شِقْوَةُ الْعَيْشِ

Wave Image
حَــيَــاتِــي! أَمَــا لِــلــنَّــحْــسِ حَــدٌّ وَلَا مَـدًى
فَإِنِّــي كَــرِهْــتُ الْــعَــيْـشَ فِـي أَوَّلِ الـصِّـبَـا!
حَـــيَــاتِــيَ! إِنَّ الْــجِــسْــمَ يَــبْــلَــى وَدُونَــهُ
فُـــؤَادٌ شَـــجِـــيٌّ لَــيْــسَ يُــدْرِكُــهُ الْــبِــلَــى
إِلَامَ حَـــيَـــاتِـــي أَذْرِفُ الـــدَّمْـــعَ حَـــسْـــرَةً
وَلَا يَـــنْـــفَـــعُ الْـــمَــحْــزُونَ أَنْ رَدَّدَ الْــبُــكَــا
وَبَـــيْـــنَ ضُـــلُــوعِــي لِــلــتَّــصَــبُّــرِ لَــوْعَــةٌ
تُـــحَـــمِّــلُــنِــي مَــا لَا أُطِــيــقُ مِــنَ الْأَسَــى
وَحَــتَّــى مَــتَــى أَبْــلُــو نُــفُــوسًــا ضَـئِـيـلَـةً
أُبِــيــنُ لَــهَــا وُدِّي فَــتُــبْــدِي لِــيَ الْــقِــلَـى؟
وَحَــتَّــى مَــتَــى يَـبْـغُـونَ ضَـرِّي وَشِـقْـوَتِـي
وَمَـا لِـيَ لَـوْ خُـيِّـرْتُ فِـي الـنَّـاسِ مِـنْ عِدَى؟
يَــهِــيــجُــونَ أَقْــذَارَ الــنُّــفُــوسِ بِــشَــرِّهِـمْ
فَــمَــا يَــقْــنَــعُــونَ الــدَّهْــرَ مِـنِّـيَ بِـالـصَّـفَـا
فَــيَــكْــدَرُ مَــاءُ الْــعَـيْـشِ وَالْـعَـيْـشُ مَـنْـهَـلٌ
إِذَا مَــا طَــفَــا مِــنْ كُــدْرَةِ الــشَّــرِّ مَــا طَــفَـا
وَلَـــيْـــسَ لَـــهُـــمْ نَـــفْــعٌ يُــرَجُّــونَ نَــيْــلَــهُ
إِذَا مَــا كَــوَى قَــلْــبِــي مِــنَ الْــهَــمِّ مَـا كَـوَى
كَأَنَّ عَـــذَابَ الْـــمَـــرْءِ لِـــلْــمَــرْءِ ضِــحْــكَــةٌ
فَـــقَـــدْ أُغْـــرِمَ الْإِنْـــسَــانُ بِــالــشَّــرِّ وَالْأَذَى
يَــنَــالُــونَ مِــنْ قَــلْــبِــي بِــنَــابٍ وَمِــخْـلَـبٍ
وَمَــا رَاعَــهُــمْ أَنْ خَـضَّـبُـوا الْـقَـلْـبَ بِـالـدِّمَـا
كَأَنِّــي رَبِــيــبُ الــنَّــحْـسِ لَـيْـسَ يَـجُـوزُنِـي
فَــــيَــــا شَــــرَّ مَـــا رَاعٍ يَـــجُـــورُ إِذَا رَعَـــى
إِذَا كَــانَ فِــي نَــحْــسِ الْــفَــتَــى شَــرَفٌ لَـهُ
فَــمَــا لِــيَ لَــمْ أَشْـبَـعْ مِـنَ الْـمَـجْـدِ وَالْـعُـلَا؟
يَــقُــولُــونَ بُــؤْسُ الْــعَــيْــشِ نُــبْـلٌ لِـصَـابِـرٍ
فَــلَا مَــجْــدَ إِلَّا فِـي ذَوِي الـنَّـحْـسِ وَالـشَّـقَـا
فَإِنْ كَـــانَ فِـــي هَـــذَا الْـــعَـــذَابِ مُـــهَــذِّبٌ
فَأَغْــدِقْ عَــلَــى رَاجِــيـهِ يَـا عَـيْـشُ مَـا رَجَـا
حَــيَــاتِــي! أَعَــفْــوًا جِــئْــتِ أَمْ عَـمْـدَ عَـامِـدٍ
قَضَى مِنْ صُرُوفِ الدَّهْرِ فِي الْخَلْقِ مَا قَضَى
وَلَـــوْ أَنَّــنِــي كَــالــنَّــاسِ لُــؤْمًــا وَغِــلْــظَــةً
جَــرَيْــتُ عَــلَــى شَــرْعِ الــزَّمَـانِ كَـمَـا جَـرَى
فَـــيَـــا مَـــوْتُ أَقْـــبِـــلْ لَا كَإِقْـــبَـــالِ رَائِـــعٍ
مَــرِيــرٍ كَــطَــعْـمِ الْـعَـيْـشِ يُـؤْلِـمُ مَـنْ حَـسَـا
وَلَــكِــنْ كَــتَــرْنِــيــقِ الــنُّــعَــاسِ بِــمُــقْــلَــةٍ
طَــوَاهَــا الْــكَــرَى أَوْ مِـثْـلَـمَـا تَـفْـعَـلُ الـطِّـلَا
وَكُــنْ لِــي عَــلَــى الْأَحْــزَانِ عَــوْنًـا وَرَحْـمَـةً
فَــمَــا نَــافِــعِـي فِـي الْـعَـيْـشِ لَـوْمٌ وَلَا رِضَـا
وَمَـــا طَــلَــبِــي لِــلْــمَــوْتِ تَــطْــلَابُ كَــاذِبٍ
رَأَى الْـــمَـــوْتَ يَـــنْــحُــوهُ فَأَبْــكَــاهُ مَــا رَأَى
فَإِنَّ حَــــيَــــاتِــــي غُــــلَّـــةٌ رِيُّـــهَـــا الـــرَّدَى
وَخَــيْــرُ شَــرَابِ الْــمَــرْءِ مَــا نَــقَــعَ الــظَّـمَـا
فَـــتُـــخْـــمَـــدُ نَــارٌ كَــانَ جَــمًّــا ضِــرَامُــهَــا
إِذَا مَــا خَــبَــا مِــنْ لَـوْعَـةِ الْـعَـيْـشِ مَـا خَـبَـا
فَـيَـا قَـلْـبُ كُـنْ فِـي الصَّدْرِ كَالْمَيْتِ وَاسْتَرِحْ
كَـفَـى مِـنْ مَـرِيـرِ الْـعَـيْـشِ يَـا قَلْبُ مَا مَضَى
لَـــعَــلَّــكَ إِنْ نَــهْــنَــهْــتَ يَــا قَــلْــبُ رَغْــبَــةً
وَعِــفْــتَ طِــمَــاحَ الْــعَـيْـشِ يُـدْرِكُـكَ الـرَّدَى
فَـــيَـــا لَـــيْــتَ أَنَّ الْــمَــرْءَ إِمَّــا دَعَــا الــرَّدَى
أَتَــــاهُ فَــــلَا نَــــحْــــسٌ يَــــرُوعُ وَلَا أَسَــــى
أَمَــا يَــصْــطَــفِــيــنِــي الــدَّهْــرُ إِلَّا لِـحَـسْـرَةٍ
فَـهَـلَّا اصْـطَـفَـى لِـي عِـيشَةً غَيْرَ مَا اصْطَفَى
وَيُــشْــعِــلُ فِــي قَــلْـبِـي جَـحِـيـمًـا، وَنَـاسُـهُ
شَــيَــاطِــيــنُ، فِـيـهِ تُـضْـرِمُ الْـهَـمَّ وَالْـجَـوَى
أُدَارِيـــهِـــمُ جُـــهْـــدِي وَمَـــا ذَاكَ نَـــافِــعِــي
وَأَمْــنَــحُ مِــنْــهُـمْ مُـدَّعِـي الْـفَـهْـمِ مَـا ادَّعَـى
فَأَصْـبَـحْـتُ أَخْـشَـى الـنَّـاسَ فِـي كُـلِّ خَطْرَةٍ
وَأَفْــــرَقُ مِــــنْ دَاعِـــي الْـــمَـــوَدَّةِ إِنْ دَعَـــا
وَمِـــنْ شِـــقْـــوَةِ الْإِنْـــسَـــانِ أَنْ حَــارَ لُــبُّــهُ
وَأَصْـــبَـــحَ خَــفَّــاقَ الْأَضَــالِــعِ وَالْــحَــشَــى
كَأَنِّـــيَ بَـــيْـــنَ الـــنَّـــاسِ مِــنْ أَهْــلِ عَــالَــمٍ
جَــدِيــدٍ غَــرِيــبٍ أَخْــطَأَ الْأهْــلَ وَالْــحِـمَـى
فَــمَــا لِــيَ مِــنْ عَــطْــفٍ لَــدَيْــهِــمْ وَرَحْـمَـةٍ
وَلَا لِـــيَ فِـــيـــهِـــمْ مِـــنْ إِخَـــاءٍ وَلَا هَـــوَى
يَـــعِـــيــبُــونَ نَــفْــسِــي ضَــلَّــةً وَجَــهَــالَــةً
وَيَــرْمُــونَــنِــي بِـالـسُّـوءِ وَالْـمَـكْـرِ وَالْـخَـنَـى
إِذَا مَــــا أَرَادَ الْــــمَـــرْءُ إِخْـــفَـــاءَ عَـــيْـــبِـــهِ
رَمَــى غَــيْــرَهُ بِـالْـعَـيْـبِ لَـمْ يَـعْـدُ مَـنْ رَمَـى
وَمَـــا قَـــوْمِـــيَ الْـــقَـــوْمَ الَّـــذِيـــنَ أَرَاهُـــمُ
أَلَا إِنَّ قَــوْمِــي فِــي الْــبَــعِــيــدِ مِـنَ الـدُّنَـى
كَأَنَّ حَــــيَــــاةَ الــــنَّـــاسِ ضَـــجَّـــةُ أَخْـــرَقٍ
وَعَــيْــشِـيَ فِـيـهِـمْ نَـغْـمَـةُ الْـبُـؤْسِ وَالْأَسَـى
وَأَوْجَــــعُ مَــــا لَاقَــــيْـــتُ جَـــاهٌ مُـــصَـــدَّقٌ
كَأَنَّ ثِــيَــابَ الْــجَــاهِ خِـيـطَـتْ مِـنَ الْـحِـجَـا
يُـــخَـــالُ ذَوُوهَـــا فِـــي كَـــمَـــالٍ وَعِـــفَّـــةٍ
وَتَـحْـتَ ثِـيَـابِ الْـجَـاهِ مَـا شِـئْـتَ مِـنْ خَـنَى
يُــصَــدَّقُ رَأْيُ الْــجَــمْــعِ وَالْــجَــمْــعُ ظَــالِــمٌ
وَيُـــحْـــقَـــرُ رَأْيُ الْــفَــرْدِ رَيَّــانَ مِــنْ نُــهَــى
بِــذَا قَــضَــتِ الْأَخْــلَاقُ مَــا بَــيْــنَ أَهْــلِــهَــا
وَمَــا تَــنْــفَـعُ الـشَّـكْـوَى أَلَا خَـابَ مَـنْ شَـكَـا!
وَكَــمْ مِــنْ جُــمُــوعٍ لَــيْــسَ تَــعْــدِلُ وَاحِـدًا
فَإِنَّ ظَــلَامَ الْــجَــهْـلِ فِـي الـنَّـاسِ كَـالْـعَـمَـى
فَــيَــا شِــقْــوَةَ الْأَيَّــامِ هَــلْ مِــنْــكِ مَــهْـرَبٌ
فَأَعْـدُو وَهَـلْ يَـنْـجُـو مِـنَ الـنَّـحْسِ مَنْ عَدَا؟
كَأَنَّ هُـــــمُــــومَ الْــــمَــــرْءِ ذَنْــــبٌ مُــــرَاوِغٌ
فَــيَــا بُــؤْسَ مَــقْـتُـولٍ وَيَـا بُـؤْسَ مَـنْ نَـجَـا
وَبَــعْــضُ دَوَاعِــي الْـعَـقْـلِ حَـرْبٌ لِـبَـعْـضِـهَـا
فَـلَا يَـعْـرِفُ الْإِنْـسَـانُ فِـي الْـعَـيْـشِ مَـنْ دَعَا
أَلَــيْــسَ الْــحِــجَــا وَالْــحَـقُّ لُـغْـزًا وَمَـجْـهَـلًا
فَــهَــلْ سَـعِـدَ الْإِنْـسَـانُ بِـالْـعَـقْـلِ وَاهْـتَـدَى؟

عن القصيدة

  • طريقة النظم: عمودي
  • لغة القصيدة: الفصحى
  • بحر القصيدة: الطويل
  • عصر القصيدة: الحديث

عن الشاعر

عبد الرحمن شكري: شاعرٌ مِصْري، وأحدُ مُؤسِّسي مدرسةِ الديوانِ الشِّعرية، وصَفتْه الدكتورة «سهير القلماوي» بأنه الشَّاعرُ الذي أنزلَ العقلَ مِن على عَرشِه في إلهامِ الشُّعراء؛ فشِعْرُه خيالٌ مُتحرِّرٌ يرفضُ حدودَ الزمانِ والمكان. وقد أحدثَتْ أشعارُه نَقلةً تَجديدِيةً في مضمونِ الشِّعرِ العربي؛ فتحوَّلتْ به من شاطئِ العقلِ إلى بحرِ الخيال.

وُلِدَ «عبد الرحمن شكري عيَّاد» ببورسعيد عامَ ١٨٨٦م، لأسرةٍ ذاتِ أصولٍ مَغربِية، وقد كانَ لها دَورٌ مُؤثِّرٌ في حياتِه؛ حيثُ كانَ لزوجةِ أخيه «أحمد شكري» — المُولَعةِ برِوايةِ الحكاياتِ والأساطير — دورٌ في إثراءِ خيالِه، كما كانَ في مكتبةِ أبيه ما يُرضي نَهَمَه من دَواوينِ الشِّعر.

قَضى فَصْلًا من عُمرِه معَ أبيه ببورسعيد حتى نالَ الشَّهادةَ الابتدائية، ثُمَّ انتقلَ إلى الإسكندريةِ ليَلتحِقَ بمَدْرسةِ رأسِ التينِ الثانويةِ التي ظَلَّ بها أربعَ سَنواتٍ لينالَ منها الشَّهادةَ الثانويةَ (البكالوريا)، ثُم الْتَحقَ بمَدْرسةِ الحقوقِ إبَّانَ احتدامِ الحركةِ الوطنيةِ التي أتاحتْ له التعرُّفَ على «مصطفى كامل» زعيمِ الحركةِ الوطنيةِ في ذلكَ الوَقْت، والذي طلَبَ منه أنْ يعملَ مُحرِّرًا بجريدةِ «اللِّواء»، ونصَحَه أنْ يَلتحقَ بمدرسةِ المُعلِّمينَ فيَنهلَ من مَعِينِها ليكونَ عَوْنًا له في مَيْدانِ الصَّحافة.

وقد عطَّرَ «عبد الرحمن شكري» رَوْضةَ الأدبِ بالعديدِ من دواوينِه وقصائدِه، ومنها: دِيوانُ «ضَوْء الفَجر»، و«لَآلِئ الأَفْكار»، و«أناشيد الصِّبا»، و«زَهْر الرَّبيع»، و«الخَطَرات»، و«الأَفْنان»، و«أَزْهار الخَرِيف»، ونُشِر ديوانُه الثامنُ بعدَ مَوتِه ضمنَ الأعمالِ الكامِلة. بَدأَ شاعِرُنا صِراعَه معَ المرضِ صيفَ عامَ ١٩٥٧م، إلى أنْ صادَه الموتُ عامَ ١٩٥٨م.

تسجيل الدخول إلى حسابك

Sad Face Image

قم بتسجيل الدخول ليبدأ التحميل، وتحصل على جميع مزايا ومحتوى هنداوي فاونديشن سي آي سي.

تسجيل الدخول إنشاء حساب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤