أُمُّ الْيَتِيمِ

Wave Image
رَمَــتْ مِــسْــمَـعِـي لَـيْـلًا بِأَنَّـةِ مُـؤْلَـمِ
فَأَلْـقَـتْ فُـؤَادِي بَـيْـنَ أَنْـيَـابِ ضَيْغَمِ
وَبَـاتَـتْ تُـوَالِـي فِـي الـظَّـلَامِ أَنِـيـنَهَا
وَبِــتُّ لَــهَــا مُــرْمًـى بِـنَـهْـشَـةِ أَرْقَـمِ
فَـيَـهْـفُـو بِـقَـلْـبِي صَوْتُهَا مِثْلَمَا هَفَتْ
بِــقَــلْــبِ فَــقِـيـرِ الْـقَـوْمِ رَنَّـةُ دِرْهَـمِ
إِذَا بَــعَــثَــتْ لِــي أَنَّــةً عَــنْ تَــوَجُّـعٍ
بَــعَــثْــتُ إِلَــيْــهَــا أَنَّــةً عَــنْ تَـرَحُّـمِ
تُــقَــطِّــعُ فِـي الـلَّـيْـلِ الْأَنِـيـنَ كَأَنَّـهَـا
تُــقَــطِّـعُ أَحْـشَـائِـي بِـسَـيْـفٍ مُـثَـلَّـمِ
يَـهُـزُّ نِـيَـاطَ الْـقَـلْـبِ بِـالْـحُزْنِ صَوْتُهَا
إِذَا اهْـتَـزَّ فِـي جَـوْفِ الظَّلَامِ الْمُخَيِّمِ
تُـرَدِّدُهُ وَالـصَّـمْـتُ فِـي الـلَّـيْـلِ سَـائِدٌ
بِـلَـحْـنٍ ضَـئِـيـلٍ فِـي الـدُّجُـنَّـةِ مُبْهَمِ
كَأَنَّ نُـجُـومَ الـلَّـيْـلِ عِـنْـدَ ارْتِـجَـافِـهَا
تُـصِـيـخُ إِلَـى ذَاكَ الْأَنِـيـنِ الْـمُجَمْجَمِ
فَــمَــا خَــفَـقَـانُ الـنَّـجْـمِ إِلَّا لِأَجْـلِـهَـا
وَمَـا الـشُّـهْـبُ إِلَّا أَدْمُـعُ النَّجْمِ تَرْتَمِي
لَـقَـدْ تَـرَكَـتْـنِـي مُـوجَعَ الْقَلْبِ سَاهِرًا
أَخَـــا مَـــدْمَــعٍ جَــارٍ وَرَأْسٍ مُــهَــوَّمِ
أَرَى فَـحْـمَـةَ الـظَّـلْـمَـاءِ عِـنْـدَ أَنِـيـنِهَا
فَأَعْـجَـبُ مِـنْـهَـا كَـيْـفَ لَـمْ تَـتَـضَـرَّمِ
فَأَصْـبَحْتُ ظَمْآنَ الْجُفُونِ إِلَى الْكَرَى
وَإِنْ كُـنْـتُ رَيَّـانَ الْـحَـشَـا مِـنْ تَأَلُّمِي
وَأَصْـبَـحَ قَـلْـبِي وَهْوَ كَالشِّعْرِ لَمْ تَدَعْ
لَــهُ شُــعَــرَاءُ الْــقَــوْمِ مِــنْ مُــتَــرَدَّمِ
وَبَـيْـتٍ بَـكَـتْ فِـيـهِ الْـحَـيَاةُ نُحُوسَةً
وَلَاحَـتْ بِـوَجْـهِ الْـعَـابِـسِ الْـمُـتَجَهِّمِ
بِــهِ أَلْــقَــتِ الْأَيَّــامُ أَثْــقَـالَ بُـؤْسِـهَـا
فَـهَـاجَـتْ بِـهِ الْأَحْـزَانُ فَـاغِـرَةَ الْـفَـمِ
كَأَنِّــي أَرَى الْــبُــنْـيَـانَ فِـيـهِ مُـهَـدَّمًـا
وَمَــا هُــوَ بِــالْـخَـاوِي وَلَا الْـمُـتَـهَـدِّمِ
وَلَــكِــنَّ زِلْـزَالَ الْـخُـطُـوبِ هَـوَى بِـهِ
إِلَـى قَـعْـرِ مَـهْـوَاةِ الـشَّـقَـاءِ الْـمُجَسَّمِ
دَخَـلْـتُ بِـهِ عِـنْـدَ الـصَّبَاحِ عَلَى الَّتِي
سَقَانِي بُكَاهَا فِي الدُّجَى كَأْسَ عَلْقَمِ
فَأَلْـفَـيْـتُ وَجْـهًـا خَـدَّدَ الـدَّمْـعُ خَـدَّهُ
وَمُــحْــمَــرَّ جَــفْــنٍ بِـالْـبُـكَـا مُـتَـوَرِّمِ
وَجِـسْـمًـا نَـحِـيـفًـا أَنْـهَـكَـتْـهُ هُمُومُهُ
فَـكَـادَتْ تَـرَاهُ الْـعَـيْـنُ بَـعْـضَ تَـوَهُّـمِ
لَـقَـدْ جَـثَـمَـتْ فَـوْقَ الـتُّرَابِ وَحَوْلَهَا
صَـغِـيـرٌ لَـهَـا يَـرْنُـو بِـعَـيْـنَـيْ مُـيَـتَّـمِ
تَـرَاهُ وَمَـا إِنْ جَـاوَزَ الْـخَـمْـسَ عُـمْرُهُ
يُــدِيــرُ لِــحَــاظَ الْـيَـافِـعِ الْـمُـتَـفَـهِّـمِ
بَـكَـى حَـوْلَـهَـا جُـوعًـا فَـغَـذَّتْـهُ بِالْبُكَا
وَلَــيْــسَ الْــبُــكَــا إِلَّا تَــعِــلَّـةَ مُـعْـدِمِ
وَأَكْـبَـرُ مَـا يَـدْعُـو الْقُلُوبَ إِلَى الْأَسَى
بُــكَــاءُ يَــتِــيــمٍ جَــائِــعٍ حَــوْلَ أَيِّـمِ
•••
وَقَـفْـتُ وَقَـدْ شَـاهَـدْتُ ذَلِـكَ مِـنْـهُمَا
لِــمَـرْيَـمَ أَبْـكِـي رَحْـمَـةً وَابْـنِ مَـرْيَـمِ
وَقَـفْـتُ لَـدَيْـهَـا وَالْأَسَـى فِي عُيُونِهَا
يُــكَــلِّــمُــنِــي عَــنْــهَـا وَلَـمْ تَـتَـكَـلَّـمِ
وَسَـاءَلْـتُـهَـا عَـنْـهَـا وَعَـنْـهُ فَأَجْهَشَتْ
بُــكَــاءً وَقَـالَـتْ أَيُّـهَـا الـدَّمْـعُ تَـرْجِـمِ
وَلَـمَّـا تَـنَـاهَـتْ فِـي الْبُكَاءِ تَضَاحَكَتْ
مِـنَ الْـيَأْسِ ضِـحْـكَ الْـهَازِئِ الْمُتَهَكِّمِ
وَلَـكِـنْ دُمُـوعُ الْـعَـيْـنِ أَثْـنَاءَ ضِحْكِهَا
هَوَاطِلُ مَهْمَا يَسْجُمِ الضَّحْكُ تَسْجُمِ
فَـقَدْ جَمَعَتْ ثَغْرًا مِنَ الضِّحْكِ مُفْعَمًا
إِلَـى مَـحْـجَـرٍ بَـاكٍ مِـنَ الـدَّمْـعِ مُفْعَمِ
فَـتُـذْرِي دُمُـوعًـا كَـالْـجُـمَـانِ تَـنَاثَرَتْ
وَتَـضْـحَـكُ عَـنْ مِثْلِ الْجُمَانِ الْمُنَظَّمِ
فَـلَـمْ أَرَ عَـيْـنًـا قَـبْـلَـهَـا سَـالَ دَمْـعُـهَا
بُــكَــاءً وَفِــيــهَــا نَـظْـرَةُ الْـمُـتَـبَـسِّـمِ
فَـقُـلْـتُ وَفِي قَلْبِي مِنَ الْوَجْدِ رَعْشَةٌ
أَمَـجْـنُـونَـةٌ؟ يَـا رَبِّ فَـارْحَـمْ وَسَـلِّـمِ
•••
وَمُـذْ عَـرَضَـتْ لِـلِابْـنِ مِـنْـهَـا الْـتِفَاتَةٌ
أَشَــارَتْ إِلَــيْــهِ بِــالْــمَــدَامِـعِ أَنْ قُـمِ
فَـقَـامَ إِلَـيْـهَـا خَـائِـرَ الْـجِسْمِ فَانْثَنَتْ
عَــلَــيْــهِ فَـضَـمَّـتْـهُ بِـكَـفٍّ وَمِـعْـصَـمِ
وَظَــلَّــتْ لَــهُ تَــرْنُـو بِـعَـيْـنٍ تَـجُـودُهُ
بِــفَــذٍّ مِــنَ الــدَّمْــعِ الْـغَـزِيـرِ وَتَـوْءَمِ
فَـــقَـــالَ لَـــهَــا لَــمَّــا رَآنِــيَ وَاقِــفًــا
أُرَدِّدُ فِـــيـــهِ نَـــظْــرَةَ الْــمُــتَــوَسِّــمِ
سَـلِـي ذَا الْـفَتَى يَا أُمُّ أَيْنَ مَضَى أَبِي
وَهَــلْ هُــوَ يَأْتِـيـنَـا مَـسَـاءً بِـمَـطْـعَـمِ
فَـقَـالَـتْ لَـهُ وَالْـعَـيْـنُ تَـجْرِي غُرُوبُهَا
وَأَنْـفَـاسُـهَـا يَـقْـذِفْـنَ شُـعْـلَـةَ مُـضْرَمِ
أَبُــوكَ تَــرَامَــتْ فِـيـهِ سَـفْـرَةُ رَاحِـلٍ
إِلَـى الْـمَـوْتِ لَا يُـرْجَـى لَهُ يَوْمُ مَقَدَمِ
مَـشَـى أَرْمَـنِـيًّـا فِي الْمَعَاهِدِ فَارْتَمَتْ
بِـهِ فِـي مَـهَـاوِي الْمَوْتِ ضَرْبَةُ مُسْلِمِ
عَـلَـى حِـيـنَ ثَـارَتْ لِـلـنَّـوَائِـبِ ثَـوْرَةٌ
أَتَـتْ عَـنْ حَـزَازَاتٍ إِلَى الدِّينِ تَنْتَمِي
فَــقَـامَـتْ بِـهَـا بَـيْـنَ الـدِّيَـارِ مَـذَابِـحٌ
تَــخَـوَّضَ مِـنْـهَـا الْأَرْمَـنِـيُّـونَ بِـالـدَّمِ
وَلَـوْلَاكَ لَاخْـتَـرْتُ الْـحِـمَـامَ تَـخَـلُّـصًا
بِـنَـفْـسِـيَ مِـنْ أَتْـعَـابِ عَـيْـشٍ مُذَمَّمِ
فَأَنْــتَ الَّــذِي أَخَّــرْتَ أُمَّــكَ مَـرْيَـمًـا
عَـنِ الْـمَـوْتِ أَنْ يُـودِي بِأُمِّـكَ مَـرْيَـمِ
•••
أَمَــرْيَـمُ مَـهْـلًا بَـعْـضَ مَـا تَـذْكُـرِيـنَـهُ
فَإِنَّــكِ تَــرْمِــيــنَ الْــفُــؤَادَ بِأَسْــهُــمِ
أَمَـــرْيَـــمُ إِنَّ الـــلــهَ لَا شَــكَّ نَــاقِــمٌ
مِـنَ الْـقَوْمِ فِي قَتْلِ النُّفُوسِ الْمُحَرَّمِ
أَمَـرْيَـمُ فِـيـمَـا تَـحْـكُـمِـيـنَ تَـبَـصَّـرِي
فَإِنْ أَنْـتِ أَدْرَكْـتِ الْـحَقِيقَةَ فَاحْكُمِي
فَــلَــيْـسَ بِـدِيـنٍ كُـلُّ مَـا يَـفْـعَـلُـونَـهُ
وَلَـــكِـــنَّــهُ جَــهْــلٌ وَسُــوءُ تَــفَــهُّــمِ
لَـئِـنْ مَـلَـئُـوا الْأَرْضَ الْـفَـضَاءَ جَرَائِمًا
فَـهُـمْ أَجْـرَمُـوا وَالـدِّينُ لَيْسَ بِمُجْرِمِ
وَلَـكِـنَّـهُـمْ فِـي جُـنْـحِ لَـيْلٍ مِنَ الْعَمَى
تَـمَـشَّـوْا بِـمَـطْـمُـوسِ الْـعَـلَائِـمِ مُبْهَمِ
وَقَـدْ سَـلَـكُـوا تَـيْـهَـاءَ مِـنْ أَمْرِ دِينِهِمْ
فَـكَـمْ مُـنْـجِـدٍ فِي الْمُخْزِيَاتِ وَمُتْهِمِ
وَلَــمَّـا رَأَيْـتُ الـلَّـوْمَ لُـؤْمًـا تُـجَـاهَـهَـا
سَــكَــتُّ فَــلَــمْ أَنْــبِــسْ وَلَـمْ أَتَـبَـرَّمِ
وَأَطْـرَقْـتُ نَحْوَ الْأَرْضِ أَطْلُبُ عَفْوَهَا
وَمَــا أَنَــا بِــالْــجَـانِـي وَلَا بِـالْـمُـتَـيَّـمِ
وَظَـلْـتُ لَـهَـا أَبْـكِـي بِـعَـيْـنٍ قَـرِيـحَةٍ
جَـرَتْ مِـنْ أَمَـاقِـيـهَـا عُـصَـارَةُ عَنْدَمِ
بَــكَـيْـتُ وَمَـا أَدْرِي أَأَبْـكِـي تَـضَـجُّـرًا
مِـنَ الْـقَـوْمِ أَمْ أَبْـكِـي لِـشِـقْـوَةِ مَرْيَمِ

عن القصيدة

  • طريقة النظم: عمودي
  • لغة القصيدة: الفصحى
  • بحر القصيدة: الطويل
  • عصر القصيدة: الحديث

عن الشاعر

معروف الرُّصافي: أديب وشاعر وأكاديمي عراقي له إسهامات معتبَرة في حقلَي التعليم والثقافة.

وُلِدَ معروف عبد الغني محمود الجباري في مدينة بغداد العراقية عام ١٨٧٥م وتلقَّى علومه الأوَّلِيَّة في الكتاتيب كباقي أقرانه، ثم التحق ﺑ «المدرسة العسكرية الابتدائية» لفترة، ولكنه انتقل للدراسة في المدارس الدينية حيث تتلمذَ على يد مجموعة من علماءِ بغداد الكبار، وقد لقَّبَهُ أحد شيوخه بمعروف الرُّصافي بدلًا من معروف الكرخي.

بعد تخرُّجه عمِل الرُّصافي معلمًا ﺑ «مدرسة الراشدية» ثم مدرسًا للأدب العربي ﺑ «المدرسة الإعدادية» ببغداد، وقد تنقَّل بين المدارس حتى أصبح مدرِّسًا للُّغة العربية ﺑ «الكلية الشاهانية» بإسطنبول، وكان أيضًا يمارس الصحافة؛ حيث عمل محررًا بجريدة «سبيل الرشاد».

انتُخِب الرصافي عضوًا ﺑ «مجلس المبعوثان» العثماني في عام ١٩١٢م (وهو شبيه بالمجالس النيابية الآن)، وتقديرًا لجهوده الأدبية والتعليمية انتُخِب عضوًا ﺑ «مجمع اللغة العربية» بدمشق، ثم عُيِّنَ مفتشًا بمديرية المعارف العراقية.

آمَن الرُّصافي بأهمية التعليم وعمِل على نشره بين العراقيين من خلال دعواته وجهاده المستمر لبناء المزيد من المدارس، محفِّزًا الأغنياء على دعم المشاريع التعليمية وكفالة طلبة العلم، حيث رأى أن طريق التحرُّر الوطني يمر بالمدارس. والحديث عن التحرُّر الوطني يَجرُّنا بالضرورة إلى نشاط الرُّصافي السياسي ورفضه للاحتلال البريطاني واستبداد السلطة؛ فنجده قد دبَّج المقالات وألَّف القصائد الحماسية محرِّضًا الشعب على النضال السياسي، وكذلك الثورة ضد التقاليد والجمود.

ترك الرُّصافي الكثير من الأعمال الشعرية والنثرية المميزة التي عكست أسلوبَه الرصين ولغته المتينة جزْلة الألفاظ، وقد تنوعت الموضوعات التي كتب فيها ما بين السياسي والاجتماعي والأدبي والتاريخي، وكثيرًا ما أثارت كتبه ضجَّةً كبرى في الأوساط الثقافية؛ فكتابه الشهير «الشخصية المحمدية» اعتبره البعض تهجُّمًا على الدين ومقدساته.

تُوُفِّيَ الرُّصافي بعد حياة حافلة في عام ١٩٤٥م عن سبعين عامًا.

تسجيل الدخول إلى حسابك

Sad Face Image

قم بتسجيل الدخول ليبدأ التحميل، وتحصل على جميع مزايا ومحتوى هنداوي فاونديشن سي آي سي.

تسجيل الدخول إنشاء حساب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤