الْفَصْلُ الثَّالِثُ

(١) مَعَ الْقَافِلَةِ

أَمَّا الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» فَقَدْ سَلَكَ — بَعْدَ أَنْ وَدَّعَ أَخَوَيْهِ — الطَّرِيقَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى مَدِينَةِ «شِيرَازَ»، وَهِيَ مِنْ أَشْهَرِ مَدَائِنِ الْفُرْسِ.

وَكَانَ مِنْ دَلَائِلِ تَوْفِيقِهِ أَنْ وَجَدَ — فِي طَرِيقِهِ — قَافِلَةً كَبِيرَةً، تَسِيرُ مُتَّجِهَةً إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ.

فَاسْتَأْذَنَ رِجَالَ الْقَافِلَةِ فِي أَنْ يَصْحَبَهُمْ فِي رِحْلَتِهِمْ إِلَى مَدِينَةِ «شِيرَازَ» فَرَحَّبُوا بِهِ أَكْرَمَ تَرْحِيبٍ.

وَفَرِحَ الْأَمِيرُ بِلِقَاءِ تِلْكَ الْقَافِلَةِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَى أَنَّه وَاصِلٌ فِي صُحْبَتِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ الْمَنْشُودَةِ، دُونَ أَنْ يَضِلَّ الطَّرِيقَ، أَوْ تَحُولَ الْعَوَائِقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُصُولِ.

(٢) فِي مَدِينَةِ «شِيرَازَ»

وَقَدْ أَتَمَّ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» رِحْلَتَهُ الطَّوِيلَةَ الشَّاقَّةَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ، ثُمَّ حَلَّ — فِي نِهَايَتِهَا — مَدِينَةَ «شِيرَازَ».

وَشَكَرَ الْأَمِيرُ لِرُفْقَةِ الطَّرِيقِ، مَا لَقِيَ مِنْ مَعُونَتِهِمُ الْكَرِيمَةِ، وَصُحْبَتِهِمُ الْأَنِيسَةِ، حَتَّى لَقَدْ كَانَتِ الرِّحْلَةُ مَعَهُمْ نُزْهَةً طَيِّبَةً.

وَمَا كَادَ الْأَمِيرُ يَسْتَقِرُّ فِي الْمَدِينَةِ، حَتَّى سَأَلَ عَنْ فَنَادِقِهَا الْمُمْتَازَةِ.. فَلَمَّا دَلُّوهُ عَلَيْهَا، اخْتَارَ وَاحِدًا مِنْهَا، وَاكْتَرَى حُجْرَةً فِيهِ.

وَاقْتَدَى بِهِ كَثِيرٌ مِنْ صَحَابَتِهِ، فَحَلُّوا مَعَهُ فِي حُجُرَاتِ الْفُنْدُقِ الرَّحِيبَةِ.

(٣) فِي مَتْجَرٍ كَبِيرٍ

وَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ التَّالِي، خَرَجَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» يَرْتَادُ أَسْوَاقَ الْمَدِينَةِ، وَيَجُولُ فِي أَنْحَائِهَا، وَيَتَعَرَّفُ مَفَاتِنَهَا، وَيَدْرُسُ أَعَاجِيبَهَا.

وَتَبَيَّنَ لِلْأَمِيرِ «عَلَيٍّ» أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ قَدْ تَفَنَّنُوا تَفَنُّنًا كَبِيرًا فِي الصِّنَاعَاتِ الدَّقِيقَةِ. وَفِي مُقَدِّمَةِ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي تَفَنَّنُوا فِيهَا صِنَاعَةُ الزُّجَاجِ فِي أَنْوَاعِهِ الرَّفِيعَةِ، وَأَشْكَالِهِ النَّفِيسَةِ. فَإِنَّهُ شَهِدَ فِي الْأَسْوَاقِ أَلْوَاحًا زُجَاجِيَّةً مُلَوَّنَةً، مِنْهَا الْأَخْضَرُ كَالزُّمُرُّدِ، وَمِنْهَا الْأَحْمَرُ كَالْعَقِيقِ، وَمِنْهَا أَلْوَاحٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَلْوَانٍ عِدَّةٍ، إِذَا سَقَطَ عَلَيْهَا الضَّوْءُ بَدَتْ كَأَنَّهَا أَحْجَارُ الْمَاسِ الَّتِي تَتَمَوَّجُ أَلْوَانُهَا، فَتَسْحَرُ الْأَبْصَارَ، وَتَخْلُبُ الْأَلْبَابَ.

وَعَرَفَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» مِمَّا شَاهَدَهُ فِي الْأَسْوَاقِ أَنَّ أَرْوَعَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي صِنَاعَةِ الزُّجَاجِ، هُوَ أَنَّهُمُ اسْتَخْدَمُوا الْبِلَّوْرَ فِي صُنْعِ نَظَّارَاتٍ عَجِيبَةٍ، مِنْهَا مَا يُقَرِّبُ الْبَعِيدَ، وَمِنْهَا مَا يُبْعِدُ الْقَرِيبَ.

فَاسْتَقَرَّ رَأْيُ الْأَمِيرِ «عَلِيٍّ» عَلَى أَنْ يَنْقُلَ إِلَى بَلَدِهِ صِنَاعَةَ الزُّجَاجِ وَالْبِلَّوْرِ الَّتِي امْتَازَتْ بِهَا هَذِهِ الْمَدِينَةُ؛ فَهِي صِنَاعَةٌ جَمِيلَةٌ إِلَى جَانِبِ أَنَّهَا مُفِيدَةٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنَّ يَظَلَّ التَّمَتُّعُ بِهَا وَالِاسْتِفَادَةُ مِنْهَا مَقْصُورَيْنِ عَلَى قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ؛ فَالْمَكَاسِبُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي الْحَضَارَةِ وَالْمَدَنِيَّةِ مِلْكٌ لِبَنِي الْإِنْسَانِ، فِي كُلِّ مَكَانٍ!

وَقَدِ انْتَهَى الْمَطَافُ بِالْأَمِيرِ «عَلِيٍّ» إِلَى سُوقِ اللَّآلِئِ وَالتُّحَفِ، فَرَأَى مِنْ فُنُونِ النَّفَائِسِ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَخْطُرَ لَهُ عَلَى بَالٍ.

ثُمَّ جَلَسَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» فِي مَتْجَرٍ كَبِيرٍ؛ لِيَسْتَرِيحَ مِنْ عَنَاءِ السَّيْرِ الطَّوِيلِ.

وَرَأَى التَّاجِرُ فِي قَسَمَاتِ وَجْهِ الْأَمِيرِ «عَلِيٍّ» سَمَاحَةً وَبَشَاشَةً؛ فَرَحَّبَ بِهِ، وَحَيَّاهُ وَأَكْرَمَ وِفَادَتَهُ، دُونَ أَنْ يَعْرِفَ مَنْصِبَهُ وَمَكَانَتَهُ.. وَمَا زَالَ التَّاجِرُ بِالْأَمِيرِ، يُلَاطِفُهُ فِي الْحَدِيثِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ اسْتِعْدَادَهُ لِخِدْمَتِهِ، حَتَّى أَنِسَ بِهِ الْأَمِيرُ وَارْتَاحَ لَهُ.

(٤) الْأُنْبُوبُ الْعَاجِيُّ

وَمَا كَادَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» يَسْتَقِرُّ بِهِ الْجُلُوسُ، حَتَّى سَمِعَ مُنَادِيًا يَصِيحُ فِي السُّوقِ، وَيُنَادِي بِصَوْتٍ عَالٍ، قَائِلًا: ثَلَاثُونَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ، فَمَنْ يَزِيدُ؟

أَيْنُ ذُو الْحَظِّ السَّعِيدِ، الَّذِي يُسْرِعُ إِلَى الْمَزِيدِ؟

فَالْتَفَتَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» إِلَى الدَّلَّالِ، فَلَمْ يَرَ فِي يَدِهِ شَيْئًا غَيْرَ أُنْبُوبٍ صَغِيرٍ مِنَ الْعَاجِ، طُولُهُ لَا يَزِيدُ عَلَى قَدَمٍ وَاحِدَةٍ، وَقُطْرُهُ لَا يَزِيدُ عَلَى بُوصَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَأَبْدَى الْأَمِيرُ لِلتَّاجِرِ دَهْشَتَهُ مِنْ ذَلِكَ الدَّلَّالِ.

لَقَدْ خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّ الدَّلَّالَ يَمْزَحُ وَلَا يَجِدُّ فِيمَا يَقُولُ.

وَإِلَّا يَكُنَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَقَدْ أَصَابَ الرَّجُلَ بِلَا رَيْبٍ مَسٌّ مِنَ الْجُنُونِ، أَوِ اخْتَلَطَ (ذَهَبَ عَقْلُهُ).

(٥) حَدِيثُ التَّاجِرِ

وَالْتَفَتَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» إِلَى التَّاجِرِ، يَسْأَلُهُ وَقَدْ بَلَغَ مِنْهُ الْعَجَبُ كُلَّ مَبْلَغٍ: «كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذَا الدَّلَّالِ الْأَبْلَهِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ أُنْبُوبًا عَاجِيًّا صَغِيرًا لَا يُسَاوِي بِضْعَةَ دَنَانِيرَ، بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ؟»

فَقَالَ لَهُ التَّاجِرُ: «أَنْتَ — يَا سَيِّدِي — عَلَى حَقٍّ فِي دَهْشَتِكَ مِمَّا تَسْمَعُ وَحَيْرَتِكَ، فَالْأُنْبُوبُ الْعَاجِيُّ فِي مَظْهَرِهِ لَا يُسَاوِي ذَلِكَ الْمِقْدَارَ الْكَبِيرَ مِنَ الْمَالِ.

لَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَيَّ الْعَجَبُ وَالدَّهَشُ، كَمَا اسْتَوْلَيَا عَلَيْكَ، حِينَ سَمِعْتُ مَا يَصِيحُ بِهِ الدَّلَّالُ.

وَلَكِنْ، لَعَلَّ فِي الْأَمْرِ سِرًّا مَحْجُوبًا عَنَّا!

figure
الْأَمِيرُ يُبْدِي لِلتَّاجِرِ دَهْشَتَهُ مِنَ الدَّلَّالِ.

فَهَذَا الدَّلَّالُ مَعْرُوفٌ بَيْنَنَا — طُولَ حَيَاتِهِ — بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْفِطْنَةِ وَالزَّكَانَةِ (الْفِرَاسَةِ).

وَلَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ حِرْفَتِهِ مِنَ الدَّلَّالِينَ مَنْ يَفُوقُهُ فِي مَنْزِلَتِهِ.

لَقَدْ عَرَفْتُهُ مُنْذُ سَنَوَاتٍ طِوَالٍ، وَمَا جَرَّبْتُ عَلَيْهِ كِذْبَةً قَطُّ، وَلَا عَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ خُدْعَةً فِيمَا سَلَفَ.

وَطَالَمَا حَالَفَهُ الْفَوْزُ وَالنَّجَاحُ فِي الْحُصُولِ عَلَى نَفَائِسَ مِنَ الطُّرَفِ الْغَرِيبَةِ النَّادِرَةِ، وَرَوَائِعَ مِنَ التُّحَفِ الْعَجِيبَةِ الْبَاهِرَةِ؛ حَتَّى أَطْلَقَ عَلَيْهِ التُّجَّارُ لَقَبَ: دَلَّالِ التُّحَفِ، وَصَيَّادِ الطُّرَفِ.

وَقَدْ أَثْبَتَتِ التَّجْرِبَةُ الطَّوِيلَةُ الْمُتَكَرِّرَةُ أَنَّهُ بَارِعٌ خَبِيرٌ، وَأَنَّهُ بِثِقَتِنَا جَدِيرٌ».

(٦) الْمِنْظَارُ الْعَاجِيُّ

فَقَالَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ»: «لَا رَيْبَ أَنَّكَ عَارِفٌ بِهِ، وَاثِقٌ بِأَمَانَتِهِ وَخِبْرَتِهِ! وَلَكِنَّ مَا أَسْمَعُهُ مِنْهُ وَتَسْمَعُهُ، أَعْجَبُ مِنْ أَنْ يَقْبَلَهُ عَقْلٌ، أَوْ يُصَدِّقَهُ إِنْسَانٌ».

فَقَالَ التَّاجِرُ مُجِيبًا الْأَمِيرَ: «الْحَقُّ مَعَكَ.. وَلَكِنْ مَاذَا يُضِيرُنَا لَوْ أَرْجَأْنَا حُكْمَنَا عَلَيْهِ؛ حَتَّى نَتَبَيَّنَ جَلِيَّةَ أَمْرِهِ، وَنَتَعَرَّفَ حَقِيقَةَ بِضَاعَتِهِ.. وَكَمَا يَقُولُ الْمَثَلُ: عِنْدَ الِامْتِحَانِ، يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ».

فَقَالَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ»: «صَدَقْتَ وَأَنْصَفْتَ، وَمَا عَدَوْتَ الصَّوَابَ فِيمَا حَكَمْتَ».

وَسُرْعَانَ مَا اسْتَدْعَيَا الدَّلَّالَ، ثُمَّ أَقْبَلَا عَلَى الْأُنْبُوبِ الْعَاجِيِّ يُقَلِّبَانِهِ؛ فَلَمْ يَرَيَا فِيهِ مِيزَةً تُسَوِّغُ مَا يَطْلُبُهُ الدَّلَّالُ مِنَ ثَمَنٍ فَادِحٍ.

ثُمَّ انْتَهَتْ حَيْرَتُهُمَا بِسُؤَالِ الدَّلَّالِ عَنْ سِرِّ غَلَاءِ الْأُنْبُوبِ الْعَاجِيِّ الْمَعْرُوضِ.

فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمَا الدَّلَّالُ بَاسِمًا، وَقَالَ: «لَيْسَ هَذَا أُنْبُوبًا عَادِيًّا كَمَا تَظُنَّانِ!.. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَصَحَّ مَا تَقُولَانِ.. وَلَكِنَّهُ مِنْظَارٌ فَرِيدٌ، لَيْسَ لَهُ فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ مَثِيلٌ».

فَسَأَلَ الْأَمِيرُ التَّاجِرَ أَنْ يُفْصِحَ لَهُمَا عَنْ مِيزَةِ الْأُنْبُوبِ. فَقَالَ: «فِي هَذَا الْأُنْبُوبِ الْعَاجِيِّ الْعَجِيبِ، سِرٌّ خَفِيٌّ غَرِيبٌ!

فِي هَذَا الْأُنْبُوبِ الَّذِي تَرَيَانِ، زُجَاجَتَانِ غَرِيبَتَانِ، يَرَى النَّاظِرُ — مِنْ خِلَالِهِمَا — كُلَّ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، أَوْ يَهْجِسُ فِي خَاطِرِهِ، وَيَشْهَدُ كُلَّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَشْهَدَهُ لِلْحَالِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى بُعْدِ آلَافِ الْفَرَاسِخِ وَالْأَمْيَالِ».

فَرِحَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» بِمَا سَمِعَ، وَابْتَدَرَ الدَّلَّالَ قَائِلًا: «إِذَا صَحَّ مَا تَقُولُ، فَهُوَ مِنْظَارٌ جَدِيرٌ أَنْ يَبْلُغَ ثَمَنُهُ أَكْثَرَ مِمَّا قَدَّرْتَ، وَقَدَّرَ صَاحِبُهُ».

فَقَالَ لَهُ الدَّلَّالُ فِي ثِقَةٍ بِمَا يَقُولُ: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ، وَعِنْدِي الدَّلِيلُ — عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُ — وَالْبُرْهَانُ.

حَسْبُكَ أَنْ تُجَرِّبَ الْمِنْظَارَ، لِتَرَى مِصْدَاقَ مَا أَقُولُ».

(٧) تَجْرِبَةُ الْمِنْظَارِ

فَأَمْسَكَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» بِالْمِنْظَارِ الْعَاجِيِّ فِي يَدِهِ، وَسُرْعَانَ مَا تَبَيَّنَ صِدْقَ الدَّلَّالِ حِينَ أَبْصَرَ أَبَاهُ السُّلْطَانَ — مِنْ خِلَالِ زُجَاجَتَيْهِ، وَكَانَ يُفَكِّرُ فِيهِ — جَالِسًا عَلَى عَرْشِهِ، وَحَوْلَهُ رِجَالُ حَاشِيَتِهِ، وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ، نَاعِمُ الْبَالِ، عَلَى أَتَمِّ صِحَّةٍ وَأَسْعَدِ حَالٍ.

•••

فَاشْتَهَى الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» أَنْ يَرَى الْأَمِيرَةَ: «نُورَ النَّهَارِ»؛ فَرَآهَا — مِنْ خِلَالِ الْمِنْظَارِ — مُنْشَرِحَةَ الصَّدْرِ، مُتَطَلِّقَةَ الْوَجْهِ، بَسَّامَةَ الثَّغْرِ.. وَحَوْلَهَا وَصِيفَاتُهَا يَتَضَاحَكْنَ سُرُورًا، وَيَتَمَايَلْنَ أُنْسًا وَحُبُورًا.

figure
السُّلْطَانُ وَحَاشِيَتُهُ كَمَا رَآهُمُ الْأَمِيرُ مِنْ خِلَالِ الْمِنْظَارِ!

(٨) اقْتِنَاعُ الْأَمِيرِ

فَدَهِشَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» مِمَّا رَأَتْهُ عَيْنَاهُ مِنْ خِلَالِ الْمِنْظَارِ الْعَجِيبِ، وَاقْتَنَعَ بِصِدْقِ مَا قَالَ الدَّلَّالُ، وَأَدْرَكَ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ عَلَى هَذَا الْمِنْظَارِ فَقَدْ حَصَلَ عَلَى ذَخِيرَةٍ لَا يَجُودُ بِمِثْلِهَا الزَّمَانُ، وَظَفِرَ بِعَجِيبَةٍ لَا يَهْتَدِي إِلَى نَظِيرِهَا إِنْسَانٌ.

لَمْ يَتَرَدَّدِ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» فِي أَنْ يُقَرِّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ شِرَاءَ الْمِنْظَارِ بِالثَّمَنِ الْغَالِي الْمَعْرُوضِ.

وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّهُ بِشِرَائِهِ هَذَا الْمِنْظَارِ قَدْ حَصَلَ عَلَى نَفِيسَةٍ فَرِيدَةٍ تَجْعَلُهُ يَتَفَوَّقُ عَلَى أَخَوَيْهِ، فِيمَا يَحْصُلَانِ عَلَيْهِ مِنْ نَفَائِسَ وَطُرَفٍ؛ وَلَمْ يَدُرْ بِخَلَدِهِ — لَحْظَةً وَاحِدَةً — أَنْ يُوجَدَ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ مَا يُمَاثِلُ طُرْفَتَهُ نَفَاسَةً وَخَطَرًا.

(٩) إِتْمَامُ الصَّفْقَةِ

لَمْ يَتَمَالَكِ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَى الدَّلَّالِ الصَّادِقِ الْأَمِينِ عَنْ شَكِّهِ فِيمَا قَالَ.

فَلَمْ يَتَرَدَّدِ الدَّلَّالُ فِي قَبُولِ اعْتِذَارِ الْأَمِيرِ عَمَّا سَاوَرَ نَفْسَهُ مِنِ ارْتِيَابٍ، قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ فِي حَدِيثِهِ وَجْهَ الصَّوَابِ.

خَشِيَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» أَنْ تُفْلِتَ مِنْهُ الْفُرْصَةُ النَّادِرَةُ أَوْ يُنَافِسَهُ فِيهَا مُنَافِسٌ؛ فَابْتَدَرَ الدَّلَّالُ قَائِلًا: «كَمْ تُرِيدُ ثَمَنًا لِهَذَا الْمِنْظَارِ الْعَاجِيِّ النَّفِيسِ؟»

فَقَالَ لَهُ الدَّلَّالُ: «لَقَدْ بَلَغَ ثَمَنُهُ — إِلَى الْآنَ — ثَلَاثِينَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ؛ وَلَكِنَّ صَاحِبَهُ حَتَمَ عَلَيَّ أَلَّا أَبِيعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ.

فَإِنْ كُنْتَ فِي رَيْبٍ مِمَّا أَقُولُ؛ فَهَلُمَّ مَعِي إِلَى صَاحِبِهِ، لِتَتَبَيَّنَ بِنَفْسِكَ جَلِيَّةَ الْخَبَرِ».

فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ»: «هَيْهَاتَ أَنْ أَرْتَابَ فِيكَ، وَمَا أَنْتَ بِحَاجَةٍ إِلَى مَنْ يُعَزِّزُ قَوْلَكَ أَوْ يُزَكِّيكَ، بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُ فِيكَ الْإِخْلَاصَ وَالْأَمَانَةَ، وَالْحِرْصَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِقَوْلِ الصِّدْقِ.

أَنْتَ عِنْدِي ثَبْتٌ أَمِينٌ، لَا تَكْذِبُ وَلَا تَمِينُ، وَلَا تَنْطِقُ بِغَيْرِ الْيَقِينِ.

فَهَلُمَّ مَعِي إِلَى الْفُنْدُقِ، لِأَنْقُدَكَ ثَمَنَ الْأُنْبُوبِ». وَلَمْ يَكَدِ الدَّلَّالُ يُتِمُّ الْبَيْعَ، حَتَّى اطْمَأَنَّ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» إِلَى ظَفَرِهِ بِطِلْبَتِهِ، وَهَدَأَ بَالُهُ.

figure
الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» يُؤَدِّي ثَمَنَ الْمِنْظَارِ إِلَى الدَّلَّالِ.

وَلَمْ يَقْتَصِرْ فَرَحُ الْأَمِيرِ «عَلِيٍّ» بِهَذَا الْمِنْظَارِ عَلَى أَنَّهُ اسْتَطَاعَ أَنْ يَجْلِبَ لِأَبِيهِ وَلِبَلَدِهِ عَجِيبَةَ الْعَجَائِبِ، وَنَفِيسَةَ النَّفَائِسِ؛ وَلَكِنَّهُ فَرِحَ بِالْمِنْظَارِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ سَيَكْفُلُ لَهُ الظَّفَرَ بِمَهْرِ الْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ».

لَقَدْ أَيْقَنَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» أَنَّ أَبَاهُ سَيَكُونُ مُنْصِفًا عَادِلًا فِي تَقْدِيرِ نَفَاسَةِ هَذَا الْكَنْزِ، وَعِظَمِ هَذِهِ التُّحْفَةِ، وَسَيَشْهَدُ بِأَنَّهَا سَيِّدَةُ التُّحَفِ، وَأَمِيرَةُ الطُّرَفِ، وَأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مَهْرًا لِلْأَمِيرَةِ. وَهَيْهَاتَ أَنْ يَأْتِيَ أَخَوَاهُ بِتُحْفَةٍ خَيْرٍ مِنْهَا، أَوْ بِطُرْفَةٍ تُعَادِلُهَا، وَإِذَنْ سَيَكُونُ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» وَحْدَهُ زَوْجَ الْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ».

(١٠) عَوْدَةُ الْأَمِيرِ «عَلِيٍّ»

لَمْ يُضِعِ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» وَقْتَهُ عَبَثًا؛ فَظَلَّ يَرْتَادُ مَدِينَةَ «شِيرَازَ» وَضَوَاحِيَهَا، وَيَرَى عَجَائِبَ مَا فِيهَا، وَيُمَتِّعُ نَفْسَهُ — كُلَّ يَوْمٍ — بِزِيَارَةِ آثَارِهَا وَمَعَاهِدِهَا، وَمَتَاحِفِهَا وَمَعَابِدِهَا؛ حَتَّى أَشْرَفَ الْعَامُ عَلَى نِهَايَتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُعِدَّ الْعُدَّةَ لِرِحْلَتِهِ.

وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ وَحْدَهُ، بَلْ عَمِلَ بِالْمَثَلِ «خُذِ الرَّفِيقَ قَبْلَ الطَّرِيقِ».

وَقَدْ حَالَفَهُ التَّوْفِيقُ فِي الْعَوْدَةِ، كَمَا حَالَفَهُ فِي الرَّحِيلِ؛ فَسَافَرَ — مَعَ إِحْدَى الْقَوَافِلِ — عَائِدًا فِي طَرِيقِهِ إِلَى وَطَنِهِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِ فِي مَوْعِدِهِ.

(١١) لِقَاءُ الْأَخَوَيْنِ

وَلَا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ الْأَمِيرِ «عَلِيٍّ»، حِينَ رَأَى أَخَاهُ الْأَمِيرَ «حُسَيْنًا» فِي انْتِظَارِهِ.

لَقَدْ كَانَ ابْتِهَاجُ الْأَمِيرَيْنِ الشَّقِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا بِاللِّقَاءِ يَفُوقُ الْوَصْفَ، وَقَدْ هَنَّأَ كِلَاهُمَا صَاحِبَهُ بِعَوْدَتِهِ ظَافِرًا، وَبِالسَّلَامَةِ غَانِمًا..

وَعَبَّرَ كُلُّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ عَمَّا كَانَ يُسَاوِرُهُ مِنَ الْقَلَقِ، وَعَمَّا كَانَ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الشَّوْقِ إِلَى التَّلَاقِي بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَالْغِيَابِ.

ثُمَّ جَلَسَ الْأَمِيرَانِ يَنْتَظِرَانِ مَقْدَمَ الْأَمِيرِ «أَحْمَدَ»: أَخِيهِمَا الْأَصْغَرِ، وَبِوُدِّهِمَا أَنْ تَتِمَّ فَرْحَتُهُمَا بِلِقَائِهِ، وَالِاطْمِئْنَانِ إِلَى سَلَامَتِهِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤