الزهاوي، بشارة الخوري، شبلي ملاط

أنا إن رثيتك لا أقلـ
ـد أو أبالغ في النحيب
لا البدر هاوٍ من ذرا
ه ولا الطبيعة في شحوب
لكن لحنًا للمكا
رم نام في الوتر الطروب
يتألمون له إذا افـ
ـتقدوك في اليوم العصيب
هي دمعة جمدت على
شفة المرتل والخطيب
نقولا فياض

١

وا عجبًا لهذا القمر! فكم مرة ينشق ويهوي! وللشمس كيف يحترق قلبها حزنًا وتكفن وتدفن، ولا يتألم لهذا الخطب الجسيم غير الذين يقولون الشعر عربي اللسان! فكل فقيد عندهم قمر يجلو الدجى ولو كان عبدًا ككافور، وكل ميت نجم يأتَمُّ الهداة به ولو كان أبشع من بشار، وكل هدرة سيف تقطع رقاب الدواهي وشمس تضيء.

وكأني بالدكتور فياض الخطيب الشاعر أحسَّ بمصيبة الأدب العربي، وأدرك أن هذا الضرب من الشعر صار أكره من طعام لا تقبله النفس، وأشأم من أحلت أملط يصبحك فجر الإثنين، فقال للناس في رثائه للمرحوم الدكتور الصليبي:

أنا إن رثيتك لا أقلد
أو أبالغ في النحيب
لا البدر هاوٍ من ذراه
ولا الطبيعة في شحوب

حلو هذا القول من شاعر وخطيب تعرفه المنابر، فانفعْ به — اللهم — أبطال معارك الرثاء والمديح فيتعظوا ويقلعوا عن تلك الصور السمجة، والتعابير التي ينظمونها كما يصف الصبيان الكعاب. إن لحن المكارم الذي نام في الوتر الطروب، والدمعة التي جمدت على شفة المرتل والخطيب، تساوي ألف شمس تكسف، ومليون قمر يخسف، ومليار سيف يسقط بعد طول الضراب، وغيرها من معجزات النوَّاحين التي تضحك الأم فوق نعش وحيدها.

ظن بعضهم أننا نتشفَّى بهذه الكلمات التي تذيعها «صوت الأحرار»، وخالوا أننا نحاول الحط من قدر النوابغ والعبقريين، حتى استجهلونا وعدوا ما نكتبه تحامُلًا على أمراء الأدب، وتهجُّمًا على الشعراء العظام. الله! الله! كيف يفوت هؤلاء الأذكياء النبهاء أن الأدب لا يصلح إلا بنقد لا هوادة فيه؟ فعلى المريض أن يقبل العلاج المرَّ، وأن يصبر على مبضع يشرط جلده ليستأصل الدملة قبل أن تستشري، وتمسي آكلة تسرح وترعى.

إن رسائل السب التي يشرفوننا بها ويفكهوننا بتلاوتها كثيرة جدًّا، وخصوصًا في هذه الأيام، فالحديدة حامية. أما ما انطوت عليه تلك الرسائل فكما بصَّرتني نورية عبقرية … ناس يحبوني وناس يسبوني … وأني — علم الله — لأقرأ السب كأنه الثناء، فلا هذا يمضيني ولا ذاك يثنيني، ما دمت لا أرى إلا كما قال أبو الطيب: وذكر «شعر» ومحصولي على كلم.

ليطمئن أصحاب تلك الرسائل فما ضاع ثمن طابع البريد … فسنعلن رسائلهم العاطرة بكل ما فيها من مسك ينم عن أخلاقهم الذكية، وسوف نتمتع جهارًا بتلك الألقاب السابغة: كصاحب الأذن الطويلة، والذنب الأعقف … وهلم جرًّا.

•••

إن محصول شباط كان هواء وعواصف هوجاء، فلا بد من عودة إلى كانون. كان من مواد هذا الفصل قصيدة «سليل القرد» للزهاوي — رحمه الله — فطواه الموت مأسوفًا عليه، وطوينا نحن كلمتنا في قصيدته هذه، رجاء أن نقول فيه يومًا كلمةً أعمَّ وأوفى، فتفكير الزهاوي يستحق الدرس، وهو شاعر — على قلة حظه من النظم — سار إلى غاية، وشمَّر لغرض.

مات كبلنغ شاعر الإمبراطورية الإنكليزية منذ أسابيع، فقالت الصحف الكبرى الأوروبية: إنكلترا بين حدادين. فاستوى عندها الشاعر والإمبراطور العظيم، أَفَلا يعذرنا اللائمون إذا نشدنا شاعرًا كنصف كبلنغ؟ ولماذا لا يكون لنا هذا الشاعر لو قلع شعراؤنا طيلسان ابن حرب، وخلعوا مداس أبي القاسم الطنبوري، ناظرين إلى ما قدامهم لا إلى ما خلفهم، وعافوا مستنقعاتهم فلا ينقون بلا شيء كشيوخ محارب. ولكن من أين يأتيهم الإبداع وهم لا يعرفون، بل لا يقلِّدون إلا أبا الطيب وأبا تمام والبحتري وأبا نواس، ويشنون الغارة حتى على شوقي؟ كيف يكون لنا شعراء كبار حقًّا، في عصر ثائر على كل شيء، وشعراؤنا يحومون كالرخم في جو ضيق، بأجنحة قصيرة القوادم، ممعوطة الخوافي، كالدجاجة في كانون؟ بل كيف يُخلَق منهم الشاعر المنشود ومَثلهم الأعلى إرضاء العوام، لا الشعور والفن؟

إن هؤلاء الشعراء — شعراء الظل — كمَن يأكل ثروته في حياته، ولا يُبقِي لذريته شيئًا، فلن يكون حظُّهم من ملكوت الأدب أكثر من غني المسيح الذي قال له الإنجيل: تذكَّرْ يا هذا أنك أكلت خيراتك في حياتك ولعازار في بلاياه …

كيف يخلق عندنا هذا الشاعر ولا تطوُّرَ في تفكيرنا وتعبيرنا وصورنا ومقاييسنا؛ نمسح بالخطوة والقصبة، ونكيل بالصاع والإردب، ونقيس بالشبر والباع والقامة، فقليل من الهم يكشف لنا خبايا هذا الشعر لأننا نقرؤه منذ أجيال. معانٍ مبتذلة وصور مضحكة مبكية، وفخر صفيق، فلو أهدى إلينا هؤلاء الشعراء كما قال رمي غورمون في بعض شعراء جيله: «سلَّات حافلة بأزهار طريفة معقمة بطفيليات كبرياء فارغة.» لهان علينا الأمر، ولكننا لا نظفر إلا بالشوك من هذا العليق.

قلنا لا بد من رجعة إلى كانون، فما نظمه الشاعران شبلي ملاط وبشارة الخوري أذيع فيه، ما خلا أبياتًا شباطية لبشارة ستقرؤها، أما الآن فسنعالج قصيدته في الزعيم الكبير إبراهيم هنانو.

جعل الأستاذ بشارة الزعيم المندوب سيفًا يسقط بعد طول الضراب، وإبراهيم هنانو سيف، أي سيف، ولكن شاعرنا أغرب جدًّا فيما بعدُ، فأقام لهذا السيف الكريم مأتمًا في الخدود للأدمع الحمراء، وجعلها كبقايا جيش كسيح من الشهب ترامى الشهاب إثر الشهاب … مَن منا يستغرب تشبيه الدموع بالنيازك؟ فالدموع عندما تتدحرج وتتدهور في الخدود تمثِّل أصدق صورة للنيازك الهاوية! وهل في وسعنا غير الإيمان بما يقول بشارة؟ فإنْ لم نؤمن كفرنا بلاهوته، وكانت خطيئتنا عظيمة لا يحلها إلا رئيس أساقفة بعد التوبة النصوح والندامة الكاملة، ووفاء القانون. وأبدع من هذا ما يقوله الشاعر في هذا الجيش الكسيح، أي المكسوح لا المقعد:

يتعثَّرن تارةً بالذي جفَّ
وحينًا يطفون طَفْو الحباب

أيجوز لمثلي يا ترى أن يسأل: كيف تتعثر الدموع بالذي جفَّ؟ لقد أدركت ذلك، فَلْيسمح لي الأستاذ أن أشرح لقرَّائه آيته هذه، فهي أعظم من آية يونان؛ إن الدموع كماء البحر في الملوحة، وماء البحر كما تعلمون — أيها القراء الألباء — يصير ملحًا متى تبخَّر، وهكذا رأى الشاعر الدموع تتعثر في خدود الناس بالدموع التي تجمَّدت وتبلورت، وسدَّت على أخواتها الطريق فيطفون طفو الحباب … أَلَمْ تر في زمانك إلى «سكر» مطحنة؟ إني أخشى أن تدري الحكومة بهذه الملاحات الجديدة فتحجزها.

ثم ينتقل بشارة إلى الاستفهام الذي ذاب به غرامًا، منذ رثاء زغلول إلى اليوم، حينما سأل الناس إذا كان زلزل الهرم، وإلى المبالغة التي عشقها، منذ سقوط عبد الحميد حتى الساعة، فأوصى قلل الشرق بقوله: «حاذري أن تميدي …» أما اليوم فتساءل بشارة إذا كان مأتم الزعيم هنانو طغيان بحر، فقال:

أَطَغَى البحر ذو العباب على
العُرب فلفَّ القصور بالأطناب

لينعم بالًا شكسبير، فلئن أرسى المراكب في حلب فأضحك الناس، فهذا طوفان جديد قال له الشاعر كن فكان، فخلق بحرًا ذا عباب يغطي عورة شاعر الإنكليز الأعظم، فلا يصيبه ما أصاب نوح، بعد طوفان التوراة.

وانتقل الشاعر إلى الاستفهام عن مشهد أغرب فقال:

أمْ هو الحَشْر يومَ زلزلَتْ الأرض
على صوتِ برقِهَا الصخابِ

لا تتعجب أيها القارئ من قوله: يوم زلزلت الأرض، فهو يحدثك عن الدهر العتيد، ولكنه جاء بالماضي على حد آية القرآن الكريم: وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، وإنْ تقل: ليس العهد بالبرق يصخب! قلنا: والقافية يا لبيب؟ ثم ما يدريك فقد يكون برقًا جديدًا، فكل القصيدة عجائب، وقد يكون برق الأرض غير برق السماء!

وخاف علينا الشاعر من الموت رعبًا، فأخذ يهدِّئ روعنا ويؤكِّد لنا بأعظم الأيمان وأغلظها أن القيامة لم تقم، ولكنه مأتم إبراهيم، فاسمع ما يقول:

لا وربي بل ذاك مصرع إبرا
هيم هزَّ السماء بالأرباب

ثخينة يا أستاذ، فلا موت المسيح، ولا موت محمد أحدث شيئًا من هذا! أحشفًا وسوء كيلة؟ كنت استغنيت عن هذا القسم العظيم، فنحن نصدقك بلا حلف، ومَنْ مِنَ الناس لا يصدق هذا؟! فالأرض تدور وتهتز، وقد تكون جنة الخلد كذلك؛ فمَن يعلم؟ ولكن أَلَا تخاف على شوقي الذي جعلته فوق سدرة المنتهى أن يمسه سوء في هذه الدربكة؟!

وانقض الشاعر ثانية على الاستفهام انقضاض الصقر على فريسته، إني أترك لك وصف استفهامه هذا قال:

سألوا مَن قضى فقلنا حسام
عربي الأفعال والأنساب

أي سألوا: مَن مات اليوم؟ فقلنا: حسام، أي السيف الذي سقط بعد طول الضراب، وسبحان الباقي! أما ما قاله بعدُ:

بل لواء من الكرامة في الذر
وة إرث الأحقاب للأحقاب
وكتاب من السماحة والأخـ
ـلاق صلت عليه أم الكتاب

إن إبراهيم لحقيق بهذا الوصف؛ فقد كان — يرحمه الله — لواء كرامة في أعلى ذروة، وكتاب سماحة وأخلاق، ولكن «صلت عليه أم الكتاب» قلقة باردة، بل ليست من الشعر، فما جر شاعرنا إليها إلا قوله في أول البيت «وكتاب»، فتذكَّرَ أم الكتاب بمناسبة الدفن.

ويكر الشاعر على الاستفهام كرة ثالثة — نجانا الله من الرابعة — فيسأل سؤالًا لا أدري ماذا أقول فيه، فيقول:

سأل السيل نفسه ما سيول
من أناس سدت عليَّ شعابي

كأنه بإكثاره من «السين» في هذا البيت، يريد أن يسمعنا موسيقى المطر؛ لأن دفن الفقيد كان في يوم ماطر، أما كم مرة يستفهم الناس فذلك ما يعرفه الشاعر الملهم وحده، ثم يغرب في التصور وهو يظن أنه يبدع صورًا ومشاهد لن يظفر بمثلها رافائيل، فيقول في البيت الذي يلي:

أطرقوا واجمين في الحلل السو
د كأطياف جنة في ثياب

إنه لَمشهد غريب؛ رؤية أطياف من الجن بعد «صلت عليه أم الكتاب»، وكم أضحكني قوله: «في ثياب»، توقعت حدثًا غريبًا قبل أن يقولها، وإذا الخطب هين — والحمد لله — أذكرني هذا ما لاحظه بديع الزمان الهمذاني في المقامة العراقية على قول أحدهم:

عاتبها فبكَتْ وقالَتْ يا فَتَى
نَجَّاكَ رَبُّ العَرْشِ مِنْ عتْبِي

ومثل هذا فعل بشارة أيضًا في قصيدته «الحلبية» الأخرى، حين زوَّج عظيم الجن بماردة مساء، فما تكشف الصبح حتى وضعت «المحروس» ولم تطرق به كما عبر الرافعي، ثم كان مؤتمر جني لينتقوا اسمًا للطفل، فمنهم مَن قال «صاعقة»، ومنهم مَن قال «عاصف»، وأخيرًا اختال مدة مارد لسن، لا أدري إذا كان رقص الشرلستون أو الدبكة، ثم قال: سميته المتنبي.

أَفَلا تراها أخت «أطياف جنة في … ثياب»؟ وهؤلاء الجن صاروا بعدئذٍ في المأتم كنشاوى مدهدهين … إلخ. ولا عجب في هذا أيضًا، فالجن — نجانا الله منهم — كانوا يظهرون لمار أنطونيوس — كما خبرنا السنكسار — بألف شكل وشكل، ولماذا لا يكونون في يد الشاعر كخاتم لبيك؟

أما مقطع «أي أبا طارق» … إلخ. فشعر جيد لولا تكرار التشبيه بالسيف والمبالغة، ولولا تفدية الشاعر الميت بأبيه، فوالده — رحمه الله — مات منذ عشرين عامًا وأكثر، وأنا حضرت دفنه.

وأرى بشارة تعرَّف حديثًا بالجن والمردة والأطياف، فأكثر منها هذا الإكثار المضحك، ولكل جديد روعة، إلا جديد بشارة لأنه عتيق جدًّا.

وشاء بشارة أن يخبر الناس — في هذا المضيق — عن تكريمه في حلب، فعاد إلى السيف والمارد، ومارد بشارة تارةً يسقط من السماء كالملائكة، وطورًا يتزوَّج في الصحراء كما علمت. ثم انتقل الشاعر إلى قلعة حلب، فأبرزها لنا في مأتم إبراهيم كجنان أبي نواس، ولكنها تلطم بالعناب لا الورد، اسمع:

لطمت صدرها له القلعة الثكلى
فرقَّتْ لها عيون السحاب

وواساها بشارة — جبر الله خاطره — ونابت لديه عن حلب، من باب تسمية الكل باسم البعض، فخبرنا عن تكريمه، وكيف كان الفخر ملء إهابه، رحم الله لافونتين.

وشمر الشاعر شادًّا الرحال إلى دمشق — وبلا حيَّا الله، وسلم الله — سأل أخت مروان مستفهمًا منها أيضًا عن محفله في الأمس، كما سأل شوقي عنه من قبلُ: أفي المصلَّى أم المحراب مروان؟ قضت القافية على شوقي فسأل عن مروان، فأما ما قضى على بشارة فلا أدري، أظن أن بشارة يريد موكب مروان لا محفله، وآية ذلك تسخيره الشمس لتعطي يمينها للركاب «كذا»، وبعد وصف أبهة مروان وعظمته البائدة عزَّى دمشق قائلًا:

هما يومان يا دمشق فيومٌ
لزوال وآخَر لإياب

فكسر البيت كما عدَّى «أعطى» باللام، وهذا لا نغتفره لشاعر يطمح إلى الإمارة، فالناس على دين ملوكهم.

وحام بشارة مرات حول كلمة شوقي الرائعة في الثورة الإفرنسية، فعاد بالخفين المعهودين. قال شوقي في دمشقيته:

دم الثوار تعرفه فرنسا
وتعلم أنه عدل وحق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يدق

أما بشارة فاسمع كيف قال:

وسلاح من الحقوق المدماة
نسيج القارب والألباب
شهرت مثله فرنسا على الظلـ
ـم فردته من دم بخضاب

فهذه «المدماة»، و«ردته من دم بخضاب» ما مثلت لي إلا أنفًا راعفًا، ومنديلًا توسَّخ، فقط لا غير. ومن الحيف، بل من الكفر بالفن أن نقابل هذا بذاك، ففي قول شوقي جمال ورواء، وفي قول بشارة دمامة وقبح، هذا نظم منحَطٌّ وذاك شعر سامٍ.

قال أناتول فرانس في سيلي بريدوم: «كان بريدوم شاعر الإناء المشعوث، فصار شاعر العدالة.» وبشارة أفندي كان شاعر قلبه فصار شاعر السياسة، وما دخلت السياسة شيئًا إلا أفسدته، وقد اتخذ بشارة هذه الكلمة المأثورة شعارًا «لبرقه» عندما كسدت سوق السياسة عنده، فطلقها وعافها، ولكن بشارة لا يتعظ!

٢

لماذا ارتجَّتِ الأمم، وهنأت الشعوب بالباطل؟ كما قال أبو سليمان في مزموره الثاني:

ذلك لأننا دخلنا قدس الأقداس، وخرجنا منه قائلين للناس: فارغ …

ذلك لأننا لمسنا «تابوت» العهد اللبناني وهو لم يتعود إلا المباخر تتدلدل حوله وحواليه، فيتنشق رائحة بخورها ولا يؤذيه دخانها.

عتب علينا صديق عزيز نحترم أدبَه ونجلُّه، وأسف على جهد نبذله لنخلق أعداءً لنا في كل بلد ينطق بالضاد، وسيتعلم «الحرف الجاف» الذي خلقه جديدًا المجمع العلمي المصري.

هذا الصديق محب للسلامة كثيرًا، يريد أن ينجو بشارة حتى من الهمس، أما السلامة فنحن في حبها على دين الأستاذ الطغرائي، وهل النقد شجار ونقار؟ إننا نأنف أن يظل هذا الأدب لعبة يتلهى بها مَن يفرقعون أصابعهم، ويتوهمون أنهم قذفوا قنابل تنسف الأرض فتخرج أثقالها، ثم يعجبون كيف لا تقول الناس «ما لها»؟

خبرنا هنري دي رينيه كيف استقبل أدباء القرن التاسع عشر النقَّادة فردينان برينتيير، وخلعوا عليه الألقاب الشريفة … ونظموا له في حياته، ما زعموا أنه سيكتب على قبره، وإليك العبارة فأقرأها وأعذر أصحابنا:
Avec son oeuvre tout entière
Ci-git Ferdinand Brunetiére

وبعدُ، فبشارة يسمِّي نفسه اليوم شاعر الأمة، كما سمَّاها أمس الأخطل الصغير، ففي قصيدته لفخامة رئيس الجمهورية — إده — يقول:

عجبًا لشاعرِ أُمَّةٍ حسناته
في جيدها ويُكافَأ المتملقُ
أنا لا أمن رضيت أني طيرهـ
ـا الشادي وأني جفنها المغرورق

وهذا أيضًا من تركة المرحوم شوقي، أما شوقي فبسط جناحيه على الشرق كله حين قال:

كان شعري الغناء في فرح الشر
ق وكان العزاء في أحزانه

أما بشارة فرجل قنعان، اكتفى بقطعة كالتي تمنَّاها المتنبي على كافور، والتي وليها دعبل الخزاعي. بسط سلطانه علينا، وقال: إنه لا يمن ونحن لا ندري بماذا؟ أَبالرثاءِ والمديحِ؟ أهذا هو الشعر؟ ثم هَبْهُ رضي هو — كما قال — فمَن يكفل له رضا البنت، وإقناع أمها وأبيها بهذا العريس. أما من هذا المتملق الذي يكافأ، فأظن القارئ يعلم أن الشاعرين شبلي وبشارة عوَّدانا مثل هذا التعريض في كل مناسبة، فبشارة يقول لفخامة الرئيس: «ويكافأ المتملق»، وشبلي يؤلمه: «غمط الجميل، والخيانة، وطول المطهر»، كما ستقرأ، أما الآن فاسمع حديث بشارة:

نفس الكريم على الخصاصة والأذى
هي في الفضاء مع النسور تحلِّق
سيان من اليأس موت عاجل
أو حرمة ترعى وعيش مورق

أما الخصاصة فكل خبرها عند صديقنا الريحاني الذي قال له في حفلة جامعة عالية الوطنية: إنك صاحب بيت وبستان، وصيت رنان. لقد كان أولى بأخينا بشارة أن يكتمها — والرزق على الله — متمثلًا بقول الشاعر: وإذا تصبك خصاصة فتجمَّلْ. وأما الأذى فكلنا نفدي الشاعر بآبائنا، لا عاش مَن يرشقه بوردة.

وشاء بشارة في هذه القصيدة أن يجدِّد في التعبير، فجاءنا بلفظة «شرواك» التي لا تُشرى بفلس، ويلفظها الشعر كما تقيء المعدة ما يشوِّشها، ولا بدع في محاولته هذه، أما أراد أن يطول نفسه في القصيدتين السابقتين فتضعضع ولم يتماسك، كالبحتري حين زعزعه الدهر، وبرزت الكثيرات من قوافيه ساهمة كاشرة كالفرس في آخِر الشوط؟!

وبشارة يحوم حديثًا حول المسبح، ولماذا لا؟ أَمَا فعل هذا شوقي من قبلُ حتى شرد يسوع وراء دجلة؟ ففي «الحلبية» شبَّه بشارة بالمسيح، فأخطأ لغة بقوله «تغالوا»، ولحن في «لا شدوًا ولا زغبًا»، ثم عاد فرأى المسيح في شخص فخامة الرئيس — إده — حيث قال خاتمًا هذه المنظومة:

فابْسِطْ يمينكَ كالمسيحِ فربَّمَا
بُعِث الدفينُ وعادَ حيًّا يُرزَق

أما الإصلاح فمرجو من الرئيس وأمين السر اللذين مدحهما بشارة، فكلاهما كفؤ لأكبر من منصبه، وآثارهما تشهد لهما، وما ننقد نحن إلا هذا النظم.

وبعد أيام ظهر المسيح ثالث مرة، فتراءى لبشارة أفندي طبعًا متحدًا بلاهوته وناسوته، في شخص الصديق الدكتور فغالى. ليس في هذا غرابة، فالمسيح ظهر للرسل الأطهار مرات، والتعليم المسيحي يعلمنا أنه موجود في كل مكان. اسمع هذه القصيدة العصماء ولا تعجب إنْ سمَّيْتَها قصيدةً، فكل سبعة أبيات قصيدة، وهذه ثمانية:

يداك أم يَدَا الملَك
حيَّرت مَن تأمَّلَك
يا مُخرِج الروح من الرو
ح ولولاك هلك

وهل وقت التوليد ساعة تأمُّل، وصلاة عقلية يا أخي؟! لقد كانت تلك الأعرابية خطيبة امرئ القيس أبلغ وأشعر منك حين قالت لسائلها عن أمها: «ذهبت تشق النفس نفسين.» (راجع شعراء النصرانية).

لم يظهر المسيح بعدُ، بل بشَّر به «الملاك» في مطلع القصيدة، فتهيَّأ للأمر أيها القارئ لتشهد الآية:

كأنما الله إلى
الناس مسيحًا أرسلك
يا عجبًا من ساحر
فجَّر نورًا من حلك

كان ملاكًا، ثم تجسَّد وتأنس مسيحًا، ثم مُسِخ ساحرًا عجيبًا — أَفَلا تراها أخت أطياف جنة في ثياب … بعدما صلت على المرحوم إبراهيم أم الكتاب — فحذار يا بشارة أن تجرب الربَّ إلهك فيما بعدُ.

أناملي العَشْر وإنْ
قلت تفدي أنملك

لقد فدَّى هذه المرة بما يملك، سلمت يداه للبحث والتنقيب والكتابة، فالأمة في حاجة إلى شاعرها وطيرها الشادي الباكي، المولع بالتفدية كالعجائز:

يا واحد التوليد ما
خاب جنين أمَّلك

وماذا تراه يؤمل الجنين؟ إن باب المجاز واسع فَلْيعبر هذا البيت بسلام لئلا نتهم بالتعنُّت، وَلْندع أبا نواس يستعدي الأدباء المنصفين على بشارة، فكأنَّ بشارة قرأ حديثًا تلبيات أبي نواس، فنسج على منوالها وإليك الخبر:

حج أبو نواس حين حجت جنان، وقال شعرًا في التقائهما عند الحجر الأسود، ولما أحرم النواسي لبَّى شعرًا، وهذه أبياته نقلًا عن الأغاني، فقابِلْها بشعر بشارة، ثم قُلْ في ذلك ما تشاء. قد حكَّمْتُك ولا أخشى أن تكون كأبي موسى:

إلهنا ما أعدلك
مليك كل مَن ملك
لبيك قد لبيتُ لك
لبيك إن الحمدَ لك
ما خاب عبد أملك
أنت له حيث سلك
لولاك يا رب هلك
كل نبي وملك
وكل من أهل لك
سبَّح أو لبَّى فلك

بَيْدَ أن أبا نواس قال: ما خاب عبد أملك، كما قرأت، وأخيرًا أسف الشاعر بشارة حتى هذى فقال:

لولاك ما كان نجا
ولا زقا ولا دلك

ونسي — على قرب المسافة — أنه قال لنا فوق: ولولاك هلك، ثم يختم هذه التهليلة الرائعة بقوله:

إن نقتسمه بيننا
فالجسم لي والروح لك

لا اعتراض على هذه القسمة، فقد يكون رضي بها الدكتور فغالى، إنما لي ملاحظة أخرى على هذه الأبيات «الأَبِيَّات» هداني إليها علم فرويد، ولماذا لا ندعي علم النفس والعقل الباطن؟ فكل الناس يدعونه، إن العقل الباطن عمل عمله الخطير هنا، فنظم بشارة أبياته هذه دون أن يشعر، على لحن: «المجد لك يا إلهنا المجد لك»، التي تقال عند النصارى حين يكلل العرسان.

والآن، وقد مات الزهاوي فجأةً، فلا بد أن يكون بشارة وغيره شرعوا في النظم. ليت الرجل مرض وترك مجالًا لحليم دموس ليقولها يوم نعيه. البكاء على رأس الميت حلو، ولكن موته بغتة أراحه وأراحنا من عذابين، أمَّا نحن فإلى حين، فمن الربِّ نطلب أن يلهم «شعراء الظل» شيئًا، فنسمع شعرًا لا نرى قلع أضراسنا كلها في ساعة واحدة أهون من سماعه، كما كتب إليَّ طالب الحقوق البيروني الذي لم أفك اسمه.

•••

ومن محصول هذا الشهر أيضًا قصيدة الشاعر شبلي ملاط، وهو الذي علَّم بشارة قول الشعر فخرًا بنفسه، وإن أقل شبلي منه اليوم فلابتذاله، أما بشارة فتفرَّد به حتى صار شاعر نفسه قبل كل شيء.

وقصيدة الملاط، وهي في فخامة الرئيس — إده — أيضًا بدأها بقوله:

بيني وبينك ذمة لا تخفر
تتغير الدنيا ولا تتغير

فجاء عجز مطلعها على قياس: تتزعزع الدنيا ولا تتزعزع، ويمضي الأستاذ في قصيدته مبيِّنًا تعلُّقه بفخامة الرئيس حتى يقول:

لا عاش من غط الجميل وخان من
لولاه ليس له مقام يذكر
لا يختفي مثلي ولو رفعوا الذي
دوني ولي بالأرز عهد أشهر

إلى أن يصرخ — بعد وصف ما لاقى من أهوال — كما صرخ سمعان الشيخ:

أطلق سراحي إنْ أردتَ وخلِّني
فلقد سئمت وطال ذاك المطهر

المعضلة أعوص من المسألة الألمانية الإفرنسية، ساعد الله الرئيس المِدْرَه الحازم على حلها، فيجد منصبًا يليق ببشارة فيملأ عينيه، ويذهب خصاصته، فلا يقول لنا عجبًا لشاعر أمة، كما قال في حلبيته:

ويمطر الضيم في أرضي وأشربه
وكنت لا أرتضي أن أشرب السحبا

أما خير حل للقضية فهو إخراج شبلي من مطهره ليدخله بشارة التائق إليه.

ثم يقول شبلي شعرًا في المعركة الانتخابية، فيعدِّد أنصار الرئيس واحدًا واحدًا من نوَّاب وصحف وزعماء، فتأتي الأسماء بلقاء، وبعضها نابية، ناهيك بما يتعمَّده من جناس وتورية، فلولا الوزن والقافية خِلْتَ أنك تقرأ نثرًا حتى يقول:

وإذا نسيت فلست أنسى «روكسًا»
إنَّ ابن ضنين الأشم غضنفر

يذكرني هذا النسيان بالنسوان اللواتي يزغردن في أيام الفرح ويغنين لهذا وذاك، حتى إذا نسين واحدًا — وإن غائبًا — اعتذرن إليه بقولهن: «آووها، لا تقول يا فلان إني نسيتك، أنت الياسمين وأنا خبيتك … إلخ.» إنَّ «خبيتك» تحتاج إلى شرحٍ، أي خبأتك … وهكذا فعل بشارة أيضًا في حفلة نقيب الصحافة الجليل خليل كسيب لفخامة الرئيس، راجع (صوت الأحرار ٣٠ ك٢) تَرَ أنه نسي، ثم أوحى إليك بذلك شعر صلاح اللبابيدي فاعتذر.

وبعد ذكر الأنصار أجمعين يفقِّط لنا أستاذنا الملاط حساب المسلمين الذين انتخبوا الرئيس، فحصل «أليكون» سبعة، وكأنه شاء ألا تفوته عبارة «عدا السهو والغلط» التي لا بد منها لكشف التاجر، فقال: «وربة ثامن يتستر»، خير لك ولي أن تسمع البيتين بنصهما وفصهما:

زعموا بأن المسلمين تنكبوا
عمَّن تؤيده البلاد وتؤثر
فإذا الألى قد بايعوه سبعة
منهم وربَّة ثامن يتستر

ويمضي شاعر الأرز متدفقًا كنبع قاديشا، فيصف لنا هدوء الانتخاب قائلًا:

وجرى انتخاب هادئ مترصن
حر عليه من المهابة مظهر
في دورتيه كان «إدة» ظافرًا
والله يسعد مَن يشاء وينصر

حلو هذا التسليم الرباني. ثم يصف الشاعر أصوات المدافع وحرس الرئاسة خلف الرئيس وأمامه وحواليه، ويدقِّق حتى لا ينسى التصفيق المالئ الفضاء، واستبشار الخلق، وخصوصًا معلمنا شبلي الذي غلب السرور عليه حتى أبكاه، فقال:

وترقرقت عيني وقلت لصاحبي
يا ليت نعوم المكرزل ينظر

وقد عجبت لهذا الصاحب من أين نبت بغتة؟ وأين كان مخبَّأ؟ ولكن الوزن في شعرنا يخلق لشعرائنا ما لا يعلمون …

أما «يا ليت نعوم المكرزل ينظر» فأخت الحكي البليد، وإذا قلت: الزجل خير منها، ظلمت الزجل وحقِّ ربي. أما أستاذي فرآها آية حتى جعلها عنوان قصيدته … وشاء الشاعر أن يبين جدارة الأستاذ إده بهذا المنصب السامي، فقال:

أأميل قد عدل الزمان فأنت من
كل الجوانب بالرئاسة أجدر
علمًا ومقدرة ومنزلة فما
أحد عليك بأي شيء يفخر

إن جدارة الرئيس — رجل الساعة — لا قول فيها، وقد أقرَّتْ له بها أمهات الصحف الأوروبية، وأما «من كل الجوانب» و«فما أحد عليك بأي شيء يفخر»، فهذه بنت عم «على الإطلاق» في قول بشارة في المتنبي:

رب القوافي «على الإطلاق» شاعرهم
الخلد والمجد في آفاقه اصطحبا

وأخت «شرواك» في قوله لفخامة الرئيس عن الدكتور أيوب:

«شرواك» أو هو منك ما اقترح الهدى
صدر بكل يتيمة يتدفق

إن هذه الهنات كثيرة في قصيدة الشاعر شبلي ملاط، فيُخيَّل إليَّ أنه نظمها ساعة نخوة، فوثق بكل كلمة قالها حتى «الأبتر»، ومعناها المقطوع الذنب، وليست صفةً للسيف، «وليلك مقمر» وهي كناية مشهورة عن الشيب …

أكاد أجزم أن الملاط لم ينقِّح بيتًا من قصيدته هذه، ولا شطب فوق شعر استقام وزنه، فهو في نظمه وخصوصًا في هذه الآونة، يستسلم لسجيته السخية حتى تكاد ترى بطانتها وظهارتها، وهذا من عيوب أستاذنا، فلو تأنَّى لأجاد وقال شعرًا يحيا، ولكنه يرحِّب بأول قادم، ومَن يقرؤه في هذه الأيام يشايعني على ما أخذته به.

أما بشارة فيخالفه في هذا، فإنه كثير التنوُّق حتى التعمل، يتعنَّى كثيرًا فتتفكك منظوماته، ويجتهد في عمله ليُخرِج لك صورةً فلا يوفق كثيرًا لضعف خياله، ولكنه إن أخطأ الإبداع فلا يفوته أن يزخرف ويموِّه ويزبرج.

وبشارة يحاول أن يخلق لك أسطورةً فتأتي بليدة لا تستفزك روعتها، بل تُضحِكك عقدتها حين يفكها بشارة وتنجلي عن لا شيء، كما فعل في أسطورة ميلاد المتنبي التي أراه استلهمها من حلم والبة بن الحباب في غلامه الشاعر أبي نواس. وإن تسنح لك فرصة أرغب إليك أن تقرأ رثاء بشارة لمحيي الدين الخياط (جواهر الأدب ج٥) فهناك ترى أيضًا شبه أسطورة، ولكن درجة حرارتها ٥٠ تحت الصفر.

إن بشارة يجيد الغزل فقط، وعلى النمط العتيق، وبخاصة إذا حُرِم، فعندما تغزَّل في صدر «الحلبية» أجاد التحرق، وإن حمل القرب على فمه لا على الجحش مثل الزير أبي ليلى المهلهل. اسمع البيت:

ما للشفاه الكسالى لا تزودنا
فقد حملنا على أفواهنا القربا

فهو يريد أن يكون أقوى من الجِمَال التي حملتها فوق ظهورها.

أما شبلي فيجيد الشعر القصصي حتى الإبداع، وإن لم يوفَّق اليوم في قصيدة الرئيس، فلأنه ألزم نفسه ما ليس يلزمها، تعمَّد سرد ما كان في غنًى عنه، فأسماء العلم يابسة لا تلين مهما نقعتها في بحور الشعر، ولكن قصيدته ستبقى وثيقة تاريخية كيفما دارت بها الحال، وقد تغنيه عن تدوين وقائع جلسة الانتخاب إذا حورها قليلًا.

وقصارى الكلام أن الشاعرين لم يقولا شعرًا في هذه الأعوام الأخيرة، بل هما يكرران ما قالاه، فخير للقارئ أن يسمع شعرهما، في الرثاء والمديح والسياسة، ولا يحلله وينقده، ومَن نقَدَ قصيدة واحدة من شعرهما فكأنه نقد شعرهما كله. ولعلنا ننظر قريبًا في غير هذه الناحية من شعرهما، وهي خير وأبقى من هذه، أما الآن فما يتكردس أمامنا من الآثار الأدبية يدعونا إلى الاحتفاء به والقيام بواجبه، فنودعهما آسفين، فإلى حين.

٣ / ١٩٣٦

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤