرآة القرائح مرآها
ليالي كانت في ظلام شبيبتي
سراي وفي ليل الذوائب مسراها
تأرج أرواح الصبا كلما سرى
بأنفاس ريا آخِر الليل رياها
ومهما أدرنا الكأس باتت جفونها
من الراح تسقينا الذي قد سقيناها

ومنها:

ولو لم يجد يوم الندى في يمينه
لسائله غير الشبيبة أعطاها
فيا ملك الدنيا وسائس أهلها
سياسة مَن قاس الأمور وقاساها
ومَن كلف الأيام ضد طباعها
فعاين أهوال الخطوب فعاناها
عسى نظرة تجلو بقلبي وناظري
صداه فإني دائمًا أتصداها٦٥

فأطلقته هذه الأشعار من سجنه، واصطنعه الكامل بن شاور لنفسه.

وكان المهذب مثل أخيه الرشيد يذم الزمان، ويتألَّم لأخلاق الناس حوله، فهم سواسية في اللؤم، وكان يتطلع إلى المجد، فهو يفخر بنفسه، ويفخر بشعره، فهو يقول في إحدى قصائده:

تشابه الناس في خلق وفي خلق
تشابه الناس والأصنام في الصور
ولم أبت قط من خلق على ثقة
إلا وأصبحت من عقلي على غرر
لا تخدعني بمرئيٍّ ومستمع
فما أصدِّق لا سمعي ولا بصري
وكيف آمن غيري عند نائبة
يومًا إذا كنت من نفسي على حذر
تأبى المكارم والمجد المؤثل لي
من أن أقيم وآمالي على سفر
إني لأشهر في أهل الفصاحة من
شمس، وأسير في الآفاق من قمر
وسوف أرمي بنفسي كل مهلكة
تسري بها الشهب إن سارت على خطر
إما العلا وإليها منتهى أملي
أو الردى فإليه منتهى البشر٦٦

ويقول مرة أخرى:

ومن نكد الأيام أني كما ترى
أكابد عيشًا مثل دهري أنكدا
أمنت عداتي ثم خفت أحبتي
لقد صدقوا إن الثقات هم العدا٦٧

وقد توفي هذا الشاعر سنة ٥٦١ﻫ.

القاضي الرشيد بن الزبير

أما ثاني المهذبين الأخوين الشاعرين، فهو أحمد بن علي بن إبراهيم بن الزبير الغساني، وكان الرشيد أعلم من أخيه، وأخوه أشعر منه، فقد ضرب الرشيد بسهم وافر في الفقه واللغة والنحو والتاريخ والمنطق والهندسة والطب والموسيقى والنجوم، كما كان جيد النثر، وله تصانيف منها: كتاب «منية الألمعي، وبلغة المدعي»، وكتاب المقامات، ولعل أشهر تصانيفه هو كتاب: «جنان الجنان، وروضة الأذهان» الذي تحدَّثَ فيه عن شعراء مصر ومَن طرأ عليها، وجعله ذيلًا على يتيمة الدهر للثعالبي، وهو الكتاب الذي أخذ عنه العماد الأصفهاني أكثر مادة القسم الخاص بمصر من كتابه الخريدة. وللرشيد عدة كتب أخرى منها كتاب «الهدايا والطرف»، وكتاب «شفاء الغلة في سمت القبلة»، ومجموعة رسائله، وديوان شعره، فهو على هذا النحو عالم شاعر أفاد المصريين وغيرهم، ويحدِّثنا العماد أن محمد بن عيسى اليمني أخذ عن الرشيد باليمن علم الهندسة،٦٨ ولكن الرشيد عُرِف بالشعر أكثر مما عُرِف بهذه العلوم، حتى قيل: إن سبب تقدُّمه في الدولة أنه جاء القاهرة بعد مقتل الخليفة الظافر، وحضر المأتم مع الشعراء، فقام آخِرهم وأنشد قصيدته التي مطلعها:
ما للرياض تميل سكرًا
هل أسقيت بالمزن خمرَا

إلى أن وصل إلى قوله:

أفكر بلاءٌ بالعراق
وكربلاء بمصر أخرى

فضج القصر بالبكاء، وانثالت عليه العطايا، ومن ثَمَّ بدأت صلته بالقصر والوزراء، ثم أوفد مبعوثًا إلى اليمن، ولا ندري الأمر الذي من أجله أُوفِد إليها، وإن كان صاحب كتاب «الفترات والترانات» يشير إلى أن الرشيد لم يكن رشيدًا في بعثته، ولعل هذه إشارة إلى ما رُوِي أن الرشيد قُلِّد قضاء اليمن ولُقِّب هناك «بقاضي قضاة اليمن وداعي دعاة الزمن»، وأنه مكث هناك عامين فقيل: إنه مدح الأمير علي بن حاتم الهمداني بقصيدة منها:

لقد أجدبت أرض الصعيد وأقحطوا
فلست أنال القحط في أرض قحطان
وقد كفلت لي مأرب بمآربي
فلست على أسوان يومًا بأسوان
وإن جهلَتْ حقي زعانف خندف
فقد عرفَتْ فضلي غطارف همدان

فحسده داعي عدن، وكتب بهذه الأبيات إلى مصر، فكانت هذه الأبيات سببًا في غضب أولي الأمر بمصر عليه، كما غضب أولو الأمر بعدن، فأُخِذ الرشيد وحُبِس ثم صُفِح عنه، وقيل: بل إن السبب غير ذلك، وذلك أن نفسه سمت إلى مرتبة الخلافة في اليمن فسعى فيها، وأجابه قوم وسلم عليه بها، وضُرِبت له السكة فنقش على وجهٍ: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصَّمَدُ، وعلى الوجه الآخَر: «الإمام الأمجد أبو الحسن أحمد»، فقُبِض عليه وأُرسِل إلى مصر مكبَّلًا ثم أُفرِج عنه، ولعل الرواية الأولى أصحَّ من الثانية، فإن الرشيد وقد علمنا ما كان عليه من علم وعقل، لا يبلغ به الأمر إلى أن يدَّعِي الإمامة في الوقت الذي أنكرت فيه إمامة الحافظ والفائز والظافر والعاضد، ودُعِي فيه للإمام المستور ولقائم القيامة، ثم إن مركز الدعوة للإمام المستور انتقل من مصر إلى اليمن منذ مقتل الآمر بأحكام الله، فكيف يدَّعِي الرشيد الإمامة في اليمن، وجميعهم يعرفون شروط الإمامة، وأهمها: أن يكون الإمام من نسل النبي، وأن يكون الإمام قبله قد نصَّ عليه، ولعل القائمين بأمر مصر في ذلك الوقت لم يكونوا من الغباء والبله لدرجة العفو عن مثل هذا الرجل الدعي، ولا سيما في إبَّان حكم الملك الصالح طلائع بن رزيك، وقد عرفناه من أشد وزراء ذلك العصر تعصُّبًا للمذهب والإمامة، لهذا كله أرى أن الرشيد إنما أُمسِك وسُجِن بسبب حقد داعي عدن عليه. وقد رأينا قصيدة أخيه المهذب التي أرسل بها إلى داعي اليمن حينما قبض على الرشيد؛ فلم نجد في هذه القصيدة إشارةً إلى ادعاء الرشيد الخلافة، وقد علم الرشيد بأمر هذه القصيدة فأجاب أخاه بقصيدة هي:

يا ربع، أين ترى الأحبة يمموا
رحلوا، فلا خلت المنازل منهم
وسروا، وقد كتموا الغداة مسيرهم
وضياء نور الشمس ما لا يكتم
وتبدلوا أرض العقيق من الحمى
روت جفوني أي أرض يمموا
نزلوا العذيب، وإنما في مهجتي
نزلوا، وفي قلب المتيم خيموا
ما ضرهم، لو ودَّعوا مَن أودعوا
نار الغرام، وسلموا مَن أسلموا
هم في الحشا إن أعرقوا أو أشأموا
أو أيمنوا أو أنجدوا أو أتهموا
وهم مجال الفكر من قلبي، وإن
بعد المزار فصفو عيشي معهم
أحبابنا، ما كان أعظم هجركم
عندي، ولكن التفرق أعظم
غبتم فلا والله ما طرق الكرى
جفني ولكن سح بعدكم الدم
وزعمتم أني صبور بعدكم
هيهات لا لقيتمُ ما قلتم
وإذا سئلت بمَن أهيم صبابة
قلتُ: الذين هم الذين هم هم
النازلين بمهجتي وبمقلتي
وسط السويدا والسواد الأكرم
لا ذنب لي في البعد أعرفه سوى
أني حفظت العهد لمَّا خنتم
فأقمت حين ظعنتم، وعدلت لمـَّ
ـا جرتم، وسهرت لما نمتم
يا محرقًا قلبي بنار صدودهم
رفقًا ففيه نار شوق تضرم
أسعرتم فيه لهيب صبابة
لا تنطفي إلا بقرب منكم
يا ساكني أرض العذيب سقيتم
دمعي إذا ضن الغمام المرزم
بعدت منازلكم وشط مزاركم
وعهودكم محفوظة مذ غبتم
لا لوم للأحباب فيم قد جنوا
حكمتهم في مهجتي فتحكموا
أحباب قلبي أعمروه بذكركم
فلطالما حفظ الوداد المسلم
واستخبروا ريح الصبا تخبركم
عن بعض ما يلقى الفؤاد المغرم
كم تظلمونا قادرين وما لنا
جرم ولا سبب، لمن نتظلم؟
ورحلتم وبعدتم وظلمتم
ونأيتم وقطعتم وهجرتم
هيهات لا أسلوكم أبدًا وهل
يسلو عن البيت الحرام المحرم؟
وأنا الذي واصلت حين قطعتم
وحفظت أسباب الهوى إذ خنتم
جار الزمان عليَّ لما جرتم
ظلمًا ومالَ الدهرُ لمَّا ملتم
وغدوت بعد فراقكم وكأنني
هدف يمر بجانبيه الأسهم
ونزلت مقهور الفؤاد ببلدة
قلَّ الصديق بها وقلَّ الدرهم
في معشر خلقوا شخوص بهائم
يصدَى بها فكر اللبيب ويبهم
إن كورموا لم يكرموا، أو علموا
لم يعلموا، أو خوطبوا لم يفهموا
لا تنفق الآداب عندهم ولا الـ
إحسان يعرف في كثير منهم
صم عن المعروف حتى يسمعوا
هجر الكلام فيقدموا ويقدموا
فالله يغني عنهم ويزيد في
زهدي لهم ويفك أسري منهم٦٩

فهذه القصيدة التي أجاب بها عن قصيدة أخيه، والتي قالها الرشيد وهو أسير في اليمن، تؤيِّد ما ذهبنا إليه من أن قصة دعوته الإمامة لنفسه، إنما هي قصة موضوعة، فالرشيد لم يُشِرْ إليها ولم يعتذر عنها، وإنما يتحدَّث عن أعدائه الذين لم يقدِّروا شعره، فلم تنفق الآداب عندهم، ولم يقدِّروا إحسانه إليهم، فهم صم عن المعروف، وهم «شخوص بهائم». فالرشيد لم يكن بالرجل الذي يطلب الإمامة لنفسه، ثم يقول مثل هذا القول.

كان الرشيد كما وصفه ياقوت: على جلالته وفضله ومنزلته من العلم والنسب، قبيحَ المنظر، أسود الجلدة، جهم الوجه، سمج الخلقة، ذا شفة غليظة وأنف مبسوط كخلقة الزنوج قصيرًا،٧٠ فكان ذلك سببًا في تهكُّم شعراء مصر به، فقد قيل: إن الرشيد ولي على المطبخ، فقال الشريف الأخفش يخاطب الملك الصالح بن رزيك:
يولي على الشيء أشكاله
فيصبح هذا لهذا أخَا
أقام على المطبخ ابن الزبير
فولى على المطبخ المطبخَا٧١

ومما يُروَى في ذلك أنه اجتمع ليلة عند الملك الصالح هو وجماعة من الشعراء والفضلاء؛ فألقى الصالح مسألة في اللغة، فلم يجب عنها بالصواب سوى الرشيد؛ فأُعجِب به الصالح، فقال الرشيد: ما سُئِلت قطُّ عن مسألة إلا وجدتني أتوقد فهمًا. فارتجل الشاعر ابن قادوس:

إن قلت: من نار خلقـ
ـت، وفُقْتُ كل الناس فهمَا
قلنا: صدقتَ، فما الذي
أطفاك حتى صرتَ فحمَا

وهجاه ابن قادوس مرة أخرى بقوله:

يا شبه لقمان بلا حكمة
وخاسرًا في العلم لا راسخَا
سلخت أشعار الورى كلها
فصرتَ تدعى الأسود السالخَا

وتروى عنه قصة هي أشبه بقصة الجاحظ مع المرأة التي أرادت نقش صورة الشيطان على الخاتم، ولعل سواده ودمامته وقِصَره كانت من الأسباب التي جعلته يكثر من ذم الدهر والناس، وأن يظهر في شعره سمة حزن لعدم وفاء الإخوان وغدرهم به، فقد أنشد وهو في اليمن:

لئن خاب ظني في رحابك بعد ما
ظننت بأني قد ظفرت بمنصف
فإنك قد قلدتني كل منة
ملكت بها شكري لدى كل موقف
لأنك قد حذرتني كل صاحب
وأعلمتني أن ليس في الأرض مَن يفي٧٢

وأنشد مرة أخرى وهو في مصر:

تواصى على ظلمي الأنام بأسرهم
وأظلم مَن لاقيت أهلي وجيراني
لكل امرئ شيطان جن يكيده
بسوء، ولي دون الورى ألف شيطان٧٣

اتصل الرشيد بن الزبير بآل رزيك ثم بالوزير شاور وابنه، ولي سنة ٥٥٩ﻫ النظر على الدواوين السلطانية بالإسكندرية، ثم اتصل بصلاح الدين الأيوبي أثناء محاصرته الإسكندرية، فكان ذلك سبب غضب شاور عليه، فاختفى الرشيد بالإسكندرية، وفي أيام اختفائه أرسل إليه ابن قلاقس هذه الأبيات:

تدانيت دارًا والوصول نسوع
فخلك ذو الود الوصول قطوع
حجبت ولم تحجب محاسنك التي
تأنق منها يا غمام ربيع
وضيعت في صون فضعت وهكذا
يصان فتيت المسك وهو يضوع
وإنك والبيت الذي قد عمرته
لكالقلب قد ضمت عليه ضلوع
وما أنت إلا العضب لازم جفنه
لينضى بكف إذ يروق يروع
سيفتق عن زهر بديع كمامه
فما ذاك من صنع الإله بديع
وتسفر عن صبح شريق دجنة
ولا سيما قد كان منه طلوع
كأني بها يابن الكرام مغيرة
لها فوق هاتيك الربوع ربوع
بحيث تريك البر كالبحر ذبل
وبيض، وبيض أشرقت ودروع
وفرسان حرب لا البعيد عليهم
بعيد، ولا العالي الرفيع رفيع
بذلك لا تعجب فإني قائل
وإنك في الشهر الأصم سميع٧٤

وظلَّ الرشيد مختفيًا إلى أن قُبِض عليه، وأُشهِر على جملٍ وعلى رأسه طرطور، ووراءه مَن ينال منه، فكان الرشيد ينشد وهو على هذه الحال:

إن كان عندك يا زمان بقية
مما تهين به الكرام فهاتِها

ثم صُلِب شنقًا ودفن حيث شُنِق، ومن غريب الاتفاق أن يُدفَن شاور بعد أيام قليلة في نفس المكان الذي دُفِن فيه الرشيد. ورثى الجليس بن الحباب صديقه الرشيد بقوله:

ثروة المكرمات بعدك فقر
ومحل العلا ببعدك قفر
بك تجلى إذا حللت الدياجي
وتمر الأيام حيث تمر
أذنب الدهر في مسيرك ذنبًا
ليس منه سوى إيابك عذر٧٥

القاضي الجليس

هو أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين بن الحباب المعروف بالقاضي الجليس السعدي، ولُقِّبَ بأمين الدين،٧٦ وهو أحد الشعراء الثلاثة الذين كان يقتدي بهم عمارة اليمني في مدح الملك الصالح طلائع بن رزيك، والاثنان الآخَران هما ابنا الزبير المهذب والرشيد، ولكن يُخيَّل إليَّ أن الجليس كان أقل الثلاثة جودةً في الشعر، وأقلهم إنتاجًا في القريض، وربما كان عمله في ديوان الإنشاء مع الموفق بن الخلال أيام الفائز،٧٧ جعله لا يهتم بالشعر اهتمام زميليه ابني الزبير، وقد رأينا كيف كانت قصيدته في استدعاء الملك الصالح من الصعيد للأخذ بثأر الخليفة الظافر، والقدماء يذكرون أن الجليس له المعاني المبدعة في شعره، ومثَّلوا لذلك بقوله:
ومن عجب أن الصوارم في الوغى
تحيض بأيدي القوم وهي ذكور
وأعجب من ذا أنها في أكفهم
تأجج نارًا والأكف بحور٧٨

ولا أدري ما الذي أعجب القدماء في هذه الصورة التي أتى بها في البيت الأول، فإني لا أعجب بها كإعجاب القدماء، وإن كنتُ أعجب بالبيت الثاني، ومن مقطوعاته التي حُفِظت لنا قوله يتهكم بطبيب:

وأصل بليتي من قد غزاني
من السقم الملح بعسكرين
طبيب طبه كغراب بين
يفرق بين عافيتي وبيني
أتى الحمى وقد شاخت وباخت
فعاد لها الشباب بنسختين
ودبرها بتدبير لطيف
حكاه عن سنان أو حنين
وكانت نوبة في كل يوم
فصيَّرها بحذق نوبتين٧٩

ثم قوله في مدح طبيب:

يا وارثًا عن أب وجد
فضيلة الطب والسداد
وحاملًا رد كل نفس
همت عن الجسم بالبعاد
أقسم لو قد طببت دهرًا
لعاد كونًا بلا فساد٨٠
وكان الجليس من كبار رجال الدولة، ولُقِّبَ بالجليس لأنه كان جليس الخلفاء مقرَّبًا إليهم، فلا غرو أن رأينا شعراء عصره يلوذون به، وينشدونه مدائحهم فيه،٨١ فقد مدحه ابن قلاقس بعدة قصائد منها قوله:
عفا طربي إلى عافي الرسوم
فلا روى الغمام ربى الغميم
وكنت أبا المنازل والفيافي
فصرت أخا المدامة والنديم
أميل إلى سلافة بنت كرم
وأدنو من سوالف أم ريم
هدتنا للسرور نجوم راح
بها قذفت شياطين الهموم
وكف الصبح يلقط ما تبدى
بجيد الليل من درر النجوم
فإن توجت راحي كأس راح
فشرب الإثم أولى بالأثيم
ولما أقفرت أوكار وفري
عمرت بعزمتي أكوار كومي
إلى القاضي الجليس استنجدتها
أزمة نجدة وحداة خيم
فقال لها لسان الدهر: هذا
تمام الفضل أودع في تميم
تقسم بين شمس ضحى وبحر
هداية قاصد، وغني عديم
وجلى ظلمتي خطب وجدب
برأي مجرب وندى عميم
وملك حاسديه فجاذبته
خلائقه إلى الطبع الكريم
عجبت لوجهه ولراحتيه
سنا شمس تبدى في غيوم
ومطَّلب مداه كبا فقلنا
أليم العيش أولى باللئيم
وقافية أهز بها إذا ما
نطقت معاطف الطرب الرميم
تسير وإن أقام بها ثناه
وأعجب ما ترى سفر المقيم٨٢

ومدحه رضي الدولة أبو سليمان داود بن مقدام، الذي أنشد قصيدة في وصف حاله ومدح فيها الجليس، ومنها:

وقد بكرت تلوم على خمولي
كأن الرزق يجلبه خيالي
تقدر أنني بالحرص أحوي الثـ
ـراء وذاكم عين المحال
تقول إذا رأت إرشاد قولي
هبلت ألا تهب إلى المعالي
ومن لم يعشق الدنيا قديمًا
ولكن لا سبيل إلى الوصال
ولو أدليت دلوك في دلاء
متحت به من الماء الزلال
وكم أدليت من دلو ولكن
بلا بلل يرد على قذالي
ولا أنا بالكفاف النزر راضٍ
ولا أنا عن طلاب الكثر سال
ولكن ذاك من قبل اعتمادي
على عبد العزيز أبي المعالي٨٣

كما مدحه الشاعر عمارة اليمني بعدة قصائد.

ولكن الشاعر أبا القاسم هبة الله بن البدر المعروف بابن الصياد كان مولعًا بهجاء القاضي الجليس، كثير التهكم بأنفه الكبير، حتى قيل: إن ابن الصياد أنشد أكثر من ألف مقطوعة في أنف الجليس،٨٤ إلى أن انتصر له الشاعر أبو الفتح بن قادوس الذي هجا ابن الصياد بقوله:
يا مَن يعيب أنوفنا الشـ
ـم التي ليست تعاب
الأنف خلقة ربنا
وقرونك الشم اكتساب٨٥
وتوفي الجليس سنة ٥٩١ﻫ قبل المهذب بن الزبير بشهر واحد، وقيل إنه لما مات ابن الحباب شمت به المهذب، ومشى في جنازته بثياب مذهبة، فاستقبح الناس فعله ونقص بهذا السبب،٨٦ ورثى الجليس عددٌ من الشعراء منهم ابن قلاقس، فمن قوله يرثي الجليس، ويمدح ابنيه:
علمنا، وقد مات الكمال، التساويا
فيا حسنات الدهر عدن مساويَا
وقمنا نرجي في المصاب مواسيا
فأعوزنا لما عدمنا موازيَا
ومما شجا أن المعالي تجدلت
ولم تنتصر فيها الكماة العواليَا
سألت فقالوا: مصرع لو علمته
فأيقنت لكني خدعت فؤاديَا
فحين احتوت كف المنون على المنى
تقلص عن يأسي جناح رجائيَا
ومن يسأل الركبان عن كل غائب
فلا بد أن يلقى بشيرًا وناعيَا
ولما سرى بي نحوه الوجد قاعدًا
ولم أستطع عقرًا عقرت القوافيَا
وسيرت منها بالنوادي نوادبَا
شوائد بالذكر الجميل شواديَا
وعضب جدال فلل الدهر حده
وما كان إلا قاضب الحد قاضيَا
ونور هدى أسرى به خابط الهدى
فلما خبت أضواؤه عاش عاشيَا
لمنعاه قام الرعد بالجو نائحًا
وبالبرق ملطومًا وبالغيث باكيَا
وأسلبت الظلماء نور غدائر
إلى أن أشاب الصبح منها النواصيَا
تخرمه الدهر المخاتل صائدًا
فخلف حتى الري في الماء صاديَا
ولو رامه شاكي السلاح محسدًا
لراح كما لا يشتهي عنه شاكيَا
وهيهات جر الدهر من قبل «جرهمًا»
وشد على «عاد» و«شداد» عاديَا
وكدر ندماني «جذيمة» بعد ما
أقاما زمانًا يشربان التصافيَا
جليس أمير المؤمنين أقمتها
لفقدك فاسمع صالحات بواقيَا
وقد كنت أجلوها عليك تهانئًا
فوا أسفًا كيف استحالت تعازيَا
ولولا سليلاك اللذان توارثا
حلاك ملأت الخافقين مراثيَا
هما ألبساني عنك ثوب تصبر
وأعلاق قلبي باقيات كما هيَا
سقى الرائح الغادي ضريحك صوبه
وإن كان يسقي الرائحات الغواديَا
ولا برحت فيك القلوب عقيرة
تسيل بأسراب الدماء المآقيَا٨٧

عمارة اليمني

هو الشاعر الذي يقرن اسمه بأسماء فحول شعراء العصر الفاطمي، بالرغم من أنه لم يكن مصريًّا، ولكنه وفد على مصر في ربيع الأول سنة ٥٥٠ﻫ برسالة من أمير مكة قاسم بن هاشم، فأدخل عمارة قاعة الذهب بقصر الخليفة، وأنشد قصيدته التي مطلعها:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم
حمدًا يقوم بما أولت من النعم

فأعجب الخليفة الفائز ووزيره الملك الصالح ورجال القصر بقصيدته، فأغدقوا على الشاعر نعمهم وعطاياهم، فأمر الوزير بأن يحضر عمارة مجلسه الذي يضم كبار رجال الأدب والعلم بمصر أمثال الجليس، وابن الخلال صاحب ديوان الإنشاء، وابن قادوس، والمهذب بن الزبير … وغيرهم، ومكث عمارة بمصر حتى شوال سنة ٥٥٠ﻫ ثم عاد إلى مكة، ومنها رحل في صفر سنة ٥٥١ﻫ إلى وطنه الأصلي اليمن، وفي هذه السنة نفسها ذهب لتأدية فريضة الحج، فطلب منه أمير مكة أن يسفر بينه وبين الملك الصالح مرة أخرى، فجاء إلى مصر حيث أمضى ما بقي من سني حياته.

اتصل عمارة بمصر بالأحداث التي مرت عليها منذ وزارة الملك الصالح طلائع بن رزيك حتى انقرضت الدولة الفاطمية؛ لصلته الوثيقة برجال الدولة إبَّان هذه الحقبة من الزمان، ويُعَدُّ شعر عمارة من السجلات والوثائق التي تطلعنا على تاريخ مصر إبَّان هذه السنوات المضطربة، التي أدَّتْ إلى زوال الدولة الفاطمية، فإن الجزء الذي بقي لنا من شعر عمارة يدل على أنه أنشد في كل حادثة ألَمَّتْ بمصر في هذه السنين؛ فقد كان يمدح الوزراء الذين كان بيدهم مقاليد الأمور، وكان يمدح الأمراء الذين هم كبار رجال الدولة، فوجد من الحوادث مناسبت لهذه المدائح، كما أنه وجد منها مادة لكتابة «النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية»، وهو أوثق المصادر عن تاريخ هذه الأيام من أيام مصر الفاطمية، كما أنه شارَكَ شعراء مصر في الإشادة بالأعياد المصرية وأيام المواسم، ونحن نعلم أن عمارة كان سنيَّ المذهب، بل كان متعصبًا لمذهبه، ولم يتحوَّل عن هذا المذهب، بالرغم من محاولة الوزراء والأمراء معه لكي يعتنق مذهب الفاطميين، ومع ذلك كله فإن عمارة تأثَّر بما كان يجري في مصر، وأسهم مع غيره من شعراء مصر في الإشادة بعقائد الفاطميين، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك فيما قبلُ. ونستشهد الآن بقصيدته النونية التي قالها في رثاء أهل البيت في عاشوراء، وضمنها مدحًا للملك الصالح، وهي القصيدة التي أولها:

شأن الغرام أجل أن يلحاني
فيه، وإن كنت الشفيق الحاني
أنا ذلك الصب الذي قطعت به
صلة الغرام مطامع السلوان
ملئت زجاجة صدره بضميره
فبدت خفية شأنه للشاني
غدرت بموثقها الدموع فغادرت
سرى أسيرًا في يد الإعلان
عنفت أجفاني فقام بعذرها
وجد يبيح ودائع الأجفان

وفيها يقول عمارة:

يا صاحبي وفي مجانبة الهوى
رأي الرشاد، فما الذي تريان؟
قبضت على كف الصبابة سلو
تنهى النهى عن طاعة العصيان
أمسي وقلبي بين صبر خاذل
وتجلد قاصٍ وهم دانِ
قد سهلت حزن الكلام لنادب
آل الرسول نواعب الأحزان
فابذل مشايعة اللسان ونصره
إن فات نصر مهند وسنان
واجعل حديث بني الوصي وظلمهم
تشبيب شكوى الدهر والخذلان
غصبت أمية إرث آل «محمد»
سفهًا وشنت غارة الشنآن
وغدت تخالف في الخلافة أهلها
وتقابل البرهان بالبهتان
لم تقتنع أحلامها بركوبها
ظهر النفاق وغارب العدوان
وقعودهم في رتبة نبوية
لم يبنها لهم «أبو سفيان»
حتى أضافوا بعد ذلك أنهم
أخذوا بثأر الكفر في الإيمان
فأتى «زياد» في القبيح زيادة
تركت «يزيد» يزيد في النقصان
حرب، بنو «حرب» أقاموا سوقها
وتشبهت بهم بنو «مروان»
لهفي على النفر الذين أكفهم
غيث الورى ومعونة اللهفان
أشلاؤهم مزق بكل ثنية
وجسومهم صرعى بكل مكان
مالت عليهم بالتمالئ أمة
باعت جزيل الربح بالخسران
دفعوا عن الحق الذي شهدت لهم
بالنص فيه شواهد القرآن
ما كان أولاهم به لو أيدوا
بالصالح المختار من «غسان»
أنساهم المختار صدق ولائه
كم أول أربى عليه الثاني٨٨

فهذه القصيدة من شعر عمارة تدل على أن الشاعر جارى القوم في عاداتهم، وفي أشعارهم، فهو لم يتشيَّع، ولكنه لم يستطع أن يتخلف عن غيره من شعراء مصر في رثاء أهل البيت في أيام مآتمهم، وشارَكَ المصريين في احتفالاتهم، فله عدة قصائد في كسر الخليج، من ذلك ما أنشده سنة تسع وخمسين وخمسمائة في مدح العاضد:

سجودًا فهذا صاحب الركن والحِجرِ
ووارث علم النمل والنحل والحِجر

وفيها يقول:

تمل أمير المؤمنين مواسمًا
تزورك من صوم شريف ومن فطر
يواصلها سعد بجدك مقبل
فعام إلى عام وشهر إلى شهر
ركبت إلى كسر الخليج وإنما
ركبت إلى جبر الرعايا من الكسر
ولما رأيت البر بحرًا من الظبا
تعجبت من بحر يسير إلى نهر
غدوت بفتح السد في زحف أرعن
يسد هبوب الريح بالأسل السمر
يرد ظلام النقع فجرًا كأنما
أسنته مطبوعة بسنا الفجر
كأن على البيداء منه صحيفة
كتائبها سطر يضاف إلى سطر
إذا خفقت أعلامه وبنوده
رأيت عليها غرة العز والنصر
وقد خلع التأييد فوقك حلة
تطرز بالإحسان والعدل والبر
أوارث مجد الحافظ بن محمد
وحافظ حكم الله في محكم الذكر
إذا ما استجاب الله صالح دعوة
فمتعك الرحمن بالناصر الذخر٨٩

وهكذا اضطر هذا الشاعر السني إلى أن يتأثَّر بما كان في مصر في العصر الفاطمي، وأن يتأثَّر بعقائد الفاطميين فأكثر منها في شعره، بل بلغ به تأثُّره بالفاطميين إلى أن يرثيهم ويثني عليهم في الوقت الذي تخلَّى عنهم جميع المصريين، وشمت بهم أعداؤهم العباسيون وجمهور أهل السنة، فعمارة اليمني السني المذهب كان وفيًّا لهم الوفاء كله، فأنشد قصيدته التي مطلعها:

رميت يا دهر كف المجد بالشلل
وجيده بعد حسن الحلى بالعطل

وفيها يقول، بعد أن وصف أيامهم وذكر أعيادهم ومنشآتهم:

والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم
ولا نجا من عذاب الله غير ولي
ولا سقى الماء من حر ومن ظمأ
من كف خير البرايا خاتم الرسل
ولا رأى جنة الله التي خلقت
من خان عهد الإمام العاضد بن علي
أئمتي وهداتي والذخيرة لي
إذا ارتهنت بما قدمت من عملي
تالله لم أوفهم في المدح حقهم
لأن فضلهم كالوابل الهطل
ولو تضاعفت الأقوال واتسعت
ما كنت فيهم بحمد الله بالخجل
باب النجاة هم دنيا، وآخرة
وحبهم فهو أصل الدين والعمل
نور الهدى ومصابيح الدجى ومحل
الغيث إن ربت الأنواء في المحل
أئمة خلقوا نورًا فنورهم
من محض خالص نور الله لم يغل
والله ما زلت عن حبي لهم أبدًا
ما أخَّر الله لي في مدة الأجل٩٠

فكانت هذه القصيدة، وما قيل من أنه اشترك مع نفر من الأوفياء للفاطميين لإعادة ملكهم بتولية ابن العاضد، سببًا في القبض عليه معهم وصلبه سنة تسع وستين وخمسمائة، واتهمه الفقهاء بالكفر، وقال فيه تاج الدين الكندي الشاعر:

عمارة في الإسلام أبدى خيانة
وبايَعَ فيها بيعة وصليبَا
فأمسى شريك الشرك في بغض أحمد
فأصبح في حب الصليب صليبَا
وكان خبيث الملتقى إن عجمته
تجد منه عودًا في النفاق صليبَا
سيلقى غدًا ما كان يسعى لأجله
ويسقى صدايد في لظى وصليبَا٩١

وهكذا أصاب عمارة ما أصاب الفاطميين الذين حبوه بأموالهم وعطاياهم، وأكرموه الإكرام كله، فقابَلَ ذلك كله بوفاء الوفي الأمين.

ابن قلاقس

أبو الفتح نصر الله بن عبد الله بن مخلوف بن علي بن عبد القوي بن قلاقس اللخمي الإسكندري، ولُقِّبَ بالقاضي الأعز، وُلِد بالإسكندرية سنة ٥٣٢ﻫ، وبها نشأ وتثقَّفَ فأخذ عن الحافظ أبي طاهر السلفي وعن غيره، ثم رحل عن مصر إلى اليمن، فدخل عدن سنة ٥٦٣ﻫ متكسبًا بشعره، فمدح بها ياسر بن بلال، ثم سافر إلى صقلية سنة ٥٦٥ﻫ ومدح بها القائد أبا القاسم بن الحجر، وصنَّفَ باسمه كتابًا سمَّاه: «الزهر الباسم في أوصاف أبي القاسم»، وشاء العودة إلى مصر، وتوفي بعيذاب سنة ٥٦٧ﻫ.٩٢ فالشاعر كان يتجر بشعره، ويرحل إلى الممدوحين بقصد الكسب، مع أنه اتصل ببعض رجالات مصر وأخذ نوالهم. مدح الخليفة الفاطمي بقوله:
في مرتقى الوحي تعلو مرتقى الأمل
فافسح رجاءك واطلب فسحة الأجل
لا تنتجع للأماني بعده دولًا
فقد تأملت منه واهب الدول
وانظر إلى صفوة الخلق التي ظهرت
للناس أيامه عن صفوة الرسل
لو عاد ينطح ذو القرنين صخرته
لعاد واهي قرون الرأس كالوعل٩٣

ومدح الوزير شاور، وعرض بشيركوه بقوله:

عارض الصفح في يديك الصفاحا
ورأى البأس أن تطيع السماحَا
فرفعت الجناح عن جارم الذنـ
ـب بعفو خفضت منه الجناحَا
ووضعت السلاح حين أراك الـ
ـعزم والرأي إن وضعت السلاحَا
أي ثغر سما إليه أبو الفتـ
ـح فلم يبتدر إليه افتتاحَا
بخيول طارت بأجنحة النصـ
ـر فراحت بها تباري الرياحَا
وكماة غرقد اقتطعوا الليـ
ـل وساقوه في العجاح صباحَا
ورماح تجني فنجنيك في الحر
ب شقيقًا ما كان قبل أقاحَا
وظبي تقطع الترائب مهمَا
ألقحت بالضراب حبًّا لقاحَا
شاركت شيركوه في النفس والما
ل وصاحت به فصاحًا فصاحَا
طلب الأمن فاستجيب وما يعـ
ـرف منك الطلاب إلا النجاحَا
بعد ما ضيق الحمام عليه
سبلًا غودرت لديه فساحَا
وأقامته كالجذور حماة
ضربت بالقنا عليه القداحَا
فليطل بعدها الفخار فقد را
ح طليقًا لبيضكم حيث راحَا
يا معل الظبا البواتر ضربًا
ترك المجد والمعالي صحاحَا
فيك لله والخليفة سر
أوضحاه لمبصر إيضاحَا
ذاك أعطاك آية النصر تصريـ
ـحًا، وهذا أعطاك ملكًا صراحَا٩٤

ومدح الكامل بن شاور، والقاضي الجليس، والقاضي ابن خليف، والحافظ السلفي، وابن مصال، والقاضي الفاضل … وغيرهم من رجال مصر، فمن مدائحه للكامل بن شاور قوله:

حمد السرى من كنت وجه صباحه
من بعد ذم غدوه ورواحه
ورأى النجاح مؤمل ألحقته
من حسن رأيك فيه ظل جناحه
وأما وعزمك وهو أنهض فاتك
لقد انبرى والصفح تلو صفاحه
وبديع مدحك وهو أينق متجر
لقد اغتدى والعز من أرباحه
فالدهر بين فريده وفرنده
متقلد بنجاده ووشاحه
بأس تورد في خدود شقيقه
وندى تبسم في ثغور أقاحه
والكامل المسعود في آفاقه
بدر جلا الإمساء عن إصباحه
بمناقب سمت النجوم لنيلها
فاستخدمتها في رءوس رماحه
ومواهب عان السحاب معينها
فاستغرقته في بحور سماحه
يا آل شاور أنتم دون الورى
للملك كالأرواح في أشباحه
وإلى معاليكم إشارة خرسه
وعلى أياديكم ثناء فصاحه
لم لا يكون الشكر عندك منتجًا
ونداك قوام بأمر لقاحه٩٥

ولكنه كان مولعًا بالأسفار وركوب البحر، ولذلك يقول:

والناس كثر ولكن لا يقدر لي
إلا مرافقة الملاح والحادي٩٦

ويقول: في مدح ياسر بن بلال الداعي بمدينة عدن، وكان قد فارقه، ولكن سفينته غرقت فعاد إليه مرة أخرى، وأنشده هذه القصيدة يصف فيها غرقه، ويتحدث عن ولعه بالأسفار:

سافر إذا ما شئت قدرًا
سار الهلال فصار بدرَا
والماء يكسب ما جرى
طيبًا ويخبث ما استقرَّا
وبنقلة الدرر النقيـ
ـة بدلت بالبحر نحرَا
وصلا إذا امتلأت يداك
فإن هما حلتا فهجرَا
فالبدر أنفق نوره
لما بدا ثم استسرَا
حركات عيسك ما أرد
ت مهاد عيشك أن يقرَّا
إما تريني شاحب الـ
ـوجنات قد ألبست طمرَا
فوقائع الأيام تخـ
ـرج أهلها شعثًا وغبرَا
مدت إلى الأربعو
ن يدا وقد قهقرت عشرَا
واستحدثت في لمتي
نقطًا فهلا كن حبرَا
ما قلت أف فإنها
شرر بأف يعود جمرَا
وكفاك أني إن نظر
ت لها نظرت النجم ظهرَا
كان الشباب الغض ليـ
ـلًا فاستنار الشيب فجرَا
ولئن تقلب بي الزما
ن كما اشتهى بطنًا وظهرَا
فبما قتلت صروفه
وقتلته جلدًا وخبرَا
غاض الوفاء وفاض ما
ء الغدر أنهارًا وغدرَا
فانظر بعينك هل ترى
عرفًا، وليس تراه نكرَا
خلق جرى من آدم
في نسله وهلم جرَّا
ومروعي بالبحر يحـ
ـسب أنني أرتاع بحرَا
أَوَمَا درى أني بتسـ
ـهيل المصاعب منه أدرَى
أعددت نظرة «ياسر»
نحوي وسوف تعود يسرَا
من صرف الأقدار في
أيامه كسرًا وجبرَا
واستخدم الأيام في
أحكامه نهيًا وأمرَا
وانتاشني في نظرة
أولى سيتبعها بأخرى
فالسحب ترشح إذ جرت
في إثره بالجهد قطرَا
والرعد رجع جاهدًا
أنفاسه تعبًا وبهرَا
غرس الصنائع في الرقا
ب فأنبتت حمدًا وشكرَا
يقظان إن نبَّهته
عمرًا أو استنجدت عمرَا
ولرب طرة معرك
سوداء أعدته طرَّا
أسرى إلى أبطالها
فأبادهم قتلى وأسرَى
من كل متشح على
نهر الدلاص الرعف نهرَا
جروا الذوائب والذوا
بِلَ خلفهم بيضًا وسمرَا
فالسيف يقرع بينهم
بثقيفه، والضيف يقرى
يا راويًا عن شخصه
خبرًا ولم يعرفه خبرَا
والثم بنان يمينه
وقل السلام عليك بحرَا
وغلطت في تشبيهها
بالبحر، اللهم غفرَا
أَوَلَست نلت بذا ندى
جمًّا، ونلت بذاك فقرَا
بنوافذ ترنو الريا
ح لها بطرف الحقد شزرَا
لا زال ينظر عودها
بنداه لدن المتن نضرَا٩٧

وهذا الشاعر الرحَّالة كان يميل إلى الإكثار من المحسنات البديعية في شعره، بخلاف بعض الشعراء الذين عاصروه أمثال المهذب والرشيد والجليس وغيرهم، وإن كان هؤلاء الشعراء قد ألَمُّوا بالمحسنات البديعية، ولكنهم لم يتعمدوها كما تعمَّدَها ابن قلاقس الذي كان يجهد نفسه على ما يظهر لنا في الإتيان بهذه المقابلات والتوريات وغيرها من ألوان الزينة اللفظية.

•••

من هذا الفصل نستطيع أن ندرك كيف كان للوزراء أثر في حياة الشعر في العصر الفاطمي، وكيف اجتمع الشعراء حول الوزراء يمدحونهم، ويأخذون عطاياهم، أسوة بما كان يحدث لدى الخلفاء أنفسهم إبَّان سطوتهم وقوة ملكهم، ونحن نأسف أن يضيع أكثر شعر هؤلاء الشعراء، فلم يصلنا منه إلا هذه القِطَع المتفرقة أو القصائد الناقصة، ومع ذلك فالذي بقي لنا من الشعر يدلنا على أن نهضة الشعر كانت قوية، وأن تياره كان جارفًا، وأن عدد الشعراء المجيدين تضاعَفَ بحيث يُخَيَّل إلينا أن كل مثقف في ذلك العصر كان ينشد الشعر، وأن كتَّاب الدواوين والقضاة كانوا من الشعراء. ويكفي أن نُلقِيَ نظرة على مجاميع الشعر، أمثال اليتيمة والدمية والخريدة، أو كتب التراجم؛ لندرك أن عددًا كبيرًا جدًّا من المصريين أنشد الشعر، وأن الشعر كان من الجودة بحيث استطاعت مصر أن تبز غيرها في مضمار القريض.

١  خطط المقريزي: ج٣، ص٨، وصبح الأعشى: ج٣، ص٤٨٣.
٢  يتيمة الدهر: ج١، ص٢٣٩.
٣  اليتيمة: ج١، ص٣٣٠.
٤  ابن خلكان: ج١، ص٣٦٧.
٥  حسن المحاضرة: ج١، ص١٥٣.
٦  حسن المحاضرة.
٧  أخبار مصر لابن ميسر: ص٦٠.
٨  ابن ميسر: ص٦٠.
٩  النكت: ص٥٥.
١٠  ابن ميسر: ص٣٠.
١١  راجع ترجمته في عيون الأنباء: ص٥٢، ومعجم الأدباء: ج٢، ص٣٦١، وابن خلكان: ج١، ص٨٠.
١٢  الرسالة المصرية، نسخة فتوغرافية بدار الكتب المصرية.
١٣  المصدر السابق.
١٤  الرسالة المصرية.
١٥  ياقوت: ج٢، ص٢٦١.
١٦  ياقوت: ج٢، ص٢٦٥.
١٧  عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة: ج٢، ص٥٤ (طبعة مصر ١٨٨٢م).
١٨  أخبار الحكماء: ص٥٧ (الطبعة الأولى بمصر ١٣٢٦ﻫ).
١٩  طبقات الأطباء لابن أبي صيبعة: ج٢، ص٥٦.
٢٠  طبقات: ج٢، ص٥٢.
٢١  الرسالة المصرية.
٢٢  الرسالة المصرية، وخطط المقريزي: ج٢، ص١٥٥، ومعجم الأدباء.
٢٣  القفطي: ص٥٧.
٢٤  الخريدة: ص١١١.
٢٥  الرسالة المصرية.
٢٦  الخريدة: ورقة ٩٨.
٢٧  ابن ميسر: ص٨١.
٢٨  ابن ميسر.
٢٩  مسالك الأبصار: ج١٢، ص٢١٨ (مخطوط بدار الكتب المصرية).
٣٠  الخريدة: ١٣٠أ.
٣١  ابن خلكان: ج١، ص٢٤١.
٣٢  ابن خلكان: ج١، ص٢٤٢.
٣٣  الخريدة: ورقة (٦٠أ).
٣٤  ابن خلكان: ج١، ص٢٤٢، ومعجم الأدباء لياقوت: ج١٢، ص٣١ (طبعة رفاعي).
٣٥  الخريدة: ورقة ٨٧أ، وكتاب روضة الأدب في طبقات شعراء العرب للشهاب الحجازي: ص٧٥ (طبع بمباي الهند).
٣٦  الفهرست لابن النديم: ٧٩.
٣٧  ابن خلكان: ج١، ص٢٣٨.
٣٨  النجوم: ج٥، ص٢٩٢.
٣٩  الخريدة: ورقة ٣٢ب.
٤٠  النكت: ص٤٨.
٤١  النكت: ص١٢٢.
٤٢  النكت: ص٣٥.
٤٣  النجوم: ج٥، ص٣١٣.
٤٤  النكت: ص٤٩.
٤٥  معجم الأدباء: ج٩، ص٤٧.
٤٦  الخريدة: ص٤١.
٤٧  ابن خلكان: ج١، ص٢٣٨.
٤٨  الخريدة: ورقة ٦٩ب.
٤٩  خطط: ج٤، ص٨٢.
٥٠  النكت: ص٥٥.
٥١  النكت: ص٥٢.
٥٢  المصدر نفسه: ص٥٣.
٥٣  النكت: ص١٤٦.
٥٤  المصدر نفسه: ص٨٢ وما بعدها.
٥٥  المصدر نفسه: ص٨٦.
٥٦  كتاب الروضتين: ج١، ص١٦٣ (طبعة مصر سنة ١٣٨٢).
٥٧  الروضتين: ج١، ص١٥٧.
٥٨  المصدر نفسه: ج١، ص٢٠٢.
٥٩  معجم الأدباء: ج٩، ص٤٩.
٦٠  الخريدة: ورقة ٣٨أ.
٦١  المصدر نفسه: ورقة ٤٣ب.
٦٢  الأخرم هو صاحب الدعوة الدرزية التي ظهرت أيام الحاكم، ونادت بألوهيته.
٦٣  معجم الأدباء: ج٩، ص٥٠.
٦٤  الخريدة: ورقة ٣٩.
٦٥  معجم الأدباء: ج٩، ص٦١.
٦٦  الخريدة: ٤٩ب.
٦٧  الخريدة: ٤٩ب.
٦٨  الخريدة: ٣٦أ.
٦٩  معجم الأدباء: ج٤، ص٦٢.
٧٠  معجم الأدباء: ج٤، ص٥٨.
٧١  الخريدة.
٧٢  الخريدة: ورقة ٣٦ب.
٧٣  الخريدة.
٧٤  ديوان ابن قلاقس: ص٦٥.
٧٥  ابن خلكان: ج١، ص٥١.
٧٦  مسالك الأبصار لابن فضل الله: ج١٢، ص٢١٨٧، نسخة خطية بدار الكتب المصرية.
٧٧  فوات الوفيات: ج١، ص٣٧٨.
٧٨  النجوم الزاهرة: ج٥، ص٣٧١.
٧٩  فوات: ج١، ص٣٧٨.
٨٠  المصدر نفسه.
٨١  الخطط: ج٢، ص٢٢٦.
٨٢  ديوان ابن قلاقس: ص١٠٠.
٨٣  الخريدة: ورقة ٩٩ب.
٨٤  فوات الوفيات: ج١، ص٧.
٨٥  المصدر نفسه.
٨٦  المصدر نفسه: ص١٢٤.
٨٧  ديوان ابن قلاقس: ص١١٥.
٨٨  النكت: ص٣٦٣ وما بعدها.
٨٩  المصدر نفسه: ص٢٣٥.
٩٠  الخطط: ص٣٩٣.
٩١  النكت: ص٣٩٧
٩٢  راجع معجم الأدباء: ج١٩، ص٢٢٦؛ وابن خلكان: ج٢، ص١٥٦.
٩٣  ديوان ابن قلاقس: ص٨٨.
٩٤  ديوان ابن قلاقس: ص٢٥.
٩٥  المصدر نفسه: ص٢٧.
٩٦  ابن خلكان: ج٢، ص١٥٧.
٩٧  ابن خلكان: ج٢، ص١٥٧؛ وديوان ابن قلاقس: ص٣٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤