تقدير الشيخ علي يوسف١

لا يقنعني بأن الصحافة المصرية لم تتجاوز بعدُ سن الحداثة مثل آفتين مما تبتلى به كل صحيفة: إحداهما مماطلة المشتركين، والثانية إعارة الصحف والمجلات.

وكثيرًا ما سأل الصحفيون: ما بال الصحافة المصرية مبتلاة بداء المطل من مشتركيها حتى لا تكاد تظهر صحيفة إلا صادفها من ذلك عقبات تقضي عليها أو تلجئها إلى غير مواردها؟

ولا علة لذلك سوى أن الصحافة لم تدخل بعدُ في عداد الضروريات في حساب المصري، وأنه لا ينتظرها كما ينتظر الرجل شيئًا لازمًا لا غنى عنه، ولا يتعقب آراءها تعقب من يعتقد أن لتلك الآراء مساسًا به ودخلًا في حياته.

تبلغ الصحافة هذه المنزلة في «البلاد الاجتماعية»، وأريد بالبلد الاجتماعي ما تتكون فيه جامعة قومية محسوسة تربط بين سكانه بصلة من التضامن في الشعور والمرافق العامة، وليس للمصريين هذه الجامعة اليوم، ويكاد لا يدور لها خيال في أذهان الكافة من أبناء هذه الديار. فإنهم لا يزالون يرددون اسم المصري ويقصدون به المولود في مدينة القاهرة، وليس عندهم إلى اليوم كلمة للقومية المصرية، اللهم إلا ما تلقفه بعضهم أخيرًا من مستحدثات الكتابة، وما هم بالكثيرين.

أما في الأوطان الاجتماعية، فالصلة بين أهلها أقرب من ذلك، هناك يترقب القارئ الصحيفة كما يترقب الرسائل الشخصية، ويرى في كل خبر رسالة من الأمة إليه أو منه إلى الأمة. فلا يخطر لمثل هذا القارئ أن يماطل الصحيفة في أجرها، ولا يستحسن أحد أن يستعير منه صحيفة ليقرأها كما يفعلون هنا؛ لأن الناس يخجلون من استعارة الشيء الضروري الذي يعتقدون أنه لازم لكل فرد من الناس.

ليست المماطلة من طبيعة المصري، ولا الاستعارة من ديدنه، فإننا لا نسمع بالمماطلة في ثمن الخبز إلا نادرًا، ولا نراهم يستعيرون الملابس مثلًا، إلا أن تكون محلاة أو نادرة (وذلك في القرى التي تعد الحلى من قبيل الزينة الكمالية). ولكن النفوس مجبولة على أن لا تحسب حسابًا لغير ما يلزمها. والمصري اليوم لا يحس الحاجة الماسة إلى الصحافة، فلا جرم نراه يسقطها من حسابه، ولا يفرد من دخله قدرًا يدفعه إلى الصحيفة متى طالبته بحقها عليه.

نقول ذلك بمناسبة موت ذلك الصحفي الذي قال بعضهم في رثائه: إنه كبر بالصحافة، وإنه استمد نفوذه منها، لنقول: إن الصحافة المصرية ليست من القوة بحيث تكسب صاحبها نفوذًا صحفيًّا كالذي يكسبه بأقلامهم كُتَّاب الإفرنج. وإنه على كون الصحافة الإفرنجية لا تنهى ولا تأمر، ولا تنصح ولا تزجر، فالكاتب فيها أكبر شأنًا من الوجهة الصحفية من كاتبنا الذي لا يعول في الصحافة على غير قلمه.

ليس الشيخ علي يوسف صحفيًّا كبيرًا. كلا ولا هو بالرجل الكبير. وإن كنا لا ننسى أنه ولد خاملًا فمات شهيرًا، ونشأ نشأته الأولى متربًا ثم قضى نحبه مسموع الكلمة وجيهًا.

ولكن هل ذلك حسب الرجل من حياته؟ أوَليس على المرء إلا أن يسعى لينجح فيُذكر اسمه على كل لسان، ثم لا يسوغ لأحد بعد ذلك أن يذكره لغير المدح والتبجيل؟

ذلك ما لا يقوله قائل. فإنما للنجاح وسائل كثيرة وأكثر من وسائله غاياته. وقد ينجح الرجل فلا يكون له حظ من العظمة غير اسمها وزيها، وينجح غيره أقل من نجاحه فيكون نجاحه عرضًا غير مقصود لذاته، وكأنه مخرج لما يمتلئ به صدره من الرغبة في النفع، وكراهة النقص، وحب الكمال.

كنا ليلة دفن الشيخ علي يوسف في مجلس مع بعض الأصدقاء فقال واحد منا: اليوم يحزن فلان وفلان، وعدَّد أسماء جماعة ممن كان الشيخ علي سببًا في إيصال النفع إليهم، وتمهيد سبيل الوظائف لهم. قلت: بل اليوم فليفرح هؤلاء لأنهم لا يدينون للشيخ بالحب والإخلاص، ولكنهم يدينون له بربا ذلك النفع، وقد استراحوا اليوم من الغريم الذي كان يستأديهم ذلك الربا. وما مساعدة هؤلاء الناس لأصحابهم إلا كمقارضة المقامرين، يقرض أحدهم زميله ليسترد ماله وقرضه قبل أن يبرح مكانه، فلا بدع أن كان أحدهم يفرج عنه بعد صاحبه، كما يفرج عنه بعد الغريم الملحاف.

قال بعض الجالسين: لكأنك سمعت معي ما قاله أحد أصدقاء الشيخ الأقربين، فقد سمعته يعجب لنفسه كيف لم يغتم لوفاة رجل كان موضع سره، وشريكًا له في أكثر مساعيه، ويقول: إنه على جلده لفراق الأصحاب وصبره على كوارث الموت، ما كان يحسب أن يقابل موت ذلك الصديق بمثل هذا الفتور.

وقال: لقد حضرت اليوم الجنازة فرأيت فلانًا يتأبط ذراع بعض إخوانه وهما يتغامزان ويضحكان، وكنت أتوقع أن أراه في ذلك المشهد باكيًا أو خاشعًا، أما فلان هذا الذي رآه محدثنا فرجل جرى له على يد الشيخ رزق لا يقل عن خمسين جنيهًا في الشهر.

ولا عجب في هذا الكنود، فإن الناس يحبون من ينفعهم إذا كان بره بهم صادرًا عن حب لهم، أما إن كان لغير ذلك فهم يقبلون بره ويحافظون على ظاهر الود له ليستزيدوه منه، ولكنهم لا يحفظون له جميلًا، إذا كانوا يعلمون أن جدواه عائدة عليه قبل أن تعود عليهم.

فالشيخ علي قد أفاد بعض الناس، ولكنها فائدة لا تنتمي إلى عاطفة من حب الخير، فلم يفجع الموت فيه صديقًا مخلصًا، ولم يقم له من أسدى إليهم البر بحق الوفاء. وفرق بين هذه الحالة وحالة العظماء الذين يخرجون من الدنيا وما تركوا فيها صديقًا يبكيهم. لأن الناس ربما جهلوا قدر أولئك العظماء فلم يفهموهم ولم يحزنوا لفقدهم، وأما هؤلاء فليس جمود الناس عن بكائهم إلا لأنهم قد فهموهم حق الفهم.

ولقد أراد أكثر من كتبوا عن الشيخ علي يوسف أن يستدلوا بوصوله إلى منزلة يضر بها وينفع على نبوغ عظيم فيه، وهذا جهل عظيم بمعنى النبوغ، فما يليق بهذه الهبة السماوية وهي ثمرة الإنسانية جمعاء وبنت الخلود بأسره أن تقاس بمقياس المهارة في الوساطة عند فئة من الناس في فترة من الزمن، ومن شاء فلينظر إلى أضراب الشيخ علي ممن وصلوا معه إلى مثل منزلته يجد بينهم من ليس له في النبوغ أقل دعوى، ومن ليس هو من رجال الأدب ولا من رجال العلم أو العمل، ومن لم يفكر قط في أن يكون واحدًا من هؤلاء. ولكنه مع هذا ينفع ويضر، والناس يزدرونه وإن كانوا يرجون منه ويخشون.

إنما يعين هؤلاء على النجاح نشأة نشئوها لم تجعل لمبادئ الكرامة سلطانًا على عقولهم، فخف على أقدامهم وقر الذمم، فنهضوا، وهذه سير العظماء الأجلاء نراجعها وننعم النظر فيها، فنرى أن أصعب ما كانوا يعانونه من العراقيل والعقبات، إنما هو ما أرصدته لهم ضمائرهم وأقامته أمامهم وجداناتهم، لا ما يقيمه في طريقهم أعداؤهم ومنافسوهم. ولذلك يقل بين ذوي الخصال الكريمة والسجايا النفسية العالية من ينجح في هذه السبيل نجاح أناس هم دونهم ذكاء وقدرة وأخلاقًا.

ولا ننكر على الشيخ علي ذكاءه واستنارته، لكنه ذكاء رخيص المعدن، ونور مختلس كالمصباح الذي يحمله المدلج المتسلل في الظلام. فليس هو من النبوغ المشرق، ولا مما يلحق بسموِّ اللب وسعة الذهن. وعندي أنه أشبه بالحذق في حرفة من حرف الكسب، وأقرب إلى السر المحتكر الذي يحتفظ به صاحبه منه إلى المواهب المباحة التي يشرك فيها غيره، وهناك نسبة بين هذا النوع من الذكاء، وتلك الحيلة التي يبثها الله في طباع مخلوقاته؛ لتستعين بها على مراوغة أعدائها، والأمن على حياتها.

لو كان الرجل سامي اللب واسع الذهن، لكان تقديره للعظمة أسمى وأكبر من تلك الغاية التي نصبها غرضًا له في حياته، وبذل كل ما يعز على النفس بذله لأجل دركها.

ولو أن الشيخ علي جدد سيرته هذه الأيام لما قدر على أن يعيدها كما بدأها، ولما كان مستطيعًا أن ينال من السمعة مثل ما ناله بين أرباب الأقلام، أو قريبًا منه.

أصدر الرجل جريدة الآداب في أول نشأته، وكان كل من يكتب من أبناء مصر يومئذ كاتبًا كبيرًا؛ لأنه لم يكن ثمة من هو أصغر منه، وكان الأدب لذلك العهد في حضيض من الضعف والتدلي يقرب من الموت، فلا كُتَّاب في البلد ولا شعراء، ولا تصنيف فيها ولا قراء. ولم تكن المطابع قد أخرجت دقائق الأدب العربي القديم، فيتخذها الناس معيارًا يقيسون عليه مقدرة الأدباء إذا أعوزهم المثل من كُتَّاب عصرهم وأدبائه، فكان الذوق الأدبي معتلًّا والحاجة إلى الكتاب شديدة. وفي ذلك العهد كتب الشيخ علي يوسف فاستحق التفات رياض باشا، وفتح له ذلك الالتفات باب الأمل، فلم يقصر في السعي إلى غايته.

وكان الشيخ علي يقرض الشعر ليمدح به السراة والأغنياء، فلما حصل من الكتابة على ما يزهده في طرق هذه الأبواب رأى أنه استغنى عن الشعر ولم تعد به حاجة إليه، فتركه ومضى في الكتابة، وكأنما صارت هذه له حرفة رابحة بديلًا من تلك الحرفة الكاسدة، لا أكثر ولا أقل، فأصبح بعد مزاولتها عشرين عامًا أخصائيًّا في الباب الذي اختاره من الكتابة الصحفية. إذا تخطاه زلت به القدم.

وقد عنَّف بعضهم عليه في حياته لانتقاضه على رياض باشا، وقالوا: لقد رأينا الرجل أيامًا لم يبق أحد من أصحاب الأيادي إلا أحسن إليه، ثم رأيناه أيامًا لم يبق فيمن أحسنوا إليه أحد إلا قد أساء إليه بقلمه أو بكيده. ونحن لا يهمنا نكرانه جميل هذا الإنسان أو ذاك، ولكننا نعيب عليه هذه الخلة. ثم نحن نرى له بعض العذر في الارتداد على فريق ممن أسلفوا له الخير؛ لأنهم ساعدوه وهو فقير خامل، فلما أصبح من أهل الرتب والوجاهة أبوا أن ينسوا خموله وفقره وظلوا يرون فيه ذلك المجاور القديم الذي كانوا يعرفونه من قبل، وأبى هو أن ينسى مكانته الجديدة التي جاهد لها ذلك الجهاد كله، فقلب لهم ظهر المجن، وكانوا في امتنانهم عليه أحق باللوم منه في جحوده لأياديهم عنده.

وإني ليشق عليَّ أن لا أجد له عذرًا من نقيصة غير هذه، وأن لا أراني قادرًا على أن أنعته بتلك النعوت التي جمع فيها مؤبنوه كل مزية من المزايا الموزعة بين كبار رجال العالم، يفعلون ذلك وهم لا يؤمنون بصدق ما يكتبون، ولماذا؟ لأن الرجل ليس بحي اليوم، فهل حقيقة أمس وغد تتغير اليوم؟ وهل يسوي الموت بين جميع الأعمال؟ أما أنا فلست أعلم كيف يمحو الموت السيئات ويكبر الحسنات. ولا لأي شيء ندع الحكم للتاريخ البعيد الذي يجهل الرجل ونحن أقدر على أن نرى الحقيقة كما هي عن كثب، وعلينا قبل غيرنا واجب الصدق في تأبينه وتقديره.

ألا إن أحق موقف بأن تقيد فيه السيئة إلى جانب الحسنة هو موقف الرثاء. وأولى الأوقات بأن تتمثل فيه عبرة الحياة هو الوقت الذي تنتهي فيه الحياة. وذلك أمر هُدي إليه الناس منذ فقهوا معنى الثواب والعقاب، ألم تكن عقيدة الحساب بعد الدفن من أوليات العقائد التي تخيلها الناس في أقدم الأديان الوثنية؟ فلو تغاضينا عن النقائص والمعائب لبطلت حكمة الذكر، ولحق الخبيث بالطيب. وما كان التساهل في النقد والمؤاخذة محمودًا في وقت من الأوقات، فكيف به في وقت طمس معالم الضمائر، وضلل الأبصار والبصائر، فحسبنا هذا، ولا يبلغن من فساد وقتنا أن يغنم فيه المرء غفلة الفضيلة حيًّا وميتًا.

وغاية ما يقال أن الشيخ علي يوسف جد في حياته وراء مآرب تستهوي أمثاله، فاستطاع قضاءها، ولم يستطع أن يكون عظيمًا حتى في قلوب أشياعه وأتباعه.

١  نشرت في يوم ١٣ نوفمبر سنة ١٩١٣ بإحدى الصحف الأسبوعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤