لُبْنَانُ الثَّائِرُ

Wave Image
هَـاجَ شَـوْقَ الْـوَالِـهِ الْـمُـضْـطَـرِبِ
حُــلُــمٌ شَــقَّ ظَــلَامَ الْــحُــجُــبِ
جَــرَّدَ الــلَّــيْــلُ عَــلَــيْـهِ غَـيْـهَـبًـا
فَــتَــخَــطَّـى عَـقَـبَـاتِ الْـغَـيْـهَـبِ
زَارَنِــي وَالــلَّــيْــلُ فِــي غَـفْـوَتِـهِ
يَــتَــمَــطَّـى عَـنْ دِثَـارِ الـسُّـحُـبِ
طَــائِــفٌ إِنْ رُمْــتَــهُ لَــمْ تَــلْــقَـهُ
وَهْـوَ مِـنْ جَـفْـنِـكَ بَـيْـنَ الْـهُدُبِ!
بَــارِعُ الــرِّيــشَــةِ حَــتَّــى لَـتَـرَى
غَـائِـبَ الـشَّـخْـصِ كَأَنْ لَـمْ يَـغِبِ
بَــسَــمَــاتُ الــرَّوْضِ مِـنْ أَلْـوَانِـهِ
وَسَـــنَــا الْــكَأْسِ وَدُرُّ الْــحَــبَــبِ
فِــي يَـدَيْـهِ مِـجْـهَـرٌ مِـنْ عَـجَـبٍ
تُــفْــتَـحُ الْـعَـيْـنُ بِـهِ عَـنْ عَـجَـبِ
قُــلْـتُ: هَـذِي جَـنَّـةٌ؟ أَمْ مَـا أَرَى؟
أَمْ تَـــهَـــاوِيـــلُ خَــيَــالٍ كَــذِبِ؟
أَمْ أَنَـــا غَــيْــرِي؟ وَإِلَّا مَــنْ أَنَــا؟
أَمْ هُـوَ الـسِّـحْـرُ غَـدَا يَـلْعَبُ بِي؟
مَـا الَّـذِي يَـبْـدُو لِـعَـيْـنِـي سَـامِـقًا
يَــتَـحَـدَّى سَـبَـحَـاتِ الْـكَـوْكَـبِ؟
أَرْضُــهُ مِــسْــكٌ، وَفِــي تُــرْبَــتِـهِ
يَــنْــبُــتُ الْـفَـنُّ مَـكَـانَ الْـعُـشُـبِ
وَإِذَا شَــــادٍ يُــــغَــــنِّــــي مَــــرِحٌ
لُـؤْلُـئِـيُّ الـصَّـوْتِ، حُـلْـوُ الْمَذْهَبِ
صَـاحَ: ذَا لُـبْـنَـانُ فَـانْـزِلْ سَـفْحَهُ
قُــلْــتُ: مَــا لِـي غَـيْـرُهُ مِـنْ أَرَبِ
هُــوَ عِــرِّيــسٌ لِآسَــادِ الْــحِــمَـى
وَكِـــنَـــاسٌ لِـــظِـــبَــاءِ الــرَّبْــرَبِ
قَــدْ تَــمَــنَّــاهُ الْــهَــوَى مِـنْ بُـعُـدٍ
كَــيْــفَ لَـوْ أَبْـصَـرَهُ عَـنْ كَـثَـبِ؟!
الْأَزَاهِــــيــــرُ بِــــهِ مِـــنْ قُـــبَـــلٍ
وَالْــيَــنَــابِــيــعُ رَحِــيـقُ الْـعِـنَـبِ
وَقُــدُودُ الْــهِــيـفِ فِـي رَوْضَـاتِـهِ
قُــضُــبٌ تَــمْــرَحُ بَـيْـنَ الْـقُـضُـبِ
جُــمِــعَــتْ لَــيْــلَاتُــهُ مِــنْ دَعَـجٍ
وَسَــنَــا إِصْــبَــاحِــهِ مِــنْ لَــبَــبِ
وَسَـــجَـــايَــا أَهْــلِــهِ أَنْــسَــامُــهُ
كَــمْ نَـعِـمْـنَـا بِـشَـذَاهَـا الـطَّـيِّـبِ!
كَــتَـبَ الْـمَـجْـدُ لَـهُـمْ تَـارِيـخَـهُـمْ
فِـي جَـبِـيـنِ الـدَّهْرِ لَا فِي الْكُتُبِ
كُـــلُّ شَـــهْــمٍ أَرْيَــحِــيٍّ أَغْــلَــبٍ
مِـــنْ كَــرِيــمٍ أَرْيَــحِــيٍّ أَغْــلَــبِ
بَــيْــنَ عَــدْنَــانَ وَغَــسَّــانَ لَــهُـمْ
نَــسَــبٌ يَــرْفَــعُ شَأْوَ الــنَّــسَــبِ
نَــصَــبُــوا فِـي كُـلِّ أَرْضٍ رَايَـهُـمْ
مَا دَرَوْا فِي الْمَجْدِ مَعْنَى النَّصَبِ
وَأَذَلُّـوا الـصَّـعْـبَ فِـي رِحْـلَاتِـهِـمْ
أَيُّ صَـعْـبٍ عِـنْـدَهُـمْ لَـمْ يُـرْكَبِ؟
وَطَــوَوْا شَــرْقًـا بِـشَـرْقٍ، وَجَـرَى
سَـيْـلُـهُـمْ يَـزْحَـمُ شَـطَّ الْـمَـغْـرِبِ
يَــنْــزَحُ الــنَّــازِحُ مَـا فِـي رَحْـلِـهِ
غَـــــيْــــرُ إِقْــــدَامٍ وَعَــــزْمٍ ذَرِبِ
وَرَجَـــاءٍ بِـــرَجَـــاءٍ يَـــلْـــتَــقِــي
وَكِــــفَـــاحٍ لِـــلِـــقَـــاءِ الـــنُّـــوَبِ
رَأْسُ مَــالِ الْـمَـرْءِ مَـا فِـي رَأْسِـهِ
مِــنْ ذَكَــاءٍ، لَا حُــطَــامُ الـنَّـشَـبِ
مَـلَـكُـوا الـدُّنْـيَـا فَـلَـمَّـا جَـمَـحَـتْ
مَـــلَـــكُـــوهَـــا بِـــرَفِــيــعِ الْأَدَبِ
لَــيْــسَ لِــلــسَّـيْـفِ عَـلَـى حِـدَّتِـهِ
صَـوْلَـةُ الـشِّـعْـرِ وَوَخْـزُ الْـخُـطَبِ
هَـذَّبُـوا الْـفُـصْـحَـى وَلَمُّوا شَمْلَهَا
بَـعْـدَ أَنْ كَانَتْ صَدًى فِي سَبْسَبِ
جَـمَّـعُـوهَـا حُـلْـوَةَ الْـجَـرْسِ كَـمَا
تَـجْـمَـعُ الـنَّـحْـلَـةُ حُـلْـوَ الـضَّـرَبِ
أَنْــتَ يَــا لُــبْــنــانُ عَــزْمٌ ونُــهًـى
لَـسْـتَ مِـنْ صَخْرٍ وَلَا مِنْ حَصَبِ!
كُــلَّــمَــا أَطْــلَــعْـتَ لَـيْـلًا شَـفَـقًـا
مُــوِّهَــتْ صَــفْــحَـتُـهُ بِـالـذَّهَـبِ
ظَــنَّــتِ الْــغِــيــدُ وَمَــا أَجْـرَأَهَـا!
أَنَّــهُ مِــنْ خَــدِّهَــا الْـمُـخْـتَـضِـبِ
سِــحْــرُ شِـعْـرٍ وَمَـجَـالِـي فِـتْـنَـةٍ
وَعُــيُــونٌ أُغْــرِمَــتْ بِــالــلَّــعِـبِ
وَابْــتِــسَـامٌ فِـيـهِ أَشْـرَاكُ الْـهَـوَى
وَحَــدِيــثٌ فِــيـهِ عُـذْرُ الْـمُـذْنِـبِ
أَيْـنَ قَـلْـبِـي؟ غَـصَـبُـوهُ، فَـاسْأَلُوا
«جَـارَةَ الْـوَادِي» عَـنِ الْـمُـغْتَصِبِ
وَاشْـفَـعُـوا لِي، وَاحْذَرُوا غَضْبَتَهَا
آهِ مِــنْ صَــوْلَــةِ هَــذَا الْـغَـضَـبِ!
ثُــمَّ قُــولُــوا: مُــسْـتَـهَـامٌ وَصِـبٌ
وَيْــلَــتَــا لِـلْـمُـسْـتَـهَـامِ الْـوَصِـبِ
طَـــائِــرٌ غَــرَّدَ فِــي دَوْحَــتِــكُــمْ
عَــلَّــمَ الْأَطْـيَـارَ مَـعْـنَـى الـطَّـرَبِ
طَــارَ مِــنْ مَــصْــرَ يُــحَـيِّـي أُمَّـةً
تَـوَّجَـتْ بِـالْـمَـجْـدِ هَـامَ الْـحِـقَبِ
قَــاهِــرِيٌّ أَخْــجَــلَــتْ أَلْــحَــانُــهُ
رَنَّــةَ الْــعُــودِ، وَشَــدْوَ الْــقَـصَـبِ
خُـــلِـــقَـــتْ أَوْتَـــارُهُ قُــدْسِــيَّــةً
مِـنْ حَـنَـانِ الْـحُـبِّ، لَا مِنْ عَصَبِ
فَـارْحَـمِـي مُـغْـتَـرِبًـا لَـيْسَ اسْمُهُ
فِــي رُبَــا لُــبْــنَــانَ بِــالْـمُـغْـتَـرِبِ
جَـاءَ يَـبْـغِـي الْحُبَّ لَا الْحَبَّ فَهَلْ
جَـاوَزَ الْـمِـسْـكِـيـنُ حَـدَّ الـطَّلَبِ؟
فَـنَـصَـبْـتِ الْـفَـخَّ خَـدَّاعَ الْـمُـنَـى
خَـشِـنَ الْـكَـفِّ، حَـدِيـدَ الْـمِـخْلَبِ
وَأَتَــى هَــيْــمَــانَ يَــشْـدُو وَاثِـبًـا
لَــيْــتَــهُ فِــي يَــوْمِــهِ لَـمْ يَـثِـبِ!
فَــارْتَــمَــى بَـيْـنَ جَـنَـاحٍ هَـائِـضٍ
وَجَــنَــاحٍ خَــافِــقٍ مُــضْــطَــرِبِ
وَاجِــبَ الْــقَــلْــبِ، وَلَـوْلَا نَـظْـرَةٌ
عَـــرَضَــتْ لَاهِــيَــةً لَــمْ يَــجِــبِ
أَطْــلِــقِــيــهِ وَابْــعَــثِــي آمَــالَــهُ
وَثَــوَابَ الــلــهِ فِـيـهِ احْـتَـسِـبِـي
هَـلْ عَـلَـى الْـهَـاتِـفِ بِـالْحُسْنِ إِذَا
مَــا شَــدَا مِــنْ حَـرَجٍ أَوْ عَـتَـبِ؟
قَــدْ بَــرَاهُ الــسُّــقْــمُ إِلَّا فَــضْـلَـةً
مِـــنْ فُــؤَادٍ حَــائِــرٍ مُــلْــتَــهِــبِ
•••
كَــمْ هَـفَـا الْـقَـلْـبُ لِـلُـبْـنَـانَ وَكَـمْ
عَــاقَــهُ صَـرْفُ الـزَّمَـانِ الْـقُـلَّـبُ!
أَصْـبَـحَ الْـحُـكْـمُ بِـهِ فِـي نُـخْـبَـةٍ
مِــنْ بَــنِــيــهِ الْـكُـرَمَـاءِ الـنُّـجُـبِ
كُـــلُّـــهُــمْ حُــرٌّ أَبِــيٌّ يَــنْــتَــمِــي
فِــي ذُرَا الْــمَــجْـدِ إِلَـى حُـرٍّ أَبِـي
وَهَــبُــوا الــرُّوحَ لِــلُــبْـنَـانَ فِـدًى
وَضَــنِــيــنٌ كُــلُّ مَــنْ لَــمْ يَـهَـبِ
خُـــلُــقٌ مِــثْــلُ أَزَاهِــيــرِ الــرُّبَــا
ضَـحِـكَـتْ لِـلْـعَـارِضِ الْـمُـنْـسَكِبِ
وَسِـــيَـــاسَـــاتٌ وَرَأْيٌ سَـــاطِـــعٌ
يَــضَــعُ الْــحَــقَّ مَــكَــانَ الـرِّيَـبِ
قَــادَهُــمْ خَــيْــرُ رَئِــيـسٍ لِـلْـعُـلَا
شَـمَّـرِيِّ الْـعَـزْمِ عَـالِـي الْـحَـسَـبِ
عَــاشَ لُــبْــنَــانُ وَعَــاشَـتْ رَايَـةٌ
لِــلْـكِـرَامِ الْـعُـرْبِ فَـوْقَ الـشُّـهُـبِ

عن القصيدة

  • مناسبة القصيدة: نظم الشاعر هذه القصيدة عندما ثار لبنان ثورته الوطنية في أواخر عام ١٩٤٣م، ففاز بانتخاب نوابه، وكان الشاعر علي الجارم ينوي زيارة بيروت في ذلك الحين.
  • طريقة النظم: عمودي
  • لغة القصيدة: الفصحى
  • بحر القصيدة: الرمل
  • عصر القصيدة: الحديث

عن الشاعر

علي الجارم: أديب، وشاعر مصري، ورائد من رواد مدرسة الإحياء والبعث إلى جانب كل من أحمد شوقي وحافظ إبراهيم. أَثْرَت مؤلفاته المكتبة الأدبية العربية؛ حيث تعددت وتنوعت بين الدواوين الشعرية، والروايات الأدبية والتاريخية، إضافة إلى الكتب المدرسية، وكانت له مساهمات فعالة في حقل اللغة العربية. وقد اشتهر بغيرته على الدين واللغة والأدب، وتمكن من أن يحوز مكانة شعرية رائدة.

ولد علي صالح عبد الفتاح الجارم، بمدينة رشيد عام ١٨٨١م، تلك المدينة التي شهدت الكثير من أحداث مصر التاريخية. كان والده الشيخ محمد صالح الجارم عالمًا من علماء الأزهر، وقاضيًا شرعيًّا بمدينة دمنهور. تلقى علي دروسه الأولى بمدينة رشيد، فأتم بها التعليم الابتدائي، وواصل تعليمه الثانوي بالقاهرة حيث التحق بالأزهر الشريف، واختار بعد ذلك أن يلتحق بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة. سافر عام ١٩٠٨م إلى إنجلترا وتحديدًا نوتينجهام لإكمال دراسته، فدرس هناك أصول التربية، ثم عاد إلى مصر عام ١٩١٢م بعد أربع سنوات قضاها في الغربة.

عُيِّن الجارم عقب عودته مدرسًا بمدرسة التجارة المتوسطة، ثم تدرج في مناصب التربية والتعليم حتى عُيِّن كبير مفتشي اللغة العربية بمصر، كما عمل الجارم وكيلًا لدار العلوم، وكان عضوًا مؤسِّسًا لمجمع اللغة العربية، وقد مَثَّل مصر في عدد من المؤتمرات العلمية والثقافية.

سَخَّر الجارم طاقاته الإبداعية وإمكانياته الثقافية في إنجاز العديد من الروايات الأدبية التاريخية التي تتخذ من التاريخ العربي موضوعًا لها، مثل: «فارس بني حمدان» و«هاتف من الأندلس» و«مرح الوليد» و«خاتمة المطاف» و«نهاية المتنبي». توفي علي الجارم عام ١٩٤٩م عن ثمانية وستين عامًا، وقد رثاه كبار أدباء ومفكري عصره.

تسجيل الدخول إلى حسابك

Sad Face Image

قم بتسجيل الدخول ليبدأ التحميل، وتحصل على جميع مزايا ومحتوى هنداوي فاونديشن سي آي سي.

تسجيل الدخول إنشاء حساب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤