ما دام الإمام قد تمَّت بيعته بناءً على اختيار وعقد فإنه يكون مُطاعًا،
وطالما التزم بشروط البيعة من طرفه التزمت الأمة بشروط العقد من طرفها؛ من
جانبه تنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها، ومن جانبها الطاعة له. فطاعة الأمة للإمام
ليست مطلَقة، بل مشروطة بتنفيذ شروط العقد، والعقد شريعة المُتعاقدين، فإذا ما
نقض الإمام البيعة فإنه يكون قد نقض العهود والمواثيق التي أخذتها الأمة عليه،
ويكون نقضه للبيعة بجوره وظلمه وبغيه أو بعدم تنفيذ أحكام الشريعة. وفي هذه
الحال يتم خلعه؛ أي سحب البيعة وإعادة الاختيار وفسخ العقد. فإن لم ينخلع على
طلب من الأمة أو يخلع نفسه، فإنه يجوز الخروج عليه ومقاتلته بالسيف بناءً على
ضرورة قتال أهل البغي وفُساق الأئمة.
(٢-١) طاعة الإمام
إذا كانت طاعة الإمام مشروطةً غير مطلقة، فإنها لا تجوز إلا في حالة
التزام الإمام بعقد البيعة الذي ينص على تطبيق أحكام العدل وتنفيذ الشريعة
ومقاتلة الأعداء والذب عن البيضة، ويتطلب ذلك تحقيق مقاصد الشريعة
وضرورياتها التي من أجلها وُضعت الشريعة ابتداءً؛ المحافظة على الدين
والنفس والعقل والعِرض والمال. وقد يُزاد مقصدٌ سادس هو الإنسان الجامع لكل
هذه المقاصد. وتستلزم طاعته دفع الزكاة إليه؛ أي إن الالتزام السياسي
بالنظام يستلزم التزامًا اقتصاديًّا به. طاعة الإمام إذن لا تجوز على
الإطلاق بالرغم من استقرار ذلك في وعينا القومي نظرًا لأنه التراث الغالب،
والذي استقر بعد أن حُسمت الاختيارات في اختيار تراث السلطة، وأصبحت الطاعة
من طرف واحد، من طرف الرعية التي تستلزم بالعهود والمواثيق وعقود البيعة
والمحافظة على ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين، دون أي التزام مقابل من
جانب الإمام، حتى لو عصى الإمام وفسق وجار فإن طاعته تظل واجبة! ولا تملك
الأمة إلا الدعاء له بالهداية والنصح له بالرشاد، فإن لم يتغير شيءٌ تزداد
الدعوات دعوةً أخرى، دعوى المظلوم على الظالم، ودعوى الرعية على الإمام،
والله مُجيب دعوات المظلومين. وتستلزم طاعة الإمام محبته والاقتداء به،
بصلاحه تصلح الأمة، وبفساده تفسد الأمة. فالتغيير يأتي من فوق، والأمة مجرد
تابع ومقلِّد لإمامها. العلاقة بين الإمام والرعية إذن علاقة تقليد واتحاد،
لا علاقة تمايز واختلاف. ليس أمام الأمة إلا الصبر على جور السلطان وعدم
الخروج عليه بالسيف مهما جار وظلم، وطغا وتكبَّر! بل لا يجوز الخروج عليه
حتى ولو فسق وعصى وكفر. يكفي الإمام أن يكون ظاهر الإسلام، مُقيم الصلوات،
يأتي المساجد، مُصلي الجمعة والعيدين!
١٣ لا ينعزل الإمام بالفسق والجور؛ لأنها شروط في البداية عند عقد
البيعة، وليست شروطًا في النهاية حين الالتزام بها. وكأن الإمام مُخادع
كاذب لا يلتزم بالشريعة إلا من أجل البيعة فحسب طمعًا في الإمامة، وهو ضد
العدل ظاهرًا والورع باطنًا، وكأنه مُحتال على الناس ينوي الغدر بهم.
والحجة في ذلك هي الواقع التاريخي؛ فقد انصاعت الأمة لأئمة الجور والفسق
ولم تخرج عليهم بعد الخلفاء الراشدين؛ مما يدل على أن طاعة أئمة الجور كانت
أقرب إلى تبرير الأمر الواقع منها إلى التنظير والتأصيل له. وقد تُثار حجة
أن عزل الإمام أو الخروج عليه مدعاة لإثارة الفتنة وإحداث الهرج وإضعاف
لشوكة الأمة، وهي حجة التسليم بالأمر الواقع والخوف من التغيير، حجة
استتباب النظام والأمن في مواجهة قُوى التغيير والثورة. وما أكثر الحجج
النقلية التي يمكن انتقاؤها لإثبات وجوب طاعة أئمة الجور، وما أكثر الحجج
النقلية المضادة لإثبات ضرورة خلعهم أو الخروج عليهم. وطالما استتبَّ
الأمن، واستمر أئمة الجور في الحكم، استمر تراثهم النقلي في السيادة
والانتشار حتى يصبح هو التراث الوحيد في وعي الأمة. وطالما تُضطهد المعارضة
وتُستبعد من الحياة السياسية العامة، يختفي تراثها ويصبح في طي النسيان. لا
يُسمح بالعصيان إلا في الحرام والمكروه، مثل ترك الدخان في الأسواق
والمقاهي؛ أي في أمورٍ لا تعمُّ بها البلوى ذرًّا للرماد في العيون،
وتملُّقًا لأذواق العامة. أما في الظلم والجور والنهب والسرقة واغتصاب
الحقوق، فالطاعة واجبة!
١٤ ولما كان هذا الموقف طائفيًّا صرفًا يُبرر النظام القائم، كان
من الطبيعي أيضًا أن يحدث رد فعل عليه من الفِرق الأخرى، فِرق المعارضة، من
أجل تغيير النظام القائم بالسلاح نفسه. فقالت بطاعة إمامها الخاص الذي يخرج
بالسيف على أعدائها دون أن تتبرأ من القاعدة عن نصرته. فطاعة الإمام من
طاعة الله ضد أن تكون طاعة الله من طاعة الإمام، إذا آمن الإمام آمنت
الرعية، وإذا كفر الإمام كفرت الرعية، وهو الوضع نفسه في النظام القائم
وتراث السلطة، إلا أن هذه المرة من فِرق المعارضة وتراث المعارضة.
١٥ والحقيقة أن الواقع التاريخي بقدر ما يكون البعض منه مع طاعة
الإمام فإن كثيرًا منه مع الخروج عليه. وإذا كانت طاعة الإمام واجبة على
الإطلاق بلا شروط، فلماذا قُتل خلفاء من الأربعة الراشدين، أي من داخل نظام
السلطة، وليس فقط استمرار الثورات من داخل المعارضة بكل فِرقها الداخلية
والخارجية، السرية والعلنية؟
وقد يبلغ حد طاعة الإمام إلى قبول الإمام الجائر وحكم الباغي! فالعقد
والاختيار يكون فقط في البداية لا في النهاية، طريقًا للبيعة يفعل الإمام
بعدها ما يشاء! أما إذا بغا الإمام وطغا بعد ذلك فتظل البيعة الأولى قائمة.
فإذا ما تغلَّب إمامٌ آخر عليه بالقهر دون بيعة فإنه يظل إمامًا ما دامت
تتوافر فيه بعض الشروط العادية مثل الإسلام والعقل، غلبةً بغلبة، وبغيًا
ببغي، بل قد لا تلزم بعض الشروط العادية الأخرى مثل الذكورة أو البلوغ.
وعلى هذا النحو يتم التشريع لحكم الطغيان ولأمراء العسكر وسائر الجند، كلٌّ
ينقض على الحكم ويُنصب نفسه إمامًا. وقد كان الأمر في البداية مجرد تبرير
لحكم البغاة وأئمة الطغيان، ثم تحوَّل التبرير إلى تأصيلٍ نظري مستقلًّا عن
الواقع التاريخي الأول، حتى أصبح يخلق واقعه الخاص، ويُفرز أئمةً بغاة
وحكامًا طغاة.
١٦ إن أقصى ما يمكن للإمام عمله فيما إذا أخطأ أن يرجع إلى الصواب
ولا يُمضي حكمه، سواء كان ذلك مقرونًا بتوبة أو بدونها. وكأن الخطأ في
الحكم مجرد خطأ فردي يعود على الحاكم نفسه دون أن تكون له آثاره على باقي
الأمة حربًا أو سلمًا، غنًى أو فقرًا. كما أن مقاطعة الإمام تجاريًّا، وعدم
الدخول معه في عقود بيع أو شراء، تجعل من الحاكم التاجر الأول والصانع
الأول والزارع الأول، علاقته بالرعية علاقة مكسب وخسارة! يكفيه العزل
الاقتصادي كمقدمة للعزل السياسي! وهكذا يتراوح الوضع بين الاستسلام للأمر
الواقع وطاعة الإمام الجائر، وبين فسخ عقد البيعة والخروج عليه، وإلا إذا
قضى الإمام بحكم جور في منطقةٍ كفرت الأمة كلها من أقصى الأرض إلى أقصاها.
١٧ لقد ركَّز التراث على طاعة الإمام أكثر من تركيزه على الخروج
عليه، وأقام علاقة الإمام بالرعية على الطاعة المطلَقة وعدم المعارضة، وعلى
تلقِّي الأوامر وتنفيذها بلا مناقشة، وكأن البشر آلاتٌ صمَّاء مهمتهم
التنفيذ كما هو الحال في الجماعات السرية والنُّظم العسكرية والأنظمة
التسلطية، وهو قضاء على استقلال الشخصية ودور العقل وحرية الفرد ما دامت
علاقة الإمام بالرعية علاقة تسلط وقهر من طرف، وتبعية وخضوع واستسلام من
الطرف الآخر. وكثيرًا ما كان يُخفي تأليه الإمام استغلاله للأمة ما دامت
تعتقد في ألوهيته وعصمته وشرعية ما يفعله، وتوجب له السمع والطاعة، وكأن
تأليه الإمام كان له هدف سياسي، وهو طاعة الأمة وتبعيتها له. بل لقد أعطى
الإمام لنفسه الحق في مطاردة خصومه السياسيين لدرجة قتالهم باعتبارهم أهل
الضلالة، واستئصالهم من جسد الأمة؛ فبدلًا من قتال أئمة البغي يُقاتلون هم
مُعارضيهم والخارجين عليهم، وتتحول طاعة الأئمة إلى إرهابهم للناس من أجل
السيطرة عليهم. ويُتَّهم كل من يخرج على الإمام بأنه خارجي بما تحمل من
معاني العصيان والخروج على القانون، كما هو الحال في الحركات الإسلامية المعاصرة.
١٨
(٢-٣) الخروج على الإمام
ومع ذلك يجب الخروج على الإمام إذا ما عصى وظلم، ولم يقم بشروط العقد من
طرفه، ولم يسمع لنصيحة أو لأمر بمعروف أو لنهي عن منكر، ولم يخلع نفسه، ولم
يستمع لخلع الناس له. هنا تجب الثورة عليه وإزاحته عن الحكم كفريضةٍ شرعية
ما دام قد عطَّل وظيفة الإمامة. فالخروج على السلطان الجائر فضيلة، ولا
يجوز الخروج السري، بل يجب الخروج العلني أمام الناس وعلى رءوس الأشهاد
لاسترداد الحقوق وإقامة العدل،
٢٠ بل قد تتحول السلطة ذاتها إلى محرم؛ وبالتالي يتم تكفير كل من
لابس السلطان أو جالسه أو عمل معه، فالسلطة مَفسدة، وضياع لطهارة القلب
ونقاء الضمير.
٢١ وإذا كان الخروج لا يتم إلا مع إمام، فلأن كل ثورة في حاجة إلى
قيادة، وإلا كانت فورةً هوجاء بلا تنظيم أو ترشيد. كما أن الإمام لا يخرج
بمفرده دون ثورة من الناس على الإمام الظالم ينشأ الإمام من داخلها. وثورة
الأئمة بمفردهم دون الرعية تكون أقرب إلى التمرد منها إلى الثورة. فإذا كان
التمرد يتم من أجل استرداد حق الإمام الشرعي ضد الإمام المغتصب، فإن ثورة
الرعية تتم باسم حق الأمة ضد البغي والظلم.
٢٢
وكما لا يصح الخروج بلا إمام، فإنه لا يصح أيضًا بلا جماعةٍ قادرة على
إنهاء حكم البغي وإقرار حكم العدل، وإلا فما العمل لو تم الخروج على
السلطان مع جماعة قليلة وقتلته، ثم لم يتحرك الناس فاضطروا إلى حملهم عنوةً
على البيعة، وإلا قاتلوهم؟ ولماذا تكون الجماعة بعدد أهل بدر؟ وهل هو عددٌ
صالح في كل الأحوال دون النظر في النسبة القائمة بين الأقلية والأغلبية؟
وهل يكفي أي عدد؟ وما هو أقل عدد ممكن يستحيل الخروج بأقل منه؟ أم لا بد
على الأقل من عددٍ مُتساوٍ لنصف أهل البغي، مائة بمائتين، والألف بألفين؟
ولكن لماذا لا يكون أقل من ذلك، والحق دائمًا مستضعَف، والعشرون بمائتين؟
ما يهمُّ في ذلك هو ضمان نجاح الثورة بتحقيق شروطها في التنظيم والقيادة والجماهير.
٢٣ وقد لا يجوز الخروج إلا إذا بدأ السلطان بالعدوان، وأراد إجهاض
الثورة قبل اندلاعها، والإجهاز عليها قبل بدايتها، ووأدها في مهدها،
واستعان بالأعداء، وتعاون معهم ضد أمته. حينئذٍ يجب قتال السلطان.
٢٤ ويتحول الأمر من صراع للنظام السياسي وقمة السلطة المُتمثلة في
الإمام إلى صراع المجتمع بأكمله، فتكون الدار دار حرب وليست دار إيمان.
فالدعوة إلى عدم الخروج تؤدي إلى اعتبار الدار دار إيمان، ثم تندرج الدعوة
شيئًا فشيئًا طبقًا لمقدار الرغبة في الثورة ضد البغي. فقد تصبح مجرد دار
فسق أو دار كفر نعمة أو دار كفر عندما لا يتم إنكار، وتتوقف ممارسة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، أو دار كفر وشرك وهي على الضد من دار الإيمان.
وقد يتم التوقف في ذلك كله وتصبح مجرد دار هدنة.
٢٥ وبالرغم من هذا التدرج يظل التقابل بين دار الإيمان ودار
الكفر، ودار الإيمان للنفس ودار الكفر للآخر المخالف. وقد تكون هذه القسمة
بداية السقوط في التاريخ والانهيار في الزمن. وتُشَق وحدة الأمة بعد أن
اعتبر فريقٌ نفسه على حق وداره دار الإيمان، والمُخالف له على باطل وداره
دار الكفر. فالفرقة دارها دار إيمان؛ والفرقة الضالة، وهم أهل الأهواء،
دارهم دار كفر. وتتراوح العلاقة بينهما بين علاقة السلم وعلاقة الحرب.
فطالما أن أهل الأهواء لا يُحاربون الفرقة الناجية تقابلها سلمًا بسلم
وهدنةً بهدنة، ويكون لأهل الأهواء حقهم في الفيء وارتياد المساجد. وإن غلبت
الفرقة الضالة في مكان، ولكن كان للفرقة الناجية حريتها في العبادة وحرمتها
في البلاد، فإن الدار تكون دار إيمان، اللقيط فيها لا يسترق. أما إذا كانت
الفرقة الناجية مضطهَدة، فالدار دار حرب، واللقيط فيها يسترق، والغنيمة
فيها فيء. تحرم ذبائحهم ونكاح نسائهم، وتوضع عليهم الجزية مثل المجوس. وقد
يُعتبرون مرتدِّين لا تُقبَل منهم الجزية، ولا تجوز إلا سرقاتهم. والشاكُّ
في كفرهم كافرٌ مثلهم، وإن اعتبروه مجرد ضلالة فقد لا يكفر. ومع ذلك تجوز
مبايعة أهل الأهواء، وإجراء عقود المعاوضة معهم؛ لأن قتلهم بعد الامتناع عن
التوبة من واجب السلطان وحده. وأهل الأهواء مثل أهل الحرب، تجوز مبايعتهم
بالرغم من وجوب قتالهم، إنما الخلاف في جواز إقامة السيد الحد على العبد.
وكأن السيد بالنسبة للعبد بمثابة السلطان بالنسبة للرعية، وهو قياسٌ باطل.
٢٦ والحقيقة أن هذا التقابل بين الفرقة الناجية والفِرق الضالة هو
خلافٌ سياسي صرف بين السلطة وهي الفرقة الناجية، والمعارضة وهم أهل الأهواء
أو الفِرق الضالة. وتتحدد العلاقات بينهما طبقًا للصراع على السلطة، وكل
فريق يُشرع لحقه مستعملًا العقائد كأيديولوجيات، إما لتثبيت النظام القائم
كما تفعل السلطة، أو لزعزعته والقضاء عليه كما تفعل المعارضة. وهنا تبدو
العلاقة الوثيقة بين علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، بين العقيدة
والشريعة؛ فكل العقائد والتشريعات إنما هي لنصرة فريق ضد الفريق الآخر،
فالفِرق الضالة بالنسبة للفرقة الناجية، أي المعارضة في رأي السلطان
المتشددة، فِرقٌ ضالة، أهل أهواء، أقرب إلى المجوس وأهل الكتاب منهم إلى
المسلمين، يُقاتَلون، ويُسترقون، ويُغنمون، تحرم ذبائحهم ونساؤهم، وتؤخذ
منهم الجزية. وقد يكون الأمر أخف من ذلك إذا ما كانت السلطة أقرب إلى
اللين. وتشتدُّ السلطة عندما تشعر بالخطر، وتلين عندما يبتعد الخطر وتشعر
بالأمان، والشك في هذا الصراع إنما هو في صالح أهل الأهواء؛ وبالتالي فلا
حياد بين السلطة والمعارضة، ولا احتمال للمصالحة الوطنية. ومع ذلك، وحفاظًا
على المصالح الاقتصادية للدول، يمكن عقد المبايعات مع المعارضة والدخول في
مظاهر النشاط التجاري معها؛ فالخلاف السياسي يتوارى أمام المصالح
الاقتصادية. يظل الصراع إذن بين دارين؛ الإيمان والكفر، السلم والحرب،
الإسلام واللاإسلام، باستعمال سلاح الدين وإضفائه على الخلاف السياسي. وكأن
دار الإيمان مجتمعٌ واحد لا خلاف فيه ولا تمايز ولا صراع بين طبقاته، وكأن
الصراع على السلطة والحفاظ عليها يجبُّ ما دونه من خلافات، هو التناقض
الرئيسي، وما دونه تناقضاتٌ ثانوية. فإذا ما لانت السلطة في مواقفها تجاه
المعارضة، فإن المعارضة تُقابلها لينًا بلين، فلا تُراق دماء الأمة ولا
تُغنَم أموالهم ولا تُسبى ذراريهم بالرغم من الحكم على المعاصي بالكفر. لا
تكفر القعَدة، وتكون الهجرة مجرد فضيلة لا فرضًا؛ وبالتالي يخفُّ الصراع
على السلطة، ويقلُّ الدافع النفسي، ويحكم العقل. فما زال في الأرض متَّسَع للجميع.
٢٧ وكان من الطبيعي أن تُقابل المعارضة السلطة عداوةً بعداوة،
وتكفيرًا بتكفير، ورفضًا برفض؛ فالسلطة كافرةٌ مشركة، السيرة فيهم السيرة
مع الكفار والمشركين، لا تعامل معها إلا بالسيف. يُستولى على الأموال
وتُسبى النساء. وكما تتشدد المعارضة مع السلطة تتشدد مع نفسها في العبادات،
ويُقاتل النساء مثل الرجال، والكل أصحاب خيل وشجاعة. أهل السلطة إذن مشركون
ودارهم دار حرب. وكلما زاد التشدد مع النفس ومع الآخر حدث الانقسام في
صفوفها، وزاد التشرذم، وكفَّر كل فريق الفريقَ الآخر، ويقع الجميع في
«الطفولة اليسارية» أو الطهارة الثورية، حتى تصبح الثورة بلا ثوار، بلا
أئمة وبلا جماعة.
٢٨ وقد يظهر الاعتدال من بعضهم فلا تُستحلُّ الأموال ولا تُسبى
النساء، ويصبح المخالفون لهم كفار نعمة لا كفار شرك، يستمرُّون في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر كتعبير عن العدل والتوحيد.
٢٩
فإذا ما ظهر الاتجاه المُتشدد في المعارضة يكفر القعَدة عن القتال من
مُوافقيهم وكل من لم يُهاجر إليهم، وقد يتم امتحان الولاء لهم فيمن هاجر
إليهم. ويُقتَل المخالفون نساءً وأطفالًا، ويُوالى اليهود والنصارى والمجوس
دون مُخالفيهم من المسلمين، فالعداء بين الإخوة أعتى وأشرس من الخلاف
العقائدي بين الأمم. ويستمر الخروج ولا يتوقف إلى نهاية الزمان، فلا مجال
للمصالحة أو الاتفاق مع الخصوم. دار السلطة دار كفر، دار المعارضة دار
إيمان، ولا مصالحة بين الدارين، بقاء أحدهما مشروط بفناء الآخر. ولما كان
حكم الكفر اغتصابًا، فإن حكم الإيمان قادم لا محالة، وذلك مرهون باستمرار
الخروج والثورة. وارتكاب الكبيرة من مُوافقيهم كفر، والشك في أقوالهم خاصةً
بعد موت القائلين بها كفر. فالأخذ بالشدة تقوية للصفوف وشحذ للعزيمة وشرط
للنصر، لدرجة قتل المؤمن الأسير من مُخالفيهم وإلا قُتل!
٣٠ وإذا ظهر الاتجاه الأقل تشددًا والأكثر لينًا، رغبةً في
المصالحة والحفاظ على وحدة الأمة، وهو ما يكشف عن تكوينه الإنساني العادي،
واتجاه الآراء والمذاهب في المجتمعات، فقد لا يتم التبرؤ ممن يرجع عن رأيه.
وقد لا يحدث اعتراض بالسيف على الناس، بل قتال للحكام الذين يكونون فقط من
أئمة الجور. وقد يحدث القتال بالسيف وبغيره، أي بشتَّى وسائل المقاومة،
لمنع أئمة الجور وإبعادهم عن الحكم، والتفريق بين عسكر السلطان ورعيته
المغلوبة عن أمرها. فإذا كان عسكر السلطان دار حرب فإن الرعية المغلوبة على
أمرها دار أمان. ولا يؤخذ «المدنيون» بجريرة العسكريين؛ فالمُخالفون كفار
وليسوا مشركين، لا تجوز مناكحتهم وغنيمة أموالهم وسلاحهم وكراعهم إلا في
حالة الحرب وحدها دون وقت السلم. يمكن استتابتهم من تنزيل أو تأويل فيما
يسع جهله أو غيره. لا يُتبَع المُدبِر منهم في الحرب، ولا يُقتَل منهم
امرأة أو طفل. سَبْيهم في السر غيلة لا يتم إلا بعد نصب القتال وإقامة
الحجة، دماؤهم في السر حرام، وفي العلن حلال. وقتل الأبوين حرام في دار
التقية ودار الهجرة.
٣١ وقد يتحول العداء في الموقف إلى عداءٍ مبدئي، كما يتحول العداء
للآخر إلى عداء للذات، إلى كراهية النفس والتقتيل لها، كما يتحول تكفير
الناس إلى كفر بالنفس وزهق من العيش وكفر بالحياة، ويتحول الموقف من صراع
سياسي في البداية إلى أزمةٍ نفسية في النهاية، مثل الجماعات الإسلامية
المعاصرة، ثورة على الناس، وكراهية للعالم، ورفض للمجتمعات، ورغبة في
القيادة دون جماهير، وحب في الاستشهاد. وعلى هذا النحو يسهل تشويه صورتهم
دون فهم سلوكهم، فيضيع الهدف الأول وهو القضاء على أئمة البغي، وتنشأ
أهدافٌ فرعية مثل الانتقام من الناس وتدمير كل شيء، حتى ينتهي الأمر إلى
تدمير النفس. ويصل الأمر إلى قتل الأسرى، وحرق الخصوم، واستحلال كل شيء،
ما دام في ذلك تفريج عن النفس وتخفيف عن الهم؛ فرؤية النار تُخفف عمن يحترق
بها. ولن تسلم النساء من السبي، ولا الأطفال من القتل. وما دام الأمر كذلك
سهل على خصوم الأمة تقوية هذا التدمير للآخر وللنفس. وتنتهي الثورة بأن
تفرغ من مضمونها، ويلحق الثائر بالنور الأعلى، ويغرق في الوهم.
٣٢ ولعبت التناقضات الرئيسية على التناقضات الثانوية، وأطلَّت
الشعوب المغلوبة برأسها من جديد تُناصر فريقًا على فريق، وتزيد النار جذوة،
والقتال اشتعالًا.
٣٣ ولا فرق في ذلك بين المعارضة العلنية الانفعالية في الخارج
والمعارضة العقلية في الداخل، كفر بالآخر وكفر بالنفس.
٣٤