الفصل الثاني

المعاملات

من العلماء المشتغلين بالمقارنة بين الأديان من يسلم لعقائد الدين سموِّها ونزاهتِها، ولكنه مع هذا يعيب الدين نفسه بشرائعه وأحكام معاملاته؛ إما لأنه يرى أن الأديان ينبغي أن تكون مقصورة على العقائد والوصايا، ولا تتعرض للتشريع وأحكام المعاملة التي تصطدم بالحوادث العملية وتجري مع تقلبات الأحوال في البيئات المختلفة والأزمنة المتعاقبة على سننٍ شتى، ولا تخضع للنص الواحد في جميع أطوارها وملابساتها.

هذا، أو لأنه يعيب المعاملات لذاتها ويرى فيها نقصًا يتجافى بها عن مبادئ العدل وأصول الآداب المَرعيَّة بين أمم الحضارة.

وقد تعمدنا — من أجل هذا — أن نتبع الكلام على العقائد الإسلامية بالكلام على المعاملات الإسلامية، وتحرَّيْنا في الكلام على هذه المعاملات أن نقصرها على أبواب المعاملة التي وردت فيها أشد الشبهات على الشريعة الإسلامية في العصر الحاضر، من جانب علماء المقارنة بين الأديان، أو من جانب المبشرين العاملين على تحويل المسلمين في بلادهم من عقائدهم وأحكام دينهم، ونقدم بالقول — على التخصيص — تلك المعاملات التي قيل: إنها علة تأخُّر المسلمين وعجزهم عن الأخذ بأسباب الحضارة ومجاراة الأمم في ميادين الأعمال الاقتصادية والشرائع العملية. ونعني بها معاملات الشركات والمصارف ومعاملات الجزاء والعقاب في القوانين؛ فليس من غرضنا في هذا الكتاب أن نبسط القول في المعاملات بمعناها المعروف بين الفقهاء من معاملات البيوع أو معاملات الأحوال الشخصية، وما إليها من أبواب الأحكام التي لا ترد الشبهة عليها من خصوم الإسلام وممن يفترون الأباطيل عليه، وربما تناولنا بعض هذه الأبواب في موضعه من الكلام على الحقوق الاجتماعية، ولكننا لا نحسبها من مواطن الشبهة التي يقال من أجلها إنها قد حالت بين المسلمين فعلًا وبين النهوض بأعباء الأعمال الاقتصادية وأعمال التشريع في العصر الحديث.

والذي نراه من مراجعة النقد الديني أن المنكرين لتعريض الأديان لشئون المعاملات مخطئون، لا يجشمون عقولهم مَئُونة الرجوع إلى نشأة الشرائع الدينية في أوقاتها ومناسباتها، وإلا لعرفوا أن هذه الشرائع لازمة للعاملين بها لزوم العقائد والوصايا الأخلاقية، وأن العقائد تصطدم بالواقع كما تصطدم به أحكام الشرائع؛ فلا معنى لاختصاص أحكام الشرائع وحدها بالنقد إذا كانت العقائد معها عرضة للامتحان مع تقلبات الأحوال وتجدُّد الطوارئ والضرورات.

والواجب في رأينا أن يكون النقد كله موجهًا إلى المعاملات لذاتها إذا كان فيها ما يجافي مبادئ العدل وأصول الأخلاق، ويَحُول دون مجاراة الآخذين بها لسنن التطور والتقدم وضرورات الحياة العلمية جيلًا بعد جيل.

ولو أن النقاد الدينيين كلفوا أنفسهم أن يتتبعوا أسباب التشريع في الأديان الكتابية الكبرى لعلموا أنها قامت بقيام تلك الأديان في ظروف تُحتِّم النظر في التشريع، كما تُحتِّم النظر في الاعتقاد، ولعلموا أن أديان الحضارات الأولى التي استغنت عن وضع نصوص القوانين لم تكن لتستغنيَ عنها لولا أنها نشأت في دول عريقة الحكومات والأحكام، ومن أعرق تلك الحضارات الأولى حضارة مصر وحضارة بابل وحضارة الهند وحضارة الصين؛ فهذه جميعًا قد ظهرت فيها الكهانة مجاورةً للدولة صاحبة القوانين والأحكام، ولم تخلص العقائد فيها مع ذلك من الامتزاج بالقوانين في مصادرها وأسانيدها يوم كان كل أمر مقدَّس واجب الطاعة مستمدًّا من الأوامر الإلهية، ولكن رسالة الدين هنا لم تكن منعزلة عن رسالة الدولة في عقائدها ولا في شرائعها، فلما قامت رسالة الأنبياء من دعاة الأديان الكتابية قامت بمعزل عن الدولة، بل قامت ثائرة على الدول من حولها، فوجب لها مع العقائد تشريع يتناول أحوال المعاش وأحكام المعاملات.

ويصدق هذا القول على الأديان الكتابية الثلاثة بغير استثناء للمسيحية التي يخطر لبعضهم أنها تعمَّدت أن تقصر الدين على العقائد والوصايا دون القوانين والمعاملات.

فالواقع أن السيد المسيح قد جاء مؤيِّدًا لشرائع العهد القديم، ولم يجئ مبطلًا لها أو معطِّلًا لأحكامها؛ جاء متمِّمًا للناموس ولم يجئ هادمًا للناموس، وكان العالم من حوله مكتظًّا بالشرائع الدينية والشرائع الدنيوية: للهيكل شرائعه، من أراد أن يتبعها ويعمل بها فذلك إليه، وللدولة شرائعها، من أراد أن يتبعها ويعمل بها فذلك إليه، ومن هنا استطاع المسيح أن يقول للذين تعمَّدوا أن يُحرجوه في مسألة الضرائب: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.» فلم يجد من لوازم رسالته أن يثور على شرائع الدولة ولا على شرائع الدين. ولما جاءه المكابرون من اليهود بالمرأة الزانية ليأمر برجمها ويصطدم من ثَمَ بسلطان الهيكل، رد عليهم كيدهم بإحراجهم كما أحرجوه، فقال لهم: «من لم يخطئ منكم فليَرْمِها أولًا بحجر.» فلم يقل إن حكم الرجم باطل، ولم يأمر به فيقيم الحجة عليه لأصحاب السلطان في هيكل العبادة والشريعة، وكانت ثورته في لبابها ثورة على الرياء في دعوى الأمناء على الشريعة الدينية، ولم تكن ثورة على الأحكام والنصوص كما وردت في كتب العهد القديم.

•••

أما الديانة الكتابية الأولى، فمهما يكن الرأي في نصوص شرائعها اليوم، فقد كان التشريع فيها يوم الدعوة إليها لازمًا كلزوم الدعوة إلى العقيدة أو الوصايا الأخلاقية: كان موسى عليه السلام يقود شعبًا بغير دولة إلى أرضٍ يقيمون فيها حُكمًا غير الحُكم الذي خضعوا له في موطنهم الذي تركوه من أرض الدولة المصرية، فلم تكن رسالته رسالة عقيدة وحسب، ولم يكن قيام العقيدة ميسورًا بغير قيام القانون.

وكل نقد يوجَّه إلى أحكام المعاملات يمكن أن يوجَّه مثله إلى العقائد والوصايا؛ لأن التحجُّر وسوء الفهم غير مقصورين على الأعمال والتطبيقات، أو سبيلهما إلى العقائد النظرية أيسر من سبيلهما إلى الوقائع العملية؛ إذ كانت الوقائع العملية مما يَضطر المخطئَ إلى الشعور بخطئه، وليس في العقائد النظرية ما يَضطر المعتقدَ إلى الشعور بالخطأ من أول وهلة، إلا إذا تغيَّر شعوره وتغيَّر وجدانه فارتفع بنفسه وبأحوال معيشته من الخطأ إلى الصواب.

ولمن شاء أن يشير إلى المعاملات في كتب الشرائع السماوية كما يشاء، ولكنه يحيد عن جادَّة الإنصاف إذا اختص الشريعة الإسلامية بنقده كأنها الشريعة الكتابية الوحيدة التي تعرَّضت للمعاملات؛ فإن الشريعة المنسوبة إلى موسى — عليه السلام — قد تناولت من أمور المعيشة ما هو اليوم من شئون الأطباء، وتناولت من تشريع الجزاء والعقاب أحكامًا لا يقرها اليوم أحد من المؤمنين بها، وإن كان من المؤمنين بإيحاء الشريعة من الله إلى كليم الله.

فمن الشئون التي كان يتولاها الكاهن تمحيص أعراض العلل والأدواء وعزل المصابين بها وإعلان نجاستهم على الملأ؛ لاعتقادهم أن المرض الخبيث المعدي نجاسة منافية للطهارة الدينية أو ضربة من الضربات الإلهية، ويشرح كتاب اللاويين في الإصحاح الثالث عشر منه مثلًا من ذلك فيقول في بيان المعاملة الواجبة للمصابين بالبَرَص:

إذا كان إنسان قد ذهب شعر رأسه فهو أقرع. إنه طاهر. وإن ذهب شعر رأسه من جبهة وجهه فهو أصلع. إنه طاهر. لكن إذا كان في القرعة أو الصلعة ضربة بيضاء ضاربة إلى الحُمرة فهو برص مفْرِخ في قرعته أو في صلعته كمنظر البرص في جلد الجسد، فهو إنسان أبرص. إنه نجس. فيحكم الكاهن بنجاسته. إن ضربته في رأسه. والأبرص الذي فيه الضربة تكون ثيابه مشقوقة ورأسه يكون مشقوقًا، ويُغطِّي شاربيه ويُنادي: نجس، نجس! كل الأيام التي تكون الضربة فيها يكون نجسًا. إنه نجس يكون وحده خارج المحلة …

وكان الكاهن يتولى من شئون الطعام والشراب ما هو ألصق بالمعيشة اليومية من شئون الطب ومعاملة المصابين بالعلل والسقام؛ فالكاهن هو الذي يزكي الطعام المباح ويستولي على نصيب المعبد منه، وإليه المرجع في التمييز بين الأطعمة المطهرة والأطعمة النجسة من لحوم الحيوان.

وتناولت الشريعة معاملات الجزاء والعقاب في الجرائم التي تقع من الناس، وفي الإصابات التي تقع من الحيوان ويُجزى بها الحيوان كما يُجزى بها صاحبه في بعض الأحيان. ومن أمثلة ذلك عقاب الثور الذي ينطح إنسانًا كما جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج:

إنه إذا نطح ثور رجلًا فمات يُرجم الثور ولا يُؤكل لحمه، وأما صاحب الثور فيكون بريئًا، ولكن إذا كان ثورًا نطَّاحًا وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلًا أو امرأة، فالثور يُرجم وصاحبه أيضًا يُقتل …

وتقرر الشريعة كيف تكتب على الألواح وكيف تكون الألواح التي تكتب عليها كما جاء في سفر الخروج، بل تقرر ملابس الهيكل وأنواع الأنسجة التي تُخاط منها ثياب الكهان والخدم بأمرٍ من الله لموسى تكرَّر ذكره في الكتب الخمسة المنسوبة إليه.

هذه الأوامر المفصلة في معاملات المعيشة ومعاملات الجزاء والعقاب مستغرَبة على السواء في رأي الناظرين إليها من وجهة نظرٍ غير وجهة المتدينين المتشبثين بها إلى اليوم، ولكننا — بعد الإلمام بها — نعود فنكرر أنها لا تسوغ القول بقصر الدين على العقائد والوصايا دون الشرائع والمعاملات؛ فإن الخطأ يعتري العقيدة كما يعتري الشريعة، ومرجع الأمر إذنْ إلى الصلاح والفساد لا إلى العمل أو الاعتقاد، وما كانت عقائد بني إسرائيل بأثبت على الزمن من معاملاتهم وشرائعهم التي تداولوها بعد عصر موسى الكليم، ولعل حاجتهم إلى معاملات تشبه تلك المعاملات في الجملة كانت أشد من حاجتهم إلى عقائدهم كما تداولوها بعد عهودهم المهجورة.

وكل ما يجوز لنا أن نستخلصه من دراسة الشريعة المنسوبة إلى موسى أن بني إسرائيل لم تكن لهم رسالة عالمية إنسانية، وأنهم وقد وافقتهم عقائدهم ومعاملاتهم في عزلتهم بين أبناء الحضارات الأولى، فلما انتهت رسالتهم المحدودة بما يوافقهم تفرقوا بين الأمم من غير دولة ولا سيادة على أحد، فلم يقم لهم سلطان يتولى فرض عقائدهم ومعاملاتهم على الأمم ولا على أنفسهم، وانقضى دورهم التاريخي في أمر العقائد وأمر المعاملات.

وكذلك تتفق النظرتان إلى هذا التاريخ المشحون بدلالاته ومغازيه: نظرة المؤمن بحكمة الغيب العجيبة في تسيير مقادير الشعوب، ونظرة المؤمن بعبرة التاريخ دون سواه.

وعلى هذه السُّنة من المساواة بين حق الدين في نشر العقائد وحقه في فرض الشرائع والمعاملات، ننظر إلى معاملات الدين الإسلامي كما ننظر إلى عقائده، فلا نرى فيها ما يعوقه عن أداء رسالته العالمية الإنسانية التي توافرت له بدعوته إلى إله واحد هو رب العالمين أجمعين، وخالق الأمم بلا تمييز بينها في الحظوة عنده غير ميزة التقوى والصلاح: رب المشرقين والمغربين يصلي له المرء حيث شاء، وأينما تكونوا فثَمَّ وجه الله.

فما منع الإسلام قط معاملة بين الناس تنفعهم وتخلو من الضرر بهم والغبن على فريق منهم، وأساس التحريم كله في الإسلام أن يكون في العمل المحرَّم ضرر، أو إجحاف، أو حطة في العقل والخلق، ما فرض الإسلام من جزاء قط إلا وهو «حدود» بشروطها وقيودها، صالحة على موجب تلك الشروط والقيود للزمان الذي شُرعت فيه، ولكل زمان يأتي من بعده؛ لأنها لا تجمد ولا تتحجر ولا تتحرى شيئًا غير مصلحة الفرد والجماعة، وكفى باسم «الحدود» تنبيهًا إلى حقائق الجزاء والعقاب في الإسلام؛ فإنها «حدود» بيِّنة واضحة تقوم حيث قامت أركانها ومقاصدها وتحققت حكمتها وموجباتها، وإلا فهي حدود لا يقربها حاكم ولا محكوم إلا حاقت به لعنة الله.

والشبهة المتوافرة في العصر الحاضر إنما ترد على المعاملات الإسلامية من قِبل الناقدين والمبشرين؛ لأنها تمس ضرورات المعيشة المتجددة في كل يوم، وترصد للمسلم في طريقه حيث سار وأينما اضطربت به صروف الرزق والكسب ومرافق العمل والتدبير، ويتحرى الناقد الموطن الحساس من نفس المسلم حين يلقي في روعه أن شيئًا في دينه يغل يديه عن العمل في عصر المصارف والشركات، وأن شيئًا في دينه يتقهقر به إلى الوراء، ولا يصلح للتطبيق في عصر النظم الحكومية التي تُجري القضاء والجزاء على أصول العلم والتهذيب.

وليس في المصارف والشركات شيء نافع بريء من الضرر والغبن يحرِّمه الإسلام.

وليس في أصول العلم والتهذيب شيء يناقض حدود الجزاء في شريعة الإسلام.

تتلخص شبهة المعاملات الاقتصادية في مسألة واحدة هي مسألة الربا الذي يقول الناقدون إنه قوام المصارف والشركات.

•••

وتتلخص شبهة القضاء والجزاء في حدود السرقة والزنا والخمر، والمقارنة بين عقوباتها في الإسلام وعقوباتها في الشرائع الموضوعة التي تُسمَّى بالشرائع العصرية.

ولا ينسى القارئ المسلم — قبل أن يضع نفسه موضع المتهم المطالَب بالدفاع عن دينه — أن الناقدين والمبشرين يغالطونه ويغالطون أنفسهم حين يختصون الإسلام بالنقد في مسألة الربا — على التخصيص — فإن الربا محرم أشد التحريم في اليهودية والمسيحية من شرائع العهد القديم إلى شرائع الكنيسة في القرون الوسطى، إلى شرائع اللوثريين وأتباعهم بعد عصر الإصلاح، وقد كان تحريم الربا في اليهودية والمسيحية عامًّا مجملًا بغير بيان للفارق بينه وبين المعاملات المحلَّلة من صفقات البيوع والمبادلات، وأما في الإسلام فما من تحريم قط ورد فيه إلا وهو مشفوع بحدود تقيم الفاصل بينه وبين الكسب الحلال.

حُرِّم الربا تحريمًا باتًّا في الكتب المنسوبة إلى موسى عليه السلام؛ فجاء في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر الخروج:

إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمُرابي.

وفيه بعد ذلك:

إن ارتهنت ثوب صاحبك فإلى غروب الشمس ترده إليه؛ لأنه وحده غطاؤه، هو ثوب لجلده، في ماذا ينام!

وجاء في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التثنية:

لا تقرض أخاك رِبًا، ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيءٍ ما مما يُقرض بربًا …

وسرى هذا التحريم إلى عهد النبي حزقيال والنبي نحميا، فقال النبي نحميا في الإصحاح الخامس من كتابه:

أني بكَّتُّ العظماء والولاة وقلت لهم إنكم تأخذون الربا كل واحد من أخيه …

والمقصود بإشارة نحميا أن الربا المحرم إنما هو الربا الذي يأخذه الإسرائيلي من أخيه؛ لأن الربا المأخوذ من أبناء الأمم الأخرى مباح كيف كان، والإصحاح الثالث والعشرون من سفر التثنية المنسوب إلى موسى عليه السلام صريح في إباحة أخذ الربا من الأجنبي؛ حيث يقول مخاطبًا شعب إسرائيل:

للأجنبي تُقرض بربًا، ولكن لأخيك لا تُقرض بربًا لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك …

فليس هذا تحريمًا إنسانيًّا منبعثًا من شعورٍ بالرحمة والعدل في المعاملة، ولكنه تحريم عصبية يُبيح من القسوة على أبناء الأمم الإنسانية كافةً ما يُحرِّمه في معاملة الإسرائيلي لأخيه.

وقد سرى تحريم الربا في شعب إسرائيل دون غيره إلى ما بعد قيام المسيحية وإعلانها الدعوة إلى جميع الأمم؛ لأنهم أبناء إبراهيم بالروح … فحرَّمت الربا في غير شعب إسرائيل، ولم تقيِّد تحريمه بقوم من المؤمنين دون آخرين.

ثم سرى تحريم الربا من أوائل عهد المسيحية إلى قيام حركة الإصلاح وانشقاق الكنائس عن كنيسة روما البابوية؛ فاتفقت الكنائس جميعًا على تحريم الربا، واشتد «لوثر» في هذا التحريم حتى وضع رسالة عن التجارة والربا حرَّم فيها كثيرًا من البيوع الربوية، كالبيع المعروف في الفقه الإسلامي باسم بيع «النجش»، أو المعروف باسم بيع السلم، والنجش هو التواطؤ على رفع السعر لإكراه الآخرين على قبول الشراء بزيادة على سعر السوق، والسلم هو بيع الآجل بالعاجل زيادةً في سعر المبيع.

قال لوثر في شرح أنواع الربا التي تروَّج باسم التجارة ما نلخصه فيما يلي:

إن هناك أناسًا لا تبالي ضمائرهم أن يبيعوا بضائعهم بالنسيئة في مقابل أثمان غالية تزيد على أثمانها التي تُباع بها نقدًا، بل هناك أناس لا يحبون أن يبيعوا شيئًا بالنقد ويُؤْثِرون أن يبيعوا سلعهم جميعًا على النسيئة …

ثم قال:

إن هذا التصرف مخالف لأوامر الله مخالفته للعقل والصواب، ومثله في مخالفة الأوامر الإلهية والأوامر العقلية أن يرفع البائع السعر لعلمه بقلة البضاعة المعروضة أو لاحتكاره القليل الموجود من هذه البضاعة، ومثل ذلك وذاك أن يعمد التاجر إلى شراء البضاعة كلها ليحتكر بيعها ويتحكم في رفع أسعارها.

وبادر لوثر على إثر ذلك إلى دفع الاعتراض الذي قد يعترض به من يحتج بتصرف يوسف — عليه السلام — قبل أعوام المجاعة، فقال: «إنه إذا شاء أحد أن يحتج بسلوك يوسف كما ورد في سفر التكوين حين جمع كل الحبوب التي كانت في البلاد، ثم اشترى بها في وقت المجاعة لملك مصر كل ما فيها من أموال وماشية وأرض مما يبدو حقًّا كأنه احتكار؛ فالجواب على ذلك أن صفقة يوسف هذه لم تكن احتكارًا، بل مبايعة شريفة كما جرت عادة البلاد، فإنه لم يمنع أحدًا أن يشتريَ خلال سنوات الرخاء، وإنما كان عمله من وحي الحكمة التي يسَّرت له أن يجمع حبوب الملك في سنوات الرخاء، بينما كان الآخرون يخزِّنون منها القليل أو الكثير.»

قال لوثر: إنه من التصرفات التي تدخل في باب المراباة ولا تدخل في باب التجارة أن يعمد أحدهم إلى الاحتكار من طريق المغالاة، فيبيع ما عنده بالسعر الرخيص ليُكره غيره على البيع بهذا السعر، فيحل بهم الخراب.

وقال: إنه من قبيل الغش والاحتيال أن يبيع أحدٌ ما ليس في يده؛ لأنه يعلم موضع شرائه فيستطيع أن يعرض على مالكه ثمنًا دون الثمن الذي يفرضه على طالب الشراء.

وَعَدَّ «لوثر» من الربح المحرم أن يتآمر التجار الكبار في أوقات الحروب على إشاعة الأكاذيب لدفع الناس إلى بيع ما عندهم واحتكاره بين أيديهم، ثم تقدير أثمانه على هواهم، وقال: إن بعض الممالك الأوروبية — كالمملكة الإنجليزية — تعقد في عاصمتها مجلسًا يراقب الأسواق ويدبر الوسائل لاحتجاز السلع المرغوب فيها لاحتكارها ومقاسمة الدولة في أرباحها.

وقال: إنه من الحيل المعهودة لترويج الربا باسم التجارة أن تُباع السلعة إلى أجل، ويعلم البائع أن شاريَها لا بد أن يبيعها في هذا الأجل بأقل من ثمنها ليسدد ما عليه من الدَّين، ويشتريها بالثمن الذي يضطره إليه.

قال: وهناك تصرُّف آخر مألوف بين الشركات، وهو أن يُودِع أحد مبلغًا عند تاجر: ألف قطعة من الذهب أو ألفين، على أن يؤديَ له التاجر مائة أو مائتين كل سنة سواء ربح أو خسر … ويسوغ هذه الصفقة بأنها تصرف ينفع التاجر لأنه بغير هذا القرض يظل معطلًا بغير عمل، وينفع صاحب المال لأنه بغير هذا القرض يبقى ماله معطلًا بغير فائدة.

ومما أخرجه «لوثر» من أبواب التجارة المشروعة وألحقه بالربا المحرَّم أن يخزِّن البائع غلاله في الأماكن الرطبة ليزيد في وزنها، وأن يُزوِّق السلعة ليُغريَ الشاريَ ببذل الثمن الذي يُرْبي على ثمنها، وأن يتخذ من وسائل الاحتكار أو الإغراء ما يمكِّنه من جمع الثروة الضخمة؛ لأنه — أي لوثر — يقرر في رسالته أن التجارة المحللة لم تكن قط وسيلة لجمع الثروات الضخام، وأنه إذا وُجدت ثروة ضخمة فلا بد هنالك من وسيلة غير مشروعة.

ولعل «لوثر» قد بلغ في تحريم البيوع المربية وإلحاقها بالربا الممنوع أو الملعون ما لم يبلغه أحد قبله ولا بعده من رؤساء الدين المسيحي في العصور المتأخرة، ومما لا ريب فيه أن الحالة النفسية التي تُساور المُصلح الاجتماعي أو الواعظ الديني باعث قوي على التشدد في حظر المحرمات وذرائعها، واتقاء الشبه التي توقع الأبرياء في حبائلها، وهذه الحالة النفسية قد كانت على أشدها في القارة الأوروبية بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر في إبان الدعوة إلى حركة الإصلاح، فقد كان «لوثر» يرجو أن يعمل الملوك والأمراء ورؤساء الدين على كف أذى المرابين والمغالين بالبيع والشراء، فخاب أمله فيهم أجمعين، وثبت له من معرفته بهم ومن إشاعات الناس عنهم أنهم يشجعون الربا والمغالاة بالأرباح لمقاسمة أربابها وابتزاز القروض والإتاوات منهم، وتسخيرهم في محاربة بعضهم بحبس البضائع واحتكار الأسواق. وقد دفعته هذه الحالة النفسية إلى ضروب من التحريم لو أخذت بها أوروبا الاستعمارية بعده لَمَا قامت لها قائمة، ولا جمعت ثرواتها الضخام التي قال بحق: إنها لا تُجمع من تجارة بريئة ولا من ربح حلال.

ونحن إنما نشير إلى الحالة النفسية التي دفعت لوثر إلى التشدد في حظر المحرمات وذرائعها لكي نلم بالحالة النفسية التي تلقَّى بها المسلمون زحف المصارف والشركات الأوروبية على بلادهم وسيطرتها على حكوماتهم وشعوبهم، فما بلغ من ضرر المرابين بالشعوب الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر أن يُفقدهم كرامة أوطانهم، وأن يُذل رءوسهم ونفوسهم كما فعلت المصارف والشركات الأجنبية بالشعوب الإسلامية منذ أغارت عليها مؤيَّدة بجيوش الدول من ورائها. فهذه المصارف والشركات هي التي مهَّدت للامتيازات الأجنبية سُبلَها، وهي التي نصبت شباك الديون لتسويغ الغزو والاحتلال باسم المحافظة على الحقوق وضمان سدادها، وهي التي تَذَرَّعَ بها الساسة لخنق النهضات الوطنية في إبانها وإثقالها بالقيود والأعباء التي تُعجزها عن مجاراة الغرب في صناعته وتجارته، وتكفل للاستعمار أن ينشب أظفاره أبدًا في أبدانها.

فإذا حُقَّ للمُصلح الكبير «لوثر» أن يتشاءم من المصارف والشركات وأن يحتسب ثرواتها الضخام في عداد السرقات الملعونة، وهي لا تجني على استقلال الأمم ولا تذلها للواغلين عليها، فخليق بالمسلمين — ولا ريب — أن يتشاءموا من تلك المصارف والشركات مرات، وأن يستريبوا بها ولا يَرَوْا فيها لأول وهلة ما يغريهم بالتشبه بها والتسابق بينهم على منهاجها؛ فهي بلاء تعوَّذوا منه وأجفلوا من قدوته، ولهم العذر كل العذر إذا أغرقوا في الخوف منها حتى أوجسوا خيفةً مِن خيرها الذي لم يعرفوه؛ لأنهم عرفوا شرها ولم يسلموا من بلائه أعوامًا طوالًا قد طالت بحساب المصائب بأضعاف ما طالت بحساب الأيام.

•••

على أن الإسلام نفسه قد ظهر في إبان حالة نفسية تشبه الحالة التي أصابت الغرب بين القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، وتشبه الحالة التي أصابت المسلمين على أيدي المستغلين والمستعمرين. وقد كان ما حرمه الإسلام من الربا وذرائعه بلاءً كهذا البلاء الذي شقيت به شعوب الغرب وشقيت به الشعوب الشرقية والإسلامية؛ فقد كان الربا الذي وجده في الجاهلية فنهى عنه وحرَّمه حقيقًا بالتحريم في كل شرع وكل مكان، ومن اطَّلع على وصفه كما كان يوم حَكَمَ الإسلام بتحريمه لم يستطع أن يقول فيه قولين، ولا أن يجعل للشرائع موقفًا منه غير موقف التحريم الشديد بغير هوادة تبيح للمحتال أن يتسلل إليه بذرائعه ودواعيه.

فسَّر الإمام الطبري قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران: ١٣٠).

فقال في أسباب نزول الآية: «إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن: يكون للرجل فضل دَين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له: تقضيني أو تزيدني. فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية ثم حقة ثم جذعة ثم رباعيًّا ثم هكذا إلى فوق. وفي العين يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضًا فتكون مائة فيجعلها إلى قابلٍ مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه …»

•••

كان هذا هو الربا الذي تعاطاه الجاهليون وتعاطاه معهم أهل الكتاب من بلاد يثرب، وكانت الآيات المتقدمة أُولى الآيات التي نزلت بالنهي عنه وتحريمه، فمنعه الإسلام كما يمنعه اليوم كل قانون معمول به في بلاد المصارف والشركات وكل ما استحدثه من ضروب المعاملات التي تسمى بالمعاملات العصرية، وما من قانون ينتظم عليه أمر الجماعة لا يحرِّم هذه المعاملة المنكَرة ولا يشدد العقاب عليها.

وكان آخر ما نزل من القرآن الكريم آيات في تحريم الربا نزلت قبل وفاة النبي — عليه السلام — بأقل من ثلاثة أشهر، وهي من قوله تعالى في سورة البقرة: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (البقرة: ٢٧٥–٢٨١).

ولا خلاف بين المسلمين على موضوع الربا الذي وردت فيه جميع هذه الآيات؛ فهو ربا الجاهلية المعروف بربا النسيئة، وأحاديث النبي — عليه السلام — في ذلك وأقوال المفسرين لا موضع فيها لخلاف.

ففي الصحيحين أن النبي — عليه السلام — قال: «إنما الربا في النسيئة.»

وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا يشك فيه فقال: هو أن يكون له دَين فيقول له أتقضي أم تُربي؟ فإن لم يقضِه زاده في المال وزاده هذا في الأجل.

روى الإمام ابن القيم ذلك في إعلام الموقعين: وقسم الربا إلى نوعين: جلي، وخفي، فتحريم الأول قصدًا وتحريم الثاني وسيلة. فأما الجلي فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يؤخِّر دَينه ويزيده في المال، كلما أخَّره زاد في المال حتى يصير المائة عنده آلافًا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج … وأما الربا الخفي فهو ذريعة للربا الجلي، وهو ما استُحدث بعد الجاهلية من بيع الجنس بالجنس على غير سواء؛ فيباع الدرهم بدرهم وزيادة وتباع الكيلة بكيلة وزيادة، من غير مطالب أو تأخير اجتنابًا للحكم القاطع في ربا النسيئة، ويُسمَّى هذا الربا بربا الفضل لزيادة أحد المبيعين على الآخر، ويقول ابن القيم إنه من البيع الذي يُتخذ ذريعة للربا الممنوع، فهو حرام حيث يكون ذريعة للحرام، ولا اتفاق على القطع بتحريمه لاختلاف بعض الصحابة فيه كعبد الله بن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن أرقم، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وما يُحرَّم سدًّا للذرائع يباح للمصالح كما قال الإمام ابن القيم في الجزء الأول من إعلام الموقعين.١

والحكم الفصل في هذا البيع الذي كانوا يتخذونه ذريعة للربا قول النبي — عليه السلام: «الذهبُ بالذهبِ والفضةُ بالفضةِ والبُرُّ بالبُرِّ والشعيرُ بالشعيرِ والتمرُ بالتمرِ والمِلحُ بالمِلحِ مِثْلًا بمِثْلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيدٍ، فإذا اختلفتْ هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إن كان يدًا بيدٍ.»

وواضح من هذا الحكم أنه يحرِّم الربا الذي ستروه باسم البيع والشراء، فما يكون لأحد أن يشتريَ صنفًا بصنف مثله على غير سواء إلا أن يكون سفيهًا أو مضطرًّا … والسفه والاضطرار كلاهما مبطِل للبيع المشروع، فإذا اختلف الصنفان قيمة فلا حرج في المبايعة؛ لأنهما يختلفان بالمقايضة، فلا وجه للتحريم هنا ولا التباس بين البيع المحلَّل والربا الممنوع.

•••

وبالمقارنة بين الأديان الكتابية بعد تلخيص الحكم الإسلامي في مسألة الربا، نعلم أن الناقدين لا حجة لهم في اختصاص الإسلام بالنقد لما يزعمونه من تعويقه أعمال الحضارة بتحريمه هذه المعاملات؛ لأنه لم ينفرد بتحريم الربا بين هذه الأديان، حتى ما كان من قبيل البيوع التي تدس الربا وراء ستار من البيع والشراء؛ فهذه أيضًا قد حرمتها المسيحية على ما تقدَّم في رسالة «لوثر» التي أخذت بها جميع المذاهب من مذهب الكنيسة البروتستانتية!

وبغير حاجة إلى المقارنة بين الأديان الكتابية نعلم أن هؤلاء الناقدين لا حجة لهم أصلًا على الإسلام فيما حرَّمه من ربا النسيئة أو ربا الفضل بأنواعه، كما حرم الإسلام من هذه المعاملات كل تصرف فيه ظلم واضطرار وأكل للحقوق بالباطل وابتزاز للأموال في غير عمل ولا طائل؛ وازدهار الحضارة مرهون بإلغاء كل تصرف من هذا القبيل، غير مرهون على زعمهم بحمايته والإغضاء عنه وعن ذرائعه. وفي وسع المصارف والشركات أن تتجنبه وتمضيَ في عملها حيث كانت في البلاد الإسلامية؛ فليس في الإسلام نص ولا تأويل يحرِّم التصرف النافع الذي لا اضطرار فيه ولا اغتصاب للحقوق، وما كان من قبيل الاضطرار والاغتصاب في أعمال المصارف والشركات فقد حرَّمته القوانين الوضعية بما اشترعته من قيود الرقابة وحدود الربح والفائدة؛ فما استطاعت حكومة من الحكومات المتحضرة أن تقف مكتوفة اليدين لتطلق أيدي المرابين في تثمير الديون بغير ثمرة للمدين، وبغير ربح غير ربح الدائن المتحكم في فرائس الضنك والاضطرار.

ولا نحب أن نَدَعَ هذا الموضوع قبل الإلماع في هذه العجالة إلى مذاهب الفلاسفة والعلماء في الربا بعد الإلماع إلى مذاهب الأديان فيه.

فمن أقدم البحوث الفلسفية عن الربا بحث المعلم الأول أرسطو — في كتابه عن السياسة — ومذهبه فيه أنه رِبح مصطنع لا يدخل في باب التجارة المشروعة، وعنده أن المعاملة على أنوع ثلاثة: معاملة طبيعية، وهي استبدال حاجة من حاجات المعيشة بحاجة أخرى كاستبدال الثوب بالطعام، ومعاملة صناعية وهي استبدال النقد بحاجة من حاجات المعيشة وهي التجارة التي لا حرج فيها، ومعاملة مصطنعة ملفقة وهي اتخاذ النقد نفسه سلعة تباع، فإنما حق النقد أن يكون وسيلة للمبايعة ومعيارًا تُعرف به أسعار السلع المختلفة، وأما اتخاذه سلعة تُباع وتُشترى فهو خروج به من غرضه وابتذال للتجارة في غير مصلحتها.

واعتمد الحَبر الفيلسوف توما الأكويني — حجة المسيحية في القرون الوسطى — رأي أرسطو هذا في النقد، فأوجب به تحريم الربا من الوجهة الفلسفية، وأخرج من تعريف الربا كل تصرف لا يحدث فيه تبادل النقد فعلًا، وإنما يؤخر فيه إعطاء النقد لسداد ريع أو أجرة أو ثمن بضاعة … وعقب توما الأكويني أتباع نظروا في تعريف الربا من الوجهة الفلسفية العلمية فلم يجعلوا منه ما هو بمثابة تعويض الدائن عن فوات ربح كان في وسعه Lucrum Cessans، أو تعويضه عن خسارة أصابته من جراء دَينه Damum Emergens، أو عن خسارة أصابته من جراء المماطلة في الوفاء بحقه في موعد السداد المحدود.
ودرج الفلاسفة على اعتماد رأي أرسطو وتوما الأكويني في النقد إلى فاتحة عصر الفلسفة الحديثة، فقال دافيد هيوم Hume في كتاب المحاضرات السياسية الذي طُبع سنة ١٧٥٢: «إن النقد ليس مادة ولكنه أداتها … وإنه ليس دولابًا من دواليب التجارة ولكنه الزيت الذي يلين مدارها.»
وبدأت فلسفة الاقتصاد الحديث بدراسات «أبي الاقتصاد» آدم سميث Adam Smith (١٧٢٣–١٧٩٠)، وهو معاصر للفيلسوف دافيد هيوم، ورأيه في ريع الأرض أنه إذا تكاثر في حساب الثروة العامة كان من قبيل الكسب بغير عمل، وهو لا يمنع الربح من الديون، ولكنه يحده ويستحسن الإقلال من قيمته، وعلى هذا الرأي درج الاقتصاديون المحدثون إلى عهد المذهب الاقتصادي الجديد الذي هدم كثيرًا أو بدَّل كثيرًا من آراء الاقتصاديين السلفيين، ولكنه حافظ على رأيهم في استحسان الإقلال من ربح الديون، وزعم أن القليل منه يشجع المقترضين على الانتفاع بالأموال المدخرة، ولا يرهقهم بأعباء السداد أو يحرمهم ثمرة العمل الذي يجتذبون الأموال المدخرة إلى أسواقه، بدلًا من تعطيلها في خزائن الشركات وودائع الصناديق.

•••

وتعتبر قضية الربا في القرن العشرين من القضايا المؤجلة أو المعلقة، إلى حين؛ لأن الانقلابات التي تجمعت من حوادث هذا القرن قد نقلت القضية من البحث في الثمرة إلى البحث في جذور الشجرة من أصولها: كانوا يسألون من قبلُ عن ثمرات الأموال المحلَّلة أو المحرَّمة ولمن تكون، فأصبحوا اليوم يسألون عن الأموال من مصادرها إلى مواردها لمن تكون كلها، ومن هو صاحب الحق الأول في ثمراتها!

فالاقتصاديون الماديون ينكرون ملك رءوس الأموال أصلًا، ويرفضون السماح للفرد بملك شيء يُمكن أن يُسمَّى مالًا أو رأس مال، ولا معيار عندهم لحق الفرد في أجور العمل إلا ما تفرضه له الجماعة من نفقة على قدر الحاجة إليها، ولا موضع للكلام عن الأرباح المحلَّلة أو المحرَّمة حيث لا يكون رأس مال ولا يكون أصل معترَف به تتفرع عليه الفواضل من المكاسب والأجور.

وغيْر الاقتصاديين الماديين يعترفون للفرد بحق الملك وحق حيازة الأموال، ولكنهم ينتقلون في توزيع المرافق الكبرى شيئًا فشيئًا إلى الملكية العامة أو الملكية على المشاع باسم التأميم أو الاستيلاء ووضع خطط التعمير.

والمذهبان معًا يتفقان على ضرورة الحد من الثروات الكبيرة بعد استيفاء جميع الضرائب والرسوم، فإذا بقيت لصاحب المال حصة من الربح تزيد على مقدارٍ معلوم أخذتها الدولة باسم الأمة، وفاقًا لمبدأ من مبادئ التشريع مصطلح عليه بين أمم الحضارة التي تكثر فيها الثروات الضخام، وتكثر فيها النفقات العامة للتعمير والمعونة أو للحيطة والدفاع.

•••

ونحن لا نريد أن نقارن هنا بين الإسلام والديانات الكتابية في قضية الربا بأنواعه، ولكننا نريد أن نقارن بينه وبين المذاهب الاقتصادية التي يظن أصحابها أنهم يحيطون بحكمة التشريع عامة في جميع العصور؛ لأنهم حسبوا أن فترة من فترات الزمن تستوعب هذه الحكمة وتفرغ منها على نحوٍ لا يقبل المراجعة والتعديل، فإذا خُيِّل إليهم في وقت من الأوقات أن الحضارة مرهونة بنظام معلوم في المصارف والشركات، خطر لهم أن يفرضوا هذا النظام بعجره وبجره على الماضي والحاضر والمستقبل في المشرق والمغرب وبين جميع الملل والأقوام، وطلبوا إلى أصحاب العقائد أن ينسخوها، وإلى أصحاب الشرائع أن ينقضوها، وإلى أصحاب المبادئ الخلقية والفكرية أن يقتلعوها من جذورها، واجترَءْوا على من يناقضهم وينظر إلى ما فوق أنوفهم فاتهموه بالجمود والنكسة، وألقَوْا عليه تبعة الفساد والرجعة بالعقول إلى الوراء.

وها هي ذي قواعد الحضارة التي يتعللون بها تتطلب اليوم من نظم الاقتصاد ما لم تكن تتطلبه قبل خمسين سنة، وسوف تتطلب بعد خمسين سنة ما لم تتطلبه اليوم، فما هو الميزان العادل الذي تصح فيه الموازنة بين المذاهب وبين الدين؟ هل نبيح لهذه المذاهب المتقلبة أن تفرض سلطانها على الدين الذي لا مزية له إن لم تركن منه ضمائر الأمم إلى قرار مكين ثابت على تقلب الزعازع والأحوال؟ هل ننتظر من الدين أن يعرقل هذه المذاهب ويأخذ الصواب منها بذنب الخطأ، فيحرم الصواب والخطأ على السواء؟

لا هذا ولا ذاك.

بل يمضي كل مذهب إلى مداه المقدور، ويتسع الدين لأحداث الزمن فلا يتصدى لها في مجراها ولا يمنعها أن تذهب إلى مداها، وأن تضطرب اضطرابها لمستقر لها تمحصه الأيام: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ (الرعد: ١٧).

وتلك هي مزية الإسلام بين المذاهب والأديان؛ لا يقف في طريق رأي صالح، ولا يَحُول بينه وبين التجارِب تنبذ منه لا سبيل إلى قبوله وتُبقي منه ما هو صالح للبقاء.

وتلك الزعازع التي تمخضت عن حوادث القرن العشرين يَنظر إليها الإسلام وهو ثابت على قراره المكين؛ فلا يمنع صالحًا منها أن يثبت صلاحه، ولا يَدَعُ لفاسد منها أن يطغى بفساده طغيانًا لا رجعة فيه.

إنه لا يمنع الملكية العامة، بل يأمر بها في مرافق الجماعة، ولا يبيح لأحد أن يملك موارد الماء والنار والكلأ، كما جاء في الحديث الشريف،٢ ومن فقهائه في مذهب الظاهرية من يشترط العمل لاستحقاق الكسب حتى في تأجير الأرض وزراعة الشجر وجني الثمرات.

ولا يُبطل الإسلام ملكية الآحاد، ولكنه يُخوِّل الجماعة أن تحتسب لها نصيبًا منها يقدِّره الإمام بتفويض من الأمة، وتزيد حصة الجماعة كيف زادت فلا ينكر الإسلام هذه الزيادة؛ لأنه يحرِّم كنز الذهب والفضة ويأمر بتوزيع الثروة بين الناس كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ (الحشر: ٧).

وقوام الأمر كله فيما يبيح ويمنع مرجع واحد ثابت على الزمن ثبوت الجماعة البشرية، وهو المصلحة العليا التي تتقدم فيها مصلحة الكثير على مصلحة القليل، ويتقدم فيها حساب الزمن الطويل على حساب الزمن القصير.

ولتكن المصلحة ملكًا أو ربحًا أو تجارةً أو مرفقًا تتداوله الأيدي باسمٍ من الأسماء حينًا بعد حين، فما كان فيه ظلم وإكراه وأكل للأموال بالباطل فهو حرام، وما برئ من هذه الآفات جميعًا فهو حلال لا يمنعه أحد، ومَن منعه مِن رعية أو إمام فهو المخالف لعقيدة الإسلام.

•••

ويقال عن حدود الجزاء إجمالًا ما يقال عن الربا بأنواعه، فلا حجة لمن يختص الإسلام بالنقد في مسائل الحدود؛ لأنه لم يفرض على جريمة من الجرائم عقابًا أقسى مما فرضته الأديان الكتابية قبله، وما فرضته الشرائع الموضوعة في أوانه.

ولا حجة لمن ينقد العقوبات؛ لأنه يقارن بينها وبين عقوبات العصر الحديث، فإن الحدود في الإسلام بيِّنة لا تُناقض مصلحة الجماعة في زمن من الأزمان.

ولقد كانت الشريعة الإسلامية ضرورة لا محيد عنها في إبان الدعوة الإسلامية؛ فلم يكن من الميسور ولا من المعقول أن تلبث الأمة الإسلامية حقبة من الزمن على شريعة الجاهلية، أو تمضيَ في حياتها العامة مهلًا بغير شريعة يدين بها الحاكم والمحكوم، ونزلت شريعتها في حينها على مثالٍ لا تفضله شريعة عاصرتها في جملتها ولا في تفصيلها، وتعاقبت بعدها العصور وما في عارض من عوارضها حالة لم تقدِّر لها الشريعة كفايتَها من التصرف والتوفيق.

ولسنا في هذا الكتاب بحاجة إلى أن نضيف شيئًا في موضوع الحدود إلى ما أجملناه عنه في رسالتنا عن الشيوعية والإسلام؛ فإن الإفاضة في البحوث الفقهية ليست من أغراض كتابنا هذا، ولم تكن من أغراض ذلك الكتاب، وبحسبنا من مسألة الحدود أن نجلوَ الشبهة عن قواعدها وَنَدَعَ للمستزيد أن يتوسع في شروحها وتفريعاتها حيث يطيب له المزيد منها، فإنما استقرت حكمة الإسلام على جلاء القواعد وتوطيد القاعدة سليمة يقام عليها ما يقام من بناء سليم.

تنزل الشريعة الإسلامية في الجزيرة العربية على عهد الجاهلية، يوم كانت شريعتها الغالبة بين جميع القبائل العربية شريعة الغارات التي تستباح فيها دماء المغلوب وأمواله ونساؤه، وكل مملوك له في حوزة الفرد أو حوزة القبيلة، وكان أهل الكتاب يدينون بشريعة موسى التي لم يُبطلها السيد المسيح، ولها حدود مفصَّلة في التوراة وقصاص تؤخذ فيه العين بالعين والسن بالسن، كما ذكرها القرآن الكريم.

فإذا جاء الإسلام بعقوبات لا تصلح لعهد الدعوة لم يُعطِ التشريع حقه في ذلك العهد ولا في العصور التالية، ولكنه يعطي التشريع حقوقه جميعًا إذا صلح لزمانه ولم ينقطع صلاحه لما بعده، ولم يمتنع فيه باب الاجتهاد عند اختلاف الأحوال، فيشتمل جزاؤه على جنايات الحدود والقصاص، وعلى الجنايات التي تستحدثها أحوال المجتمعات، ويأخذها الشارع بما يلائمها من موجِبات الجزاء.

وهذا ما صنعه الإسلام في جنايات الحدود والقصاص، وفي غيرها من الجنايات التي تدخل عند الفقهاء في باب التعزير، وعلينا أن نذكر:

أولًا، أن الحدود مقيدة بشروط وأركان لا بد من توافرها جميعًا بالبيِّنة القاطعة، وإلا سقط الحد أو انتقل إلى عقوبات التعزير إذا كان ثبوته لم يبلغ من اليقين مبلغ الثبوت الواجب لإقامة الحدود.

وأن نذكر — ثانيًا — أن القصاص مشروط فيه العَمد وإرادة الأذى بعينه، فإن لم يثبت العَمد فالجزاء الدية أو التعزير، وقد يجتمعان أو يُكتفى بالدية دون التعزير أو بالتعزير دون الدية.

ولنذكر أن جرائم التعزير تشمل جميع الجرائم التي يُعاقَب عليها بالسجن أو بالغرامة أو بالعقوبات البدنية.

ولنذكر في جميع هذه الأحوال أن الشريعة الإسلامية توجِب درء الحدود بالشبهات للشك في ركنٍ من أركان الجناية أو ركنٍ من أركان الشهادة؛ فلا يُقام الحد، ويَنظر ولي الأمر في التأديب بعقوبة من عقوبات التعزير.

ولْنضرب المثل بأكبر جنايات الحدود وأشيعها في الجاهلية العربية وجاهليات الأمم في عنفوانها، وهي جناية قطع الطريق والعبث في الأرض بالفساد؛ ففي هذه الجناية يقول القرآن الكريم: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (المائدة: ٣٣-٣٤).

فهذه جناية لها عقوبات متعددة على حسب الأضرار والجرائر، ومنها القتل والصلب وقطع الأطراف والنفي؛ وهو بمعنى النبذ من الجماعة إما بالسجن أو بالإقصاء، ويلزم العقاب من لزمته أحكام الدين، فإذا كانت جنايته قد انتهت بالتوبة قبل أن يلزمه قضاء الإسلام، فهذا هو الباب الذي فتحه الإسلام لابتداء عهد وانتهاء عهد غبر بأوزاره وعاداته، وانطوى حساب الجناية والعقاب فيه بانتهائه.

وأشد هذه العقوبات لم يكن شديدًا في عرف أمة من الأمم عوقب فيها من يقطعون الطريق ويعيثون في الأرض بالفساد، مع حضور الحذر وكثرة مغرياته وقلة الزواجر الاجتماعية التي تحمي المجتمع من أضراره وجرائره، وقد كانت عقوبات القتل والتمثيل قائمة في جميع الأمم مع قيام الجريمة وقيام أسباب الحذر منها، وظلت كذلك إلى القرن السابع عشر في البلاد الأوروبية التي استقر فيها الأمن بعد الفزع، وانتظمت فيها حراسة الطريق بعد الفوضى التي طغت عليها من جراء فوضى الجوار بين الحكومات.

وتلحق بجناية قطع الطريق جناية السرقة التي لا غصب فيها، وشروطها أن يكون السارق عاقلًا مكلَّفًا، وأن يكون المال المسروق محرزًا مملوكًا لمن يحرزه بغير شبهة، بالغًا نصاب السرقة كما يتفق عليه الفقهاء، وكل جريمة من قبيل السرقة لم تثبت فيها هذه الأركان المشروطة، فلا يؤخذ فيها الجاني بحد السرقة ويؤخذ فيها بعقوبات التعزير، وعند الصرورة التي يقدِّرها الإمام يجوز العفو كما عفا عمر بن الخطاب — رضوان الله عليه — عن الغلامين السارقين في عام المجاعة.

ولا بد أن يمتد نظر الباحث على مدى مئات السنين قبل أن يسأل عن صلاح الشريعة لعصر من العصور، ولا محل لسؤاله إذا أراد أن يحصر هذه الشريعة في زمن واحد وبيئة واحدة، ولكنه يحسن السؤال إذا عرض أمامه أحوالًا للأمم فيها القديم والحديث، وفيها الهمجي والمتحضر، وفيها المسالم المأمون والشرير المحذور، ثم سأل: هل في الشريعة قصور عن حالة من الحالات التي تعرض لتلك الأمم في جميع أطوارها؟ وهل هناك عقوبة نصت عليها الشريعة لم تكن صالحة من تلك الحالات؟

فهكذا توزن الشرائع التي تحيط بالمجتمعات في مئات السنين، وبغير هذا الوزن تكثر منافذ الخطأ أو يبطل السؤال فلا محل للسؤال.٣

•••

وغني عن القول بعد هذه الاعتبارات أن فهم الشريعة بنصوصها لا يغني عن فهمها بروحها وحكمتها.

وروح التشريع الإسلامي كما ظهرت في نصوص الأحكام وأركان الثبوت روح سمحة جانحة إلى العذر وتمهيد الطريق للتوبة والصلاح، فليست العقوبة غرضًا مطلوبًا لذاته يبادر إليها وليُّ الأمر خفيف الضمير مُعفًى من الحرج والمراجعة، ولكنها ضرورة يدفعها ما دفعتها الشبهة والأمل في التوبة والصلاح، وليس الإمام الذي يتحرَّج من إقامة الحد في غير موقعه من الثبوت وتوافر الأركان مخالفًا للإسلام مقصِّرًا في إقامة حدوده، بل المخالف للإسلام المقصِّر في إقامة الحدود من يهجم على العقوبة قبل أن يستوفيَ أركانها ويدرأ كل شبهة فيها تأتي لمصلحة المتهم أو لمصلحة الجماعة، وإنما الإمام الحق في الإسلام يذكر أن إطلاق المذنب خير من إدانة البريء، وأن التحرج أولى ما يكون بمن يعاقب على الحرج في أمور الدنيا والدين.

وسيأتي البيان عن مهمة الإمام في تطبيق الحدود والأحكام، وتقدير المصالح والضرورات في أمور الجزاء وأمور السياسة الشرعية على التعميم، ولكننا ننتهي بهذه العجالة عن المعاملات إلى غايتها إذا عرفنا أن الإسلام لا يوجِب على الناس معاملة تضر، ولا ينهاهم عن معاملة تفيد، وأنه يؤدي للمؤمنين به خير ما تؤديه العقيدة الثابتة على تعاقب الأجيال … لا تمنع التجرِبة الصالحة أن تثبت صلاحها، ولا تفرط في الدائم اللازم ذهابًا مع العاجل المشكوك فيه.

١  راجع الجزء الثالث من تفسير المنار.
٢  روى ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «ثلاث لا يُمْنَعْنَ: الكلأ والماء والنار.» وروى أحمد وأبو داود: «الناس شركاء في ثلاثة: الكلأ والماء والنار.»
٣  كتاب الشيوعية والإنسانية للمؤلف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤