سادسًا: مرتكب الكبيرة

إن عرض الاحتمالات السابقة في العلاقات الثنائية أو الثلاثية لكلٍّ من المعرفة والتصديق والإقرار والعمل في مقابل الاحتمال الرابع والأخير، يضع مسألة الفرق بين الواقع والمثال؛ فالاحتمالات الأولى واقعة في حين أن الاحتمال الأخير، أي وحدة الشعور في أبعاده الأربعة، مثالٌ ممكنٌ الوصول إليه. ويظل التقابل في الحالات الممكنة الأولى بين النظر الذي يشمل المعرفة والتصديق والعمل الذي يشمل الإقرار والفعل. فإذا ما حدث الفصم بين أيهما والشعور فإنه يحدث بين النظر والعمل، بين الداخل والخارج، وليس بين بعدَي النظر الداخلي، المعرفة والتصديق، أو بين بعدَي العمل الخارجي، الإقرار والفعل. الأول هو الخصم الرئيسي، في حين أن الثاني خصمٌ فرعي. ولما كان الواقع هو الأساس فإن الفصم بين الداخل والخارج هو الاحتمال السائد، لدرجة أن الإيمان قد أُطلقَ على الداخل دون الخارج، أي على النظر دون العمل، باستثناء لحظات الضيق والشدة وأوقات الغضب والتمرد حيث يأتي العمل مُكملًا للنظر، ويبدو النظر فارغًا دون العمل، ويستصرخ الناس العمل ويدعون إليه. وهذه هي مسألة مرتكب الكبيرة التي هي لبُّ موضوع النظر والعمل. هل يمكن أن توجد معرفة وتصديق دون إقرار وعمل؟ هل يمكن أن يوجد الداخل دون الخارج؟ هل يكون المؤمن مؤمنًا لو كان لديه النظر دون العمل؟ وهل يمكن أن يكون للإنسان عمل دون نظر؟ هل هذه هي التفرقة المشهورة بين الإيمان الحي الذي يُطابق فيه الإيمان العمل والإيمان الميت الذي هو مجرد إيمان لا يتخارج منه عمل؟ الإيمان القادر والإيمان العاجز، الإيمان بالفعل والإيمان بالقوة، الإيمان العملي والإيمان النظري؟

ولكن ماذا تعني الكبيرة؟ تتراوح التعريفات للكبيرة بين تعريف عقائدي ديني، أي كل ما دخل في العقاب وارتبط بالوعيد وله حد وتعريف أخلاقي، أي كل ما تم عقد العزم على فعله وارتبط بالوعيد وله حد أخلاقي، أي كل ما تم عقد العزم عليه دون توبة؛ وتعريف اجتماعي، أي كل ما أدَّى إلى المفاسد ومنع المصالح. الكبيرة هي كل ما دخل في الوعيد أو كل ما تعرَّض إلى عقاب وقابله حد. وهذا التعريف عقائدي خالص لا يبدأ من تحليل الفعل ذاته. ويلحق موضوع النظر والعمل بأمور المعاد. وإذا كانت الكبيرة كل معصية عن عمد وإصرار دونما استغفار أو توبة، وبالتالي تكون الصغيرة هي الفعل الذي يتم الاستغفار عنه والتوبة منه. وهذا التعريف يجعل الكبيرة ملحقة بنتائجها الأخلاقية في الفرد، وليس بنتائجها الفعلية وأثرها على الجماعة؛ لذلك قد تكون الكبيرة هي كل درء للمصالح وجلب للمفاسد؛ فالأفعال ليست فقط دينيةً شرعية أو أخلاقيةً فردية، بل هي أفعالٌ اجتماعية تؤثر في حياة الناس، إما بدرء المفاسد أو بجلب المصالح. ولكن، هل الكبيرة والصغيرة اسمان إضافيان، كلٌّ منهما كبيرة أو صغيرة بالنسبة للأخرى؟ وبالتالي هناك سُلَّم للأفعال، أعلاها الكبيرة على الإطلاق، وأدناها الصغيرة على الإطلاق؛ وبالتالي هناك درجات لدرء المفاسد وتحقيق المصالح. ولكن، هل هناك كبيرة على الإطلاق وصغيرة على الإطلاق؟ وهل الكبيرة على الإطلاق فعلٌ نظري مثل الكفر أو فعلٌ عملي؟ وما هي الصغيرة على الإطلاق؟١ وهل يمكن حد الكبائر والصغائر كمًّا؟ وما هي الكبائر؟ هل هي أفعالٌ نظرية مثل الكفر والإلحاد، أو عملية مثل القتل والقذف والزنا والسرقة وشرب الخمر والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين؟ إذا كان الكفر والإلحاد أفعالًا نظرية ترتبط بتصورات الفرد بالنسبة لحقوق الله، فإن باقي الأفعال عملية ترتبط بمعاملات الفرد بالنسبة لحقوق الآخرين. الكبائر إذن هي التعدي على مقاصد الشريعة وأصولها وضروراتها، مثل الدين والنفس والعقل والعِرض والمال. ليست الكبائر إذن مجرد أفعال فردية خاصة، مثل المحافظة على العقل (تحريم شرب الخمر) أو العِرض (تحريم الزنا) أو المال (تحريم السرقة والربا)، بل هي الأفعال الفردية العامة، مثل البر بالوالدين واحترام الآخرين (تحريم القذف)، ويأتي في القمة الصمود أمام الأعداء وعدم الفرار من الزحف.٢ وليس المهم في الفعل القليل ذرًّا للرماد في العيون، بل الكثرة وعموم البلوى؛ لذلك هناك حدٌّ أدنى للسرقة دون حد أعلى، فليست السرقة درهمًا أو درهمين، بل مليون ومليونان، ومليار وملياران. ليست السرقة من الضعيف الذي يطبق عليه الحد، بل من الشريف الذي يطبق الحد على غيره ويتركه على نفسه.٣ ليس المهم هو طهارة النفس في القليل وجشعها في الكثير، أو طهارة النفس أمام الآخر في العلن وطمعها أمام الذات في السر.٤

(١) هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو كافر أو فاسقٌ منافق؟

والحقيقة أن هناك ثلاثة احتمالات؛ إما أن يكون مرتكب الكبيرة مؤمنًا لا يؤثر نقص العمل على النظر في إيمانه شيئًا، أو كافرًا ما دام عمله خرج عن إيمانه، أو فاسقًا ومنافقًا؛ أي مؤمنًا على مستوى النظر وكافرًا على مستوى العمل؛ وبالتالي فهو ليس مؤمنًا ولا كافرًا، أو هو مؤمن وكافر؛ وبالتالي تتراوح الحلول الثلاثة بين طرفين ووسط، بين نقيضين ومحاولة للجمع بينهما. والتوسط بين الطرفين ليس بدافع التوفيق، ولكنه موقفٌ نظري أصيل نظرًا للنقص النظري في الموقفين الأولين. إن الموقف الثالث ليس خروجًا على إجماع الأمة؛ فلم تكن الأمة مُجمِعة على رأيٍ واحد بدليل وجود رأين مُتعارضين. كانت الأمة مُنقسمة على نفسها؛ وبالتالي يكون الرأي الثالث أقرب إلى توحيد الأمة منه إلى موقف الوسط بدافع من التلفيق النظري. إن رفض الرأي الثالث هو رغبة في استمرار الشقاق في الأمة وتقاتل الفريقين فيها؛ وبالتالي فهو رفضٌ سياسي، إما من موقف مجتمع الغلبة والقهر الذي يريد إخراج العمل من الإيمان حتى لا تُحاكَم السلطة على أفعالها، أو من مجتمع الاضطهاد الذي يريد إدخال العمل في الإيمان من أجل محاكمة السلطة على أفعالها. فإذا كان الرأي الأول يهدف إلى حصار المعارضة، وجعل أفعالها سياسيةً صرفة لا شأن لها بالإيمان، فإن رأي المعارضة يهدف إلى إحياء إيمان الناس، واستنفار أفعالهم كتعبيرٍ وحيد عن الإيمان، حتى تُعبئ الأمة ضد السلطة الجائرة. الرأي الثالث إذن ليس مجرد حدث تاريخي أو واقعة سجال، بل لها مدلولها النظري والعملي بعيدًا عن التوفيق الخارجي والسطحية المُتميعة التي تهدف إلى إبقاء الوضع القائم أكثر مما تهدف إلى تغييره.٥

(١-١) هل مرتكب الكبيرة مؤمن؟

إذا أمكن فصل العمل عن الإيمان يكون مرتكب الكبيرة مؤمنًا؛ فالكبيرة لا تُخرج الإنسان عن الإيمان ولا تُدخله في الكفر. هو مؤمن بمعرفته وتصديقه وإن كان فاسقًا بعمله. ويصل الأمر إلى حد أنه لا فرق بين المؤمن بقلبه والمؤمن بعمله. الفسق إذن أو العصيان هو انفصال العمل عن النظر، والقيام بفعلٍ مُعارض للأساس النظري، إما لضعف الوجدان أو لعدم تحوُّل الفكر إلى تجربةٍ معيشة، وإما لأن الواقع كان أطغى وأقوى من الموقف الشعوري، فاق الشعور ببواعث منه قائمة على الهوى أو المصلحة. ويمكن إدخال الزمن والفعل لجعله مؤمنًا وفاسقًا، مؤمنًا قبل الفعل وفاسقًا بعد الفعل، مؤمنًا نظرًا وفاسقًا عملًا، وكأن الفعل له مراحل، قبل التحقيق وبعد التحقيق، ويتغير الحكم طبقًا للمرحلة؛٦ فالعمل يُرجأ على الإيمان، قد يتحقق منه وقد لا يتحقق، وكأن الإيمان موجود بذاته لا يحتاج في وجوده إلى غيره. لا يأتي الإرجاء من الرجاء لأنه لا تضر مع الإيمان معصية، ولا تنفع مع الكفر طاعة؛ لأن هذا يأس للمؤمن وللكافر معًا، وإيهام للمؤمن بأنه كذلك دون عمل، وإيهام للكافر أنه كذلك حتى ولو كان له عمل. قد يعني الإرجاء تأجيل الحكم على الإنسان مؤمنًا أو كافرًا إلى يوم القيامة، وفي هذه الحالة يكون الإرجاء عكس الوعيدية وعلى النقيض منه، ولكنه يكون إحالة لموضوع النظر والعمل إلى موضوع المعاد؛ وبالتالي إلغاء لمشكلة الفعل؛ أي ارتباط النظر بالعمل. إن تأجيل الحكم إلى يوم القيامة يعني عدم التفتيش في ضمائر الناس، ولكن لا يعني إثبات الفصل بين النظر والعمل، بين الإيمان والأعمال. إن الإرجاء تعطيل للوعيد وخرق لقانون الاستحقاق.٧ وإن حجج الإرجاء يسهل الرد عليها بحججٍ مقابلة؛ فإذا كانت الصلاة خارجة عن الإيمان فإن العمل الصالح ليس كذلك، وإذا كان من يفسد صلاته لا يفسد إيمانه فإنه يلبس إيمانه بظلم، وإذا كان المؤمن اسمًا لله وليس فعلًا فإنه اسمٌ يكون مقياسًا لسلوك الإنسان وقدوة له، وإذا كان العمل الصالح معطوفًا على الإيمان فإن الإيمان بقدر ما يفيد التمايز يفيد الاقتران.٨ وإن فسق المؤمن فإنه لا يُسمَّى فاسقًا على الإطلاق كحكمٍ عام، ولكن يُطلَق عليه هذا الحكم في فعلٍ واحد خاص، ويظل الإيمان هو الحكم العام، القاعدة التي خرقها الاستثناء.٩ والعجيب هو أخذ هذا الموقف من اتجاهاتٍ مُخالفة في التوحيد، سواءٌ كان التجسيم أو التشبيه أو التنزيه؛ مما يوحي بأن اعتبار مرتكب الكبيرة مؤمنًا ليس موقفًا عقائديًّا بقدر ما هو موقفٌ سياسي.١٠ فإذا كان من السلطة عن سوء نية فإنه يهدف إلى تبرئة الحكام، وعدم الحكم على أفعالهم، وحصر المعارضة، واعتبار أفعالها شغبًا سياسيًّا، صراعًا على السلطة لا صلة لها بالإيمان؛ وإن كان من الفقهاء عن حسن نية فإنه يهدف إلى توحيد الأمة بدل الاقتتال حرصًا على وحدتها؛١١ وبالتالي يصبح السؤال: هل يهدف هذا الموقف إلى تبرير أفعال الحكام، أم أنه يُعبر عن الرحمة في الدنيا من أجل إنقاذ عامة الناس؟ ومع ذلك يظل الإشكال قائمًا: من الكافر إذن إذا لم يكن العمل جزءًا من الإيمان وكان الجميع مؤمنين؟ وماذا عن صاحب العمل الصالح وليس مؤمنًا، لا عارفًا ولا مُصدقًا؟ إن الأمر أقل من العقائد، ولكنه في الوقت نفسه أكثر من اللغة، مجرد أسماء اصطلاحية، ولكنه أقرب إلى الفعل الأخلاقي بالنسبة للفرد، أو الجماعي بالنسبة للجماعة. يُستعمل إما لتبرئة الحكام أو تجريح القادة، لتثبيط الجماهير أو لتعبئتها. ويُحدد ذلك الموقع من السلطة، سلطة النظام القائم أو سلطة المعارضة.١٢

(١-٢) هل مرتكب الكبيرة كافر؟

وعلى النقيض ممن جعل مرتكب الكبيرة مؤمنًا، هل يمكن أن يكون كافرًا؟ فالكبيرة كفرٌ ما دامت خروجًا على النظر، وما دام العمل جزءًا لا يتجزأ من الإيمان. العمل جوهر الإيمان ومنتهاه، مادته وغايته. وإن الكبيرة ليست فقط خروجًا على النظر، بل قد تكون عملًا مُعارضًا له في جوهره، ليس فقط بسبب سوء الفهم أو التطبيق كما هو الحال في الصغيرة. الكبيرة هي العمل المضادُّ للنظر عن وعي ودراية وقصد وتعمد وسبق إصرار. ولا فرق في ذلك بين كبيرة وصغيرة، ولا فرق بين مرات عديدة ومرة واحدة، ولا فرق بين معاصٍ كثيرة أو واحدة.١٣ وقد يزيد مرتكب الكبيرة من مجرد كافر إلى مشرك، وكأنه عابد وثن! لهذا الحد بلغ تقديس العمل واعتباره جوهر الإيمان. يصل الأمر بارتكاب الكبيرة إلى أن يكون شركًا، ومع ذلك السماح بالصغيرة ألا تكون كفرًا. وكأن الزيادة في الكبيرة تؤدي إلى نقص في الصغيرة. والشرك مثل الكفر يوجب القتل، كلُّ ذنبٍ كفر، وكلُّ كفرٍ شرك، وكل شرك يوجب القتل! كل شرك عبادة للشيطان؛ لأن الشرك شركان؛ شرك عبادة للشيطان، وشرك عبادة للأوثان. والكفر كفران؛ كفر بالنعمة، وكفر بالربوبية. وارتكاب الكبيرة شرك لأنه عبادة للشيطان، وكفر لأنه كفر بالنعمة. ولا فرق في ذلك أيضًا بين بالغ وطفل، فإذا قُتل البالغ قُتل الطفل معه! ولو شرب رجل من جُبٍّ به قطرة خمر لكفر!١٤ وقد يكون الكفر كفرًا بالنعم؛ أي أنه جحودٌ عملي وليس كفرًا نظريًّا. هو إنكارٌ عملي، وكأن الفعل إثباتٌ عملي لقضيةٍ نظرية. وهو كفرٌ أقل حدةً من الكفر والشرك الذي يطغى فيه العمل على النظر، فيضيع النظر بضياع العمل. وتخف حدة الوعيدية قليلًا، فلا يُعلَم هل يعذَّب مرتكب الكبيرة في النار أم لا، وإن عُذب فإنه يعذَّب في غير النار، ولا يخلَّد فيها، وإن أتى الكبيرة غير مُصر فإنه يكون مسلمًا، أما لو ارتكب الصغيرة وهو مُصر فهو مشرك. وفي هذه الحالة لا يكفُر المخالفون، تحلُّ ذبائحهم ومناكحتهم وموارثتهم. مرتكب الكبيرة إذن ليس مؤمنًا ولا كافرًا على الإطلاق، بل في فعلٍ معيَّن وموقفٍ خاص، وهو ارتكاب الكبيرة. قد يظل مُوحدًا، ولكنه غير مؤمن. هو موحد من حيث المعرفة، ولكنه غير مؤمن من حيث السلوك.١٥
النفاق إذن هو انفصال العمل عن النظر، وهو عكس التوحيد؛ أي تطابق النظر مع العمل. مرتكب الكبيرة إذن مؤمن وكافر في آنٍ واحد، مشترك بين الإيمان والكفر، لا مؤمن على الإطلاق ولا كافر على الإطلاق.١٦ وقد يتحدد الكفر شرعًا فقط لأنه حكمٌ شرعي؛ فما كان فيه من المعاصي حد فليس فاعله كافرًا، بل يكون سارقًا أو زانيًا أو شاربًا للخمر، أما ما لم يكن فيها حد فيكون صاحبها كافرًا.١٧ وتُورَد حججٌ نقلية عديدة لإثبات أن مرتكب الكبيرة كافر، كلها تفيد معنًى واحدًا، وهو أن من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وأن الكافر يُجزى على أعماله، وأنه يعذَّب يوم القيامة في النار، وأن الكفر يعود على النفس وليس على الله، وأنه روح اليأس وأفعال النفاق وترك الصلاة، وأن الله يغفر كل شيء إلا الشرك به لأنه كفر … إلخ، والولاية والعداوة لله ضدان لا وسط بينهما، فكذلك الإيمان والكفر. وهناك حججٌ نقلية عقليةٌ عديدة، منها قصة إبليس الذي كان عارفًا بالله مُطيعًا له غير آبِه بارتكاب الكبيرة، وهي امتناعه عن السجود لآدم، فاستوجب اللعن والتكفير والتخليد في النار. كما أن هناك حججًا عقليةً خالصة، منها أن الكافر سُمي كذلك لأنه ترك الواجبات وأقدم على المقبَّحات، والفاسق كذلك، فيجب أن يكون كافرًا.١٨
فإذا كان اعتبار مرتكب الكبيرة كافرًا موقف المعارضة واختيار مجتمع الاضطهاد، فإن الاختيار المضاد، وهو تبرئة مرتكب الكبيرة من الكفر، هو موقف السلطة واختيار مجتمع القهر والغلبة. ومع ذلك فرغبةً في إظهار التشدد في تطبيق الدين مزايدةً على إيمان العوام تُكفر السلطة من يرتكب المعاصي عمدًا وإصرارًا، وتطبق عليه الحد بما في ذلك حد القتل؛ درءًا عن نفسها تُهَم انفصام العمل عن النظر. للسلطة إذن موقفان؛ الأول: مُتراخٍ بغيةَ الدفاع عن شرعية الحاكم، حتى ولو كانت أعماله مخالفة للإيمان، وفي الوقت نفسه حصار المعارضة باعتبار أن أفعالها سياسيةٌ صرفة تُدخل السياسة في الدين، ولا دين في السياسة ولا سياسة في الدين. والثاني: مُتشدد للظهور أمام العامة بمظهر المطبِّق لأحكام الشرع، والمُنفذ لحدود الله في الكبائر التعبدية، مثل شرب الخمر والزنا والسرقة، وهي الحدود التي تهدف إلى الردع من أجل الحفاظ على النظام القائم.١٩ وقد يكون للمعارضة أيضًا موقفان؛ الأول: مُتشدد في مقابل السلطة وتكفير مرتكب الكبيرة؛ أي الحاكم اللاشرعي المغتصِب. والثاني: ليِّن بغيةَ الحفاظ على وحدة الأمة.٢٠

والحقيقة أنه لا يوجد حكمٌ واحد لمرتكب الكبيرة، بل تتعدد الأحكام طبقًا للمواقف السياسية وللموقع في السلطة. وإن الحجج النقلية أو العقلية والحجج المضادة كلها قراءات في النص وإسقاط من الموقع عليه، سواء الموقع من السلطة أو الموقع من المعارضة. إن التكفير سلاحٌ مزدوج بين السلطة وخصومها، لعنة قديمة ما زالت تُلقى، بالإضافة إلى أنها ادعاءٌ باطل فكريًّا، سلاح تستعمله السلطة ضد مُعارضيها، وتُشهره على خصومها، خاصةً إذا كانت السلطة غير شرعية، في حين أن الخلاف في الفهم والتعارض في الفكر خصبٌ ونماء، ونتيجة لأعمال الحرية والاجتهاد، وتوفي مناخ للجِدة والابتكار، وإلزام الأفراد بقضايا الجماعة ومشاكل الأمة. كما أن أحكام التكفير على مختلف درجاتها لا يمكن لأي إنسان أن يُصدِرها؛ لأنه يخرج بها عن نطاق حدوده كإنسان. كل الأحكام الخاصة بالكفر والإيمان والشرك والفسوق والعصيان لا يمكن لأحدٍ أن يُصدِرها إذا كان الهدف منها توقيع الجزاء ثوابًا أم عقابًا في نهاية الزمان؛ لأن الإنسان ليس حاضرًا هناك. وأي إنسان يستطيع ذلك؟ لا يمكن لإنسانٍ إصدار حكم على آخر قائلًا «هذا كافر»، «هذا فاسق»؛ لأنها أحكام تخرج عن نطاق الوضع الإنساني.

(١-٣) هل مرتكب الكبيرة فاسق ومنافق؟

إن لم يكن مرتكب الكبيرة مؤمنًا أو كافرًا، أو مؤمنًا نظرًا وكافرًا عملًا، فإنه يكون فاسقًا؛ فالإيمان لغويًّا لا يعني فقط التصديق، بل يضمُّ أيضًا العمل؛ فالأعمال جزء من الإيمان. والفسوق لغةً يعني الخروج، وارتكاب الكبيرة خروج العمل على النظر؛ وبالتالي يكون فسوقًا لا يخرج عن الإيمان ولا يدخل في الكفر، منزلة بين المنزلتين. والله سمَّى إيمانًا ما لم يكن في اللغة إيمانًا؛ وبالتالي لا يمكن استبعاد مرتكب الكبيرة عن الإيمان. ومع ذلك إذا كان اسم الإيمان يستوجب المدح والثناء، فإن مرتكب الكبيرة لا يستحقه؛ وبالتالي لا يمكن تسميته مؤمنًا. أما ارتكاب الصغائر فإنه لا يخرج عن الإيمان. يتدخل إذن كم الفعل في الحكم عليه بأنه قد خرج عن النظر أم لم يخرج؛ فالأفعال كيف وكم، وتدل على بناء الشعور ودرجة تمثُّله للوجدان والفكر. ولا يُقال عن مرتكب الكبيرة في فاسق على الإطلاق، بل فاسق في موقفٍ معيَّن على الخصوص في فعلٍ معيَّن. إن خروج العمل على النظر يضع الإنسان في عمليةٍ متصلة؛ فالخروج يعني الدخول؛ ومن ثَم يتحدد الإنسان بالصيرورة لا بالوجود، وبالفعل لا بالصفة، كما هو الحال في الوحي في وصف الإيمان كفعل لا كاسم. وما دام الفاسق لا يخرج عن الإيمان فإنه لا يخرج عن الأمة، تحلُّ مناكحته وموارثته. وارتكاب الكبيرة يستوجب التوبة؛ فإن لم يتُب مرتكب الكبيرة ومات عليها فإنه يستوجب العذاب والخلود في النار؛ فصِلة النظر بالعمل هي التي تُحدد الوضع في المعاد.٢١ إن الكفر لا يكون في العمل، بل في النظر؛ فإذا كان الكفر يعني الستر والتغطية فإنه يكون ضد كشف الحقائق النظرية ووضوحها. أما عدم تطابق العمل مع النظر فإنه فسوق، أي خروج، وأحيانًا يجمع بين الاثنين، ويكون الفسوق هو الخروج عن النظر وعلى العمل على السواء؛ فالإيمان اجتناب الكبيرة فحسب، والأقوال والأفعال ليست من الإيمان، وأفعال الفعل والشرك كلاهما طاعة؛ لذلك لا يُسبى العاصي لأنه يعرف الله إن كان قد جحده وعصاه. معرفة الله إذن خصلة بين الإيمان والشرك.٢٢ والدليل على ذلك أن الفاسق شرعًا ليس مؤمنًا ولا كافرًا بإجماع الأمة، يُقام عليه الحد ولا يُقتَل، ولا يُحكَم بردَّته، ويُدفَن في مقابر المسلمين. فِسقه معلوم، ولكن إيمانه مختلف فيه، وطبقًا لعلم الأصول يؤخذ المتفق عليه ويُترَك المختلف فيه.٢٣ والحقيقة أن القول بالوسطية لا يعني أي تنازل عن الفعل أو عن الإيمان؛ فمن الناحية العملية الفاسق أشرُّ من الزنديق والمجوس، وخطره أعظم.٢٤
وقد يكون مرتكب الكبيرة مُنافقًا. والفرق بين الفسوق والنفاق ليس كبيرًا. الفسوق يتعلق بالفصم بين العمل والنظر، بين المعرفة والفعل، في حين أن النفاق قد يتعلق أيضًا بالفصام بين القول والعمل. النفاق كفرٌ مضمَر، في حين أن الفسوق كفرٌ علني. وقد يكون النفاق أشر من الكفر؛ لأنه إظهار المرء غير ما يُبطِن، في حين أن الكفر صريح. النفاق فصام بين الداخل والخارج، في حين أن الكفر اتفاق الداخل مع الخارج. يتعلق النفاق أيضًا بغياب التصديق، في حين أن الفسوق يتضمن خروج الفعل فحسب، وإن بقيت المعرفة والتصديق، وإن بقي الإقرار. النفاق إذن أعم من الفسق وأخطر، والفسوق حالة منه؛ فكل فسق نفاق، وكل نفاق كفر؛ وبالتالي يكون كل فسق كفرًا. الفاسق يستحق الذم واللعن، وكذلك المنافق. وإن ارتكاب الفاسق الكبيرة يُثبت أن في اعتقاده ضلالة، وكذلك المنافق. وكثير من الآيات في أصل الوحي تؤيد ذلك.٢٥ ويشارك في ذلك فكر السلطة كنوع من الوسطية ضد فكر المعارضة الذي يحكم على مرتكب الكبيرة بالكفر.٢٦ ومع ذلك قد يظهر التعارض بين الفسق والنفاق؛ لأن الفسق إظهار، والنفاق كتمان. ولما كان مرتكب الكبيرة أقرب إلى العلن والإظهار فإنه لا يكون منافقًا.٢٧
والحقيقة أن إثبات المنزلة بين المنزلتين إنما يجد مُبررًا له في صعوبة قبول الموقفين الأولين، وهو اعتبار مرتكب الكبيرة مؤمنًا أو كافرًا. ونظرًا لبساطة هذا الموقف الثالث فإن أية محاولة لتنظيره تكون إضافيةً مجانيةً زائدة. وقد تكون مسألةً شرعية لا مجال لتنظير العقل فيها، ومع ذلك فإنه يمكن على الأقل تعقيلها وتحديد مستوى معرفتها؛ فهي مسألة ليست مرتبطة بالثواب والعقاب والإحباط والتكفير، حتى لا تكون أدخل في أمور المعاد، وليست مسألةً مُتعلقة بالأحكام الشرعية وحدها؛ لأنها تتعلق بأمور الدنيا وبسلوك الأفراد، كما أنها لا تتعلق بموضوع المدح والذم؛ لأن الأحكام الخلقية هو فعلٌ إنساني، وما دام فعلًا إنسانيًّا فإنه فعلٌ حر يتراوح بين العظمة والإقلال، بين عِظم الثواب وقليله إن كان طاعة، وعِظم العقاب وقليله إن كان معصية. فالمنزلة بين المنزلتين تعبير عن حرية الفعل نظرًا لوجود الفعل بين قطبين؛ الثواب والعقاب، أو الطاعة والمعصية.٢٨

(٢) هل الإيمان يزيد وينقض؟

لما كانت الأعمال مُقترنة بالإيمان، وكان العمل لا ينفصل عن النظر، ظهر سؤالٌ ثانٍ عن الإيمان: هل يزيد وينقص؟ هل هو كلٌّ أم بعض؟ هل يتفاضل فيه الناس؟ فإذا كان أبعاد الشعور الأربعة، المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، قد وضعت مسألة وحدة الشعور من حيث الكم، فإن سؤال الزيادة والنقصان في الإيمان يضع الشعور من حيث الكيف، ولو أن اللغة هي لغة الكم. وقد ركَّز القدماء على الشعور الكمي بأبعاده الأربعة أكثر مما ركَّزوا على الشعور الكيفي بأسئلته الثلاثة: هل الإيمان يزيد وينقص؛ أي هل له أجزاء، أي خصال يمكن تجزئتها، أم أن الإيمان كلٌّ واحد لا يتجزأ؟ هل الإيمان يتفاضل فيه الناس كما تتفاوت مراتبه عند الشخص الواحد؟ هل تأتي قوة الإيمان وضعفه من الإيمان أم من البواعث والغايات؟ هل هناك فروقٌ فردية طبيعية أو مكتسَبة، جِبلية أم تربوية، وراء التفاوت في الإيمان والأعمال؟ وفي أي مظهر من الإيمان يقع التفاوت في المعرفة أو التصديق أو الإقرار أو العمل؟ وهل يؤدي التفاوت في المعارف إلى تفاوت في الأعمال؟ هل يؤدي التفاضل في التصديق إلى تفاضل في الأعمال؟ هل هناك تفاضل في الإقرار مثل تفاضل المعرفة والتصديق؟ وكل هذا الأسئلة التي تُثار في الإيمان تُثار أيضًا في الكفر، وكأن المسألة ليست في الإيمان أو الكفر، بل في الشعور ذاته يوجبه الإيمان والكفر، الإيجاب والسلب.

والخلاف ليس لفظيًّا فقط، وإن كان يمكن ضبطه عن طريق تحليل اللغة، ولكنه ناتج عن اختيارٍ مسبق لأحد الاحتمالات المتعلقة بأبعاد الشعور؛ فإنكار الزيادة والنقصان في الإيمان نتيجة التوحيد بين الإيمان والأعمال، في حين أن إثبات الزيادة والنقصان في الإيمان نتيجة لاعتبار الأعمال زائدة عن الإيمان ومُنفصلة عنه. وإنكار التبعض في الإيمان هو أيضًا نتيجة للتوحيد بين الإيمان والعمل، في حين أن إثباته يكون نتيجة للفصل بينهما. وإن جعل الإيمان هو المعرفة أو التصديق أو الإقرار يُنكر الزيادة أو النقصان في الإيمان؛ لأن الأعمال ليست منه. فالمعرفة بالذهان، والتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، مرةً واحدة وإلى الأبد، لا زيادة في كلٍّ منهما ولا نقصان.٢٩
فالقول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص إنما يعني بالإيمان التصديق بالقلب الذي أصبح عنوانًا للمعرفة والإقرار دون الأعمال؛ فالتصديق لا يقع فيه زيادة أو نقص، كما أن ليس به كلٌّ أو جميع؛ أي إنه لا يتبعض، ولا يتفاضل فيه الناس أو الملائكة؛ فإيمان الناس مثل إيمان الملائكة والمقرَّبين والأنبياء وأهل الجنة، مساواة مطلَقة بين الجميع. لا تزيد الأعمال من الإيمان ولا ينقص غيابه منه، وكأن العمل لا يُقوي الإيمان، وكأن الممارسة لا تزيد من أحكام النظر. قد تتزايد الأعمال في نفسها، ولكنها لا تزيد ولا تنقص من الإيمان شيئًا.٣٠ ولا يثبت الإيمان، ولا تتنوع خصاله، فهو خصلةٌ واحدة أو الخُصل جميعًا. أما الأعمال فهي التي تتجزأ وتتبعض. وكذلك لا يتفاضل الإيمان من فرد لآخر وإن تفاضلت الأعمال.٣١ والحقيقة أن هذا الموقف يقوم أساسًا على إخراج العمل من الإيمان حتى يُلغى التمايز في السلوك بين الأفراد؛ وبالتالي لا يختلف الحاكم عن المحكوم في الإيمان؛ فالكل مُصدق وإن اختلفت الأعمال؛ وبالتالي لا مجال للمعارضة السياسية، سواءٌ معارضة أعمال الحاكم أو تقديم أعمال المعارضة كبديل عنها. وكيف يكون الشعور درجةً واحدة من الكيف، شعور أم لا شعور، إيمان أو لا إيمان، تصديق أو لا تصديق؟ ألا يختلف الشعور أيضًا في الغموض والوضوح، والنوم واليقظة، والسطحية والعمق؟ وكيف يمكن تفسير اختلاف الأعمال والمعارف بين الناس؟ وكيف يتم التفاضل بينهم والأعمال إنما هي تعبير عن درجة الإيمان؟ إن جعل الإيمان هو عمل القلب هو تأسيس لعلم التوحيد على التصوف؛ مما سهَّل بعد ذلك التوحيد بين العلمين في العقائد المتأخرة. إن لم يكن الإيمان يزيد وينقص، يتجزأ ويتبعض، فإنه مع ذلك كيفٌ يشتدُّ ويضعف ككل باعث. وترتبط الشدة والضعف بدرجة الوعي النظري بالوحي، وبمقدار الالتحام بالواقع، والاستعداد الطبيعي للعمل والتضحية. الشدة والضعف يُشيران إلى درجة الوعي الثوري عند الفرد. وإذا كان مضمون الإيمان هو الوحي، فلا بد أن يكون الوحي نظرًا أو فكرًا مرتبطًا بالواقع ومصدرًا له من أجل تغييره، وكأن مضمون الإيمان هو النظرة العلمية للواقع. مضمون الإيمان هو الفكر المصوِّر للواقع، والواقع المحقِّق للفكر. مضمون الإيمان هو تغيير الواقع وتطويره، وتحقيق الوحي كنظام للعالم.
وإذا ثبت أن الإيمان يزيد وينقص فلا معنى لإيجاد حلول وسط بأن يزيد الإيمان ولا ينقص، أو ينقص الإيمان ولا يزيد؛ فالزيادة تتضمن النقص، والنقص يتضمن الزيادة. إذا كان الإيمان يزيد بالأعمال فإنه ينقص بغيابها، وإذا كان الإيمان ينقص بغياب الأعمال فإنه يزيد بوجودها.٣٢ ما دامت هناك طاعات ونوافل ودرجات في الأعمال فلا بد أن تكون هناك درجات في الإيمان؛ وبالتالي الزيادة والنقص فيه. في المعرفة زيادة ونقص بسبب الإجمال والتفصيل، وفي التصديق زيادة ونقصان بسبب الشدة والضعف، وفي الإقرار زيادة ونقص لأن في القول طولًا واختصارًا. ويختلف ذلك في حياة الفرد نفسه من لحظة وأخرى، وفي حياة الإنسان من فرد إلى آخر، بل وفي حياة الجماعة من مجتمع إلى آخر، وفي حياة البشرية من طور إلى آخر. وكذلك يتبعض الإيمان، وكل خصلة من الإيمان بعض الإيمان. ويتفاضل الإيمان في حياة الفرد وبين الأفراد وبين الجماعات والأمم. إن إثبات الإيمان بإخراج الأعمال منه هو اختيار السلطة، يهدف إلى تثبيت النظام القائم، في حين أن حركة الإيمان بإدخال الأعمال فيه إنما هو اختيار المعارضة لتغيير النظام إلى ما هو أفضل.٣٣
١  قيل كل ما كان مفسدته مثل ما سبق (الكبائر التسعة) وأكثر، وقيل ما توعَّد عليه الشرع بخصوصه، وقيل كل معصية عن عمد وإصرارٍ كبيرة، وكل ما استغفر عنها فهي صغيرة. وقيل اسمان إضافيان لا يعرفان بذاتَيهما؛ فكلٌّ منهما كبيرة أو صغيرة بالنسبة للتي فوقها أو تحتها. الكبيرة المطلَقة هي الكفر (شرح التفتازاني، ص١١٧-١١٨). وقد اختلفت المرجئة في المعاصي؛ هل هي كبائر؟ (أ) بشر المريسي، كل ما عصى الله كبيرة. (ب) المعاصي ضربان، منها كبائر ومنها صغائر (مقالات، ج١، ص٢٠٧، ص٢١٢). وعند أبي الهذيل، العزم على الكبيرة كبيرة، وعلى الصغيرة صغيرة، وعلى الكفر كفر، العزم كالإقدام على الفعل (مقالات، ج١، ص٣٠٥). وقد اختلف المعتزلة فيمن لم يؤدِّ زكاته على مقالتين: (أ) هشام الفوطي، لا يكون مانعًا للزكاة إلا إذا عزم. (ب) من منعها أهل الحاجة لزم الفسق إذا منع خمسة دراهم أو عشرة أو مائتين (مقالات، ج١، ص٣٠٨).
٢  عن رواية ابن عمر، الكبائر تسعة: (١) الشرك بالله. (٢) قتل النفس بغير حق. (٣) قذف المحصنة. (٤) الزنا. (٥) الفرار من الزحف. (٦) السحر. (٧) أكل مال اليتيم. (٨) عقوق الوالدين المسلمين. (٩) الإلحاد في الإله. وزاد أبو هريرة: الربا، والسرقة، وشرب الخمر (شرح التفتازاني، ص١١٧-١١٨).
٣  اختلفوا في سارق درهم فصاعدًا على خمسة أقاويل: (أ) جعفر بن مبشر، مرتكب معصية معتمدًا فهو فاسق، وإن كانت سرقة درهم أو أقل أو أكثر. (ب) الجبائي، من عزم على أن يخون في درهم وثلثين في الوقت الثاني من حال عزمه فهو خائن في خمسة. (ﺟ) أبو الهذيل، لا يفسق إلا في مائتَي درهم (مقالات، ج١، ص٣٠٧-٣٠٨؛ الفرق، ص١٤٤؛ المِلل، ج١، ص٨٨؛ الفصل، ج٥، ص٤٤-٤٥). والموضوع أدخل في علم الفقه، أحد العلوم النقلية الخالصة.
٤  مرتكب الكبيرة فاسق، ثم اختلفوا في أنه مؤمن (أهل السنة والجماعة) أو كافر (الخوارج) أو منافق (الحسن البصري) (شرح الفقه، ص٦٧). عند المرجئة، صاحب الكبيرة مؤمن، وعند الخوارج كافر، وعند الحسن البصري وعمرو بن عبيد ليس بمؤمن ولا كافر، وإنما يكون منافقًا، وعند واصل ليس مؤمنًا ولا كافرًا ولا منافقًا، بل فاسق. وقد أخذ ذلك عن أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية (الشرح، ص١٣٧-١٣٨). اختلف القائلون بأنها داخلة تحت الإيمان: (أ) الشاذ في الفاسق لا يخرج من الإيمان وهو صعب. (ب) الخوارج والمعتزلة طردوا القياس، الفاسق يخرج من الإيمان، ثم اختلفوا؛ فعند المعتزلة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، منزلة بين المنزلتين، وعند الخوارج يدخل في الكفر، وهو بعيد (المعالم، ص١٤٧).
٥  في زمن الحسن البصري وقع هذا البحث بين أهل عصره؛ فتمسَّك جماعة بأن الإيمان هو التصديق، والمكلَّف لا يخلو إما أن يكون مُصدقًا بالله ورسله أو لا يكون، والثاني بالاتفاق كافر، والأول مؤمن. والمُصدق الفاسق يدخل تحت الأول، فهو مؤمنٌ مذنب، إما يُغفَر له، أو يشفع فيه النبي، أو يعذَّب عذابًا منقطعًا. وهؤلاء هم المرجئة والمفضلية. وذهب واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد إلى أن صاحب الكبيرة يخلَّد في النار للآيات الدالة على تخليد العقوبة لأهل الكبائر، والمؤمن لا يخلَّد في النار، فهو ليس بمؤمن ولا كافر. وهذا هو القول بالمنزلة بين المنزلتين. واعتزلوا حلقة الحسن؛ ولذلك سُمُّوا معتزلة، وهم الوعيدية. وأما القائل بأنه مشرك فلأنه يعمل عملًا لله وعملًا لغيره، والحسن حكم بنفاقهم (تلخيص المحصل، ج١٧٥). وأيضًا فقد كان الناس قبل حدوث واصل بن عطاء رئيس المعتزلة على مقالتين؛ منهم خوارج يُكفرون مُرتكبي الكبائر، ومنهم أهل استقامة يقولون هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. ولم يقل منهم إنه ليس بمؤمن ولا بكافر قبل حدوث واصل بن عطاء، حيث اعتزل واصل الأمة وخرج عن قولها، فسُمِّي معتزليًّا بمخالفته الإجماع، فبعد من الإجماع قوله. وما اتفق المسلمون عليه من أن العاصي من أهل القبلة لا يخلو إما أن يكون مؤمنًا أو كافرًا يقضي ببطلان قوله (اللُّمع، ص١٢٣–١٢٥؛ المِلل، ج١، ص٤٠، ص٧١-٧٢؛ المواقف، ص٤١٥؛ اعتقادات، ص٣٩-٤٠؛ شرح الفقه، ص٦٣-٦٤؛ الفرق، ص١١٧–١١٩). لذلك سُمِّي الرأي الأول مرجئة الأمة، والثاني وعيدية الخوارج (الشرح، ص١٣٧-١٣٨).
٦  هذا هو موقف أهل السنة وأصحاب الحديث وجمهور الفقهاء ومذهب «أهل الحق»! مرتكب الكبيرة مؤمنٌ فاسقٌ ناقص الإيمان. الإيمان اسم معتقده وإقراره وعمله الصالح، والفسق اسم عمله السيئ، إلا أن بين السلف والخلف منهم اختلافًا في تارك الصلاة عمدًا حتى يخرج وقتها وتارك الصوم وتارك الزكاة والحج وقاتل المسلم عمدًا وشارب الخمر ومن سب نبيًّا ومن رد حديثًا. عند عمر ومعاذ وابن مسعود وجماعة من الصحابة وابن المبارك وابن حنبل وإسحاق بن راهويه وسبعة عشر رجلًا من الصحابة والتابعين وعبد الله بن الماجشون وابن حبيب الأندلسي، أن من ترك الصلاة فرضًا عامدًا حتى يخرج وقتها فإنه كافرٌ مرتد، ومِثله تارك الحج والزكاة والصيام وقاتل المسلم عمدًا. وعند أبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمر، وأيضًا شارب الخمر (الفصل، ج٤، ص٣-٤). مذهب أهل الحق، الفاسق مؤمن، والدليل الإيمان لغةً التصديق. والخطاب الشرعي موجَّه للمؤمنين والفسَقة، وللكل السهم والغنيمة والذب عنه والدفن والصلاة. ويمكن ألا يُسمَّى عارفًا بالله مُطيعًا له ومُصدقًا إياه. وكلها تسميات، ولُبابه الوعيد والخلود. إجماع العلماء على أن الصلوات مُتميزة عن الإيمان، فهي طاعات (الإرشاد، ص٣٩٧–٣٩٩). جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة، لا يُكفرون أحدًا من أهل القبيلة بذنب يُرتكَب، مثل الزنا والسرقة وغيرها من الكبائر، وهم بما معهم مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر (مقالات، ج١، ص٣٢٢). وكان أصحاب الرسول يقولون: لا نُكفر أحدًا من أهل التوحيد بذنب وإن عملوا الكبائر (التنبيه، ص١٥، ص١٧). وعند علماء التابعين، صاحب الكبيرة مؤمن لما فيه من معرفته بالرسل والكتب المنزَّلة من الله، ولمعرفته بأن كل ما جاء من عند الله حق، ولكنه فاسق بكبيرته، وفِسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام (الفرق، ص١١٨). لم تُكفر أئمة الحديث أصحاب الكبائر، ولم يحكموا بتخليدهم في النار خلاف الخوارج والقدرية (المِلل، ج٢، ص٦٨). لا نُكفر أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ يرتكبه كما فعلت الخوارج (الإبانة، ص١٠). الكبيرة لا تُخرج العبد المؤمن من الإيمان، ولا تُدخله في الكفر (النسفية، ص١١٧–١٢٠). مرتكب الكبيرة من أهل الصلاة مؤمن (المواقف، ص٣٨٩). وعند الشافعي، لا يخرج الفاسق من الإيمان (المعالم، ص١٤٧).
٧  هذا هو موقف المرجئة. الفاسق مع فسقه مؤمنٌ مسلم، إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل والرسل (التنبيه، ص٣٧). إرجاء العمل كله عن القول والقصد. لا يضرُّ العبدَ معصيةٌ ولا تنفعه طاعة (النهاية، ص٤٧٤–٤٧٦). ولُقِّبوا مرجئة لأنهم يُرجئون العمل على النية، أو لأنهم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ فهم يُعطون الرجاء (المواقف، ص٤٢٧). المذنب مؤمنٌ كامل الإيمان وإن لم يعمل خيرًا قط، ولا كفَّ عن شرٍّ قط (الفصل، ج٤، ص٣-٤). أكثر المرجئة لا يُكفرون أحدًا من المُتأولين، ولا يُكفرون إلا من أجمعت الأمة على إكفاره (مقالات، ج١، ص٢٠٧؛ الفرق، ص٢٠٤؛ المِلل، ج٢، ص٦٥؛ النهاية، ص٤٧١). اختلفوا في الأرجاء؛ هل يجوز أن يُقصَد الله به؟ إلى فريقين مُثبِت ومُنكِر (مقالات، ج٢، ص١٤٩). الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى القيامة، فلا يُقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار، فعلى هذا المرجئة والوعيدية فِرقتان مُتقابلتان (المِلل، ج٢، ص٥٨-٥٩). وعن القونوي في روايته أن أبا حنيفة كان يُسمِّي نفسه مرجئيًّا لتأخيره أمر صاحب الكبيرة إلى مشيئة الله. والإرجاء التأخير. وكان يقول إني لأرجو لصاحب الذنب الكبير والصغير، وأخاف عليهما، وأنا أرجو لصاحب الذنب الصغير، وأخاف على صاحب الذنب الكبير (شرح الفقه، ص٦٤).
٨  وتعتمد المرجئة على أربع شُبَه: (أ) لو كانت الصلاة من الإيمان لوجب فيمن تركها أن يكون تركه. (ب) لو كانت الصلاة من الإيمان لكان من فسدت صلاته فسد إيمانه. (ﺟ) لو كان الإيمان هو الواجبات دون المقبحات لكان الله آتيًا لها، المؤمن من أسمائه. (د) إن العطف في آية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يعني التمايز.
٩  ومن المرجئة محمد بن شبيب؛ فلديه أن مُرتكبي الكبائر من أهل الصلاة العارفين بالله وبرسله المقرَّبين به مؤمنون بما معهم من الإيمان، فاسقون بما معهم من الفسق (مقالات، ج١، ص٢٠١). الفاسق مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه (اللمع، ص١٢٣–١٢٥). ويستحيل أن يكون لا مؤمنًا ولا كافرًا كما هو الحال عند المعتزلة، مؤمن بتوحيده قبل الفسق، وفاسق بفعله بعد الفسق. وعند أبي معاذ التومني، كل طاعة إذا تركها التارك لم يُجمِع المسلمون على كفره فهي شريعة من الإيمان تاركها إن كانت فريضته يوصف بالفسق، فيُقال فسق ولا يُسمَّى بالفسق أو فاسق، فلا تخرج الكبائر عن الإيمان إذا لم يكن كفر. وتارك الفرائض جاحدٌ وراد متخفٍّ بالاستحقاق. والرد والجحود إن تركها عازمًا على أن يُصلي يومًا ففسق. ومن لطم نبيًّا أو قتله كفر من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض له. والموصوف بالفسق لا يُعَد وليَّ الله أو عدو الله، ليس في أحد من الكفار إيمان بالله (مقالات، ج١، ص٢٠٤). وعنده أيضًا، كل معصية صغيرة أو كبيرة يُجمِع عليها المسلمون بأنها كفر لا يُقال لصاحبها فاسق، ولكن يُقال فسق وعصى (المِلل، ج٢، ص٦٥). وعند زهير الأثري، الفُساق مؤمنون بما معهم من الإيمان، فاسقون بارتكاب الكبائر، وأمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم. وعند مقاتل بن سليمان من كبائر المرجئة، لا تضرُّ مع الإيمان سيئة جلَّت أو قلَّت أصلًا، ولا تنفع مع الشرك حسنة أصلًا (الفصل، ج٥، ص٤٧). وعند البومية إحدى فِرق المرجئة، لا تضرُّ مع الإيمان معصيةٌ ما، وأن الله يضرُّ بالفاسقين من هذه الأمة (اعتقادات، ص٧٠). ويقول أبو شمر: لا أقول في الفاسق المِلي فاسقٌ مطلَق، بل فاسق في كذا (الفرق، ص٢٠٦؛ مقالات، ج١، ص٢٠٥). ولا نُكفر مسلمًا بذنب من الذنوب وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها، ولا نُزيل عنه اسم الإيمان وتسمية مؤمن حقيقة، ويجوز أن يكون مؤمنًا فاسقًا غير كافر (الفقه، ص١٨٦؛ شرح الفقه، ص٦٣). في أن العبد لا يكفر بارتكاب المعاصي؛ فالله سمَّى القاتل بغير الحق مؤمنًا، والإيمان صفة القلب لا الجوارح (المسائل، ص٣٨٢-٣٨٣). وأول من قال بالإرجاء الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، وكان يكتب فيه الكتب إلى الأمصار، إلا أنه ما أخَّر العمل عن الإيمان كما قالت المرجئة واليونسية والمعبدية، لكنه حكم بأن صاحب الكبيرة لا يكفر؛ إذ ليست الطاعات مع ترك المعاصي من أصل الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها (المِلل، ج٢، ص٦٤).
١٠  يُشارك الكرامية والمرجئة والبهيسية من الخوارج في هذا الموقف بالرغم من اختلافها في التوحيد بين التجسيم والتشبيه والتنزيه. فعند بعض الكرامية، المنافقون مؤمنون من أهل الجنة. وقد قال بذلك محمد بن عيسى الصوفي الألبيري من المُرية بالأندلس (الفصل، ج٥، ص٤٦). وعند البهيسية الخوارج لو أن رجلًا ضرب أبا بهيسٍ ألف سوط كل يوم كان مسلمًا، ومن شك في ذلك فقد كفر (التنبيه، ص١٨٠).
١١  يُقال إن المذهب مأخوذ عن أمير المؤمنين علي وعن الصحابة التابعين عامة؛ ولهذا قال أبو حنيفة: لولا سيرة أمير المؤمنين علي في أهل البغي ما كُنا نعرف أحكامهم (الشرح، ص١٤٠-١٤١).
١٢  يرفض ابن حزم الحجج النقلية التي يعتمد عليها مُعطلة الوعيد (الفصل، ج٤، ص٤، ص٨-٩). كما يرفض القاضي عبد الجبار موقف المرجئة؛ إذ إن حكم المؤمن المدح والتعظيم والموالاة، وصاحب الكبيرة ليس كذلك (الشرح، ص١٤٠-١٤١، ص٧٠٣–٧١١، ص٧٢٨-٧٢٩). وهناك أسماءٌ منقولة من اللغة إلى الشرع غير الإيمان. جواز نقل الأسماء من اللغة إلى الشرع. الصلاة لغةً هي الدعاء، والصوم هو الإمساك، والزكاة هي النماء. مسلم ومؤمن لفظان يستحقان المدح والتعظيم، كذلك لفظ إسلام الذي يعني انقيادًا. الإيمان أداء الطاعات والفرائض دون النوافل، واجتناب المقبحات (أبو هاشم)، أداء الطاعات والفرائض والنوافل واجتناب المقبحات (أبو الهذيل، القاضي عبد الجبار)، الإيمان معرفة بالقلب (النجارية)، إقرار باللسان (الكرامية)؛ فالمنافق مؤمن دون تصديق ودون عمل!
١٣  هذا هو موقف الخوارج ومن وافقهم في تكفير أصحاب الكبائر، وأنهم مخلَّدون في النار، فهو خارجي (المِلل، ج٢، ص١٠٧). وهم متفقون على أن العبد يصير كافرًا بالذنب (اعتقادات، ص٤٦). من فارق ذنبًا واحدًا ولم يوفَّق للتوبة فهو كافر (الإرشاد، ص٣٨٥). كل من ارتكب ذنبًا فهو كافر (الأصول، ص٢٤٩-٢٥٠). كل معصية كفر (المواقف، ص٣٨٩). عند الخوارج، كل كبيرة كفر، وأن الله يعذب أصحاب الكبائر عذابًا دائمًا (إلا النجدات) (مقالات، ج١، ص١٥٧). ويكفر الشراة أصحاب المعاصي ومن خالفهم في مذهبهم مع اختلاف أقاويلهم ومذاهبهم (التنبيه، ص٤٧). يُكفرون أصحاب المعاصي في الصغائر والكبائر (التنبيه، ص٥٣-٥٤). تُكفر الخوارج مرتكب الذنوب (الفرق، ص٧٣). عند العجاردة، الكبائر كفر (المِلل، ج٢، ص٤٣). ولا وسط لديهم بين الكفر والإيمان (شرح التفتازاني، ص١١٨). وتقول الوعيدية بخلود صاحب الكبيرة في النار، يُسلَب الإيمان عمن ترك طاعةً واحدة (النهاية، ص٤٧١). مرتكب الكبيرة كافر (المواقف، ص٣٨١؛ المعالم، ص١٤٧؛ المحصل، ص١٧٤-١٧٥).
١٤  هذا هو موقف الصفرية الخوارج، فعندهم أن الذنب إن كان من الكبائر فهو شرك كعابد الوثن، وإن كان صغيرًا فليس بكافر (الفصل، ج٤، ص٣-٤). وعندهم أن كل ذنب مغلَّظ كفر، وكل كفر شرك، وكل شرك عبادة للشيطان (مقالات، ج١، ص١٨٣). مرتكبو الذنوب كفرةٌ مشركون (الفرق، ص١١٧). الشرك شركان؛ شرك طاعة للشيطان، وشرك عبادة للأوثان. والكفر كفران؛ كفر بالنعمة، وكفر بإنكار الربوبية (المِلل، ج٢، ص٥٧). والحقيقة أن الصفرية ثلاث فِرق: (أ) كل صاحب ذنب مشرك. (ب) اسم الكفر يقع على صاحب ذنب ليس فيه حد. والحدود في ذنبه خارج عن الإيمان وغير داخل في الكفر. (ﺟ) اسم الكفر وقع على صاحب ذنب إذا حدَّه الوالي (الفرق، ص١٠٩، ص١٩١؛ المِلل، ج٢، ص٤١-٤٢، ص٤٦؛ مقالات، ج١، ص١٨١–١٨٤). وهو أيضًا موقف الأزارقة؛ فكل كافر مشرك بالله كفر ملة (الأصول، ص٢٤٩-٢٥٠؛ الفرق، ص١١٧؛ الإرشاد، ص٣٨٦). كل كبيرة كفر، والدار كفر، وكل مرتكب لكبيرة مخلَّد في النار. ويرون قتل الأطفال (مقالات، ج١، ص٥٩؛ التنبيه، ص٥١). وهو أيضًا موقف العوفية البهيسية الخوارج. فالسكر كفر، ولا يشهدون أنه كفر حتى يأتي معه غيره كترك الصلاة (مقالات، ج٢، ص١٨٢؛ المِلل، ج٢، ص٤٢). ولو أن رجلًا قطر قطرة خمر في جب فلا يشرب من ذلك الجب أحد إلا كفر، وإن لم يشعر أن الله يوفق المؤمنين (التنبيه، ص١٨٠؛ الفصل، ج٥، ص٣١). وإذا قضى الإمام قضية جور وهو بخراسان، ففي ذلك الحين يكفر هو ورعيته في شرق الأرض وغربها، حتى بالأندلس واليمن (الفصل، ج٥، ص٣١). وعند اليزيدية أصحاب يزيد بن أنيسة، أصحاب الكبائر كلهم معذَّبون في النار خالدون فيها (مقالات، ج١، ص١٤٠؛ المِلل، ج٢، ص٥٥-٥٦). وهو أيضًا موقف جمهور الإباضية الخوارج (المواقف، ص٤٢٥). فلقد توقَّفوا في النفاق، هل هو شرك أم لا، على ثلاث فِرق: (أ) النفاق براءة من الشرك. (ب) كل نفاق شرك لأنه يُضاد التوحيد. (ﺟ) لا يُزال اسم النفاق من موضعه، وهو دين القوم الذي عناهم الله في ذلك الزمان دون غيرهم (المواقف، ص٤٢٥؛ الفرق، ص١٠٦؛ مقالات، ج١، ص١٧٢؛ المِلل، ج٢، ص٥٣-٥٤). ومع ذلك هو مع فسقه كافرٌ مشرك (التنبيه، ص٣٧). وعند الحرورية الفضلية، كل صغيرة وكبيرة أو قطرة أو كذب شركٌ بالله وكفر بنعمه (التنبيه، ص١٧٩). والذي جمع فِرق الخوارج كلها هو قولهم إن مُخالفيهم مشركون، وكانت المُحكمة الأولى تعتبرهم كفرة فقط (الفرق، ص٨٣).
١٥  هذا هو موقف النجدات؛ فمرتكب الكبيرة كافر بنعمة، وليس كافر دين، وليس بمشرك (الأصول، ص٢٤٩-٢٥٠؛ الفرق، ص٧٣-٧٤). وتقول النجدات أيضًا: لا ندري لعل الله يعذب المؤمنين بذنوبهم، فإن فعل فإنه يعذبهم في غير النار ولا يخلدهم. من أصرَّ على صغيرة فهو مشرك، ومن ارتكب كبيرة غير مُصر فهو مسلم (مقالات، ج١، ص١٦٣؛ الفرق، ص٨٩). ولا تُكفر النجدات أصحاب الحدود من موافقيهم (الفرق، ص١١٧-١١٨؛ المِلل، ج٢، ص٣٦؛ الفصل، ج٥، ص٣١). وهو أيضًا موقف الزيدية؛ فمرتكب الكبيرة كافر لنعمه (المحصل، ص١٧٤-١٧٥). وهو أيضًا موقف الإباضية، فالمذنب كافر نعمة تحلُّ موارثته ومناكحته وأكل ذبيحته، وليس مؤمنًا ولا كافرًا على الإطلاق (الفصل، ج٤، ص٣-٤). فإذن كان اعتبار مرتكب الكبيرة كافرًا. والإباضية يجمعها القول بأن كفار الأمة من مُخالفيهم بَراء من الشرك والإيمان، وأنهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين، ولكنهم كفارٌ أجازوا شهادتهم وحرَّموا دماءهم في السر، وأحلُّوهم علانية، وصحَّحوا مناكحتهم والتوارث منهم، وزعموا أنهم في ذلك يُحاربون الله ورسوله ويدينون الحق. وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض، والذي استحلُّوه الخيل والسلاح؛ فأما الذهب والفضة فإنهم يردونها لأصحابها عند الغنيمة (الفرق، ص١٠٣). وعند الإباضية، جميع ما افترضه الله على خلقه إيمان، وأن كل كبيرة كفر نعمة، وأنهم مخلَّدون في النار (مقالات، ج١، ص١٧٥-١٧٦). إن مرتكب ما فيه من الوعيد معرفة بالله، وبما جاء من عنده كافرٌ كفران نعمة، وليس بكافرٍ كفران شرك (الفرق، ص١٢٨). كافر نعمة لا كافر ملة (المِلل، ج٢، ص٥٣؛ الإرشاد، ص٣٨٥؛ المواقف، ص٤٢٥). وعند بعض أصحاب حارث الإباضي، كان المنافقون في عهد رسول الله موحدين بالله أصحاب كبائر (الفصل، ج٥، ص٣٢). مرتكب الكبيرة مُوحدٌ غير مؤمن (المواقف، ص٤٢٥؛ الفرق، ص١٠٦). كذلك زاد الحفصة الإباضية بين الإيمان والشرك معرفة الله كخصلةٍ مُتوسطة؛ فمن عرف الله وكفر بما سواه (من جنة ونار) بارتكاب كبيرة فكافر لا مشرك (المواقف، ص٤٢٥).
١٦  عند الأزارقة، مرتكب الكبيرة مشرك (المحصل، ص١٧٤-١٧٥). وعند طائفة من الكرامية، المنافقون مؤمنون مشركون من أهل النار. من آمن بالله وكفر بالنبي فهو مؤمنٌ كافر معًا، ليس مؤمنًا على الإطلاق ولا كافرًا على الإطلاق (الفصل، ج٥، ص٤٧).
١٧  عند طائفة من الخوارج، ما كان من المعاصي فيه حد كالزنا والسرقة والقذف، فليس فاعله كافرًا ولا مؤمنًا ولا منافقًا، وأما ما كان من المعاصي لا حد فيه فهو كافر وفاعله كافر (الفصل، ج٥، ص٣٢). التكفير إنما يكون بالذنوب التي ليس فيها وعيدٌ مخصوص، فأما الذي فيه حد ووعيد في القرآن فلا يُزاد على صاحبه على الاسم الذي ورد فيه، مثل تسميته زانيًا وسارقًا (الفرق، ص٧٣).
١٨  تذكر الخوارج عديدًا من الحجج النصية، منها: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، للكافر وللفاسق، أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ، وهو الكافر والفاسق، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ …، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، والكافر وجهه أسود، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وهو يقتضي حصر المبتدأ والخبر، والكفار هم أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، والمؤمنون أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ، وهم الكفار، فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا …، يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ …، وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا …، وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ … وَمَنْ كَفَرَ …، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، وقد كفَّروا صاحب الكبيرة، واستدلوا عليه بقصة إبليس؛ إذ كان عارفًا بالله مطيعًا له غير أنه ارتكب كبيرة، وهي الامتناع عن السجود لآدم، فاستوجب اللعن والتكفير والتخليد في النار (المواقف، ص٤٧١). وعند الحمرية من الخوارج، كفر إبليس بامتناعه عن السجود لآدم، وإلا فهو عارف بوحدانية الله (المِلل، ج٢، ص٣٤).
١٩  لأهل السنة موقفان؛ الأول: معارضة الخوارج كما فعل ابن حزم مثلًا (الفصل، ج٤، ص٤، ص١٥-١٦). يُقال لهم: لا يحل دم مؤمن يهرق إلا بثلاث خلال؛ زانٍ بعد إحصان، ارتداد بعد إيمان، قتل نفس عمدًا (التنبيه، ص٤٨). لمَ أكفرتم من أقرَّ بالله ورسوله؟ (التنبيه، ص٤٨-٤٩). لمَ صيَّرتم الكبائر والصغائر شيئًا واحدًا، وقد كانت هناك خلافات بين الصحابة دون أن يُكفر بعضهم بعضًا؟ وأما القضاء بانتفاء إيمان من اخترم عاصيًا قبل التوبة والقول بتكفيره، فالانفصال عنه يستدعي تحقيق معنى الإيمان والكفر، والكشف عن معنى التوبة وتحقيق الأوبة (الغاية، ص٣٠٩). الكبيرة غير الكفر لبقاء التصديق الذي هو حقيقة الإيمان (شرح التفتازاني، ص١١٨). وقد رفض أهل السنة موقف الخوارج لوجوهٍ عدة: (أ) الإيمان هو التصديق بالقلب. (ب) إطلاق المؤمن على العاصي. (ﺟ) الصلاة على من مات من غير توبة واستغفار (شرح التفتازاني، ص١١٨). كما رفض القاضي عبد الجبار موقف الخوارج مع أن المعتزلة من فِرق المعارضة مثلهم؛ فليس حكم مرتكب الكبيرة حكم الكافر، ألا يُناكَح ولا يُورَث ولا يُدفَن في مقابر المسلمين. الكفر اسمٌ شرعي لهذه الأحكام، ولا يجوز إطلاقها. حقيقة الكفر في اللغة ستر وتغطية؛ الليل كافر، والزارع كافر لستره البذرة في الأرض. وفي الشرع من يستحق العقاب، وهو غير صاحب الكبيرة (الشرح، ص١٤٠-١٤١، ص٧١٣–٧٢٧). والموقف الثاني لأهل السنة تكفير مرتكب الكبيرة؛ وبالتالي لا يفترقون عن الخوارج في شيء؛ فعند أهل السنة استحلال المعصية كفر، والاستهانة بها كفر، والاستهزاء بالشريعة كفر (النسفية، ص١٤٨). صغيرة أو كبيرة إذا ثبت أنها معصية بدليلٍ قطعي؛ لأن ذلك من أمارات التكذيب (التفتازاني، ص١٤٨-١٤٩؛ الخيالي، ص١٤٨-١٤٩؛ الإسفراييني، ص١٤٩). وقد قيل شعرًا:
ومن لمعلومٍ ضرورةً جحد
من ديننا يُقتَل كفرًا ليس حد
ومثل هذا من نفى لمُجمَع
أو استباح كالزنا فلتسمع
الجوهرة، ج٢، ص٩٩-١٠٠؛ التحفة، ص٩٩-١٠٠؛ الإتحاف، ص١٥٢-١٥٣
٢٠  الأول موقف الخوارج، والثاني موقف المعتزلة.
٢١  عند المعتزلة مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر (المواقف، ص٣٨٩). يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، منزلة بين المنزلتين (المعالم، ص١٤٧؛ المحصل، ص١٧٤-١٧٥). ليس بمؤمن ولا كافر، منزلة بين المنزلتين؛ بناءً على أن الأعمال جزء من حقيقة الإيمان (شرح التفتازاني، ص١١٨). في حال الفسق ما استحق اسم الإيمان؛ لأن الإيمان خصالٌ محمودة يستوجب المؤمن بها المدح والثناء، والفاسق لا يستوجب المدح، وقد أخلى أركانَ إيمانه خروجُه عن الطاعة (النهاية، ص٤٧٠-٤٧١). الله سمَّى إيمانًا ما لم يكن في اللغة إيمانًا (مقالات، ج١، ص٣٠٥). المُذنب إن كان من الكبائر فهو فاسق ليس مؤمنًا ولا كافرًا ولا منافقًا، وأجازوا مناكحته وموارثته وأكل ذبيحته، وإن كان من الصغائر فهو مؤمن لا شيء عليه (الفصل، ج٤، ص٣-٤). عند القادرية، صاحب الكبيرة فاسق، لا مؤمن ولا كافر، بل في منزلة بين المنزلتين (الأصول، ص٢٤٩-٢٥٠). كما قال عمرو بن عبيد بالمنزلة بين المنزلتين (الفرق، ص١٢١). وعند أبي بكر الأصم، الإيمان جميع الطاعات، ومن عمل كبيرًا ليس بكفر من أهل الملة فهو فاسق بفعله الكبير، لا كافر ولا منافق، مؤمن بتوحيده وما فعل من طاعة (مقالات، ج١، ص٣٠٥). وعند الجبائي، مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر (المواقف، ص٤١٨). وعند الجبائي وابنه، اسم مدح، خصال الخير استُجمعت، من ارتكب كبيرة في الحال يُسمى فاسقًا لا مؤمنًا ولا كافرًا، وإن لم يثب ومات عليها فهو مخلَّد في النار (المِلل، ج١، ص١١٧-١١٨). وعند واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، الإيمان خصال خير إذا اجتمعت سُمِّي المرء مؤمنًا، وهو اسم مدح. والفاسق لم يستجمع خصال الخير، ولا اسم المدح، فلا يُسمى مؤمنًا. وليس هو بكافر مطلقًا لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالدًا فيها؛ فليس في الآخرة إلا فريقان، ولكن يخفَّف عنه العذاب، وتكون درجته فوق الكفار (المِلل، ج١، ص٧٢-٧٣). وتقول المعتزلة (القدرية) صاحب الكبيرة لا نُسميه برًّا على الإطلاق، وإنما يُقال له برٌّ في كذا على الإضافة. يُعاضده قول المرجئة إنه لا يُطلَق فاجر ولا فاسق على الإطلاق، وإنما يُقال له فسق في كذا على الإضافة (الأصول، ص٢٤٣-٢٤٤). لذلك اختلفت المعتزلة هل يُقال للفاسق مؤمن أم لا على ثلاث مقالات: (أ) عند عباد، يُقال له آمن، ولا يُقال له مؤمن؛ أي اسم وليس صفة. (ب) عند الجبائي، آمن من أوصاف الله، ومؤمن من أسماء اللغة. (ﺟ) لا هذا ولا ذاك (مقالات، ج١، ص٣٠٨). وعند القاضي عبد الجبار، صاحب الكبيرة لا يُسمَّى مؤمنًا ولا كافرًا، وإنما يُسمَّى فاسقًا. لا يُسمَّى مؤمنًا خلاف ما تقوله المرجئة، ولا كافرًا على ما تقوله الخوارج (الشرح، ص٧٠١). ولا يختلف أهل السنة عن ذلك كثيرًا؛ لأن اسم المؤمن يزول من مرتكب الذنب (الفرق، ص٣٥١-٣٥٢). وعند ابن حزم، كل من كفر فهو فاسق، وليس كل فاسق ظالمًا عاصيًا كافرًا، بل قد يكون مؤمنًا (الفصل، ج٣، ص٤–١٣). واختلفت المعتزلة في آخذ الدراهم وسارقها من حرز، هل يفسق أم لا، على قولين؛ عند أبي الهذيل وجعفر بن المبشر هو فاسق، وعند باقي المعتزلة غير فاسق (المِلل، ج١، ص٩٠؛ مقالات، ج١، ص٣٠٧). وكانت المعتزلة قبل الأصم تُنكر أن يكون الفاسق مؤمنًا.
٢٢  اختلفت المعتزلة في الإيمان على ستة أقاويل؛ منها أن الإيمان جميع الطاعات، فرضها ونفلها. والمعاصي على ضربين؛ صغائر وكبائر. والكبائر ضربان؛ كفر وليس بكفر. والكفر من ثلاثة أوجه؛ التشبيه والتجوير (التكذيب) ورد الإجماع (مقالات، ج١، ص٣٠٣-٣٠٤). وعند هشام الفوطي وعباد بن سليمان، الإيمان ضربان؛ إيمان بالله، وإيمان لله. الأول تركه ليس كفرًا، والثاني تركه كفر أو ليس بكفر، مثل ترك الصلاة والزكاة. ولكن من تركه استحلالًا كفر، ومن تركه فسقًا لم يكن، وقد يكون صغيرًا وليس بكفر (مقالات، ج١، ص٣٠٤). عند النظام، الإيمان اجتناب الكبيرة فحسب؛ فالأقوال والأفعال ليست من الإيمان، والصلاة أفعال الفعل والترك، وكلاهما طاعة (الفرق، ص١٤٤-١٤٥). وعند ثمامة بن الأشرس يحرم السَّبي لأن المسبيَّ لم يعصِ الله إذا لم يعرف، وإنما العاصي من عرف ربه بالضرورة ثم جحده أو عصاه (الفرق، ص١٧٣). إلا محمد بن شبيب وموسى بن عمران، وهما من أصحاب النظام؛ فقد خالفوه في الوعيد وفي المنزلة بين المنزلتين؛ فصاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بمجرد ارتكاب الكبيرة (المِلل، ج١، ص٩٠). وعند الحفصية أتباع أبي جعفر أبي المقدام، بين الإيمان والشرك خصلةٌ أخرى هي معرفة الله (اعتقادات، ص٥١). وعند المعتزلة، المعاصي ثلاثة: (أ) ما يدل على الجهل بالله ووحدته، وما يجوز عليه وما لا يجوز برسالة رسوله. (ب) ما لا يدل على ذلك، وهو قسمان: (١) منزلة بين المنزلتين لا يُحكَم على صاحبها بالكفر ولا بالإيمان في الكبائر. (٢) ما لا يُخرج ككشف العورة والسفه، وهي الصغائر (المواقف، ص٣٨٨-٣٨٩). صاحب الكبيرة فاسق لا كافر ولا مؤمن مسلم، وإن أقرَّ لله وأسلم له، منزلة بين الكفر والإيمان (التنبيه، ص٣٦-٣٧؛ الفرق، ص١١٥؛ الفصل، ج٢، ص١٠٧؛ شرح الدواني، ج٢، ص٢٦٩؛ حاشية الكلنبوي، ج٢، ص٢٦٩؛ حاشية الخلخالي، ج٢، ص٢٦٩-٢٧٠؛ التحفة، ص٤١-٤٢؛ الإتحاف، ص٤٨-٤٩).
٢٣  احتجَّت المعتزلة بوجهين: (أ) ليس الفاسق مؤمنًا ولا كافرًا بالإجماع، يُقام عليه الحد ولا يُقتَل، ولا يُحكَم بردَّته، ويُدفَن في مقابر المسلمين. (ب) فِسقه معلوم، وإيمانه مختلف فيه. والأولى ترك المختلف وأخذ المتفق (المواقف، ص٣٩١-٣٩٢؛ شرح التفتازاني، ص١١٨-١١٩).
٢٤  عند جعفر بن مبشر، فساق الأمة شرٌّ من الزنادقة والمجوس (المواقف، ص٤١٦).
٢٥  عند الحسن البصري، مرتكب الكبيرة منافق (المواقف، ص٣٨٩؛ المحصل، ص١٧٤-١٧٥). وعند البكرية أصحاب بكر بن أخت عبد الواحد بن يزيد، الكبائر نفاقٌ كلها، وأن مرتكب الكبيرة عابد للشيطان، مُكذب لله، جاحد له، مُنافق في الدرك الأسفل من النار، مخلَّد فيها أبدًا إن مات مُصرًّا، وأنه ليس في قلبه لله إجلال ولا تعظيم، وهو مع ذلك مؤمنٌ مسلم. وفي الذنوب ما هو صغير، والإصرار على الكبائر كبائر (مقالات، ج١، ص٣١٧). وعند عمرو بن عبيد، كل نفاق كفر، وكل فسق نفاق؛ إذن كل فسق كفر. كما احتجَّ الحسن بأن الفاسق يستحق الذم واللعن كالمنافق، وبأن ارتكاب الفاسق الكبيرة يُثبت أن في اعتقاده خللًا، ولوجود عديد من الآيات تُثبت ذلك المعنى (الشرح، ص٧١٤–٧١٧). وقد احتجَّ من قال إنه منافق بوجهين: (أ) أية المنافق ثلاث … (ب) من اعتقد أن في هذا الحُجر حيةً لم يُدخل يده فيه؛ فإذا زعم ذلك وأدخل يده فقد قال لا عن اعتقاد (المواقف، ص٣٩١).
٢٦  لا يُمانع بعض أهل السنة في ذلك؛ فعند ابن حزم، المُذنب مُنافق (الفصل، ج٤، ص٣-٤). النفاق كفرٌ مضمَر (حاشية الخيالي، ص١١٨). صاحب الكبيرة منافق، وهو شر من الكافر المظهِر لكفره (الفرق، ص١١١).
٢٧  يرفض القاضي عبد الجبار اعتبار مرتكب الكبيرة منافقًا؛ لأن النفاق قاسم لمن يُبطِن الكفر ويُظهر الإسلام، وليس هذا حال صاحب الكبيرة (الشرح، ص١٤٠-١٤١). وأثبت القاضي عبد الجبار فساد المناظرة بين عمرو بن عبيد والحسن (الشرح، ص٧١٤–٧١٧).
٢٨  كلا المذهبين السابقين مردود؛ الأول يرفع معظم التكاليف من الأوامر والنواهي، ويفتح باب الإباحة، ويُفضي إلى الهرج؛ والثاني يرفع معظم الآيات من الكتاب والأخبار، ويُغلق باب الرحمة؛ مما يؤدي إلى اليأس والقنوط. الأول يُرجئ الإيمان عن العمل، والثاني يُرجئ العمل عن الإيمان، مع أن العمل داخل الإيمان (النهاية، ص٤٧٤–٤٧٦؛ الدر، ص١٦٠-١٦١؛ القول، ص٩٣). هذه مسألةٌ شرعية لا مجال للعقل فيها؛ لأنها كلام في مقادير الثواب والعقاب، وهذا لا يُعلَم عقلًا، وإنما المعلوم عقلًا أنه إذا كان الثواب أكثر من العقاب يكفر جنبه، وإن كان أقل فإنه يكون محبطًا في جنبه، والحال كذلك في الشاهد. فحصل من هذه الجملة أن صاحب الكبيرة لا يُسمَّى مؤمنًا ولا كافرًا ولا منافقًا، بل يُسمَّى فاسقًا. وكما لا يُسمَّى باسم هؤلاء فإنه لا يجري عليه أحكام هؤلاء، بل له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين (الشرح، ص١٣٨–١٤٠، ص٦٩٧-٦٩٨، ص٧١٧-٧١٨).
٢٩  عند الغزالي، منشأ الخلاف لفظي؛ لأن الإيمان اسمٌ مشترك لا بد من تفصيله (الاقتصاد، ص١١٤؛ المواقف، ص٣٨٨). كل من قال الطاعات كلها من الإيمان أثبت فيه الزيادة والنقصان، ومن زعم أن الإيمان هو الإقرار منع الزيادة والنقصان، ومن قال التصديق بالقلب منع النقصان. واختلفوا في الزيادة (الأصول، ص٢٥٢-٢٥٣).
٣٠  عند المرجئة، التصديق لا يقع فيه زيادة ونقص، والتصديق لا يتبعض (الفصل، ج٣، ص١٤٤؛ التحفة، ص٤٦-٤٧؛ الإتحاف، ص٥٢–٥٤). وعندهم أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل والملائكة والمقرَّبين والأنبياء وأهل الجنة (التنبيه، ص١٥٣-١٥٤). ولا يزيد الإيمان بالأعمال (مقالات، ج١، ص١٩٨؛ المِلل، ج٢، ص١٠٧؛ التنبيه، ص٤٣). وهو أيضًا موقف التومنية أنصار أبي معاذ التومني (المواقف، ص٤٢٨؛ المِلل، ج٢، ص٦٤-٦٥؛ التنبيه، ص٣٧؛ الفرق، ص٢٠٣-٢٠٤). من قال إن أعمال الجسد إيمان، وإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإنه مؤمنٌ من يكفر بشيء من أعمال الذنوب، وإنه مؤمن بقلبه وبلسانه، يخلَّد في النار؛ فليس مرجئيًّا (المِلل، ج٢، ص١٠٧). وهو أيضًا موقف غسان (مقالات، ج١، ص٢٠٤؛ الفرق، ص٢٠٣؛ المحصل، ص١٧٥؛ المِلل، ج٢، ص٦١؛ اعتقادات، ص١٧٠؛ المواقف، ص٤٢٧). وهو أيضًا موقف غيلان (مقالات، ج١، ص٢٠٠؛ الفرق، ص٢٠٦-٢٠٧). وهو موقف أبي حنيفة وإمام الحرمين؛ لأن الإيمان اسم للتصديق البالغ، وهو أيضًا موقف اليونسية أتباع يونس بن عون (اعتقادات، ص٧٠). عند أبي حنيفة، إيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به، ويزيد وينقص من جهة اليقين والتصديق (الفقه، ص١٨٦؛ شرح الفقه، ص٧٧-٧٨). وهو أيضًا موقف أهل السنة؛ فالأعمال تتزايد في نفسها، أما الإيمان فلا يزيد ولا ينقص (النسفية، ص١٢٨). الأعمال غير داخلة في الإيمان (شرح التفتازاني، ص١٢٨).
٣١  عند الإباضية، جميع ما افترضه الله على خلقه إيمان (مقالات، ج١، ص١٧٢–١٧٦). وعند النجارية ليست كلها خصلة إيمانًا. وإذا وقعت مجموع الخصال فكل خصلة طاعة، وإذا وقعت واحدة لم تكن طاعة. الإيمان واحد، وترك كل خصلة معصية، ولا يكفر الإنسان بترك واحدة. وعند الصالحي، الإيمان خصلةٌ واحدة لا تزيد ولا تنقص، وكذلك الكفر (الفرق، ص٢٠٧؛ مقالات، ج١، ص٩٨). وعند أبي يونس الشمري، الإنسان لا يكون مؤمنًا إلا بجميع الخِلال، وقد يكون كافرًا بترك واحدة. وعند أبي شمر، الإيمان ليس خصلة، بل اجتماع الخصال كلها أو تركها، الإيمان لا يتبعض (مقالات، ج١، ص١٠٠–٢٠١). وعند أبي حنيفة، الإيمان لا يتبعض (شرح الفقه، ص٦٤). وكذلك عند الغيلانية (مقالات، ج١، ص٢٠٠؛ الفرق، ص٢٠٦-٢٠٧؛ التنبيه، ص٤٦). وعند الجهمية لا يتبعض ولا يتفاضل، والكفر خصلةٌ واحدة أو الخصال كلها (مقالات، ج١، ص١٩٨). لا يتبعض أي لا ينقسم إلى عقد وقول وعمل، ولا يتفاضل (المِلل، ج١، ص١٣٠). وعند أبي حنيفة، لا يتفاضل الناس في الإيمان (الفرق، ص٢٠٣؛ شرح الفقه، ص٦٤). المؤمنون مُستوُون في الإيمان والتوحيد، مُتفاضلون في الأعمال (الفقه، ص١٨٦؛ شرح الفقه، ص٧٨-٧٩، ص٨٢). إن كان التصديق فلا تفاضل فيه، أما في الطاعة ففيها زيادة ونقصان (القلانسي) (الإرشاد، ص٣٩٩-٤٠٠؛ شرح التفتازاني، ص١٢٨-١٢٩).
٣٢  أحد أقوال غسان: الإيمان لا يزيد ولا ينقص (الفرق، ص٢٠٣). عند صنف من المرجئة، الإيمان يزيد بالأعمال لا إلى منتهًى أو غاية، ولا ينقص بعمل. وبالتالي يُوحدون بين الإسلام والإيمان، ويُنكرون النفاق لأنه خارج عن الإيمان (التنبيه، ص١٥٥-١٥٦). وإيمان الأنبياء يزيد ولا ينقص. وعند البعض الآخر ينقص الإيمان ولا يزيد، وهو إيمان الفساق (الإتحاف، ص٥١-٥٢). وهو أيضًا موقف النجارية (الفرق، ص٢٠٨).
٣٣  عند جمهور أهل السنة، الإيمان يزيد وينقص كما جاء في الكتاب والسنة، إما في القول والعمل دون التصديق، وإما على الإطلاق (الإنصاف، ص٥٧-٥٨). وهو إيمان الأمة (الإتحاف، ص٥١-٥٢). كلما ازداد الإنسان جزاءً ازداد إيمانًا، والعكس بالعكس (الفصل، ج٣، ص١٢٨؛ التنبيه، ص١٥، ص١٧؛ المواقف، ص٤٨٨). يضعف الإيمان ويقوى (الكتاب، ص١٠٦). الراجح أن الإيمان يزيد وينقص بزيادة الأعمال (شرح الخريدة، ص٦٥-٦٦). وقد قيل شعرًا:
ورُجحت زيادة الإيمان
بما تزيد طاعة الإنسان
ونقص بنقصه وقيل لا
وقيل لا خلف كذا قد نُقلا
الجوهرة، ص٤٥-٤٦
وهو أيضًا موقف القاضي عبد الجبار (الشرح، ص٨٠٢-٨٠٣). كما يتبعض الإيمان؛ فكل خصلة من الإيمان بعض الإيمان، وهو موقف اليونسية (الفرق، ص٢٠٣). هناك بعض إيمان (الفرق، ص٢٠٧). وعند محمد بن شبيب من المرجئة، الخصلة من الإيمان تكون طاعة وبعض إيمان، ويكون صاحبها كافرًا بترك بعض الإيمان، ولا يكون مؤمنًا إلا بإصابة الكل. الإيمان يتبعض فيه الناس، قد يكون الخصلة الواحدة. الإيمان يتبعض ويتفاضل (مقالات، ج١، ص٢٠١). وقد قيل شعرًا:
ويعتريه النقص والكمال
ما نقصت أو زادت الأعمال
الوسيلة، ص١٥؛ القول، ص١٥-١٦
وعند النجارية يتفاضل الناس في الإيمان، ويكون البعض أعلم بالله وأكثر تصديقًا. كل خصلة طاعة وليست بإيمان، ومجموعها إيمان (الفرق، ص٢٠٨). وهو موقف جمهور الأشاعرة (الدر، ص١٦٥-١٦٦؛ التنبيه، ص٤٤؛ الإبانة، ص١٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤