(٣) من الثقافوية إلى المدنية … أو البربرية؟

في الغرب اليوم يتمُّ تفسير استعادة سؤال الفلسفة السياسية، كما لو كانت هذه الاستعادة إيذانًا بانقضاء الثقافوية، واستئناف الاستعداد للانبناء إلى المدنية؛ فالمشروع الثقافي الغربي راح يسجِّل تقدُّمه على ذاته، وعلى تاريخه، وعلى مشاريع الثقافويات الأخرى المعاصرة له. ها هو يلج المدنية مخلِّفًا وراءه «بقية العالم»، تتخبَّط «حضاراتها» ما دون حواجز الثقافويات التي أنتجتها، ثم تَشَرْنَقت داخلها، وأضحت أسيرةً لأنظمة دلالاتها التقليدية، ثم إن الأخطر في هذا الوضع أن العجز عن تجاوز الثقافوية يعني الارتداد إلى ما سبقها، أي إلى البربرية؛ فالعالم الراهن، منذ حلول الألفية الثالثة، تُعاد صياغة خارطته الجيوإنسانوية على الشكل الآتي: إنه عالم يجدد انقسامه التقليدي ولكن تحت اصطلاحات قطاعية مستحدثة. هنالك الدائرة المَدَنية، وهنالك الدائرة الثقافوية، وهنالك ما يشبه المستودع للدائرتَين هاتَين، وهو القطاع البربري. وأما الذين صاروا ينعمون بالمدنية فإنهم يعتبرون عودتهم إلى السؤال السياسي الفلسفي، كأنها جائزة عليا للموعودين بها، ممن اختبروا التاريخ، وأنجزوا تحقيباته كلها، وأغلقوا دفته، ليخرجوا منه إلى آفاق ما بعد التاريخ، حيثما ينقضي مبدأ الصراع مع الذات، ومع الآخر، ولا يتبقَّى سوى ترائي العقل مع نفسه، دونما توسيط، ولا تحوير ولا تشويه.

الجواز من الثقافوية إلى المدنية هو التحدي النهائي، أما الدائرة الثقافوية فستظلُّ مرتعًا لشياطين التاريخ وملائكته. أما المدينة (المدنية) فتستعيد «أثينا»، ومجدها الفلسفي. أما الجواز بين المدنيتَين فهو أعسر امتحان؛ ولذلك سيظل الثقافويون يتخبطون بين همجية البربرية الثاوية تحت جلودهم، وبين أحلام المدنية شبه المستحيلة أمامهم؛ ذلك أن الزمان الثقافوي ينقلب إلى حركة دائرية؛ إنه يُعيد تكرار الصراعات الماضوية، كما لو كانت قدريةً ميتافيزيقية لا مفر منها، كأنما مدنيةُ «الثقافوة» استنفدت الخيارات، الجماعية والفردية، الموصوفة بالحرة، ولم يعُد لديها إلا تكرار تجاربها كبدائل عما كانت اختبرته، وتجاوزته، ولكنها عادت إليه، عندما لم تعُد قادرةً على ابتكار ما يتخطَّاه.

هذه الخارطة الاختزالية لعالم اليوم والغد، ما مدى حقيقتها الموضوعية؟ وهل هناك سؤال جدي يتناول هذه الحقيقة، أم أن الفكر الطوبائي ما زال قادرًا على ابتكار أحلام يقظة جماعية، لا يريد أحد أن يمزق أوهامها المتجددة؟ لكن المهم في هذه اللحظة من مجابهة للمجهول الأعظم الذي تنفتح عليه أذهان الفلاسفة، دونما التجاء إلى أية منظومة تأويلية جاهزة، هو أن المدنية إن لم يكن المشروع الثقافي الغربي قد فاز بها كليًّا، فعلى الأقل هناك سؤالها الذي يغدو راهنيًّا. وراهنيته تلك هي التي تسمح مجددًا بانبعاثِ فلسفةٍ سياسية، تقع وراءها وليس أمامها، كل تجارب التاريخ الإنساني الرهيبة، من صراع الأديان ثم المذاهب ثم الإمبراطوريات المُؤَدْلَجة؛ وعليها بالتالي أن تنتهي من توسيط منظومات فكروية مستقرة بينها وبين موضوعها الأصلي، وتحقيق الانفتاح على الكونية الإنسانية، خارج صراعات الدلالات ما بين أقانيم الأجناس والأنواع. وهي كونية تحوز على شرعيتها الواقعية أخيرًا من مجمل التاريخ البشري وتجاربه المهولة، في تسعير حروب الإلغاءات المتبادلة ما بين الحضارات أو الثقافويات. ومن محصلة التنافي المتبادل تلوح نتيجة موضوعية تكاد تفرض نفسها على الوعي المتحرر من استبداديات الدلالات المقعَّرة، فتظهر الهوية الجديدة، الموصوفة بالديمقراطية أو التنويرية الحقيقية، التي تغتني عن طريق الاعتراف بهوية الآخر، أكثر مما تعمل على إلغائها.

ولقد دعوناها هوية تنويرية لأن مفهومها عائد حقًّا إلى فلسفة التنوير منذ أيام روسو وكانط، التي وضعت حدًّا بين الهوية والماهية، فجعلت من مفهوم الإنسانية متحررًا من كل طبيعة قبلية مفروضة عليه، بموجب تصور الماهية الكلية السابقة على إنتاجاتها، لكن هذا المفهوم لم يستطع أن يسترد راهنيته الحاضرة إلا بعد اختتام التحقيب التاريخي طيلة قرنَين أو أكثر من عمر المشروع الثقافي الغربي، في ظل التقدم، وتحت شعارات الحداثة الانتصارية، وفتح العالم، والتَّسيُّد عليه حسب مشاريع ثقافوية نوعية، أو ذات نوعيات تفارقية، كانت اشتركت في صنعها وأسطرتها أمم الغرب الرئيسة، كل على طريقتها.

فالهوية التنويرية، أو الديمقراطية، لم تعُد تطابقًا مع ذات قبلية أو متصورة، بقدر ما هي إطار لشبكيات من ظروف متغيرة في استشعار الكلي الذي ينتمي إليه مجتمع الإنسانية جمعاء. وفعل الانتماء هذا لم يعُد على صورة تسلسل منطقي ينزل من العام إلى الخاص، بقدر ما هو تطلع إلى بناء العام نفسه بما هو أخصُّ ما يكوِّن هوية الجماعة في عين ذاتها. وعلى ذلك ينبغي إعادة التمعين في مصطلح التعددية والعلاقة مع الأحادية. ذلك أنه يمكن للثقافوية أن تستولي على هذا المصطلح وتستعمله عملة تجديدية في تصريف أولوياتها الخاصة، كما لو كانت مقدمات ضرورية لإمكان سؤال الفلسفة السياسية الراهني؛ فالتعددية تشرعن اختلافيات الثقافويات كمجاميع بشروية راكدة وساكنة في خصوصياتها الأبدية. تغدو الخصوصية بذلك ليست تفريعًا على العام، ولا إبرازًا لبعض عوامل العام دون الأخرى، بل تجر إلى موقع النقيض؛ بحيث يتم تضخيم الخاص عينه حتى يصير إلى كلي ذاته وحدها. ولقد حفل تاريخ القومويات الأوروبية بهذا التنويع «الإبداعي» للخصوصيات التراثية والثقافوية، بما صار يحقق انقلابها إلى مبدأ للكليات في عين ذاتها؛ فلا إثبات لهوية قومية إلا على أساس إمكان إلغاء القومويات الأخرى، فكانت حروب الذاتويات الغربوية فيما بينها من أشرس ما عرفه صراع الخاص والعام. مجسَّدًا عبر أمم كاملة ومشاريع حضارية كبرى، وذلك قبل أن ينعكس هذا الصراع على مجمل التاريخ العالمي، ويصير إلى ما يشبه قانونًا سائدًا على شبكات العلاقات البَيْذاتية بين الوحدات الثقافوية للإنسانية جمعاء.

فالهُوية الاختلافية إنما يتمُّ تصحيحها بالهُوية النقدية، تلك التي لا يمكنها أن تتقبَّل بدهيات المنطق الصوري، مطبقة آليًّا على شبكية العلاقات ما بين الأمم. ويمكن القول إن الهوية النقدية لا تعني سوى التفكير النقدي في الهُويِّ واللاهُويِّ، الواحد والآخر، الذات والموضوع، النحن والهُم؛ ولذلك فإن إعادة التقاط الفلسفة للسؤال السياسي، إنما تعبِّر عن هذه النقلة نحو الانهمام بالذات والآخر معًا انهمامًا نقديًّا. وإنه اهتمام بعمليات تذويت وتغاير بدلًا عن الانحصار في التعامل مع الذات والآخر كأقانيم جاهزة ونهائية؛ فأفعالي لا تصنعها ذاتي بقدر ما تكثِّرني ذاتويًّا وغيريًّا في وقتٍ واحد. هذا الفهم للشخص الإنساني إنما ينسحب على سؤال السياسة اليوم، باعتبار أن السياسة لا تنظم علاقات بشرية لأقانيم جاهزة، ولكنها تدخل الأفراد والجماعة في حركية التكوين المتبادل، شرط ألَّا تُترك هذه الحركية لتلقائيتها العفوية، بقدر ما تغدو موضوع رقابة وتمعين ونقد وتقويم. والأساسي في مثل هذه النشاطية الواعية ليس الاحتكام إلى منظومات دلالية معلقة فوق أفعال الأفراد والهيئات، بقدر ما هو استشعار الانزياح المستجد بين تصور المعنى وتحقُّقه الفعلي؛ ذلك أن طمس هذا الانزياح هو الذي يسمح برفع دلالات عارضة إلى مستوى قيم مطلقة، يُعزَى إليها وحدها إنتاج الوقائع، وليس العكس. غير أن الدلالات المصنَّمة قيمًا، عاجزة أصلًا عن إنتاج ما يعارضها — أي الوقائع — وبالتالي تسمِّي منظوماتها الخاصة هذه وقائع، في حين لا علاقة لها بالواقع فعلًا أو حقًّا.

إن معانيَ من مثل المساواة والحرية والاستقلالية تظلُّ أبعد منالًا من مختلف المنظومات الدلالية التي حاولت استيعابها. غير أن تلك المنظومات لا يعني أنها لم تشكل نوعًا من تاريخانية فكروية، وتسجيلية حاولت التصاقًا بالمعاني، وصاغت لها هيئات أو كيانات تعبيرية، انعكست على تاريخ هائل من العقائد والمذاهب والأيديولوجيات. ولقد كانت هذه المنظومات تجتهد في عَقْلَنة دلالاتها على أساسٍ من علاقتها بالماهية المتصورة للإنسان، فليس ثمة دين أو مذهب أو أيديولوجيا، إلا ويعتبر أن جهازه المفهومي إنما يعكس جوهرًا أعلى. وقد كان بناء الهويات المجتمعية، ثم القومية، ثم الأيديولوجية عابرة القارات، إنما اعتمد على مسلَّمة مضمرة توحِّد بين الجهاز المفهومي المقترح والمثال العام؛ فالارتجاع إلى العام عادة تفكيرية ملاصقة لتاريخ التأويلات الشمولية، كما للتصرفات الفردية ذات المنحى التعددي. ولم تفرض مشكلة العلاقة بين الهوية والماهية نفسها على الفكر الفلسفي مجددًا إلا بعد أن أمكن إزاحة سلطات المنظومات الدلالية، باعتبارها وسائط بين الوعي والمعنى، كما بين الذات والعالم. ورغم أن نزعات تصحيح الحداثة الفلسفية قد أسَّست منطق إزاحة الوسائط الدخيلة، أو صنميات التعالي حسب التفكيك الفينومينولوجي، فإن إعادة التواصل البريئة بين الانهمام بالذات والمصير الكوني، لم تجد طريقها إلى الفكر السياسي إلا بعد انقضاء دورات كاملة من تسيُّدات الأنظمة الدلالية، وإنتاجاتها العملية في واقع التاريخ الجماعي للإنسانيتَين، المتحركة (الغربية إجمالًا)، والطرفية شبه السكونية (بقية العالم).

ما هو واضح اليوم أن الكلي المجرد لم يثبت، خلال تجارب الحداثة وما بعدها، أنه قادر على تحويل نفسه إلى قوة تحريك محايثة للوقائع اليومية، إلا عبر نقائضه؛ وأهمها ولا شك المنظومات الدلالية، التي تصوغ تأويلات للعام بناءً على استنباط خصوصيات معينة، تسعى إلى إخفائها عن طريق الإيغال في ترجمة الكلي إلى المجرد وحده. وتتم هذه الترجمة القسرية، الاغتصابية، بمحاولة تفريغ الكلي من بُعد المعنى، وإعادة صياغته استدلاليًّا حسب منطق الماهية المجردة وحده.

وهكذا فإن تصنيف الإنسان كجنس، حدِّدت ماهيته بخصائص ثلاث هي الحرية والأخوة والمساواة، لكنه تصنيف لم يستطع أن يحول دون إنتاج تاريخ القرنَين الماضيَين، بما يناقض تعريف الإنسان؛ حتى أصبحت هذه المناقضة مألوفةً مقبولةً ما دامت قادرة على إصدار تأويلات، تدَّعي كلٌّ منها كمال احتيازها «الخاص» عليه. بناءً عليه صار مألوفًا بالنسبة للتفريعات التي تمزِّق كلية المعنى، أن تدَّعي، في نهاية صراع التاريخ الحداثوي العصروي، أنها ليست سوى تنويعاتٍ أو تعددياتٍ على الواحد الأصلي، وتسمَّت هذه التعدديات بالثقافويات، التي أتاحت أن تعيد إلى واجهة العالم مجددًا صراع الهويات المغلقة، كمحرك رئيسي لسياسات الأمر الواقع.

إن انتهاض سؤال الفلسفة السياسية راهنيًّا إنما يقوم في مواجهة صريحة مع صيغة الهوية المنغلقة، التي تُحايث في الآن عينه صيغةَ فَرْط العالمية إلى العولمة. والأصح أن تُسمَّى الهوية المنغلقة المعاصرة بالماهية المُخَوْصَنة. ذلك أن المبدأ الهُويَّ هنا إنما يغتصب الكلي لحسابه. ولا يمكنه القيام بهذا التحريف إلا عندما يعزل الكلي عن بُعد المعنى، ويختزله إلى هيكلية مجردة قابلة للامتلاء بأية ريح عابرة، أي بأية منظومة دلالية تُحشر داخلها، أو تضخُّ في فراغها.

يدعي المشروع الثقافي الغربي، تسجيليًّا، أنه هو الحامل الوحيد للمبدأ الإنسانوي، الذي أتاح له الانفراد بإعلان لحظته التاريخانية دون سواه من المشاريع الحضارية الأخرى المزامنة له؛ وذلك اعتمادًا على الاختراق، الامتيازي بدون تحفظ، الذي حقَّقه بالانتقال من لا واقعية الأسطرة الفكروية، إلى صميم المحايثة الواقعية، بواسطة التقاط التقانة، كمحصلة عليا لجهود المشاريع الحضارية السابقة، ومنها الشرقية واليونانية والعربية الإسلامية. فكان ذلك الاختراق هو الثمرة العليا لجهود الإنسانية، لكن الغرب يعتقد أنه وحده هو الذي أنضجها، وجعلها تسقط إلى حجره فقط.

لا بد من هذا التذكير بمعنى التفوُّق الغربي، في هذه الخطوة من مسيرة تفكيرنا، ولعل ما يهمنا من أهم خصائص أو علامات هذا التفوق، هو أن المشروع الثقافي الغربي، احتكر حقل التجارب الإنسانية الكبرى، مع ذاته، وفي شبكة تآخذه الدائم العالم، كمركز له، أو كسائد وحيد عليه، أو كقائد إنسانوي لثقافته الكونية — وهي التأويلية الأخيرة التي تختارها له نخبته الفكرية الأكثر معاصرة، واتحادًا بأخطر تحولات مستقبل الكرة الأرضية الآن، وليس غدًا فحسب. إن هذا التذكير هنا يفيد في لفت انتباه القارئ العربي إلى أنه لا يمكن التعامل مع هذه التحولات، بمنأًى عن تجربة القيادة الفكرية والعملية لمركزية المشروع الثقافي الغربي، التي هي توصيف لواقع الحال وليس مجرد أسطرة له. ذلك الاعتراف بالاختراق الغربي قد يعطيه مبررًا موضوعيًّا لتمايزه، وليس لتميزه. قد يمنحه صفة المحصِّلة التركيبية لحركية الثقافة التي أوصلته إلى مشارف المدنية، وحده من دون بقية القبائل، في حين انقلبت تجارب الأمم الأخرى إلى شرانق ثقافوية؛ ولا تجد دعمًا أيديولوجيًّا لها إلا في مزيدٍ من قهر الذات وغَلْقها، وذلك اعتبارًا من الوحدات الأكبر إلى الأصغر فالأصغر؛ فالانغلاق الهُووي ليس له من مستقبل إلا في تفريع الهويات الأضعف، وليس في تعدُّدية الإغناء وتنويعه، التي تتطلَّب الاعتراف باختلاف الآخر كسبيل وحيد للاعتراف بالذات واختلافها، غير أن المشكلة ليست إرادوية؛ ذلك أن انغلاق الهُويِّ يعني جفاف الذات من النسغ الحيوي الذي يساعدها على حماية شخصيتها المفهومية بذات الوسائل التي تستخدمها الحضارات المعاصرة والمنافسة لها. إن جفاف النسغ الحيوي من الذات المتخشبة يرشِّحها لعملية الانفراط الكينوني، والانحدار إلى مستوى التوقعات الأولية، كالقبليات والطائفيات والفئويات، وصولًا إلى البربرية، حسب المصطلح الإغريقي، وهو الرطانة اللغوية (بَرْبَر، ثرثر، أي تكلَّم كلامًا لا معنى له، كما في العربية واليونانية)، والقصد هو قصور العقل وعجز النطق، بما يؤدي إلى ضياع التواصل المشترك بين الشعوب «البربرية» والأخرى الحضرية.

حول هذه النقطة تقدم لنا مشهديةُ الراهنيةِ العالمية عروضًا تناقضية حدية لا سابق لها في التاريخ البشري؛ فإنه في اللحظة التي توفر التقانة أرقى الجاهزيات الإلكترونية لتعميم المعلومات، وتسهيل وسائط للتحاور بين شعوب الأرض كافة، مما يفترض قيام أسس موضوعية لحالة تواصل كونية فريدة في نوعها وشموليتها، في هذه اللحظة التاريخانية حقًّا، يقع أشد انفصام بين المَدَنية ودائرة الثقافويات الشعبوية. وهو انفصام يكاد يقطع الأمل بإعادة التجسير فوق هُوَّته السحيقة التي يُراد لها أن تكون نهائية؛ فالتشابكية المعلوماتية إذن، لا تترجم تحقُّق تواصلية بين المجاميع الحضارية عبر هُوية كونية، وقد تخلصت من التجريد الكلياني، وراحت تنتظم مجتمعًا عالميًّا يفيض تنويعات هُووية خاصوية، ذات اتساقات تلقائية فيما بينها، كما هي بساتين الربيع وغاباته بأزهاره وأشجاره وكائناته الطبيعانية المتغايرة والمتكاملة في آنٍ، ذلك الحلم الإنسانوي المغدور. بل إن الوضع هو النقيض تمامًا: ذلك أنه في الوقت الذي تمسي فيه التواصلية الكونية راهنية التحقق العقلاني الواقعي معًا على طريقة هيغل، فإن نوعًا من التحالف الموضوعي بين الأُممية الرأسمالية وعالمية التقانة، يحجزان عمليًّا هذه التواصلية الكونية عن إنتاج التعارف الهوي بين الكيانات الثقافية؛ ويحلَّان مكانه فرطًا متناميًا لوحدات هذه الكيانات، واختزالًا لها إلى أدنى مستوًى للتعضيات البدائية؛ مما يجعل البربرية تختتم معظم نهايات التطور لغالبية المتحدات الكوكبية؛ فالتقدم الارتدادي إلى البربرية يغلق خط الارتكاس الأخير الذي تمثله الثقافوية بعد أن تعجز، أو يتم تعجيزها، عن اختراق حال التقوقع الهُوي.

إن الأممية الرأسمالية — وهي المصطلح العالمي الأدق للفظة العولمة الإعلامية — تلعب على تنمية انفصام عضوي بين الثقافوية والمدنية. وهي في ادِّعائها التعبير الأخير عن المدنية، إنما تحقق أقصى درجات خَوْصَنة الكلي، في استيلائها على المدنية، حين تجعل المال وحده مالكًا لأعلى ثمرات التقدم الإنساني، وموظفًا لها في تنمية فرديات مضخمة، ومانعًا إياها عن تحقيق الانفتاح الشامل على المعنى، حيثما يمكن لأي متحد إنساني أن يشارك في استشعاره، وفي التواصل معه، والمساهمة في تنمية الهوية الديمقراطية ما بين بقية المتحدات، وليس ما بين الأفراد، والنخب الفردية أو الذرية فحسب.

بعد حرب الكليات: الفلسفي السياسي

لا يمكن تمعين عودة الفلسفة السياسية في هذه اللحظة من اكتمال التعارض بين الثقافوية والمدنية، إلا انطلاقًا من الاعتراف مبدئيًّا باستنفاد جاهزيات المنظومات الدلالية، وما اختلقته من صراع المقارنات ما بين منطوقاتها وتأويلاتها المتنافسة على ادعاءات كلٍّ منها لوحدها، ودون سواها، التملك من المعنى، أو من معنى المعاني جميعًا. ولا شك فقد كان بالمستطاع أن تستمر حروب الكليانيات إلى ما لا نهاية داخل حقل، لا تشغله إلا الهويات المغلقة، وثقافوياتها الاستبداية؛ لولا أن متحدًا ثقافويًّا واحدًا، ويشكله المشروع الغربي، استطاع أن يخترق حدود هذا الحقل، ويتحرر قليلًا أو كثيرًا من إكراهاته، ملامسًا بذلك تباشير المدنية؛ أو متطلعًا إلى هذا الأفق الجديد كليًّا؛ فقد كان محمولًا على الطوبائيات التجريدية، حتى عصر الحداثة وما بعدها، لكن دون قدرة حقيقية على التقاطه وتجسيده في المحايثة المجتمعية والسياسية. بل كانت جاهزيات المنظومات الدلالية أسرع دائمًا إلى تصيُّده، واحتباسه ضمن المذهبيات الكبرى التي تقاسمت فضاء القرن العشرين المنقضي.

بقدر ما يكون استشعار المدنية، بما هي حال محايثة للمعنى وتَبْيِئة فكرية راهنية له، فإنه يمكن للفلسفة السياسية أن تسترد المبادرة، وأن تشرع في إعادة تشكيل أسئلتها على ضوء الذُّخر العظيم وراءها، لكلٍّ من معاناة الفكر الفلسفي والإنساني عامة، وتجارب التاريخ بمحايثاته الكبرى ومنظوماتها الدلالية التراجيدية، فكان عليها منذ البدء أن تفكر في وسيلة حمايتها، بالتضامن مع ذلك الذخر التراثي الهائل، وباستقلال عنه في وقتٍ واحد؛ إذ إن استشعار لحظة المدنية، مع انغلاق الألفيتَين، يتعرَّض، وهو على العتبة من كل قصور المستقبل، لأخطر عملية خَوْصَنة كليانية، أحادية الاستهداف: إنها خَوْصَنة الاستيلاء على/والانفراد بصناعة مستقبل الإنسانية مجددًا، ولكن هذه المرة، ويحدث هذا باستبعاد غالبية الإنسانية، بقية العالم، من أي دور فاعل، وحصرها وانحصارها في دائرة المنفعل والمتقبل المقصي، والمحروم من أية صيغة اعتراف.

إن عودة الفلسفة السياسية، المرتهنة على صعيد المحايثة براهنية المدنية من جهة، وعلى صعيد الفكر باستهلاك المنظومات الدلالية، تظلُّ — هذه العودة — متعلقةً إلى حد بعيد بالناحية الإجرائية، أي باستراتيجية التعامل معها وتحيين إنتاجاتها أكثر فأكثر؛ فهذه العودة أولًا ليست مقصورةً على «ضمنية» المشروع الثقافي الغربي، بجناحَيه: الغَرْبَنة «الأوروبية» والأَمْرَكة. ورغم أنه ينبغي الإقرار أن تربة هذه العودة، ومنبتها السلالي، إنما هي وهو من «أَرْضَنة» المشروع الثقافي الغربي نفسه، لكن تحليقها هو إنساني جواني، وإعادة أرضنتها أو توطينها هو عالمي مستقبلي.١ فالغَرْبَنة الأوروبية تحسُّ أنها فكريًّا أقرب إلى ملامسة تباشير المدنية، بقدر ما تتأسس لديها جاهزية المعنى بما هي استشعار لما يتجاوز الحد؛ أي بما يذكِّر المتناهي بحده الآخر المنفتح على اللامتناهي، أي بما هو مساحة مطلقة لمتناهيات لا تحد. فالغَرْبَنة لا تزال منهمَّة بتصفية حسابها مع ثقافويتها، المستحكمة ببنيتها الفكرية قبل السياسية. وقد توصلت إلى تبيان أقنوم جديد تحت مصطلح الهوية النقدية، باعتبارها تحريرًا من سلطة الهوية بالتعريف «المنطقي»، وانتقالًا منها إلى الهوية بالاعتراف؛ فالتعريف هو قيام الموضوع بما «يتضمنه» من خصائصه الأساسية. إنه مستقل وقائم ومكتفٍ بذاته؛ أما الاعتراف فلا يتأتى إلا من مضاهاة الذات بالآخر، بحيث لا يقوم تجوهر لذات إلا بالإقرار بإمكان قيام ذوات أخرى وتجوهرها اختلافيًّا؛ فالآخر ليس شيئًا ولكنه ذاتٌ/ذواتٌ أخرى، وغير تأحيدية.

إن الهوية النقدية هي الهوية الديمقراطية ما دامت لا تكفُّ عن المقارنة بين المنظومات الدلالية الجاهزة، ومسافة المعنى، بين ما يجهز من تحققات الحرية والمساواة والعدالة أو انحرافاتها، وبين ما لم يجهز من «معانيها» هذه بعد، على الأرض المجتمعية بين فئات المجتمع الواحد، وعلى مدى الوطن الكوكبي في وقت واحد، ما بين الأمم وثقافاتها المتنوعة. غير أن الغَرْبَنة استطاعت أن تميز قصة علاقاتها التعارضية ما بين جاهزيات المنظومات الدلالية والمعنى، وتصوغها ضمن مسيرة عقلانية، متتابعة عبر حقب بنيوية، سمحت لها أن تنفرد بتاريخانية تحقيبية، ويخصها وحدها، متمايزة المراحل ومتآخذة التصادي والتكامل؛ وصاحبها دائمًا وعيٌ نقدي ساعدها على عدم التجمد في بنية متوقفة، أو عند تأويلية مغلقة؛ فإن استشعار المعنى كان يضيف إلى كل ما هو محدود، الجهة الأخرى من الحد، أي ذلك اللامتناهي الذي لا بد من السعي وراء مفاجآته، كلما أوشك المنتَج — بفتح التاء — أن يُطبِق على المنتِج — بكسر التاء — ويكبت حرية تدفقه، أو يحتكرها لحساب نموذجه فقط.

وفي الوقت الذي يتمتَّع به المشروع الثقافي الغربي بإنجاز تحقيبه العقلاني، الذي أوصله إلى الاحتياز على تراكمية ثماره المرحلية، وذلك بعد دفع أكلافها الباهظة، حتى وضعه على مشارف المنافذ نحو المدنية، فإنه لا يزال يتشبَّث بثقافوية جديدة تسمح له بتجديد العلاقة التعارضية مع الآخر، بقية العالم. تلك العلاقة التي تؤكد خاصية الهوية الغَرْبَنية الباحثة دائمًا عن الفضاء الخارجي الذي يؤكد جوانيتها، ويتيح لها تفجير إمكانياتها كقوًى دفاعية، لكنها هجومية على مكتسبات الغرباء، ومتعدِّية على تراثات الآخرين وثرواتهم، لاستخدامها في تغذية تحقيبها التاريخاني الذاتي. تلك كانت علامات الثقافوية التقليدية التي عُرف بها الغرب مكتشف أقاصي العالم، والغازي والاستعماري لثلثَيْ شعوب الكرة الأرضية. كان بذلك يحقِّق هُويته القائمة على إلغاء ثقافات الآخرين، أو قمعها، من أجل استتباعها، لكنه في الآن عينه أيقظ لديها نزعات الهويِّ المضطهد، ودفعها دفعًا إلى تنمية الثقافة التراثية كخط دفاعٍ أخير عن مجرد الوجود المادي، أو الطبيعي لمجموعها البشري.

فما اعتُبر بمثابة بعث للقوميات في العالم الثالث منذ أواسط القرن العشرين، مهَّد لإنشاء مدرسة العلوم الإنسانية التي راحت ترد الاعتبار لتعددية الثقافات الشعبوية لدى تلك الأمم. وقد جرى تصنيفها في خانة الهوي الثقافوي الممتنع في ماهيته المتخلفة جذريًّا، عن بلوغ مدنية الغرب، فإن تنمية التعددية عبر العلوم الإنسانية، قد صبت في هذا الاتجاه المزدوج: فمن جهة يجري الاعتراف بالهوي الثقافوي للشعب المقصي أنطولوجيًّا (من حيث محدودية الماهية المفترضة)، وإجرائيًّا (من حيث احتباس الشعب المقهور في حلقة مفرغة من تنمية التخلف)، بحجة تفعيل الهويِّ بانبعاث التراث تحت شكل القوموية الشعبوية. ذلك كان مآل عصر كامل من استعارات آلية لبعض إجراءات الحداثة الغربية، وإنتاجاتها المظهرية والاستهلاكية، وقد غطَّت ديمومتها الزمانية أربعة عقود من النصف الثاني من القرن العشرين طيلة الحرب الباردة، وانتهت معها، فتساقطت أقنعة الحداثة المستعارة كقشرة سطحية بالية، وبرز الهوي التراثي كمنظومات دلالية جاهزة لملء المسرح الخاوي. وبذلك ضاع رهان دودة الحرير في شرنقتها، على التحول إلى فراشة قادرة على اختراق سجنها الحريري، والانطلاق منه إلى كشف واكتشاف فضائها الأرحب، فالهويُّ بدون الجَسْر على فضائه المختلف، يتقلَّص إلى مجرد قشرة لفراغه الخاص.

بالمقابل، فقد أحيت العلوم الإنسانية ولا شك منهجيات بحثية واكتشافية للشعوب والأمم الواقعة خارج المجال الغربني، اعترفت بتعددية الشخصيات المجتمعية لتلك الشعوب وأنظمتها المعرفية، لكنها ألقت على كلٍّ منها دائرة حصار من هُويتها الخاصة؛ فالهُوي هنا يتراجع إلى الماهوي الذي يغدو نظامًا معرفيًّا مغلقًا على اعتبارات شكلية، تنهض إلى مستوى المجردات المطلقة؛ فالاعتراف بالتعددية لم يؤدِّ إلى تحسين العلاقة بالآخر على أساس أنه موضوع حق يناظر كل آخر من خلاله، بقدر ما أعاد تثبيت الفوارق النوعية بين الحضارات، بما يبرر نسف التعادلية في المشروعية الإنسانية، وتقديم اللاتعادلية هنا كنتاج حتمي لانغلاق كل هُويٍّ شعبوي أو قبلي على ماهيته الأصلية، وقد أصبحت بمثابة سجن أنطولوجي لصاحبها، لا فكاك له منها، ولا قدرة له على تغييرها … لقد أصبحت ثقافة الشعب، بنظر المنهجيات الإنسانوية، نظامًا دلاليًّا، يثبت ما يشبه شخصية مفهومية، قادرة على تبادل التأويل مع مختلف ظواهرها المجتمعية. وبذلك تنحدر الثقافة، في هذا السياق، إلى نوع من النَّمْذَجة الإناسية (الأنتربولوجية) التي تلعب دور ماهية ثابتة، تعلِّل كل فعاليات الشعب كأعراض ضرورية صادرة عنها، وهكذا يُختزل مصطلح الثقافة إلى الثقافوية، أي إلى مجموعة السلوكيات المجتمعية المقوننة حسب الموروثات، تحت طائلة منظومات دلالية تبرِّر متحدًا ماهويًّا مفترضًا، لا يلبث أن يغدو مرجع المرجعيات كلها. وينتهي الأمر بالثقافويات إلى جعل الاعتراف بتعددية الهويات المجتمعية على النطاق الإنساني سبيلًا إلى تجميد كل مُتَّحد، وتكريسه داخل موروثه الهووي؛ وبالتالي فإن خارطة التصنيف الإناسوي الجديد يمكنها أن تسجل متحدات البشرية جمعاء كقبائل مغلقة على ذاتها، ومستغلقة على غيرها، وكل قبيلٍ يعيد إنتاج موروثه بطريقة حلفية غير تاريخانية، ولا زمنية.

لقد سيطرت أقانيم العلوم الإنسانية على المشهدية الفكرية خلال الربع الثالث من القرن العشرين من معاصرة الغَرْبَنة الأوروبية. ورغم أن هذه السيطرة أنتجت غزارة خصبة في المعلومات التفصيلية عن الشعوب «الابتدائية»، إلا أنها نجحت في حسم الفارق الأكبر معرفيًّا بين النمذجات النوعية لتلك الشعوب، وبين «جنس» الغَرْبَنة كتصنيف وحيد ذاته. وبذلك قدمت إناسيات نهاية الألفية الثانية للاستثناء الغربني طمأنينة جديدة على نهائية اختلافه، ليس بفعل «أصالته الماهوية» وحدها، ولكن بسببٍ من محدودية الشعوب الأخرى، واحتباسها لذاتها ضمن ثقافوياتها الموروثة؛ فالشعوب الأخرى هي أنواع نباتية عضوية تملأ حديقة الأرض، وكل نوع مغلق على برنامجه الخلوي. وهو ما كانت تعبر عنه البنيوية الإثنية التي دشنها ليفي ستروس. وصارَت نواة لأيديولوجيا شمولية، تعترف بالآخر واختلافه، شرط ابتعاده وإقصائه عن الواحد الأحد الذي يحتل مركز الدائرة، والمركز لا يتسع إلا للواحد.

هكذا بعد أن كانت غَرْبَنة الأنظمة الفكروية المطلقة التي اشتهرت عن المركزية الأوروبية، قد أرست أسس المفهمة المنادية بالانتشارية، والبحث عن الفضاء الخالي خارج الذات، أو إخلائه من كل مَن يعترض سبيلها، أي إنه بعد أن كان عدم الاعتراف بالآخر سببًا لإزالته تاريخانيًّا، أصبح هناك اعتراف بالآخر وتعدديته، ولكن كهويات مغلقة على ذاتها؛ وبالتالي تفرض هذه الهُويات نفسها على ثقافاتها، الوقوف خارج التاريخ؛ فهي غير مؤهلة للتعاطي مع الكلي أو الكوني إلا من خلال نظام أنظمتها المعرفية الذي قد يسمح أحيانًا بتغيير صِيَغ المفاهيم، لكن دون أن يدع التغيير ينال شيئًا من تركيب الجهاز المعرفي المنتج لهذه المفاهيم، وبنيته المحجوبة ببدائل من منظومات فكروية، ذات نشأة تفريعية عن الهُوي الأصلي، وقد غدا ماهية مطلقة لخصوصية أحادية. من هنا إعادة تقدير الدور التحولي الذي انطلقت في تأديته فلسفةُ الاختلاف، باعتبارها شكلت اعتراضًا منهجيًّا جذريًّا على أجهزة المفهمة البنيوية؛ والتي حاولت أن تلقي الملامة على الهوية المغلقة للآخر بما هي صياغة إناسية — أنتربولوجية محتومة — لماهيته الأنطولوجية المفترضة قبليًّا.

فلقد تصدى فوكو لأهم معاقل الهُوية الغربنية، وهو مفهوم الإنسان والإنسانية، فأنزله عن مصاف الماهية المطلقة إلى مجرد استراتيجية إجرائية؛ وبالتالي فليس ثمة مشروعٌ ثقافي قادر على احتكار العلاقة مع هذه الماهية، وادِّعاء تمثيلها أحاديًّا، وتعجيز الآخر عن المشاركة في التصادي معها. وكل علاقة معها ليست استثناءً تفضيليًّا، بل هي طريقة ما تخصُّ صاحبها وحده، وقد ترقى إلى مستوى استراتيجية معينة، تتراوح بين الثقافة والثقافوية، بين الحضارة والمدنية. فما يقف بين المجتمع والعالم هي ثقافته، والثقافة تنحلُّ إلى مجموعة أنظمة دلالية تغدو في حد ذاتها بمثابة واسطةٍ لرؤية الواقع، ومرجعية معيارية لتقييم معطياته. أما السؤال السياسي فهو الذي يريد أن يعيَ هذه العلاقة الالتباسية التي تخلط دائمًا بين الواقعي، وطريقة رؤيته، أو بين المتداول الثقافوي، وحامله الموضوعي؛ ذلك أن عودة الفلسفة السياسية ما كانت ممكنةً لو لم يقُم الوعي الحداثوي بأكبر عملية مراجعة جذرية شاملة، للجاهزيات المفهومية المتراكمة بين الذات والآخر، على أن يُفهَم الآخر هنا باعتباره كلَّ ما يتعدَّى حد الذات. إنه فكر الخارج، أو البرانية التي تطلق مساحة المعنى، أو ساحة النطق تلقاء صمت الجسد، وطن الذات العضوي الأول.

بينما، إن عيش الأنا بين الأنوات الأخرى، يفترض ترجمة صمت الجسد ما بين أجساد الآخرين، فلا يزال التعريف الأرسطي للسياسة على أنها فن العيش بين الآخرين، معينًا أول للتمعين؛ فالأساس هو الجَسْر على الهوَّة بين الجسدَين الصامتَين؛ الذات والعالم، باللغة والفعل، وهما حقيقة الوساطة. والوساطة تلك مركزُ التمعين والتأويل. وما يسمى انتظام العلاقات الأفقية بين الأفراد والجماعات كان مرتبطًا دائمًا بانتظام علاقات الكل بالبعد الرأسي، أو التدرج الهرمي المتمثِّل بالخارطة السلطوية.

الجمهورية: نظام المواطنة العالمية

المواطن الحداثوي باحث عن المعنى، أي عمَّا يؤسس له مواطنيته ويسمح باستحقاقها؛ فالسياسة هي محل جدارة المجتمع كموطن معنوي لكل أحد، وعندما تنهار هذه الجدارة في نظر الأكثرية، تمتنع ترجمة صمت الجسد إلى أية لغة مشتركة، ومتى أمكن القول إن هذا المجتمع جدير أن يعيش الفرد في كَنَفه، فهذا القول هو أساس الدعوة الجمهورية، ذلك أن الجمهورية تتخطَّى أقنوم المجتمع، وأقنوم الدولة معًا؛ فهي تؤسِّس للوطن الآخر، وطن المعنى، إنها تُعيد طرح كل نظامٍ وكل قانون، وكل سلطة، على محكِّ المعنى الذي يمكنه أن يرى الفرد نفسه من خلاله، أي بما يعنيه فردُه كإنسان. ولا تولد الجمهورية إلا عندما تُكسر دوائر الانغلاق الثقافوي، ويتاح للذات أن تباشر صلتها الطبيعية بالعالم بتوسط الحرية وحدها، وها هنا ليست الحرية سوى الإتيان بشيءٍ من مساحة المعنى خارج السلطوي.

ليست فكرةُ أن الجمهورية هي المدينة التي يحكم فيها الرجالُ الأحرار الرجالَ الأحرار؛ طوبائيةً أفلاطونية، أو ديمقراطية مؤجلة دائمًا، بل هي ديمقراطية ماثلة خارج المنظومات القائمة من فكرويات ومؤسسات دولتية، مهما ادَّعت هذه أنها تجسيد لها. إن الديمقراطية تعبير غير تنظيمي عن هوامش المعنى المتروكة خارج كل تنظيم مؤسسي؛ فهي تبني مجتمع الحريات مقابل مجتمع المصالح. وإذا كان الثاني قد أثبت غَلَبَته في مختلف أحقاب التطور الحضاري، تحت وطأة التوازنات التي تفرضها صراعات المصالح، فليس ذلك إلا لأن صراع المصالح يفترض كذلك حرية بلا حدود ولا ضوابط. هكذا فُهمت الليبرالية في الغرب الأوروبي، وقد صاحبها تقييم سلبي، في حين أن الليبرالية في أمريكا عَنَت الخروجَ عن المحافظة، وشارفت بعض مفاهيم اليسار الأوروبي. على كل حال فإن ثمة هوَّة بين الحرية كمعنًى وبين توظيفها التسييسي والقانوني. فإن فيلسوف العدالة الحداثية في أمريكا راولز حاول أن يستخلص للعدالة ما يشبه المبادئ الثابتة، لكن دون أن يمنع ذلك من تعددية المفاهيم حول الخير، أو الصالح العام حسب التعبير الإجرائي.٢

لقد كان مفهوم التعددية في ظل الليبرالية — منذ جون لوك — يُقصد منه الأفراد، وليس تنوُّع الجماعات أو المتحدات العرقية (الإثنية) أو الدينية والمذهبية والأيديولوجية؛ فالفردانية نُظر إليها ليبراليًّا كحارسة حقيقية للحرية؛ وبالتالي لكل المبادئ الأخرى المبنية عليها. حتى المساواة، فقد ابتكرت التأويلاتُ الفلسفية والأيديولوجية منها بخاصة، نوعياتٍ من المعايير تحرك مفهومها نحو مسافات متفاوتة نائية عن سكونية التعريف بالماهية، أي على أساس تساوي الأفراد جميعًا في حق الانتماء إلى الإنسانية. وهذه التأويلات أدخلت على ماهية المساواة ضرورة القبول بمبادئ كثيرة للفوارق الاعتبارية؛ فالتساوي في الانتماء لا يمنع التفارق بالإمكانيات؛ وبالتالي بالأفضليات. وهكذا فالأفراد متشابهون كبشر، لكنهم متمايزون كذوات. ولا يمكن اعتبار كل تمايز بمثابة تنوُّع لحني ضمن سياق السمفونية الواحدة؛ إذ إن التنوع يفترض ما هو أكثر من مجرد الانتظام التلقائي. وهنا ينتقل الصراع من مستوى الشبكيات البَيْفردية إلى المواجهات بين المجاميع الكتلوية، بدءًا من التكوينات العضوية، أو شبه العضوية إلى المتحدات المصلحية داخل المجتمع، أو الكيان السياسي الواحد.

واليوم راحت الليبرالية الأنغلوسكسونية، والأمريكية الراهنة، تطور الفردانية إلى المتحدية communautarisme؛ بحيث تغدو المجموعة العرقية أو الدينية والطائفية بمثابة وحدة الأساس المجتمعي بدلًا من الفرد، المنطلق خارج أية أُطُريَّة تكثره كأشباه وتحرمه من امتياز وحدانية تخصه وتعادل صمت جسده؛ فالغَرْبَنة الأوروبية انقادَت ذاتيًّا، بفعل تحقيبها الثقافي عينه، إلى إقرار التعددية بالنسبة للذات الإنسانية المتكثرة إلى أمم وحضارات متغايرة، وتمسكت بصيغة الوحدة القومية للأمة، بمعناها التقليدي، تحت ظل الجمهورية، لكن الجمهوري لم يلبث أن انفك عن تحالفه الموضوعي مع القومي، وراح يتقدَّم على التأويلات التراثية أو الطوبائية، والأيديولوجية لمعنى المشروع القومي، ويفارق الحقبة الثقافوية، فاتحًا أمامه مسافة المعنى الحداثوي، المصحِّح لبدايته شبه الإثنية؛ وذلك على أساس أن الجمهوريَّ ليس صياغة دستورية لهرمية الحكم، بقدر ما هو تجاوز لليبرالية الفردانية التجريدية، وللمتحديات التفرعية والشعبوية في آنٍ معًا، والجمهوري لا يجدد المزاوجة التقليدية لليبرالية بين المنفعي والعادل، أو بين الحق «القانوني» وما هو أخلاقي، وصولًا إلى تقرير سعادة الفرد، كمعيار «شمولي»، لمشروعية قيام أية متحدات تضامنية؛ فالجمهوري يهدف إلى إعادة طرح البعد البراني كأهمِّ بُعد جواني مكوِّن للمتحدات التعددية.

إن أرض الجمهورية هي الوطن، وإن أفرادها هم المواطنون، وإن المواطنة هي بديل كل متحد، وهي تفرض لحظتها الفكرية بعد أزمنة المنظومات الدلالية المنهارة، وفيضان المتحدات التفريعية، وفوضاها المفهومية والإجرائية. والمواطنة تدعو الفلسفة السياسية إلى عودة أسئلتها؛ لأنها توفر لها موضوعها المفقود، طيلة أعصر من استبدادية المنظومات الدلالية في التأويل والتعليل؛ ذلك أن المواطنة هي استحقاقٌ يسبق كل اكتساب ويبقى بعده. إنها ثورة المعنى خارج النص؛ إذ إنها أقرب لَغْوَنة تلمُّسية إلى صمت الجسد، مثلما يسبق الجسدُ أحواله، ويبقى متميزًا عن الملابس التي تُلقى عليه، فإن مفهوم المواطن يظلُّ تعريفًا بدئيًّا لا يختزله أي تعيين دلالي يلصق به. إنه الجسد الآخر المعنوي المناظر للجسد العضوي، وهو نُطقه المباشر الذي يتواصل به مع المواطنين الآخرين؛ فالمواطنة هُوية البراءة البدئية، ما إن تقوم حتى تتهاوى الانتماءات الأخرى، وتبدو كملاحق من منظومات فكروية فاقدة لمرجعياتها في ذاتها، ومضطرة إلى تقبُّل إعادة مَفْهمتها وتقييمها على أساس ما تضيفه إلى المواطنة أو تمنعه عنها، من المواصفات الجاهزة، والصفات الفرعية.

إذا كانت الفلسفة السياسية تطرح مجددًا سؤالها حول أفضل نظام للمواطنة، لمجتمع من الناس الأحرار الذين يحكمون الناسَ الأحرار، فلن تلقى سبيلًا إلى ذلك إلا تأهيلًا حداثويًّا للجمهورية.٣ وذلك بإعادة مشكلة ما تعنيه الجمهورية كنظام إجرائي، لكنه هو أقرب الأنظمة السياسية المراهنة على إمكان استشعار المعنى، بما يتخطَّى دائمًا ويضاهي ما بين المنظومات الفكرية المتداولة، والمتمثلة عبر المؤسسات الدستورية والمجتمعية القائمة؛ ذلك أن تطلعات الجماعة الحداثوية لا تتوقف عند صيانة الحريات الأولية للإنسان، باعتبارها حقوقًا تؤلف أساس المشروعية الدولتية لدى المواطنين، فحسب، بل تطالب هذه الجماعة نظامها السياسي بما يؤسس حماية حركية لتلك الحقوق المبدئية-الفطرية؛ وذلك بإبداع جيل جديد من الحقوق المكتسبة التي توفر للمساواة الطبيعية عدالةً أرقى في توزيع فرص الحياة والتقدم، أمام مختلف الأفراد والمتحدات الجماعية. إنها عدالة الاستحقاق التي بدونها تفقد المساواة قدرتها على حماية تلك الحقوق الأولية التي تؤلف المضمون التاريخي للكيان الجمهوري.

إن الجمهورية التقليدية، منذ أفكار روسو وتجارب الجمهورية ما بعد الثورة الفرنسية، كانت مشغولة بالتفكُّر حول ما يقيم مشروعية الحكم، غير أنه مع تنامي الثورة الصناعية، وظهور الصراعات الطبقية منذ أواسط القرن التاسع عشر، أصبح الشغل الشاغل للفلسفة السياسية هو التفكُّر في إقامة الأسس المجتمعية الكفيلة بتنظيم مشروعية المحكومين (الديمقراطية السياسية)، وما أصبح يعبر عنه بالعدالة التوزيعية (الديمقراطية الاجتماعية). غير أنه في حين غدا الهم السياسي مركزيًّا في تاريخ الحداثة كتحولات مجتمعية وتاريخية كبرى، وعبر فيض هائل من انعكاساتها الثقافية عامة، والفلسفية بخاصة، إلا أن تفكُّر السياسي في حد ذاته راح يغيب وراء المنظومات المذهبية والأيديولوجية التي اكتسحت تاريخ الأفكار وتاريخ المحايثة الواقعية معًا، خاصة طيلة القرن العشرين.

سؤال الحرية والعدالة والمساواة لم يعُد يمكن طرحه إلا وتتراكم بينه وهذه المعاني جاهزيات من أشباه الأفاهيم المؤسسية؛ إذ تتخذ لذاتها صيغة الدال الحاسم؛ وبذلك لم يعد: ما هو السياسي؟ هو سؤال ذاته بقدر ما هو سؤال كل ما يدعيه، أو يدعي مفهمته في غير أمكنته الأصلية. وكما قال ماكس فيبر في حقبة الحروب الدينية الأوروبية التي دامت قرنًا، إن السجال الفكري بين المتصارعين انصبَّ على أفضلية عقيدة أو دين آخر بالنسبة لسواه، ولم يلتفت أحدٌ إلى ما يعنيه العيش الصالح في حد ذاته.

واللحظة الراهنة تؤذن بانحسار سلطة المنظومات الفكروية مع تجاربها الكليانية المرة، وكأنما كان تاريخ هذه المنظومات حقلَ تجارب رهيبة، انخرطت فيه السياسة العملية كإجراءات تصير هدفًا في ذاتها، وقادرة على اختلاق علاقات وسياقات تبريرية مع ما تحجبه من علامات الجمهورية، كما هي في منظور الفلسفة السياسية. ذلك أن انقضاء المنظومات الفكروية المرتبطة، بما كان يسمى سياسات الأمر الواقع المعبرة عن أيديولوجيات الدول القائمة الضمنية أو العلنية، أفسح المجال لتجديد المفهوم الجمهوري؛ فإذا كانت الليبرالية الكلاسيكية قد أنتجت الجهاز المفهومي المؤسس للحريات، كحقوق مكتسبة أو طبيعية، لكنها مؤصلة ومقوننة في ظل الديمقراطيات الحديثة، فإن الفكر الجمهوري يعتبر أن الدولة في حد ذاتها ليست هي المقررة لمبدئية هذه الحريات، وإن كانت تكافح للظهور بمظهر الراعي لها والحامي لاستقلالية الفرد. إن الفكر الجمهوري يعيد إلى الفرد الحداثوي الحق البدئي لأمر تحديده لحرياته، ومشاركته لأنداده من الأفراد الأحرار في إنشاء المجتمع المدني، وحماية استقلاليته في وقت واحد، من فرط الليبرالية، ومن إفراط الكليانية. وهكذا فالفلسفة السياسية لا تحدد الجمهورية ضمن نظام الحكم فحسب، بل ترى فيه نظامًا للعيش المشترك للأفراد والجماعات. إنه النظام الذي يرشح نفسه ليكون الإطار الموضوعي لقيام المدنية، حيثما تسود الحاجة إلى زوال أجهزة السلطة المحددة، عن طريق السماح أو المنع؛ وهي الدولة بصيغتَيها، التقليدية المتسلطة، أو المحدثة كسلطة حماية أمنية، ورعاية اجتماعية. ها هنا تغدو الجمهورية ذلك النظام الذي ينشد المساواة البدئية، حيثما تتطوَّر مؤسسات المنع إلى فعالية لمنع المنع، كتعبير عن شبكية العلاقات الموضوعية بين الأفراد الأحرار، ومتحداتهم التلقائية ومؤسساتهم المجتمعية؛ أي إن الجمهورية هي سياسة المدنية، حيثما لا سلطة لأية سلطة إلا بقدر ما تُهيِّئ الظروف الملائمة لاستشعار المعاني، عبر المنظومات الفكروية القائمة والمتداولة، وبدونها، وخارجًا عنها في وقتٍ واحد.

تريد الفلسفة السياسية أن تغدوَ ذاكرةً للمعاني، لا تحفظها فحسب، بل تنشط في التذكير بها؛ وخاصة عندما تكون الغلبة في حلبة الأفعال الجماعية للدلالات الجاهزة ومنظومتها الفكروية المتعالية، فلا تزدهر الفلسفة السياسية إلا في ظل الأنظمة الجمهورية، حيثما الأفراد هم مواطنون، ليسوا مستقلين فحسب عن بعضهم، أي لا يتمتعون بالحرية السلبية وحدها، ولكنهم يسعَوْن إلى السيادة، أي أنهم يختارون أهدافًا يعملون على تحقيقها، وهم سادة لخياراتهم وأفعالهم، ولا تحكمهم في ذلك إلا معيارية تخص قناعاتهم حول ما ينبغي للمرء أن يفعله ويسعى إليه؛ ليبلغ حالته الإنسانية التي يتصورها صالحة لكل إنسان. تلك هي الحرية الإيجابية التي تداولها المفكرون منذ إيزاك برلين حتى شارل تايلور، وقد فهمت الجمهورية الحداثوية أنها ذلك النظام الذي يعطي مسافة للمواطن تفصله عن الآخر المباشر، ولكن تجمعه معه الآخرية عامة، باعتبارها أفقًا للتوافق والإجماع على تأمين الاستقلالية والسيادة لجميع مواطني الجمهورية.

لا ينتظم منع المنع إلا بالقانون، ولكن المواطنين كأفراد لا يزدهرون كبشر أحرار، إلا بقدر ما يتمكنون من تحقيق ذواتهم؛ ذلك أن الحرية السلبية ترفع الحواجز، والحرية الإيجابية تطلق الأفراد وراء غاياتهم الفردية والتوافقية التي يختارونها بملء إرادتهم. والتوفيق بين الحريتَين إنما هو جهد الأفراد الأحرار في ظل مجتمع جمهوري أقرب ما يكون للعدالة. إنه الجهد الذي يفصل ويجمع في آنٍ بين ما تفترضه الاستقلالية من قوة المناعة لدى الفرد، ضد كل استتباع للآخر أو لأفكاره، إلا باختياره — وفي هذه الحالة يتحول الاستتباع إلى مبدأ للمشاركة، وبين ما تنميه السيادة من شجاعة المبادرة، والاختراق نحو ما لم يتحقَّق بعد مما يعنيه الإنسان الحر لدى الفرد والجماعة معًا، بالنسبة لشرطَي الاستقلالية والسيادة بالتكافل والتضامن إزاء بعضهما، وذلك وصولًا إلى استشعار كل فرد أنه أصبح ينتمي إلى الإنسانية التي تنتمي هي إليه، وإلى كل أحد من أنداده، في آنٍ معًا، عندما يتبادلون الانتماءات العامة فيما بينهم.

١  يرجع منهج الأرضنة، التحليق، وإعادة الأرضنة إلى جيل دولوز. وقد استخدمه خاصة في كتابه الأخير: ما هي الفلسفة؟ وهو هنا يفيد في إنارة العلاقة السليمة بين كل مشروع ثقافي منفتح والعالمية بمعناها كمدنية للإنسانية عامة.
G. Deleuze et F. Guattari: Qu’est-ce que la philosophie.
انظر الترجمة العربية الصادرة عن مركز الإنماء القومي ١٩٩٩م، بإشراف مطاع صفدي.
٢  J. Rawls: Théorie de la justice, Seuil, 1987.
٣  J. Habermas et J. Rawls: Débat sur la justice politique, éd., Cerf, 1997.
يعيد السجال بين الفيلسوفَين ضرورة إعادة تأهيل المفهوم الجمهوري، على أساس اقترانه بالأخلاق، وهو رأي راولز بصورة خاصة، في حين يرى هابرماس ضرورة تغيير كلٍّ من المفهوم الجمهوري والمفهوم الليبرالي معًا، سوف نعود إلى تفصيل ذلك خلال البحث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥