سمعان النادر

هكذا يسمُّونه اليوم «سمعان النادر»، وقد كان اسمه قبل أن هاجر إلى أميركا سمعان فقط. لم يكن أحد يعرف كنيته، ولكنه كان رجلًا مشهورًا بقبائحه حتى أغنى اسمه عن كنيته، فكان اسم سمعان كافيًا في تلك المقاطعة السورية ليعني لدى كل واحدٍ من ساكنيها رجلًا شديد القوة، يقطن الكهوف في الجبال، يترصَّد أبناء السبيل ليفتك بهم ويسلبهم حوائجهم.

ولكنه بعد مرور سنوات على حياته تلك المرة أراد أن يتوب فلم يفلح؛ لأن الناس في قريته لم يصدِّقوا توبته، والحكومة لم تكن لتأبه لها، بل كان رجالها يلاحقونه من قرية إلى أخرى حتى انقطع رزقه، وكاد يجوع في حين لا أمل له بالخلاص من عيشه على تلك الصورة.

ولهذا هاجر سمعان، أمَّا كيفية حصوله على المال الذي لزمه للنفقات فأمر لا يحتاج إلى إيضاح؛ لأن من اعتاد شيئًا وأراد الرجوع عنه فلم يستطع لا بُدَّ أن يعود إليه. فاللص إذا تاب ثمَّ احتاج إلى مال يعود لصًّا. وهكذا سمعان، رأى أن الضرورة تدعوه للهجرة إلى أميركا هربًا مما هو فيه من سوء الحال والضغط الشديد عليه من الحكومة، وبالرغم من افتكاره بالتوبة عاد مضطرًّا إلى طرق الحرام ليقضي لُبانته.

وجاء سمعان إلى أميركا، وكان قد درس حياة السوري فيها من بعض السوريين الذين صادفهم في مرسيليا، وعلى الباخرة من الذين كانوا سابقًا في أميركا، ثمَّ هاجروا إليها ثانية، فعرف منهم أن مثله لا يستطيع أن يأتي بحركة إلا إذا كان يقبل أن يعيش أجيرًا يرضى بالكفاف من العيش؛ ولهذا قبل أن يضع رجله على اليابسة صمم النية على أن يقوم بمشروع كبير يجمع فيه المال الكثير من أبناء بلاده المنتشرين في طول أميركا وعرضها.

ولم يلبث سمعان بضعة أيام في نيويورك حتى استدلَّ على بعض عناوين لأناس يعرفهم في الداخلية، فقصدهم ونزل عليهم، وكان على غير ما يأملون أن يروه مثال العفة واللطف والمسكنة.

والصيت إذا تحرك يسبق الريح، وقد تحرَّك صيت سمعان بأنه قدم إلى أميركا؛ ليكفِّر عن خطاياه التي ارتكبها في سوريا، وأنه تاب إليه تعالى، وقد نذر ما بقي من حياته في خدمته؛ ولهذا جاء ليجمع من أهل بلاده نذورًا لكنيسة وطنية تُبنى في قريته.

سمعان الشقي قادم إلى أميركا ليجمع نذورًا! ولماذا لا؟ فما على المشكك إلا أن يجتمع به خمس دقائق فيرى أنه بالحقيقة تغيَّر من شيطان جهنمي إلى ملاك أرضي؛ رجل مسكين يبدأ تناول الطعام برسم الصليب وينهي الأكل بالصلاة، ويجلس في قوم لا يتكلم إلا إذا سُئل؛ لا يتدخل في خصوصيات الناس، ولا يقول إلا الشيء المرضي للجميع؛ يكثر من ذكر آيات الله وطاعته في كل حال من الأحوال؛ وإذا ذُكر أمامه أحد الناس تضرَّع إلى الله تعالى بتوفيقه؛ وإذا نفحه أحدهم نذرًا يغدق عليه الأدعية الحارة؛ إلى ما هنالك من هذا السلوك الذي كان أدعى إلى دهشة العارفين إياه أو السامعين به من أن يروا كوكب الصبح آتيًا بمركبة نارية بجانب المسيح.

ولهذا سُمِّيَ في ديار الهجرة «سمعان النادر»؛ لأنه نذَر نفسه لله تعالى، وتاب عن ضلاله مؤمنًا بالآخرة، وعلى هذا الاسم طارت شهرة الرجل فطفق يجول في أميركا من بلد إلى بلد آخر ومن ولاية إلى أخرى، يختلط بالناس مظهرًا لهم كل مسكنة، داعيًا إيَّاهم إلى تكريس قليلٍ من المال في خدمة الله لقاء تكريسه كل حياته من أجله تعالى.

وكان أن صيته وصل إلى البلاد، وهناك انتشر بين جميع السكان أن سمعان قد نذر حياته لخدمة الرب، وفي البداءة صعب عليهم التصديق، إلا أن الأخبار الواردة متتابعة من كل جهة كانت تؤيد الخبر، حتى أمن عليه الجميع وصدَّقوه، فصار اسم سمعان عندهم يعني التوبة والندامة، بدلًا من الرذائل بكل فروعها.

أمَّا سمعان فثابر على عمله مثابرة شجَّعه عليها إقبال الناس على مشروعه وتألبهم على مساعدته، حتى إنهم في بعض الأماكن أنشَئوا من أجله لجنات للأخذ بناصره، وعيَّنوا من قبلهم وفودًا يدورون معه من منزل إلى آخر ليجمع ما تجود به أيادي المحسنين، فكان الناس يُغدِقون عليه الأموال بعضها للنذر وبعضها تُعطى إليه بصفة شخصية لنفقاته الخاصة، فكان سمعان يضع الكل في جيب واحد، قائلًا للدافعين إنه لم يأتِ أميركا ليجمع لنفسه بل لله؛ ولهذا يخلط الكل معًا ليذهب إلى صندوق الله.

وكان يجمع بقوة تأثيره على عقول الناس الذين عرفوه لصًّا وقاطع طريق، ثمَّ رأوه تقيًّا وناذرًا حياته لله، أمَّا الغرباء الذين عرفوا عنه شيئًا، فكان أكثرهم يكثر عليه السؤالات، وبعضهم يسأله عن ورقة الإذن من مطران أو خوري أو جمعية، فلم يكن يحير جوابًا على ذلك، ولكنه كان يستعين بالذين حوله، وهؤلاء يقصُّون على الناس تاريخه المجيد وكيف انقلب من شيطان إلى ملاك ومن ذئب إلى حمل، وهذا كان كافيًا شر السؤالات، ومغنيًا عن ألف إذن أو ورقة أو نيابة.

إلا أن سمعان في السنة الأخيرة شعر بميل الناس عن مشروعه قليلًا، فصار يخشى الانخراط في جماهير الناس؛ لأن بعضهم كان يسأله عن المقدار الذي جمعه فما كان يجيب إلا بأنه لم يُحْصِهِ بعدُ، وأن بركات الله تضر في المجموع إذا عدَّه. وبعضهم صار يسأله عمَّا إذا كان أرسل منه شيئًا إلى البلاد، فكان يجيبهم بأن يقلب الحديث من أميركا إلى الصين تخلُّصًا من الأجوبة، وهربًا من التعمُّق في هذا الموضوع الذي يكره فتحه والتداول به، خوفًا من التحرِّي.

أخيرًا، عزم سمعان على الرحيل والعودة إلى الوطن، فأَمَّ نيويورك مزوَّدًا بالأدعية من نساء ورجال، وكلهم كان يتمنى أجره في الآخرة، ويحسده على مكانته في عالم التقى والصلاح، ويأمل أن ينفعه الله بأدعية سمعان بفضل ما تبرَّع به من المال الذي حصله في أميركا بعرق القربة.

وعاد سمعان النادر إلا بلاده في عام ١٩٠٣، وأول شيء فعله أن دخل إلى قرية مسقط رأسه دخول الشهير المعروف بفضله، وقد زاره كل سكَّانها في اليوم التالي، وصاروا إليه أقرباء ومحبِّين، وهو صار مقرَّبًا من الجميع ومحبوبًا، ولم يعد من أحد يخشى شرَّه ويتجنبه.

ولم يمض الشهر على وصول سمعان النادر إلى قريته حتى بدأ بالبناء، فراجت الإشاعات على أنه بدأ ببناء الكنيسة، فكان إذا سأله أحدهم يهزُّ رأسه دون أن يفتح فمه بالكلام، ولكن شدَّ ما كان عجبهم منه عندما قامت البناية على الأساس، وظهرت بيتًا لا كنيسة، فعادت الإشاعات إلى الظهور بأن سمعان يبني بالمال الذي جمعه في أميركا بيتًا لنفسه بدلًا من بيت الرب. وقد وصلت الأخبار عن ذلك إلى أميركا، فعجب الناس منها، وندموا على ما فعلوه نحوه، وما قدَّموه إليه من الإكرام والاحتفاء، وصاروا يوبِّخون بعضهم بعضًا كيف انطلت عليهم حيلته، وكيف أنهم لم يتحرَّوا أمره منذ البداءة.

أمَّا سمعان النادر فلا يزال حيًّا يُرزق، وبالرغم من أن سنوات الحرب أودت بحياة تسعة أعشار القرية التي يسكنها؛ فإنه ظلَّ وعائلته حيًّا، وزادت ثروته عن ذي قبل أضعافًا.

وقد زاره مُواطِن له، عاد من أميركا بعد الهدنة، وعندما سأله عن أموال التبرعات التي جمعها، قال إنه بنى بها بيتًا للرب، وإنه سكن البيت؛ لأن الرب لا يسكن البيوت، ولما كان هو ناذرًا نفسه للرب، تكفيرًا عن معاصيه اضطر أن يسكن البيت الذي أنشأه من أموال المتبرعين إلى بيت الله.

فسأله ذلك الزائر: كيف رأيت المهاجرين السوريين في أميركا؟

فقال: إنهم ذوو قلوب سليمة، ولا يردُّون طالبًا خلا نفرًا منهم اكتسبوا من أميركا قلة الدين، فهم يهزءون بالمشاريع العمومية، ولا يهمُّهم شأن وطنهم.

– أوَأنت تلومهم؟

– نعم، ألومهم؛ لأنهم يعاكسون على ذوي الآمال في وطنهم، فلولا أولئك المتفلسفون القليلو الدين لجمعت مبلغًا كافيًا لتشييد كنيسة في هذه القرية، ولكن المبلغ الذي جمعته لم يكن ليبني زاوية من كنيسة.

– ولهذا السبب يظهر أنك بنيت بيتًا لنفسك بتلك الأموال؛ لئلا تذهب ضياعًا أليس كذلك؟

– نعم؛ لهذا السبب عينه.

– الحق معك، ما أطيب قلوب المهاجرين وأسلم نياتهم! على أنني أدعو لهم بأن يكثر عدد الذين نذروا حياتهم للرب مثلك بينهم لعلهم يتعلمون ويتَّعظون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤