الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

(١) أَوْلَادُ السُّلْطَانِ

كَانَ لِلسُّلْطَانِ «مَحْمُودٍ» أَوْلَادٌ ثَلَاثَةٌ:
  • أَوَّلَهُمْ: «حُسْيَنٌ»، وَكَانَ أَكْبَرَ أَوْلَادِ السُّلْطَانِ.
  • وَثَانِيهِمْ: «عَلِيٌّ» وَهُوَ أَوْسَطُهُمْ.
  • وَثَالِثُهُمْ: «أَحْمَدُ» وَهُوَ أَصْغَرُ أَوْلَادِهِ.

•••

وَقَدْ عُنِيَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» بِتَنْشِئَةِ أَوْلَادِهِ أَكْرَمَ تَنْشِئَةٍ، كَمَا عُنِيَ بِتَثْقِيفِهِمْ — مُنْذُ طُفُولَتِهِمْ — وَتَحْبِيبِ فُنُونِ الْعِلْمِ وَضُرُوبِ الرِّيَاضَةِ وَالصَّيْدِ وَالرِّمَايَةِ إِلَى نُفُوسِهِمْ، وَتَرْغِيبِهِمْ فِي اقْتِنَاءِ نَوَادِرِ التُّحَفِ وَالْآثَارِ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ وَالْمَالِ فِي جَلْبِهَا، وَالظَّفَرِ بِهَا.

فَلَا عَجَبَ إِذَا شَبَّ الْأُمَرَاءُ عَلَى غِرَارِ أَبِيهِمْ، وَتَشَبَّهُوا بِهِ، وَسَارُوا عَلَى نَهْجِهِ، وَارْتَسَمُوا خُطَاهُ.

وَكَانُوا ثَلَاثَتُهُمْ كَأَنَّمَا يَتَسَابَقُونَ فِي اكْتِسَابِ الْمَعَارِفِ الَّتِي تَنْمُو بِهَا مَدَارِكُهُمْ وَتَتَفَتَّقُ مَلَكَاتُهُمْ، وَتُصْبِحُ نَظَرَاتُهُمْ لِلْحَيَاةِ وَالْمُجْتَمَعِ نَظَرَاتٍ عَمِيقَةً صَادِقَةً، بَيْدَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي تَسَابُقِهِمْ يَتَعَاوَنُونَ، وَيَتَبَادَلُونَ الَمْعَلُومَاتِ وَالْأَفْكَارَ، بِرُوحٍ طَيِّبَةٍ عَامِرَةٍ بِالْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ وَالْإِخْلَاصِ.

(٢) بِنْتُ الْعَمِّ

كَانَ لِلْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ: أَبْنَاءِ السُّلْطَانِ، بِنْتُ عَمٍّ ذَكِيَّةٌ حَسْنَاءُ، تُدْعَى: «نُورَ النَّهَارِ».

كَانَتِ الْأَمِيرَةُ «نُورُ النَّهَارِ» — فِيمَا يَقُولُ رُوَاةُ هَذِهِ الْأُسْطُورَةِ الْمُبْدَعَةِ — آيَةً مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي جَمَالِ الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، وَكَمَالِ الْفَضْلِ وَالْعَقْلِ.

وَقَدْ مَاتَ أَبُوهَا الْأَمِيرُ «مُحْسِنٌ»: شَقِيقُ السُّلْطَانِ «مَحْمُودٍ»، بَعْدَ وِلَادَتِهَا بِأَسَابِيعَ قَلِيلَةٍ، وَكَانَ الْأَمِيرُ «مُحْسِنٌ» أَصْغَرَ مِنْ أَخِيهِ؛ فَوَرِثَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» — بَعْدَ وَفَاةِ أَخِيهِ — تُحَفَهُ النَّادِرَةَ وَأَمْوَالَهُ وَثَرْوَتَهُ، وَكَفَلَ ابْنَتَهُ.

لَمْ يُقَصِّرِ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» فِي الْعِنَايَةِ بِتَنْشِئَةِ الْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ» وَتَثْقِيفِهَا؛ وَاخْتَصَّهَا مِنْ رِعَايَتِهِ بِمِثْلِ مَا اخْتَصَّ بِهِ أَوْلَادَهُ مِنْ سَهَرٍ وَاهْتِمَامٍ، وَإِعْزَازٍ وَإِكْرَامٍ.

وَلَمْ يَتَوَانَ عَنْ تَحْقِيقِ رَغَبَتِهَا وَأَمَانِيِّهَا، وَبَذْلِ أَقْصَى مَا يَسْتَطِيعُ فِي تَوْفِيرِ رَاحَتِهَا، وَالْإِشْرَافِ عَلَى ثَقَافَتِهَا؛ حَتَّى فَاقَتْ أَمِيرَاتِ عَصْرِهَا عِلْمًا وَفَضْلًا، وَفَهْمًا وَعَقْلًا؛ فَزَادَتْ هَذِهِ الْخِلَالُ النَّبِيلَةُ مِنْ مَحَبَّةِ الشَّعْبِ، وَضَاعَفَتْ مِنْ إِجْلَالِهِ وَاحْتِرَامِهِ، كَمَا مَلَأَتْ بِالْإِعْجَابِ قُلُوبَ أَعْيَانِ الْمَمْلَكَةِ وَسَرَاتِهَا، وَأُمْرَاءِ الْمَمَالِكِ الْأُخْرَى وَأَمِيرَاتِهَا.

figure
بَنْتُ الْعَمِّ: «نُورُ النَّهَارِ».

(٣) حَيْرَةُ السُّلْطَانِ

مَرَّتِ الْأَيَّامُ، وَالشُّهُورُ وَالْأَعْوَامُ.

كَبِرَتِ الْأَمِيرَةُ «نُورُ النَّهَارِ» بِنْتُ السُّلْطَانِ «مُحْسِنٍ».

فَكَّرَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» فِي تَزْوِيجِ الْأَمِيرَةِ بِنْتِ أَخِيهِ، بِأَحَدِ أَوْلَادِهِ، حَاوَلَ أَنْ يَتَخَيَّرَ لَهَا أَحَدَهُمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَهُمْ.

كَانَ السُّلْطَانُ يُحِبُّ أَوْلَادَهُ حُبًّا شَدِيدًا، وَكَانُوا جَدِيرِينَ بِمَا يَغْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ مَحَبَّةٍ وَعِنَايَةٍ، وَتَكْرِيمٍ وَرِعَايَةٍ.

عَبَثًا حَاوَلَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» الْعَادِلُ أَنْ يُفْضِّلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ عَلَى أَخَوَيْهِ، تَحَيَّرَ السُّلْطَانُ فِي أَمْرِهِ، وَلَمْ يَدْرِ: أَيُّ أَوْلَادِهِ يَخْتَصُّهُ بِهَذِهِ الْأَمِيرَةِ الْفَاضِلَةِ ذَاتِ الْمَوَاهِبِ الْعَالِيَةِ وَالْمَزَايَا الْكَامِلَةِ؟

(٤) خُطَّةٌ بَارِعَةٌ

لَمْ يَلْبَثِ السُّلْطَانُ أَنْ وُفِّقَ — بَعْدَ أَيَّامٍ قَلَائِلَ — إِلَى حَلٍّ بَارِعٍ عَادِلٍ، وَاهْتَدَى إِلَى رَأْيٍ مُوَفَّقٍ يُرِيحُهُ مِنْ هَذَا الْمُشْكِلِ الْمُعَقَّدِ.

كَانَتْ خُطَّةُ السُّلْطَانِ الْجَدِيدَةُ، مُبْدَعَةً مُبْتَكَرَةً فَرِيدَةً، تَدُلُّ عَلَى مَا مَيَّزَهُ اللهُ بِهِ مِنَ ذَكَاءِ وَبَرَاعَةٍ وَدَهَاءٍ، وَتَكْفُلُ — إِلَى ذَلِكَ — إِعْجَابَ أَوْلَادِهِ بِمَشُورَتِهِ، وَابْتِهَاجَهُمْ بِحِكْمَتِهِ؛ لِمَا تَجَلَّى فِيهَا مِنْ عَدَالَةٍ وَإِنْصَافٍ، وَبُعْدٍ عَنِ التَّحَيُّزِ وَالْمُحَابَاةِ وَالْإِجْحَافِ.

•••

أَتَدْرِي مَاذَا صَنَعَ، وَأَيَّ حِيلَةٍ ابْتَدَعَ؟

جَمَعَ السُّلْطَانُ أَوْلَادَهُ الْأُمْرَاءَ الثَّلَاثَةَ، وَقَالَ لَهُمْ فِي لَهْجَةِ الْأَبِ الْعَطُوفِ، وَحُنُوِّ الْوَالِدِ الْحَدِبِ الرَّءُوفِ: «أَنَا أَعْرِفُ مَدَى حُبِّكُمْ إِيَّايَ، وَطَاعَتِكُمْ لِي، كَمَا أَعْرِفُ مَا تُفْرِدُونَ بِهِ بِنْتَ عَمِّكُمُ الْأَمِيرَةَ: «نُوْرَ النَّهَارِ» مِنْ إِجْلَالٍ وَإِعْزَازٍ.

وَقَدْ نَشَّأْتُكُمْ — مُنْذُ حَدَاثَتِكُمْ — عَلَى الِاسْتِقْلَالِ فِي الرَّأْيِ؛ فَلَمْ أَفْرِضْ عَلَيْكُمْ طَاعَتِي فَرْضًا، وَلَمْ أَرْضَ لِنَفْسِي أَنْ أُمَيِّزَ وَاحِدًا مِنْكُمْ عَلَى أَخَوَيْهِ.

وَإِنْ كُنْتُ وَاثِقًا أَنَّكُمْ أَطْوَعُ إِلَى تَنْفِيذِ إِشَارَتِي — أَيًّا كَانَتْ — بِلَا اعْتِرَاضٍ وَلَا مُنَاقَشَةٍ.

figure
السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» يَتَحَدَّثُ مَعَ أَوْلَادِهِ.

وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ، فَأَنْتُمْ — لِحُسْنِ الْحَظِّ — مِنْ أَبَرِّ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ الْأَبْنَاءِ، وَأَكْرَمِ مَنْ عَرَفَتْ بِلَادُ الْهِنْدِ مِنْ أُمَرَاءَ، وَأَجْدَرِهِمْ بِالْإِخْلَاصِ وَالْوَفَاءِ.

وَقَدِ انْتَهَى بِيَ الرَّأْيُ إِلَى قَرَارٍ يُرْضِيكُمْ جَمِيعًا، وَيُفْسِحُ الْمَجَالَ لِنَشَاطِكُمْ وَاجْتِهَادِكُمْ، وَيَفْتَحُ أَبْوَابَ الرَّجَاءِ لِمَزَايَاكُمُ النَّادِرَةِ، وَكِفَايَاتِكُمُ الْبَاهِرَةِ».

قَالَ الْأُمَرَاءُ لِأَبِيهِمْ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لَكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَمَا كُنَّا لِنُخَالِفَ لَكَ أَمْرًا، أَوْ نَعْصِيَ لَكَ نُصْحًا».

(٥) قَرَارُ السُّلْطَانِ

قَالَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ»: «بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ، وَأَكْرَمَكُمْ وَرَعَاكُمْ، وَسَدَّدَ خُطَاكُمْ.

لَقَدْ قَرَّ رَأْيِي عَلَى أَنْ تَرْتَادُوا بِلَادَ الْعَالَمِ، وَتَمْشُوا فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ، بَاحِثِينَ مُنَقِّبِينَ، ثُمَّ تَعُودُوا إِلَيَّ — بَعْدَ عَامٍ كَامِلٍ — مُزَوَّدِينَ بِمَا ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنَ النَّفَائِسِ النَّادِرَةِ غَانِمِينَ، وَأَيُّكُمْ ظَفِرَ بِطُرْفَةٍ فَذَّةٍ، أَنْفَسَ مِنْ طُرْفَتَيْ أَخَوَيْهِ؛ فَهُوَ الْفَائِزُ بِزَوَاجِ بِنْتِ عَمِّهِ الْأَمِيرَةِ: «نُورِ النَّهَارِ».

وَلَنْ أَضِنَّ عَلَيْكُمْ بِمَا تَطْلُبُونَ مِنْ مَالٍ: لِأُعِينَكُمْ عَلَى تَحْقِيقِ مَا تَصْبُو إِلَيْهِ نُفُوسُكُمْ مِنْ رَغَبَاتٍ وَآمَالٍ!

فَكَيْفَ تَقُولُونَ، وَعَلَامَ تُعَوِّلُونَ؟»

•••

فَرِحَ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ بِمَا سَمِعُوا مِنْ أَبِيهِمْ، وَابْتَهَجُوا لِاقْتِرَاحِهِ السَّدِيدِ، وَأُعْجِبُوا بِرَأْيِهِ الْمُوَفَّقِ الرَّشِيدِ، وَشَكَرُوا لَهُ مَوْفُورَ عَطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ، وَصَادِقَ بِرِّهِ وَرِعَايَتِهِ.

وَكَانَ أَكْبَرَ مَا سَرَّهُمْ فِي هَذَا الِاقْتِرَاحِ، أَنَّهُ سَيُتِيحُ لَهُمْ الِارْتِحَالَ إِلَى بِلَادٍ بَعِيدَةٍ، وَيُمَكِّنُهُمْ مِنْ زِيَادَةِ الْمَعْرِفَةِ بِمَنْ يَسْكُنُونَهَا مِنَ النَّاسِ.

(٦) وَصَايَا الْحَكِيمِ

وَاسْتَدْعَى السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» حَكِيمَ الْأُمَّةِ «آزَادَ»، وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا صَنَعَ مَعَ أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ، وَمَا اتَّخَذَ مَعَهُمْ مِنْ خُطَّةٍ وَتَدْبِيرٍ فِي شَأْنِ الْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ»، وَمَنْ يَكُونُ مِنْهُمْ زَوْجًا لَهَا.

وَقَالَ السُّلْطَانُ لِحَكِيمِ الْأُمَّةِ: «لَكَ أَنْ تَجْتَمِعَ بِأَوْلَادِي، وَهُمْ عَلَى وَشْكِ السَّفَرِ، وَأَنْ تُوْصِيَهُمْ بِمَا شِئْتَ، وَتَنْصَحُ لَهُمْ بِمَا تَرَى؛ فَإِنَّ فِيكَ حِكْمَةً، وَلَكَ تَجْرِبَةٌ، وَأَنْتَ جَدِيرٌ أَنْ تُرْشِدَ أَبْنَائِي إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ».

فَقَالَ حَكِيمُ الْأُمَّةِ «آزَادُ»: «إِنِّي لَسَعِيدٌ بِأَنْ أَتَوَلَّى هَذَا الْأَمْرَ، وَلَنْ أَدَّخِرَ وُسْعًا فِي التَّوْجِيهِ وَالْإِرْشَادِ. وَمَا أَجْدَرَ أَبْنَاءَكَ بِأَنْ يَنْتَهِزُوا فُرْصَةَ السَّفَرِ وَالِارْتِحَالِ؛ فَيَسْتَفِيدُوا نُزْهَةً وَمُتْعَةً، وَيُفِيدُوا وَطَنَهُمْ بِمَا يَجْلِبُونَهُ مِنْ نَفَائِسَ وَطُرَفٍ، وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَعَرَّفُوا مَا فِي الْبِلَادِ الْأُخْرَى مِنْ مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، وَيَقْتَبِسُوهَا لِوَطَنِهِمُ الْعَزِيزِ!»

فَقَالَ السُّلْطَانُ لِلْحَكِيمِ «آزَادَ»: «لِهَذَا دَعَوْتُكَ، وَعَسَى أَنْ تُوَفَّقَ فِي مُهِمَّتِكَ؛ حَتَّى تَكُونَ رِحْلَةُ أَوْلَادِي خَيْرًا وَبَرَكَةً لِلْجَمِيعِ؛ فَانْصَرِفْ إِلَيْهِمْ، وَاجْتَمِعْ بِهِمْ.

وَلَا أَزِيدُكَ تَوْصِيَةً، فَمَنْ أَرْسَلَ حَكِيمًا فِي مُهِمَّةٍ، لَمْ يَحْتَجْ مَعَهُ إِلَى أَنْ يُوْصِيَهُ».

وَدَعَا الْحَكِيمُ «آزَادُ» الْأُمَرَاءَ الثَّلَاثَةَ؛ فَجَلَسُوا حَوْلَهُ، يَسْتَمِعُونَ، فَقَالَ لَهُمْ: «حَسَنًا فَعَلَ أَبُوكُمْ، حِينَ أَبَى أَنْ يُفَضِّلَ وَاحِدًا مِنْكُمْ عَلَى أَخَوَيْهِ؛ فَأَنْتُمُ الثَّلَاثَةُ سَوَاءٌ عِنْدَهُ فِي حُبِّهِ إِيَّاكُمْ، وَإِعْزَازِهِ لَكُمْ. وَقَدْ جَعَلَ رَغْبَتَكُمْ فِي التَّزَوُّجِ بِالْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ» سَبَبًا لِلتَّنَافُسِ بَيْنَكُمْ فِي أَعْمَالٍ تَرْفَعُ مِنْ أَقْدَارِكُمْ، وَتُعْلِي مِنْ قِيَمِكُمْ. وَأَجَلُّ عَمَلٍ يَرْفَعُ الْقَدْرَ، هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يَعُمُّ نَفْعُهُ الْوَطَنَ، وَيَسْعَدُ بِهِ الْمَجْمُوعُ».

فَتَسَاءَلَ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ: «أَيُّ عَمَلٍ صَالِحٍ يُشِيرُ إِلَيْهِ الْحَكِيمُ؟»

فَأَجَابَهُمْ قَائِلًا: «سَتَحِلُّونَ بِلَادًا غَيْرَ الْبَلَدِ الَّذِي حَلَلْتُمْ، وَسَتَعْرِفُونَ أَوْطَانًا غَيْرَ الْوَطَنِ الَّذِي عَرَفْتُمْ. وَسَتَرَوْنَ حَيْثُ تَحِلُّونَ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ مَظَاهِرَ حَضَارَةٍ وَمَدَنِيَّةٍ، وَتَشْهَدُونَ أَلْوَانًا مِنَ النَّشَاطِ فِي الْمَجَالِ الْعِلْمِيِّ أَوِ الصِّنَاعِيِّ أَوِ الزِّرَاعِيِّ أَوِ التِّجَارِيِّ..

فَلَا تُغْمِضُوا أَعْيُنَكُمْ؛ وَلَكِنِ اجْتَهِدُوا أَنْ تَنْتَفِعُوا بِكُلِّ مَا تَشْهَدُونَ وَمَا تَعْرِفُونَ، وَتَبَيَّنُوا مَا يَصْلُحُ اقْتِبَاسُهُ لِوَطَنِكُمْ مِنَ الْمَنَافِعِ؛ حَتَّى إِذَا رَجَعْتُمْ كَانَ فِيمَا تَحْمِلُونَهُ مِنَ الْمُخْتَرَعَاتِ وَالْمُبْتَكَرَاتِ وَالْأَنْظِمَةِ الْمُفِيدَةِ مَا يُحَقِّقُ لِلْوَطَنِ الْخَيْرَ الْعَمِيمَ».

•••

فَتَسَاءَلَ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ، وَهُمْ يُنَاقِشُونَ الْحَكِيمَ «آزَادَ»: «لَقَدْ أَوْصَانَا أَبُونَا أَنْ نَتَنَافَسَ فِي الظَّفَرِ بِأَحْسَنِ الطُّرَفِ، وَأَغْلَى النَّفَائِسِ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى أَنْ نَسْتَجِيبَ لِرَغْبَتِهِ».

فَقَالَ الْحَكِيمُ «آزَادُ»: «لَا تَحْسَبُوا أَنْ الطُّرَفَ وَالنَّفَائِسَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَغْلُو ثَمَنُهَا، وَيَعِزُّ وُجُودُهَا، مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَوْ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ؛ فَمِنَ التُّحَفِ وَالنَّفَائِسِ مَا لَا يُقَوَّمُ بِمَالٍ.. وَإِنَّ الْمُخْتَرَعَاتِ الْعُمْرَانِيَّةَ، فِي الْعِلْمِ وَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ، لَهِيَ تُحَفٌ وَنَفَائِسُ لَيْسَتْ لِمُجَرَّدِ الزِّينَةِ، وَلَكِنَّهَا لِتَقَدُّمِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَتَوْفِيرِ الرَّخَاءِ وَالسَّعَادَةِ لِلْجَمِيعِ».

فَشَكَرَ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ لِلْحَكِيمِ «آزَادَ» تَوْجِيهَهُ الْمُوَفَّقَ، وَوَصِيَّتَهُ الْعَظِيمَةَ، وتَعَهَّدُوا لَهُ أَلَّا يَتَّخِذُوا رِحْلَتَهُمْ لَهْوًا وَلَا عَبَثًا، وَأَنْ يَصْرِفُوا هَمَّهُمْ إِلَى مَا يَزِيدُهُمْ خِبْرَةً وَتَجْرِبَةً وَفَهْمًا، وَأَنْ يَبْحَثُوا عَنْ كُلِّ مَا هُوَ نَافِعٌ مُفِيدٌ.

•••

وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، سَافَرَ الْأُمْرَاءُ الْأَشِقَّاءُ، وَمَعَ كُلٍّ مِنْهُمْ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِ الْجَيْشِ، يُرَافِقُهُ فِي حِلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، وَيُعِينُهُ — إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ — عَلَى تَحْقِيقِ آمَالِهِ.

وَقَدِ ارْتَدَى الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ ثِيَابَ التُّجَّارِ، وَارْتَدَى مُعَاوِنُوهُمْ ثِيَابَ الْأَتْبَاعِ؛ حَتَّى لَا يَعْرِفَ أَحَدٌ — مِمَّنْ يَلْقَاهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ — حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ، وَلَا يَهْتَدِي إِلَى خَافِي سِرِّهِمْ.

وَأَخَذَ كُلُّ أَمِيرٍ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ الطَّائِلَةِ، لِيَسْتَعِينَ بِهَا — فِي أَثْنَاءِ رِحْلَتِهِ — عَلَى قَضَاءِ رَغْبَتِهِ، وَتَحْقِيقِ طِلْبَتِهِ، وَإِنْجَازِ مُهِمَّتِهِ …

ظَلَّ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ سَائِرِينَ فِي طَرِيقِهِمْ، جَادِّينَ فِي سَفَرِهِمْ، يَرْتَادُونَ الْبِلَادَ، مُتَنَقِّلِينَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، يَقْضُونَ نَهَارَهُمْ فِي مُوَاصَلَةِ السَّيْرِ..

حَتَّى إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ، سَكَنُوا إِلَى الرَّاحَةِ مِنْ عَنَاءِ رِحْلَتِهِمْ، وَنَزَلُوا فِي أَوَّلِ فُنْدُقٍ يُصَادِفُهُمْ، ثُمَّ اسْتَأْنَفُوا سَفَرَهُمْ فِي بُكْرَةِ الْيَوْمِ التَّالِي.

(٧) مُفْتَرَقُ الطُّرُقِ

وَهَكَذَا وَاصَلَ الْأُمَرَاءُ سَعْيَهُمْ إِلَى غَايَتِهِمْ فِي مُثَابَرَةٍ وَدَأَبٍ، لَا تَثْنِيهِمْ — فِي طَرِيقِهِمْ — عَقَبَةٌ، وَلَا يَحْفَلُونَ بِمَا يُكَابِدُونَ مِنْ جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ؛ حَتَّى بَلَغُوا الْمَدَى مِنْ طَرِيقِهِمُ الطَّوِيلَةِ الشَّاقَّةِ.

وَقَدِ انْتَهَى بِهِمُ السَّيْرُ إِلَى مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ، حَيْثُ يَتَفَرَّعُ مِنْ طَرِيقِهِمْ ثَلَاثُ شُعَبٍ مُتَشَابِهَاتٌ.

فَوَقَفَ الْأُمَرَاءُ يَتَنَاقَشُونَ فِيمَا يَفْعَلُونَ، وَيُدِيرُونَ وُجُوهَ الرَّأْيِ فِيمَا يَصْنَعُونَ، وَأَيَّ الطَّرِيقِ يَسْلُكُونَ، وَأَيَّهَا يَتَنَكَّبُونَ؟!

figure
وَقَدِ انْتَهَى بِهِمُ السَّيْرُ إِلَى مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ.

(٨) قَرَارُ الْأُمَرَاءِ

ثُمَّ اجْتَمَعَ رَأْيُ الْأُمَرَاءِ — آخِرَ الْأَمْرِ — عَلَى أَنْ يَسْلُكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ — فِي صَبَاحِ الْغَدِ — طَرِيقًا مِنَ الطُّرُقِ الثَّلَاثِ، يَنْتَهِي بِالْمَدِينَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا.

وَقَدْ عَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَزْمَهُ عَلَى أَنْ يُوَاصِلَ سَعْيَهُ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى غَايَتِهِ، وَيُجَرِّبَ حَظَّهُ فِي الْحُصُولِ عَلَى طُرْفَتِهِ.

تَعَاهَدَ الْأَشِقَّاءُ الثَّلَاثَةُ عَلَى أَنْ يَلْتَقُوا جَمِيعًا فِي هَذَا الْمَكَانِ، فِي نِهَايَةِ الْعَامِ، لِيَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِهِمْ، وَيَتَعَرَّفُوا إِلَامَ انْتَهَى السَّعْيُ بِهِمْ، قَبْلَ أَنْ يَعُودُوا إِلَى وَطَنِهِمْ، وَيَعْرِضُوا عَلَى أَبِيهِمُ السُّلْطَانِ مَا ظَفِرُوا بِهِ مِنْ نَفَائِسِ الْطُّرَفِ، وَبَدَائِعِ التُّحَفِ.

•••

لَمْ يَكَدِ الْيَوْمُ التَّالِي يَطْلُعُ، حَتَّى أَعَدَّ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ عُدَّتَهُمْ، وَاتَّخَذُوا — لِاْسِتِئْنَافِ السَّفَرِ — أُهْبَتَهُمْ.

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مُوَدِّعِينَ، وَتَعَانَقُوا مُتَحَابِّينَ مُتَعَاطِفِينَ.

وَدَعَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَخَوَيْهِ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاحِ، وَالتَّوْفِيقِ وَالْفَلَاحِ.

وَلَمْ يَدْفَعْهُمْ حِرْصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الظَّفَرِ بِابْنَةِ عَمِّهِ، مِنْ أَنْ يَتَمَنَّى بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنْ يَجِدُوا فِي رِحْلَتِهِمُ الْأَمْنَ وَالطُّمَأْنِينَةَ، وَأَنْ يَتَلَاقَوْا بَعْدَ الْفُرْقَةِ فِي عَافِيَةٍ وَسَلَامَةٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤