تمثال نهضة مصر١

في ميدان باب الحديد حيز من الأرض يبنون فيه تمثال نهضة مصر؛ ليكون غدًا عنوانًا خالدًا للفن المصري، ومثالًا باقيًا لما يفهمه المصريون من مقدرة الفن، ومن معنى التخليد بآثار الفنون.

وتمثال نهضة مصر هو — كما يعلم القراء — من صنعة الشاب المجتهد محمود أفندي مختار، أحد شباننا المشتغلين الآن بالفنون الجميلة. وقد رحبنا بصنعته، ورحبت بها الأمة يوم عرضت في معرض باريس، وسكتنا يومئذ عن عيوبها، وعما فيها من مواطن الضعف؛ لأننا أردنا أن نرى فيها باكورة يانعة يحق لها التشجيع والتحبيذ، وأن تعفيها الأقلام من النقد الممحص حتى تنضج وتقوى على احتماله والانتفاع به. فأما وقد عنَّ لهم أن يرتفعوا بها عن قدرها، ويحملوا على الأمة زينها وشينها، فقد وجب أن تقال فيها كلمة على غير ذلك المنحى الذي قوبلت به عند ظهورها. فاليوم لا نرى صنعة مختار أفندي أمامنا، ولكننا نرى ذوق الأمة وإدراكها يراد بهما أن يمثلا إلى ما شاء الله في صورة ذلك التمثال. فمن الواجب أن نُبرئ ذمة الأمة بكلمة نقد لا ننظر فيها إلى تشجيع أو مجاملة.

فكرة التمثال مسروقة. وهذا أول ما ينبغي لنا أن نتحرى التنبيه إليه ونتوقاه؛ لأن مصر المقدسة بفنونها وآثارها لا يحسن بها إذا هي شاءت أن تصور نهضتها الحديثة أن تختلس الفكرة التي تصورها بها اختلاسًا من فضلات الفن في أمة أخرى، وإنها لبئس النهضة نهضة تُسجل في تاريخ الأمم بفكرة مختلسة، وليس بنا ها هنا أن نُشهر بسرقة لمختار أفندي، فإن سرقاته وسرقات أضرابه غلطات فردية يحاسبون عليها وحدهم، ولكننا لا نجيز لأنفسنا أن نسكت عن سرقة تلصق بالأمة على غير علم منها، فيلزمها منها سبة في فنونها وعار على أخلاقها.

أما الفكرة التي بُني عليها التمثال فمأخوذة من صحيفة مصورة نشرت في أوائل الحرب العظمى، صورة رمزية تمثل موقف إنجلترا حيال فرنسا. وكان الجيش البريطاني في ذلك الحين يستكمل أهبته ويرسل المدد إلى فرنسا فرقة بعد فرقة، فمثلت الصحيفة هذا الموقف في صورة رمزية هي صورة الحرية تضع يدها على رأس الأسد البريطاني الرابض وتستنهضه للمعونة، وهو يتحفز من مربضه في بطء رصين وتعازم مخيف، وهذه — كما لا يخفى على القارئ — هي فكرة تمثال نهضة مصر بعينها لولا أن لهذه الصورة معنى، وأن الصورة كما اقتبسها مختار أفندي لا معنى لها.

فأما معنى هذه الصورة فظاهر لمن يعرف أن في فرنسا تمثالًا للحرية كاد يكون من الأعلام الفنية على الأمة الفرنسية، وأن رمز الأسد يدل على الدولة البريطانية بين الدول، كما كان يكنى بالدب عن الدولة الروسية، والنسر عن الدولة الألمانية. ولا نعلم ما هو أدق في تمثيل استنجاد فرنسا بإنجلترا من تصوير الحرية تهز نخوة الأسد، ولا سيما حين نذكر أن فرنسا كانت تنادي في هذه الحرب باسم الحرية والمدنية، وأن إنجلترا كانت في ذلك الوقت بالأسد الرابض المترفق أشبه منها بالأسد الصائل المهتاج، فالفكرة على هذه الدلالة دقيقة والتمثيل جميل.

وليست كذلك فكرة «نهضة مصر»، لأننا لا نعلم ماذا تُمثِّل الفتاة فيه، وماذا يُمثِّل أبو الهول. فإن كان أبو الهول هو مصر الناهضة فمَن تكون الفتاة الماثلة بجانبه؟ وإن كان أبو الهول هو مصر الأولى، فما معنى حركة تاريخها الباقي وهو مصون مجيد سواء نهضت مصر الحديثة أو لبثت قيد الجمود والهوان؟ ونعود إلى تفسير آخر، فنقول: إن الفتاة هي مصر بتاريخها القديم ونهضتها الحديثة، فهبها كذلك، فما شأن أبي الهول؟

ومن ثم ترى أن فكرة التمثال مسروقة أو مسبوق إليها، وأنها على ذلك غير متقنة، وهذا هو التمثال الذي يقيمونه باسم الأمة المصرية ليصور نهضتها لا لهذا الجيل وحده، بل لكل جيل يأتي عليه في المستقبل، ولا لمصر وحدها بل للعالم قاطبة.

•••

وفي التمثال عدا هذا عيب آخر يُحسب من عيوب النظر الفني والنظر التاريخي معًا؛ ذلك أن أبا الهول المصور فيه لا يشبه في شيء من ملامحه أبا الهول القديم الذي بناه الفراعنة، وإنما هو صورة منقولة عما في معابد البطالسة من هذه النصب، وإنه لمن الخطأ في فقه الفن والتاريخ أن يُختار لتصوير نهضة مصرية نصبًا بنته في مصر أسرة أجنبية، وعندنا تمثالنا ذاك العريق المهيب قائم لمن يريد النقل عنه بلا حاجز ولا رقيب، ولكننا نحسب صاحبنا مختار أفندي لما عقد النية على إخراج تمثاله رجع إلى كتاب المسيو ماسبيرو ففتحه على صفحة تماثيل أبي الهول فاختار أقربها إليه، ثم أقفل الكتاب وحمد الله على الظفر بنموذج سهل لا يكلفه انتقاء ولا أجرًا!

وعيب آخر في التمثال أنه يوهمنا كأنما أبو الهول الرابض كان رمزًا إلى الجمود والتأخر؛ لأنه يتخذ من نهوضه وتحامله رمزًا إلى الحياة والتقدم، وليس أضل من هذه الفكرة؛ لأن أبا الهول قد بُني رابضًا هكذا في دولة مصرية كان لها من البأس وعلو الكعب في الفنون والصناعات ما لم يكن لدولة غيرها في تاريخ الأسر العشر الأولى. وقد أرادوا أن يرمزوا بربضته هذه إلى الركانة والثبات والمهابة، فليس من دقة المغزى الفني أن نقابل الثبات بالجمود والهيبة بالمذلة، وإلا فلو شاء أحد أن يقارن بين أبي هولنا القديم وأبي هول النهضة الحديث فأي معنى يتجلى في هذه المقارنة؟

•••

كل هذا — لا بل بعضه — كافٍ لفتح الأعين وتنبيه أصحابنا الذين يحسبون أنهم يكرمون الفن أو يشرفون مصر بإقامة هذا التمثال مقام العنوان الخالد على نهضتها وشعور الفن في نفوس أهلها. وما هم بمكرمين الفن فيه ولا بمشرفين مصر! إنما هذا عنوان على فقر في الفن قد نسلم به طائعين لولا أن يضاف إليه فقر في الإدراك لا حاجة بنا إلى التسليم به، فاجعلوا تمثال نهضة مصر باكورة محمودة، وأفيضوا عليه ما يروقكم من التشجيع والاستبشار، ولكن لا تنصبوه في الميادين العامة؛ إذ ليست ميادين الأمم محلًّا لعرض خطوات التدرج في تعلم الفنون وترتيب النماذج في أطوار مرانها. محل هذا في مدارس الفن أو في المتاحف الخاصة، أما الميادين فلا تتسع لغير الأعمال الصحيحة التامة التي تجاري الأمم في حياتها، وتستمد حقها في البقاء من المقدرة الخالدة، لا من التغاضي والمحاباة.

١  نشرت بعدد جريدة الأفكار الصادر يوم ٢٠ أغسطس سنة ١٩٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤