أُمُّ الطِّفْلِ فِي مَشْهَدِ الْحَرِيقِ

Wave Image
مَــا لِــلــدِّيَــارِ تَــرَاءَى وَهْــيَ أَطْــلَالُ
هَـلْ خَـفَّ بِـالْـقَـوْمِ عَنْهَا الْيَوْمَ تَرْحَالُ
كَـانَـتْ بِـهَـا الـسَّـمُـرَاتُ الْخُضْرُ زَاهِيَةً
وَالْــيَــوْمَ لَا سَــمُــرٌ فِــيـهَـا وَلَا ضَـالُ
مَــا بَــالُــهَـا وَهْـيَ أَنْـقَـاضٌ مُـبَـعْـثَـرَةٌ
تَـــغَـــبَـــرُّ فِــيــهِــنَّ أَبْــكَــارٌ وَآصَــالُ
هَـلْ هَـدَّ بُـنْـيَـانَـهَـا مِـنْ فَـوْقُ صَاعِقَةٌ
أَوْ هَــدَّ بُــنْــيَـانَـهَـا مِـنْ تَـحْـتُ زِلْـزَالُ
بَـلْ قَـدْ عَـفَـتْـهَـا وَلَـمْ تَـتْـرُكْ بِـهَـا أَثَرًا
رِيــحٌ لَــهَــا مِـنْ لَـهِـيـبِ الـنَّـارِ أَذْيَـالُ
شَــبَّ الْــحَـرِيـقُ بِـهَـا لَـيْـلًا مُـشَـيَّـدَةً
فَــمَــا أَتَـى الـصُّـبْـحُ إِلَّا وَهْـيَ أَطْـلَالُ
أَثَــارَتِ الــنَّــارُ فِـي أَطْـرَافِـهَـا رَهَـجًـا
مِـــنَ الــدُّخَــانِ كَأَنَّ الــنَّــارَ أَبْــطَــالُ
حَـتَّـى حَـكَـتْ مَـعْـرَكًا خَرَّتْ بِسَاحَتِهِ
صَــرْعَــى، بُــيُــوتٌ وَأَمْــوَالٌ وَآمَــالُ
دَارُ الـسَّـعَـادَةِ أَمْـسَـتْ مِـنْ تَـحَـرُّقِـهَـا
دَارَ الـشَّـقَـاءِ وَقَـدْ ضَـاقَـتْ بِهَا الْحَالُ
تَـرْنُـو إِلَـى الْـبَـحْـرِ تَـرْجُـو نَـقْـعَ غُلَّتِهَا
لَــحْــظَ الْــمُــهَـجِّـرِ إِذْ يَـبْـدُو لَـهُ الْآلُ
تُــهَــالُ كَــالـرَّمْـلِ بِـالـنِّـيـرَانِ أَدْوُرُهَـا
حَــتَّــى تَــكَــادَ لَــهَــا الْأَرْوَاحُ تَـنْـهَـالُ
يَـا رِيـحُ مَـهْـلًا فَـلَا تَـذْرِي الـرَّمَـادَ بِهَا
إِنَّ الـــرَّمَـــادَ الَّــذِي تَــذْرِيــنَ أَمْــوَالُ
•••
قَــدْ رُحْـتُ لِـلْـحَـيِّ مَـذْعُـورًا أُيَـمِّـمُـهُ
وَلِــي عَــنِ الــزُّمَــرِ الْــبَـاكِـيـنَ تَـسْآلُ
وَفِـي الْـعِـرَاصِ دِيَـارُ الْـقَـوْمِ خَـاوِيَـةٌ
وَفِــي الــشَّــوَارِعِ نِــسْـوَانٌ وَأَطْـفَـالُ
جَـلَـسْـنَ وَالشَّمْسُ فَوْقَ الرَّأْسِ دَانِيَةٌ
وَلِــلْــغُــبَــارِ بِـعُـرْضِ الْـحَـيِّ تَـجْـوَالُ
وَلَا خِـــمَــارَ فَــيَــرْدُدْنَ الْــغُــبَــارَ بِــهِ
وَلَا يَــقِــيـهِـنَّ حَـرَّ الـشَّـمْـسِ سِـرْبَـالُ
حَــتَّــى وَقَـفْـتُ وَقَـلْـبِـي كُـلُّـهُ جَـزَعٌ
وَأَدْمُـــعِــي لُــجَــجٌ طَــوْرًا وَأَوْشَــالُ
•••
مَــا أَنْـسَ لَا أَنْـسَ أُمَّ الـطِّـفْـلِ قَـائِـلَـةً
وَفَــوْقَ وَجْــنَــتِــهَـا لِـلـدَّمْـعِ تَـهْـطَـالُ
إِنِّــي تَــجَــرَّدْتُ مِـنْ دُنْـيَـايَ حَـاسِـرَةً
مَـا لِـي سِـوَى طِـفْـلِـيَ الْبَاكِي بِهَا مَالُ
أَيُّ امْـرِئٍ بَـعْـدَ هَـذَا الْـيَـوْمِ ذِي جِـدَةٍ
يَـــعُـــولُــنِــي حَــيْــثُ لَا زَوْجٌ وَلَا آلُ
أَوْدَى الْـحَـرِيـقُ بِـدَارٍ كُـنْـتُ أَسْـكُـنُـهَا
وَكُـنْـتُ مِـنْ بَـعْـضِـهَـا لِـلْـقُـوتِ أَكْتَالُ
وَالْـــيَــوْمَ أَصْــبَــحْــتُ لَا دَارٌ وَلَا وَزَرٌ
آوِي إِلَـــــيْـــــهِ وَلَا عَـــــمٌّ وَلَا خَــــالُ
إِنَّ الْـحَـرِيـقَ خَـبَـتْ نِـيـرَانُـهُ وَمَضَتْ
وَمَـا خَـبَـتْ فِـي فُـؤَادِي مِـنْـهُ أَوْجَالُ
يَــا رَبِّ رُحْـمَـاكَ إِنِّـي الْـيَـوْمَ عَـاجِـزَةٌ
عَــمَّــا دَهَــا وَبِــظَــهْـرِي مِـنْـهُ أَثْـقَـالُ
يَـا رَبِّ قَـدْ ضِـقْـتُ ذَرْعًـا بِالْحَيَاةِ فَمَا
أَدْرِي، حَـنَـانَـيْـكَ رَبِّـي، كَـيْـفَ أَحْـتَالُ
وَعِـنْـدَمَـا قَـدْ شَـجَـانِـي مِـنْ مَـقَـالَتِهَا
لَــفْــظٌ يُـقَـطِّـعُـهُ فِـي الْـبَـيْـنِ إِعْـوَالُ
دَنَــوْتُ مِــنْــهَـا قَـلِـيـلًا وَهْـيَ بَـاكِـيَـةٌ
وَمِــنْ بُــكَــاهَـا بِـقَـلْـبِـي هَـاجَ بَـلْـبَـالُ
حَـتَّـى وَقَـفْـتُ وَإِيـنَـاسًـا لِـوَحْـشَـتِـهَا
حَـنَـيْـتُ رَأْسِـي وَحَنْيُ الرَّأْسِ إِجْلَالُ
وَقُـلْـتُ: يَـا أُخْـتُ لَا تَـسْتَيْئِسِي جَزَعًا
فَإِنَّـــمَـــا الـــدَّهْـــرُ إِدْبَـــارٌ وَإِقْـــبَــالُ
أَتَـجْـزَعِـيـنَ ابْـتِـئَـاسًـا بَـيْـنَ أَظْـهُـرِنَـا
وَكُــلُّــنَــا عَــنْــكِ لِــلْــبَأْسَــاءِ حَــمَّـالُ
مَــا لِــي أَرَاكِ بِــعَـيْـنِ الْـيَأْسِ بَـاكِـيَـةً
كَأَنَّ أَمْـــرَكِ عِـــنْــدَ الْــقَــوْمِ إِهْــمَــالُ
أَلَـسْـتِ مِـنْ أُمَّـةٍ أَيْـدِي الـرِّجَـالِ بِـهَـا
قَــدْ فُــكَّ عَـنْـهُـنَّ بِـالـدُّسْـتُـورِ أَغْـلَالُ
حَـتَّـى لَـقَـدْ أَصْـبَـحُـوا أَبْـنَـاءَ وَاحِـدَةٍ
فِي الْمُرْزِئَاتِ وَهُمْ فِي الْحُكْمِ أَشْكَالُ
مُـسْـتَـعْـصِـمِـيـنَ بِـحَـبْـلٍ مِنْ أُخُوَّتِهِمْ
يَـسْـمُـو بِـهِـمْ لِـلْـعُـلَا فَـضْـلٌ وَإِفْضَالُ
أَمْسَى التَّعَاضُدُ كَالْحِصْنِ الْحَصِينِ لَهُ
إِذَا تَــــصَــــادَمَ بِـــالْأَهْـــوَالِ أَهْـــوَالُ
فَـاسْـتَبْشِرِي الْيَوْمَ فِيمَا مَسَّ مِنْ ظَمَأٍ
بِأَنَّ وِرْدَكِ عِــنْــدَ الْــقَــوْمِ سَــلْــسَــالُ
وَأَنَّ حَــقَّــكِ عَــوْلٌ فِـي مَـسَـاكِـنِـهِـمْ
وَمَـــا هُـــمُ بِأَدَاءِ الْـــحَـــقِّ بُـــخَّـــالُ
•••
تِـلْـكَ الَّـتِـي قَـدْ شَـجَتْنِي فِي مَقَالَتِهَا
وَكَــمْ لَـهَـا فِـي نِـسَـاءِ الْـحَـيِّ أَمْـثَـالُ
فَـهَـلْ يُـصَـدِّقُ قَـوْمِـي مَـا ظَنَنْتُ بِهِمْ
حَـتَّـى تَـقُـومَ لَـهُمْ فِي الْمَجْدِ أَفْعَالُ؟
فَـالْـمَـجْـدُ يُـدْرِكُ مَـرْمَـاهُ الْـبَعِيدَ فَتًى
رَحْـبُ الـذِّرَاعَـيْنِ طَلْقُ الْكَفِّ مِفْضَالُ
وَأَكْــثَــرُ الْــمَـالِ حَـمْـدًا مَـا يُـعَـانُ بِـهِ
مَـنْ عَـضَّـهُـمْ مِـنْ نُـيُوبِ الدَّهْرِ إِقْلَالُ
يَـا قَـوْمِ هَـذِي سَـبِيلُ الْعُرْفِ وَاضِحَةٌ
فَـلْـيَـمْـضِ فِـيـهَـا بِـكُـمْ وَخْـدٌ وَإِرْقَالُ
وَمَـنْ تَـكُ الْـحَـالُ فِـيـهَـا لَا تُـسَـاعِـدُهُ
«فَـلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ تُسْعِدِ الْحَالُ»

عن القصيدة

  • مناسبة القصيدة: قيلت هذه القصيدة في حريق شب في حارة الفاتح من مدينة إسطنبول، وهو حريق هائل اجتاح عدة حارات، فتركها قاعًا صفصفًا.
  • طريقة النظم: عمودي
  • لغة القصيدة: الفصحى
  • بحر القصيدة: البسيط
  • عصر القصيدة: الحديث

عن الشاعر

معروف الرُّصافي: أديب وشاعر وأكاديمي عراقي له إسهامات معتبَرة في حقلَي التعليم والثقافة.

وُلِدَ معروف عبد الغني محمود الجباري في مدينة بغداد العراقية عام ١٨٧٥م وتلقَّى علومه الأوَّلِيَّة في الكتاتيب كباقي أقرانه، ثم التحق ﺑ «المدرسة العسكرية الابتدائية» لفترة، ولكنه انتقل للدراسة في المدارس الدينية حيث تتلمذَ على يد مجموعة من علماءِ بغداد الكبار، وقد لقَّبَهُ أحد شيوخه بمعروف الرُّصافي بدلًا من معروف الكرخي.

بعد تخرُّجه عمِل الرُّصافي معلمًا ﺑ «مدرسة الراشدية» ثم مدرسًا للأدب العربي ﺑ «المدرسة الإعدادية» ببغداد، وقد تنقَّل بين المدارس حتى أصبح مدرِّسًا للُّغة العربية ﺑ «الكلية الشاهانية» بإسطنبول، وكان أيضًا يمارس الصحافة؛ حيث عمل محررًا بجريدة «سبيل الرشاد».

انتُخِب الرصافي عضوًا ﺑ «مجلس المبعوثان» العثماني في عام ١٩١٢م (وهو شبيه بالمجالس النيابية الآن)، وتقديرًا لجهوده الأدبية والتعليمية انتُخِب عضوًا ﺑ «مجمع اللغة العربية» بدمشق، ثم عُيِّنَ مفتشًا بمديرية المعارف العراقية.

آمَن الرُّصافي بأهمية التعليم وعمِل على نشره بين العراقيين من خلال دعواته وجهاده المستمر لبناء المزيد من المدارس، محفِّزًا الأغنياء على دعم المشاريع التعليمية وكفالة طلبة العلم، حيث رأى أن طريق التحرُّر الوطني يمر بالمدارس. والحديث عن التحرُّر الوطني يَجرُّنا بالضرورة إلى نشاط الرُّصافي السياسي ورفضه للاحتلال البريطاني واستبداد السلطة؛ فنجده قد دبَّج المقالات وألَّف القصائد الحماسية محرِّضًا الشعب على النضال السياسي، وكذلك الثورة ضد التقاليد والجمود.

ترك الرُّصافي الكثير من الأعمال الشعرية والنثرية المميزة التي عكست أسلوبَه الرصين ولغته المتينة جزْلة الألفاظ، وقد تنوعت الموضوعات التي كتب فيها ما بين السياسي والاجتماعي والأدبي والتاريخي، وكثيرًا ما أثارت كتبه ضجَّةً كبرى في الأوساط الثقافية؛ فكتابه الشهير «الشخصية المحمدية» اعتبره البعض تهجُّمًا على الدين ومقدساته.

تُوُفِّيَ الرُّصافي بعد حياة حافلة في عام ١٩٤٥م عن سبعين عامًا.

تسجيل الدخول إلى حسابك

Sad Face Image

قم بتسجيل الدخول ليبدأ التحميل، وتحصل على جميع مزايا ومحتوى هنداوي فاونديشن سي آي سي.

تسجيل الدخول إنشاء حساب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤