الفصل الثاني

حدود الليبرالية

(١) ما بعد العولمة، أو الليبرالية فيما بعد الليبرالية الجديدة

«ما بعد» العولمة؛ ألا يبدو هذا التعبير غريبًا؟ ألسنا ما زلنا في طور البداية؟ أليست العولمة عملية غير مكتملة بالضرورة، وهو أمر لن ينتهي إلا مع إنتاج نظامِ حكمٍ جديدٍ ما بعد قوميٍّ تتوزع خلاله القوة توزيعًا متساويًا أكثر من اليوم؟ ولكن هذا الاستغراب يقل كثيرًا إذا لم ننظر إلى العولمة بوصفها مصطلحًا تقنيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا يصف العمليات والتطورات على أرض الواقع، بل نظرنا إليها على ما هي عليه في واقع الأمر؛ أي تغليف خطابي لهذه العمليات بغلاف جغرافي وتاريخي ملائم ولامع، مصمَّم ليكون (كما هو الحال مع أي منتج) جذابًا لأكبر سوق ممكنة من واضعي السياسات والحكومات. لقد كان من المفترض دائمًا أن تأخذ العولمة شكل حس عام لا يمكن مناقشته، ووَصْف صريح للَّحظة المعاصرة والطريقة العامة لسير الأمور، والتي كنا نظن أنه من المستحيل أن نعيد توجيهها أو نغيرها أو نتراجع عنها على نحو جوهري.

إن العولمة ببساطة هي اسم كلِّ ما يحدث في الوقت الحاضر؛ وهو اعتقاد طالما طَعَنَ الباحثون والنشطاء اليساريون عليه، وأصبحوا الآن يطلقون مصطلح «الليبرالية الجديدة» على هذا النمط من فهم العالم والتعامل معه، وهو المصطلح الذي يَلتقط بدقة أكبر الديناميكيةَ الأيديولوجيةَ للمناورة الجيوسياسية على مدى العقود العديدة الأخيرة، كما يعرض الوظيفة الأيديولوجية التي يؤديها مفهوم العولمة. لم تتَّسم العولمة تحت مسمى الليبرالية الجديدة على نحو أساسي بنقل جميع العلاقات إلى مستوًى عالمي، أو بالوجود المتزايد لتقنيات الاتصال في الحياة اليومية، أو بتغيير الوعي البشري أو إدراك الطابع الدولي السائد في الحياة في نهايات القرن العشرين، أو أي تطورات أخرى ترتبط عادة بالعالمية؛ ولكنها تميزت بالمد والنشر الشرسين لقيم السوق في كل مؤسسة اجتماعية وعمل اجتماعي. وكما تقول ويندي براون، تعني الليبرالية الجديدة أن البشر «مُشكَّلون بالكامل ليكونوا «كائنات اقتصادية»، وأن جميع أبعاد الحياة البشرية مشكَّلة وفق عقلانية السوق.»1 ويقول سلافوي جيجيك في كتابه «في البداية مأساة، وبعد ذلك مهزلة» إنه: «كان على يوتوبيا فوكوياما في تسعينيات القرن العشرين أن تموت مرتين، بما أن انهيار اليوتوبيا السياسية الليبرالية الديمقراطية في ١١ / ٩ لم يؤثر على اليوتوبيا الاقتصادية لرأسمالية السوق العالمية؛ وإذا كان الانهيار المالي الذي حدث في عام ٢٠٠٨ له معنًى تاريخي، إذن فهذا علامة على نهاية الجانب الاقتصادي لحلم فوكوياما.»2 وعلى الرغم من أن البعض كان يأمل في أن الأزمة المالية لعام ٢٠٠٨ كانت ستضع حدًّا للعقلانية السياسية المهيمنة والمحددة للِّيبرالية، فإن الأمور لم تَسْرِ على هذا المنوال. يكفي المرء أن ينظر إلى عدم وجود احتجاجات واسعة النطاق من قِبل المواطنين لمعارضة تصرفات حكوماتهم في دعم النظام المالي، أو القرارات التي اتخذتها، أو بالأحرى لم تتخذها، لمحاولة مواجهة العجز المالي؛ فعلى ما يبدو قد أصبح من المستحيل الآن أكثر من أي وقت مضى أن نزيد الضرائب مجددًا؛ ومن ثم فإن الإجراء الوحيد الذي يمكن اتخاذه هو وقف الخدمات المقدمة أو تقليلها، وأحيانًا يُنفَّذ هذا بشدة. أما ما انتهى بالفعل، فهو الوظيفة الأيديولوجية للعولمة بوصفها تبريرًا وغطاءً لعملية صناعة القرار الحكومي. لم يكن جيجيك هو الوحيد الذي أعلن النهاية التامة للتصور الخيالي الذي يقول بنهاية التاريخ؛ فقد أعلنت شخصيات بحجم روبرت كاجان، الباحث البارز في مؤسسة كارنيجي، والكاتب في صحيفة «واشنطن بوست»، والمسئول بوزارة الخارجية خلال ولاية رونالد ريجان الثانية، (مع إشارة صريحة إلى فوكوياما) أن التاريخ قد «عاد»؛ ومن ثم فقد أصبحنا في حاجة إلى وسيلة جديدة للتفكير في العالم. وفقًا لِكاجان، بعد الحرب الباردة تخيلنا أننا قد وصلنا إلى «نوع جديد من النظام الدولي، تنمو أو تختفي فيه الدول القومية معًا، وتنصهر الصراعات الأيديولوجية، وتختلط الثقافات، ويزداد حجم التجارة الحرة والاتصالات.»3 ومع ذلك، فاليوم «يتعين على ديمقراطيات العالم أن تبدأ في التفكير في كيفية حماية مصالحها والدفاع عن مبادئها، في عالم تواجه فيه تلك الأشياء مرة أخرى تحديات قوية.»4

بعد العولمة يظهر سردٌ جديدٌ للقوة الجيوسياسية؛ أولًا: يواجه هذا السرد نهاية القوة الأمريكية الأحادية نتيجة لصعود دول كبرى أخرى، ولكنه يفعل ذلك بطريقة تحافظ صراحة وضمنيًّا على الهيمنة الأمريكية على العالم؛ ثانيًا: يهدف هذا السرد إلى جعل العقلانية السياسية للِّيبرالية (الجديدة) طبيعية أكثر، وهي حقيقة يخفيها من خلال تأكيده على التمايز والاختلاف الثقافيَّين العالميَّين واحتفائه بهما. وكما أكدنا من قبل، ستكون هذه اللحظة التالية لحظة مربكة على نحو مدهش، مليئة بالتهديد وعدم اليقين السياسيَّين والفكريَّين، ولكنها حافلة بالوعود السياسية كذلك. وفجأة، يُزاح الستار من جديد وتنكشف العولمة بوضوح صارخ بوصفها مشروعًا للنظام العالمي الجديد الذي يتحدث عنه كاجان، فلم يَعُد يتم التعتيم عليها من خلال وظيفتها الظاهرة باعتبارها مصطلحًا يعبر عن فترةٍ ما أو وصفًا لظاهرة اجتماعية. والآن بما أننا نستطيع، وبثقة، أن نطلق على العولمة (على سبيل المثال) الليبرالية الجديدة، بوصفها جانبًا من جوانب النظام الاجتماعي المسمى بالرأسمالية، فربما كنا نأمل أو نتوقع أن يبدو بعض بريق الطابع العالمي باهتًا وكئيبًا: أن يحدث أي شيء غير المستقبل، الحاضر المشرق الواعد الذي كنا نتصوره ونحلم به. ولكن، يبدو أن الحال لم يَسِرْ على هذا المنوال، أو على الأقل، لن يكون كذلك بالتأكيد بالنسبة إلى من يرغبون في مواصلة الدعوة إلى مشروع اجتماعي وسياسي معين يثقون بأنه سيكون الحل لجميع مشاكل العالم، تمامًا كما هو الحال دائمًا.

في هذا الفصل، سننظر في عدة تحليلات للعولمة عُرضت في أعمال كُتاب مشاهير ارتبطت أسماؤهم بها ولعبوا دورًا في تشكيل فَهْمنا لها. هؤلاء الكتاب بعيدون قليلًا عن النقاش والجدال الأكاديميَّين حول العولمة، على الرغم من أن اثنين منهم، وهما ريتشارد فلوريدا وَبول كروجمان، يشغلان مناصب أكاديمية، كما تنشر ناعومي كلاين مقالات في دوريات أكاديمية. إن اتجاه الأكاديميِّين عند التعامل مع الأعمال المكتوبة عن العولمة هو استخدام مقالات وتعليقات الكُتاب موضع الاهتمام، ولكن بنحو أساسي بوصفها وسيلة للإشارة لحدود ومشكلات وجهات النظر التي عبَّر عنها مثل هؤلاء الكتَّاب. أما ما لم يفعله الأكاديميون، فهو الفحص الجدي للمواقف التي يتبناها هؤلاء الكتَّاب المعروفون، سواء لتقييم مزاياها وعيوبها، أو لرسم علاقتها بما كنا نصفه بالحس العام لعصر العولمة، بما في ذلك الحس العام للعولمة نفسها. سيكون نهجنا نقديًّا إزاء أعمال المؤلفين موضع البحث في هذا الفصل؛ وهم ريتشارد فلوريدا، وَتوماس فريدمان، وَبول كروجمان، وَناعومي كلاين. ونعتزم محاولة فهم مواقفهم للوصول إلى منطق الحجج التي يؤيدونها وفَهْم السرد الذي يقدمونه للحاضر والمستقبل. يُنتج هؤلاء الكتَّاب أصحاب الكتب الأكثر بيعًا كتبًا تعليمية صريحة تهدف إلى التنقيب داخل افتراضات الآخرين وتقديم حلول جديدة للمشاكل الملحة التي تم اكتشافها. وفي ضوء المواقف التي أوردناها في الفصل الأول، وخاصة سلسلة الأطروحات التي بصيغة النفي التي وردت في نهايته، فإن هدفنا هو فهم الحس العام للاحتمالات «التقدمية» المتاحة. ويجب أن نؤكد على أن هؤلاء المؤلفين الأربعة لا يُنظر إليهم بصفة عامة بوصفهم من المحافظين الذين يريدون أن يبقى العالم على ما هو عليه، أو الذين ينكرون أن العالم يواجه تحديات كبيرة تحتاج إلى معالجتها (كما أنهم لا يعتبرون أنفسهم كذلك). على العكس من ذلك، يريد هؤلاء الكتَّاب، بدرجات متفاوتة (وفي الواقع، أحيانًا بنحو يعارض فيه بعضهم بعضًا)، أن يساعدونا على تجاوز الحدود التي نواجهها حاليًّا. ونأمل، من خلال تقييم تأطيرهم لمشكلات وإمكانيات الحاضر أن نتبين أن هناك شيئًا ما مفقودًا؛ فهناك شيء ما مفقود في طريقة تكويننا لإحساسنا بالحاضر وما ينتظرنا في المستقبل.

إن الكُتَّاب الذين سنفحص أعمالهم، وكذا الفيلم الذي سنختتم به، يتَّسمون جميعًا، بدرجة أو بأخرى، بالليبرالية. في أعقاب الليبرالية الجديدة للعولمة، يرغب الجميع في الدعوة إلى عودة روح اجتماعية مختلفة، تلك التي حلت محلها العولمة، والتي يمكنها أن تعمل الآن في الفضاء الجديد للقرن الحادي والعشرين على المستوى العالمي بدلًا من المستوى القومي فقط. وبينما ركز المحافظون (أي الليبراليون الجدد) على جزء واحد من المعادلة السياسية في الوقت الحاضر — الجزء «الرأسمالي» للرأسمالية الليبرالية الديمقراطية — يريد هؤلاء الكتَّاب إحياء واستعادة الجزء الديمقراطي الليبرالي باعتباره وسيلة للتفكير في فرص العالم بعد الممارسات الاقتصادية الوحشية التي أصبحت ترتبط بالعولمة. وعلى الرغم من ذلك، فإن إحياء ليبرالية تحمل طموحات عالمية يجب أن يأخذ في الاعتبار تحول العالم بسبب مبادئ الليبرالية الجديدة، أو على الأقل «ينبغي» أن يضع هذا في الحسبان. في كثير من الأحيان، يلقي هؤلاء الكتَّاب نظرة إلى الوراء إلى الطبقة الوسطى للمجتمع الأمريكي في فترةِ ما بعد الحرب العالمية الثانية بوصفها مصدرًا لإلهام للعالم الذي يرغبون في استحضاره إلى حيز الوجود؛ فالسنوات المتخللة تبدو ببساطة مثل تاريخ خرج عن المسار، أو خطأ لم يتسبب في وجود أي شيء جديد اجتماعيًّا أو سياسيًّا، ومن الأفضل أن ننساه. إلا أن هذه خطوة إشكالية، وذلك على أقل تقدير. يتمثل أحد التطورات العديدة التي وقعت، والتي تسمح باحتمالية أن تكون الليبرالية خَلَفًا للِّيبرالية الجديدة في أن العالم بعد العولمة أصبح يُنظر إليه بوصفه «أمريكيًّا» أكثر فأكثر. إن النمط الأمريكي من الليبرالية هو الذي يتردد صداه في أعمال هؤلاء الكتَّاب، هذه السياسة التي تؤكد على أهمية الرأسمالية حتى وهي تنتقدها من خلال الحجج التي تنادي بضرورة وجود دولة قوية للتعامل مع نتائجها الاجتماعية وتحسينها. ويعيد التاريخ نفسه: بالنسبة إلى هؤلاء الكتَّاب، تمامًا مثلما أدت تجاوزات العصر المُذهب الأول في الولايات المتحدة الأمريكية إلى التوصل للصفقة الجديدة بعد الكساد العظيم، قدَّم الانهيار الاقتصادي في عام ٢٠٠٨، بالإضافة إلى التجربة الحافلة للعولمة خلال العقدين الماضيين، إمكانية التوصل لصفقة جديدة أخرى. وتتكرر الأحداث الدرامية التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن العشرين على نطاق عالمي في بداية القرن الحادي والعشرين، وإذا كان الكساد الذي وقع في وقت سابق يقدم دروسًا للعالم كله، فيعود السبب وراء ذلك إلى أن هناك ادعاءً الآن بأننا جميعًا أمريكيون.

ما الذي يمكن أن نعنيه بهذا؟ هذا الشعور الذي تلا العولمة، والذي يفيد بأن العالم قد أصبح أمريكيًّا، يعبر عنه بصورة مباشرة ودون اعتذار فريد زكريا في كتاب يبدو عنوانه موحيًا بعكس ما ندَّعيه هنا. كان زكريا هو مدير التحرير السابق لمجلة «فورين أفيرز»، ورئيس التحرير الحالي لمجلة «نيوزويك إنترناشونال»، وقد لعب كتابه «عالم ما بعد أمريكا» دورًا رئيسيًّا في المناقشات العامة لما سيحدث فيما بعد العولمة. بالنسبة إلى زكريا، «ما بعد أمريكا» ليس مصطلحًا تَشكَّل في إطار آمال سياسية أو أيديولوجية، ولكنه مهم من الناحية التحليلية: «من المرجح أن نحيا في النظام الدولي الهجين، وهو نظام أكثر ديمقراطية وأكثر ديناميكية وأكثر انفتاحًا وأكثر ترابطًا، لعدة عقود. ومن الأسهل علينا أن نحدد ما ليس فيه من صفات، عما هو عليه، وكذا من الأسهل وصف الحقبة التي هو آخذ في الابتعاد عنها عن وصف الحقبة التي يتحرك نحوها؛ ومن هنا جاء ما أسميه «عالم ما بعد أمريكا».»5
بعد مقدمة وفصل يشيد بالنجاحات الاقتصادية والسياسية لحقبة العولمة، يخصص زكريا الفصل الثالث الطويل (بعنوان «عالم غير غربي؟») لتناول التغريب، والحداثة، والأمركة. وقد كتب يقول: «إن العالم يتحول من الغضب إلى اللامبالاة، من معاداة أمريكا إلى ما بعد أمريكا.»6 لقد حدث تغيير جعل العالم غير مبالٍ بالتغريب، ويعود ذلك جزئيًّا إلى نجاح الأنماط الغربية في الحياة والسلوك. ويضيف زكريا في كتابه قائلًا: «لقد كان هناك إكراه وراء انتشار الأفكار الغربية، لكن كان هناك أيضًا العديد من غير الغربيين الحريصين على تعلم طرق الغرب. وكان السبب وراء ذلك بسيطًا؛ هم يريدون النجاح، ويميل الناس دائمًا لتقليد نموذج من استطاعوا النجاح.»7 ويعود زكريا إلى التاريخ لتقديم أمثلة عديدة على هؤلاء: بطرس الأكبر، وكمال أتاتورك، فوكوزاوا يوكيتشي (مُنظِّر إصلاح ميجي)، والهندي جواهر لال نهرو، والرئيس المصري جمال عبد الناصر. إذا كان هذا الأخير كانت لديه خلافات ونزاعات مع الغرب، فيذكرنا زكريا بأن الماركسيين في العالم النامي أيضًا «كانوا ببساطة ينهلون من التقاليد الراديكالية للغرب.» لقد أصبح العالم حديثًا بالفعل، وأضحى في واقع الأمر غربيًّا: «إذا سرت في شارع في أي مكان من العالم الصناعي اليوم، فسترى تنويعات من نفس الموضوعات؛ ماكينات الصرف الآلي الخاصة بالبنوك، والمقاهي، ومحلات الملابس بتخفيضاتها الموسمية، والجاليات المهاجرة، والموسيقى والثقافة الشعبية.»8 إن هذا لا يدعو للقلق، بل إنه بالأحرى سبب للاحتفال. إذا كانت التقاليد تتآكل في جميع أنحاء العالم، يعود السبب وراء ذلك لما يلي:
صعود العامة، مدفوعين بالرأسمالية والديمقراطية. وكثيرًا ما يرتبط هذا بالتغريب لأن ما يحل محل القديم — الثقافة السائدة الجديدة — يبدو غربيًّا، وتحديدًا أمريكيًّا. لقد أصبح ماكدونالدز والبناطيل الجينز الزرقاء وموسيقى الروك أمورًا عالمية، وما فتئوا يزاحمون أنماط الطعام والملبس والغناء القديمة والأكثر تميزًا. إلا أن القضية هنا تتعلق بمخاطبة جمهور أكبر كثيرًا من النخبة الصغيرة التي درجت على تحديد أعراف البلد. تبدو القصة أمريكية لأن أمريكا، البلد الذي ابتكر النزعة الاستهلاكية والرأسمالية الجماعية، بدأت هذه النزعة أولًا. لقد أصبح تأثير الرأسمالية الجماعية الآن عالميًّا.9
لقد برزت الحداثة أو التغريب بوصفها جزءًا من تطور تاريخي له درجة معينة من الحتمية. وفي الفصل الختامي من كتاب زكريا (بعنوان «الغرض الأمريكي»)، من الواضح أنه يرى أن هذه التطورات مفيدة للولايات المتحدة الأمريكية: «يسير العالم على نهج أمريكا؛ فالدول تصبح أكثر انفتاحًا، وديمقراطية، وإتاحة لحرية التجارة. وما دمنا نحافظ على نمو قوى الحداثة، والتفاعل العالمي، والتجارة، فسوف يسير كلٌّ من الحكم الرشيد، وحقوق الإنسان، والديمقراطية قدمًا للأمام.»10 وسواء ظلت الولايات المتحدة هي القوة العالمية الوحيدة، أو استمر نصيبها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في الانخفاض أم لا، فهي الرابحة بالفعل؛ لأن القيم والمبادئ المنظمة للكوكب هي ذاتها القيم والمبادئ الخاصة بها.
حتى لا تعتقد أن هذه الطريقة في تأطير الأمور هي رؤية تتعلق بزكريا وحده، فلنلقِ نظرة على مجموعة مماثلة من المزاعم في كتاب كاجان «عودة التاريخ»:
لقد تبنَّت جميع الدول الغنية والقوية في العالم، بدرجةٍ ما، الجوانبَ الاقتصادية والتكنولوجية، بل وحتى الاجتماعية، للحداثة والعولمة. وقد تبنَّت جميعها، لكن بدرجات متفاوتة من الشكوى والمقاومة؛ التدفق الحر للسلع، والتمويلات، والخدمات، واختلاط الثقافات وأنماط الحياة، وهي السمات التي تميز العالم المعاصر. وتزايدت مشاهدة الشعوب للبرامج التليفزيونية نفسها، والاستماع إلى الموسيقى نفسها، والذهاب لمشاهدة الأفلام نفسها. وإلى جانب هذه الثقافة الحديثة السائدة، تقبلت الشعوب، حتى مع أنها قد تبدي تأسفها على ذلك، الخصائصَ الأساسيةَ للأخلاق والجماليات الحديثة. تعني الحداثة، من بين أمور أخرى، التحرر الجنسي، إلى جانب السياسي والاقتصادي للمرأة، وضعف سلطة الكنيسة وتعزيز وجود ما اصطُلح على تسميته بالثقافة المضادة، وحرية التعبير في الفنون (إن لم يكن في السياسة) التي تشمل حرية الكفر والسخرية من الرموز الدينية، والسلطة، والأخلاق. هذه هي النتائج المترتبة على تبني الليبرالية والرأسمالية دون أن يردعها أو يقيدها تقليد، أو كنيسة قوية، أو حكومة أخلاقية ومهيمنة.11

لا يجد زكريا أي مشكلة مع اتخاذ الحداثة أشكالًا ثقافية مختلفة؛ أي إذا كانت الثقافة هنا تعني أنواع الملابس التي يمكن للمرء أن يرتديها في العمل، أو الطعام الذي يتناوله، أو القصص التي يقرؤها. ويشجع كاجان كذلك الثقافات المضادة وأشكال التعبير الفني الحر؛ فكلاهما متقبل للاختلاف، بل ويشجعه، ما دام هناك قبول لِحِس عام أو عقلانية اجتماعية أكثر تأسيسًا، ومن دون تعليق: فلم يتم انتقاد الرأسمالية أو الديمقراطية الليبرالية «على الإطلاق» في أي موضع، أو تناول طبيعة العمل، أو التفكير في مستويات عدم المساواة الاقتصادية والمعاناة الاجتماعية. ولكن مجددًا، لن يساعد استكشاف مثل هذه المسائل على تبرير استمرار سلطة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتأكد على مستوًى عميق من خلال حقيقة أنه لم تَعُد هناك أي حاجة للصراع من أجل الموافقة على عقلانية اجتماعية أساسية أصبحت الآن عالمية؛ وما اصطلحا على تسميته ﺑ «الحداثة» في تعريف غير صحيح (وإن لم يكن متعمدًا) لهذه العملية التاريخية المعقدة لما يظهر هنا: المنطق الثقافي للِّيبرالية الجديدة، الذي يختفي خلفه تكثيف لعقلانية السوق المشار إليها آنفًا من قِبل ويندي براون.

لقد انتهت العولمة بوصفها تمثيلًا للهيمنة الأمريكية على العالم فيما بعد الحرب الباردة، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تحتفظ بمكانتها الرائدة في العالم، بفضل حقيقة أن الكوكب قد أعيد صياغته في صورتها، دون تحديد أي عواقب لذلك. ويحمل سرد كلٍّ من زكريا وَكاجان ملامح الشكل الخطابي الذي أَسْمَتْه ساريكا شاندرا، من منطلق إدراكها، «اللامحلية».12 بالنسبة إلى شاندرا، يبدو أن اللامحلية تحاول الامتداد إلى العالم، ولكن بوصفها وسيلة لترويض العالم فحسب بغية تحويله إلى مكان آمن لتنفيذ مشروعات وأيديولوجية أمريكية. إن اللامحلية «هي» الأمركة متنكرة في زي العولمة؛ أي التفكيك الظاهري للافتراضات والأيديولوجيات القومية بما يؤدي في الواقع إلى امتداد السطوة الأمريكية بقوة، أو على الأقل توفير إمكانية تحقيق هذا الامتداد، على نطاق عالمي. وحتى مع تحدِّي هذه السلطة على مستويات متعددة — سياسية واجتماعية واقتصادية — فهي لا تواجه تحديًا على المستوى الثقافي؛ مما يعني أن النخب في الولايات المتحدة الأمريكية تجد عالمًا منفتحًا أمامهم، وأن سائر النخب قد «أصبحت صورة» منهم، على الرغم من وجودهم ماديًّا في دول وبين شعوب أخرى.

في تحليلها لظاهرة اللامحلية، تنظر شاندرا إلى الاستخدام المدهش للنظرية الثقافية والخيال الأدبي في نظرية الإدارة المعاصرة، والانفتاح الواضح للدراسات الأمريكية على تكوينِ ما بعد القومية المؤطَّر مع ذلك حول الأمركة، وإن كان ذلك بنحو خفي، والديناميكيات السياسية المستمرة لأدب الرحلات بعد انتهاء السفر بوصفه مجالًا لملاقاة كل ما هو جديد وغريب (بالرغم مما يحتويه ذلك من إشكاليات)، والأشكال الجديدة من السياحة التي تنظم حول ثقافات الغذاء، وهي البقية الباقية من الاختلاف التي تتحرك بنحو رائع في وضع عالمي من التميز والذوق البرجوازي. في كل حالة من الحالات السابقة، هناك محاولة غير مكتملة أو مشبوهة لإبعاد الهوية القومية في محاولة لإظهار التعقد النظري أو الملاءمة المعاصرة؛ لنأخذ على سبيل المثال الصراع الذي دام لعقد لتستطيع الدراسات الأمريكية أن تقدم نظريات أو موضوعات عالمية، وفي الوقت نفسه تستمر في التركيز بثبات على كل ما هو أمريكي. هناك شيء مختلف قليلًا في أعمال مثل عمل زكريا. وما يحدث على مستوى عالمي يؤكد قوة الأيديولوجية القومية، ليس هذا وحسب، بل ويكشف أن المسرح العالمي مساحة آمنة أيديولوجيًّا حتى فيما بعد العولمة؛ أي مستوًى مناسب حيث يمكن إنشاء سرد يستطيع أن يكتب بثقة نهاية سلطة الولايات المتحدة الأمريكية، حتى أثناء تأكيده على استمرار مكانتها ووظيفتها. أما فيما بعد العولمة، فلن يتغير أي شيء؛ لأن العالم قد تغير بالفعل من خلال العولمة؛ مما يعني أن أي عمل يهدف إلى إرشاد الولايات المتحدة الأمريكية لما يجب عليها القيام به في عالمِ ما بعد أمريكا ينتهي به الأمر إلى إخبارها بما هي تفعله بالفعل.

من الناحيتين الأيديولوجية والسياسية، يرى المؤلفون الذين سنتناول أعمالهم بالتحليل فيما يلي أنهم يتخذون موقفًا مخالفًا للغاية لموقف زكريا، وبالتأكيد مختلفًا عن موقف كاجان. أما أوجه الشبه بينهم فهي أن ليبراليتهم تعمل أيضًا في عالمِ ما بعد أمريكا الذي يُقدَّم على أنه آمن بالنسبة إلى أمريكا وأفكارها حتى فيما بعد العولمة. وهذا يوضح سبب ثقتهم التي يروجون من خلالها لقيم الديمقراطية الليبرالية في مقابل الليبرالية الجديدة، والتي دعوا من خلالها لأفكار أقدم متعلقة بالرأسمالية الديمقراطية الليبرالية لرسم خريطة المستقبل. وعلى الرغم من ذلك، يبدو العالم بالفعل أقل ثقةً ويقينًا. تتبعُ التحليلاتُ التي سنعرضها أدناه حدود الليبرالية فيما بعد العولمة، وهي حدود شكل من أشكال الحس العام الذي يرفض حتى في أكثر حالاته تطرفًا (نشير هنا إلى أعمال ناعومي كلاين) التخلي عن الرأسمالية، مهما كانت المشاكل والصدمات التي يتسبب فيها.

(٢) الليبراليون الجدد يتَّشحون بالسواد: ريتشارد فلوريدا13

في المجتمع الشيوعي، حيث لا يمتلك أي شخص مساحة حصرية للنشاط، ولكنه يمكن أن يصبح بارعًا في أي مجال يرغب في العمل به، ينظِّم المجتمع الإنتاج العام؛ ومن ثَمَّ يسمح لي بأداء شيء اليوم وغيره في اليوم التالي؛ فيمكنني صيد الحيوانات في الصباح، وصيد الأسماك بعد الظهر، ورعي الماشية في المساء، والانتقاد بعد العشاء، كما أرغب تمامًا، دون أن أصبح صيادًا للحيوانات، أو صياد سمك، أو راعي ماشية، أو ناقدًا.

كارل ماركس، «الأيديولوجية الألمانية»14

من الصعب أن نفرق بين أستاذ يحتسي الإسبريسو ومصرفي يرتشف الكابتشينو.

ديفيد بروكس، «بوبوس في الجنة»15
مع نشر كتاب «صعود الطبقة المبدعة» في عام ٢٠٠٢، أصبح ريتشارد فلوريدا على الفور تقريبًا من الشخصيات المؤثرة في مجموعة من المجالات والتخصصات. كان ريتشارد أكاديميًّا، وشكلت أفكاره على مدى العقد الماضي المناقشات الخاصة بالشئون الجارية والقرارات التي يتخذها رجال الأعمال والحكومة. وعلى الرغم من أنه لم يبتكر مصطلح «الطبقة المبدعة»، فإن تحليله ووصفه الدقيقين لخصائص ووظيفة ما يراه بوصفه المجموعة الاجتماعية والاقتصادية المهيمنة حديثًا، كفل له أن يشار إليه باعتباره من مؤسسيها، والمتحدث الرسمي باسمها. ظل فلوريدا مدافعًا ومؤيدًا قويًّا للطبقة المبدعة والمفاهيم المتصلة بها (المدن المبدعة والاقتصادات المبدعة) عبر سلسلة من الكتب المتتابعة التي تجيب عن الانتقادات بشأنها، وتقدم المزيد من التوضيح للأفكار الأساسية التي ذكرها في كتابه السابق الإشارة إليه.16 ومع ذلك، يظل كتابه الأول هو الأهم؛ من حيث صياغة المفاهيم والأفكار التي يواصل تقديمها، والاهتمام والنقد اللذين ولَّدهما، وتأثيره الدائم على اللغة التي وضعت إطار قرارات التخطيط الاقتصادي والحضري المعاصر.
في كندا (وطنه الجديد)، حصلت أفكار فلوريدا على ثناء أكثر مما تعرضت له من انتقاد، والمزيد من القبول أكثر من الرفض. وقد احتفت وسائل الإعلام المحلية والقومية على حد سواء بتعيينه في عام ٢٠٠٧ أستاذًا للأعمال والإبداع بكلية روتمان للإدارة بجامعة تورونتو، ومديرًا أكاديميًّا لمعهد الرخاء الذي كان قد أنشئ حينها حديثًا. كان هذا نموذجًا لهجرة الطبقة المبدعة التي كان فلوريدا نفسه يكتب عنها، مع إضافة أن انتقاله من مدينة واشنطن إلى تورونتو بدا تأكيدًا على الأهمية المتزايدة للأخيرة بوصفها مدينة مبدعة. وحتى قبل وصوله فعليًّا إلى تورونتو، اهتمت بشدة حكومات المدن في كندا بمسألة المدن المبدعة؛ حيث كانت شغوفة بوضع تصور للتخطيط الحضري يتناسب مع تحديات وتوقعات عصر الليبرالية الجديدة. إذا كانت منظمات مثل شبكة مدن كندا المبدعة أو سلسلة مؤتمرات الأماكن والمواقع المبدعة، التي نظمتها المجموعة غير الهادفة للربح آرت سكيب، تَشِي بأي شيء، فهو أن فكرة أن الإبداع ضروري لتحقيق النمو الاقتصادي قد أصبحت مفهومًا مترسخًا لدى الحكومات الحضرية في جميع أنحاء كندا؛ في المدن الكبرى مثل فانكوفر ومونتريال، وكذا في الأماكن الأصغر، من مونكتون وحتى موس جو.17 وفي محاولة لتكوين محيط حضري جاذب لأعضاء الطبقة المبدعة، سعت الحكومات المحلية والإقليمية والقومية في جميع أنحاء العالم إلى إنشاء برامج جديدة لدعم وتشجيع الثقافة. وبدلًا من أن يكون قطاع الفنون والثقافة عبئًا على الاقتصاد، أصبح الآن بمنزلة هبة محتملة للربح المالي، وجزءًا من أجزاء الاقتصاد يجب الاستثمار فيه.18

هل هناك خطأ في هذا الاهتمام بالأثر الاقتصادي للإبداع؟ حتى لو من الناحية الاستراتيجية فحسب — هذا التركيز على النتائج بدلًا من المفاهيم، والحجج، والنظريات التي يستخدمها فلوريدا وغيره للدعوة إلى الإبداع اليوم — ألا يمثل هذا التطور وضعًا مثمرًا وإيجابيًّا للفنون والثقافة، هذه المجالات التي نتوقع ونأمل أن تجد طرقًا جديدة للتخيل والتفكير والاعتقاد؟ إذا كانت لغة المدن المبدعة والطبقة المبدعة تولد المزيد من الأموال للمتاحف وتزيد المنح المقدمة للفنانين والعاملين في الحقل الثقافي، وتوسع رعاية الحكومة للمهرجانات، وما إلى ذلك؛ فما الذي يمكن أن يكون خطأً في ذلك؟ وهل هناك أي علاقة بين هذا وبين دراما العولمة وما بعدها التي نناقشها هنا؟

نود أن نشير إلى أن إعادة تعريف الفنون باعتبارها «واحدة من عديد» الممارسات الإبداعية التي تشكل اقتصاد القرن الحادي والعشرين تعد مشكلة. يمثل التوسع في الحديث عن الإبداع في الاقتصاد ككل خسارة في كيفية فهم سياسة الفن، وهو التحول من ممارسة تحظى بدرجة معينة من الاستقلال (وإن كانت مشكوكًا فيها وإشكالية على المستوى النظري) إلى ممارسة لا تمتلك أيًّا من هذا. وربما أهم من ذلك، أنه يشكل إعادة تصور أساسي لعمليات العمل في ظل الرأسمالية العالمية التي تنحِّي جانبًا المخاوف المتعلقة بالتعهيد الخارجي، واستغلال عمالة المصانع، وتقليص العمالة، وسائر المخاوف.

فيما يلي، نقدم تحليلًا مفصلًا لكتاب «صعود الطبقة المبدعة» لفلوريدا لإظهارِ ما يفعله خطاب «الإبداع» في فهمه للعولمة. هناك الآن العديد من الانتقادات الموجهة لأفكار فلوريدا، خاصة من قِبل الاقتصاديين والجغرافيين الحضريين الذين يشككون في مزاعمه حول طبيعة الطبقة المبدعة والمساحات التي تشغلها. لكن ما لم يُعالَج بنحو مباشر هو فكرة الإبداع الذي يتوقف عليه كل شيء، وهو المفهوم الذي يُستدعى على نحو متزايد من أجل إنجاز أعمال مفاهيمية وسياسية مهمة من الجانبين؛ اليمين واليسار. وللفهم الكامل للآثار المترتبة على طريقة فلوريدا في وضع مفاهيم الإبداع — وهي فكرة الإبداع الذي يلوح بأن يتحول إلى حس عام، هذا إن لم يكن قد أصبح كذلك بالفعل — من المهم فحص مزاعمه ببعض التفصيل.

كما هو متوقع من عمل معاصر، شعبي، غير روائي يتناول قضايا اجتماعية، كان الوعد الأساسي وموطن الجاذبية في كتاب «صعود الطبقة المبدعة» لريتشارد فلوريدا هو تقديم ظاهرة اجتماعية جديدة كشف عنها المؤلف؛ وتَبْرز أهمية هذه الظاهرة لكونها ضرورية لفهم طبيعة المجتمع العالمي المعاصر، فضلًا عن مستقبله القادم. يأخذ خطاب الكتاب شكل حكاية المستكشف؛ السرد اللاهث لاكتشاف نقلة نوعية تعيد ترتيب إدراكنا لعمليات العالم الاجتماعي. يسعى فلوريدا إلى إقناعنا بأن الطبقة المبدعة هي المسئولة في المقام الأول عن الشق الأكبر من التطور الاقتصادي، وأن تأثيرها على الاقتصاد وأهميتها بالنسبة إليه سوف يتزايدان في العقود المقبلة. إن التركيز على طبقة معينة فيما يتعلق بوظيفتها الاقتصادية أمر مهم. وعلى الرغم من أن فلوريدا يفترض أنه يقدم تحليلًا واسع النطاق للمجتمع المعاصر — حيث نصَّب نفسه وريثًا لعمل علماء اجتماع من أمثال ويليام إتش وايت، وَسي رايت ميلز، وَجين جاكوبس — فإن الكتاب بالأساس يبقى كتابًا عن إدارة العمالة. في سياق تنوع التغيرات والتطورات الاجتماعية، وخاصة المجتمع التكنولوجي المنتظر، يحلل الكتاب خصائص الطبقة المبدعة، ودوافع أعضائها، ومتعهم، وعاداتهم، وميولهم، وأهدافهم، وما يحبونه، وما يكرهونه؛ بغية منح الشركات الأدوات المفاهيمية اللازمة لحصد ثمار إبداعهم. ويهدف الكتاب كذلك إلى تقديم المشورة الاقتصادية لمجالس المدن ومخططي الحضر (وليس لحكومات الولايات أو الحكومات القومية، بالنسبة إلى فلوريدا؛ فكما هو الحال عند ساسكيا ساسين، تُعد المدينة هي الوحدة الأساسية للفترة المعاصرة).19 ويوضح فلوريدا تمامًا أن تغيير بيئة عمل الطبقة المبدعة ليس كافيًا. فيمكن الاستفادة الكاملة من طاقات الطبقة المبدعة فقط في البيئات الحضرية؛ حيث تجد هذه الفئة الوضع مشجعًا لها على الحياة. ويقدم الكتاب إرشادات لصفة وطبيعة المقومات الثقافية والخصائص الحضرية التي توفر الظروف الملائمة للإبداع الذي أصبح غاية في الأهمية للاقتصاد اليوم.

تلقَّى هذا الجانب من الكتاب معظم النقد والاهتمام الإعلامي الموجه لفلوريدا. يقدم الجزء الرابع الطويل من الكتاب الذي بعنوان «المجتمع»، سردًا لما يشكِّل «المراكز الإبداعية»، ونظرة عامة على مختلف الإجراءات الإحصائية التي استخدمها فلوريدا وزملاؤه لرسم الخريطة الجغرافيا الحضرية الجديدة للطبقات في الولايات المتحدة الأمريكية. ويستكشف فلوريدا منطق الفجوة المتنامية بين المدن التي تضم أعدادًا كبيرة من المنتمين للطبقة المبدعة، وتلك التي لا تمتلك مثل هذه الأعداد؛ ويرتبط هذا التقسيم مباشرة بالوضع المالي الحالي للمدن موضع البحث. إن السؤال الرئيسي الذي ينظم دراسة فلوريدا للاقتصاد في المناطق الحضرية هو سبب اختيار أعضاء الطبقة المبدعة العيشَ في بعض المدن أكثر من غيرها. إن توضيح الخصائص التي تجعل المدن التي تأتي على رأس قائمة المدن المبدعة — ألا وهي سان فرانسيسكو، وَأوستن، وَسياتل، وَبوسطن — جذابة للغاية بالنسبة إلى الطبقة المبدعة، يهدف إلى مساعدة المدن التي تقع في أسفل تلك القائمة — وهي ممفيس، وَنورفولك، وَبافلو، وَلويزفيل — على تطوير برامج وسياسات تهدف إلى تحسين اقتصاداتها.

يمكن للمرء أن يفهم سبب توجيه الانتقادات فيما يتعلق بهذه النقطة؛ أولًا: تستخدم وسائل الإعلام المحلية كتاب فلوريدا إما للتدليل على مكانة مدنهم وإما للتشكيك فيها (هل بافلو أو ممفيس أماكن رهيبة حقًّا لا يمكن العيش بها؟ هل يمكن لمثل هذه الأماكن أن تصبح جذابة لمهندسي البرمجيات والمستثمرين؟) ثانيًا: هناك اعتراضات على صحة وجدوى المؤشرات الجديدة التي استخدمها فلوريدا للوصول إلى تصنيفاته؛ فبالإضافة إلى بعض المؤشرات مثل الابتكار (الذي يقاس بنسبة براءات الاختراع للفرد الواحد) والترتيب فيما يتعلق بالتكنولوجيا المتقدمة (الذي يحدد من خلال المؤشر التقني لمعهد ميلكن)، استخدم فلوريدا أيضًا مقياسين مثيرين للجدل أكثر: مؤشر المثليين، ومؤشر البوهيميين. لقد تسببت الأبعاد السياسية التي استشعر العديدون أنها مخفية في هذين المقياسين في إثارة الجدل. بالنسبة إلى فلوريدا، يشير مؤشر المثليين — أي عدد المثليين في مدينةٍ أو منطقةٍ ما — إلى مدى التسامح بين سكان المنطقة، في حين أن مؤشر البوهيميين — أي «عدد الكتَّاب والمصممين والموسيقيين والممثلين والمخرجين والرسامين والنحاتين والمصورين والراقصين»20 — يحدد المقومات الثقافية في المنطقة، وتجدر الإشارة إلى أن السيمفونيات وقاعات الحفلات الموسيقية لم تكن تحظى بنفس الاهتمام (هناك مؤشرات أخرى لها) الذي تحظى به الجوانب الأكثر تطورًا التي تمثل الأجواء المميزة للمنطقة. ما علاقة هذه العوامل بالاقتصادات الحضرية؟ يدعي فلوريدا أن «الفنانين، والموسيقيين، والمثليين، وأعضاء الطبقة المبدعة بنحو عام يفضلون الأماكن المنفتحة والمشجعة على التنوع.»21 ويشير فلوريدا إلى وجود ارتباط قوي بين هذه المؤشرات المختلفة، وعدد سكان الطبقة المبدعة في منطقةٍ ما، ونجاح الاقتصاد. ولأسباب سنوضحها خلال لحظات، هناك اعتقاد بأن أعضاء الطبقة المبدعة يقدرون نمط الحياة، والتفاعل الاجتماعي، والتنوع، والأصالة، والهوية. لم تكن المدن تحب أن تُعتبر غير لطيفة (ممفيس، وديترويت) أو متعصبة (سانت لويس، وممفيس المسكينة أيضًا)؛ بالإضافة إلى ذلك، أدى تصنيف المدن المبدعة في مقابل المدن غير المبدعة على المستوى الحزبي، حيث تميل المدن المبدعة إلى أن تكون زرقاء (أي تابعة للحزب الديمقراطي)، فيما تبدو المدن غير المبدعة حمراء (أي تابعة للحزب الجمهوري)؛ إلى تشكك الكثيرين من اليمين السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية في النوايا الحقيقية لدراسة فلوريدا.

لقد ولَّدت الادعاءات والحجج المقدمة في الجزء الأخير من كتاب فلوريدا حول العلاقة بين المدن والإبداع عددًا من الانتقادات؛ فيما لم تُثِرِ الأجزاء الأولى الأكثر موضوعية انتقادات كثيرة. تقدم الأجزاء الثلاثة الأولى، «عصر الإبداع» و«العمل» و«الحياة والترفيه»، دراسة مفصلة لطبيعة الطبقة المبدعة. بعبارة أخرى، يعرف الكاتب في هذه الأجزاء ما يجعل هذه الطبقة تحصل على تصنيف طبقة من الأساس. وكما قد يشير تفضيل التسامح والتنوع والانفتاح على الأفكار الذي ذُكر آنفًا، فإن هذه الفئة ليست طبقة بأي معنًى موضوعيٍّ من معاني المصطلح، سواء فيما يتعلق بالاقتصاد الكلاسيكي (تقسيم العالم إلى أربعة أو خمسة أجزاء استنادًا إلى الدخل) أو بالمعنى الماركسي من حيث من يبيعون عملهم في مقابل من يشترونه. تُعامل الطبقة المبدعة بادئ ذي بدء بوصفها طبقة اقتصادية؛ إلا أنها طبقة اقتصادية قد جُمعت معًا ليس من خلال وظائف أعضائها فحسب، ولكن لأنهم يتبنون نمط حياة مشترك؛ فلسفة في الحياة تتجاوز وتربط معًا الأنماط المختلفة للعمل، والترفيه، وتحقيق الذات، والسلع الاجتماعية. إذا كان للمرء أن يصف هذا النمط من الوجود في كلمة واحدة، فهي تلك الصفة التي يصف بها فلوريدا هذه الطبقة؛ ألا وهي: المبدعة. ولذلك يمكن أن نتوقع وجود تعريف واضح، أو حتى محاولة للوصول إلى تعريف، مع الوضع في الاعتبار أن المعاني الاجتماعية للمصطلح فضفاضة وغير واضحة للغاية؛ حيث يمكن أن يبدو هذا التعريف في بعض الأحيان تفضيليًّا فارغًا: فإطلاق صفة الإبداع على شيءٍ ما لا يزيد عن كونه موافقة أو ثناءً عليه. أما ما يثير الذهول، فهو أنه لم يتم تحديد أي تعريف له. ومع ذلك، فهناك أهمية ووظيفة أساسية لكلمتَي «مبدعة» (الصفة)، و«الإبداع» (الاسم) الذي يبرز في كتاب فلوريدا. لإدراك ما يقوم به مفهوم الإبداع لفهم العالم الاجتماعي، وكذلك العمل الذي يقوم به بوجه عام اليوم، على المرء أن ينظر في أهمية التعريفات والارتباطات المتعددة التي يقترحها الكاتب خلال الكتاب.

على الرغم من أن العديد من الأوصاف التي يشير بها فلوريدا إلى الإبداع تبدو وكأنها تدور في نفس النطاق (أي إنها جميعًا تشير إلى نفس الاسم، ونفس الشيء، حتى ولو أنها تفعل ذلك مع وجود بعض الاختلافات الطفيفة)، فإن فحص المزاعم والافتراضات المقدمة في كل حالة أمر ضروري. هناك (على الأقل) «سبعة» أشكال أو أنماط للإبداع محددة في كتاب فلوريدا، وهي كالتالي:
  • (أ)
    الإبداع صفة فطرية في العقل أو المخ البشري. و«النزعة الإبداعية هي السمة التي تميزنا بوصفنا بشرًا عن سائر الأنواع الأخرى.»22 تميِّز هذه السمة الإنسان وتوضح اختلافه كما هو، على الرغم من أنها تُعرَّف كذلك بأنها «قدرة كامنة في كل الناس تقريبًا بدرجات متفاوتة.»23
  • (ب)

    الإبداع من الخصائص الثقافية أو الاجتماعية و/أو السلع. وكما هو الحال مع الأفراد، يمكن للمجتمعات أن تكون مبدعة بنحو أو بآخر؛ فيمكن أن تنظم بحيث تفضي إلى الإبداع، أو تحدُّ منه، أو تمنعه. ويأتي كتاب فلوريدا بمنزلة تحذير للولايات المتحدة الأمريكية بأن تتوخى الحذر بشأن فقدان ميزتها الإبداعية لصالح دول مثل المملكة المتحدة وألمانيا وهولندا، والتي تعمل بجد أكبر من أجل زيادة الإبداع.

  • (جـ)
    الإبداع يعني تحطيم القواعد أو كسرها. و«هو يحطم الأنماط الحالية للفكر والحياة. ويمكن أن يبدو شيئًا تخريبيًّا وغير مستقر حتى بالنسبة إلى المبدع نفسه.»24 وللإبداع بوصفه عملًا محطِّمًا للقواعد أهميةٌ خاصة في إعادة سرد فلوريدا للدراما الاجتماعية لستينيات القرن العشرين، وأهميته المركزية في تأسيس روح وادي السيليكون والصناعات التكنولوجية بوجه عام أكثر.25
  • (د)

    يُعَد الإبداع العنصر الأساسي في أنواع معينة من العمل، الذي يمر عبر طيف من التعريفات والتصنيفات السابقة للعمالة (أي أصحاب الياقات البيضاء، وأصحاب الياقات الزرقاء، والطبقة التنفيذية، والطبقة العاملة). ويمكن أن تكون هناك وظائف إبداعية لأصحاب الياقات البيضاء كما هو الحال بالنسبة إلى أصحاب الياقات الزرقاء، ولهذا السبب يجد فلوريدا أنه من الأفضل أن نتحدث عن طبقة مبدعة بدلًا من الاعتماد على هذه التصنيفات الفوردية الأكثر قدمًا. تشكل الوظائف الإبداعية تحديًا، وتنطوي على عملية حل للمشكلات. وهناك متعة فطرية في هذا النوع من العمل، بل قد لا يُنظر إليه بوصفه عملًا إلا لأن المرء يتقاضى عنه أجرًا. وينجذب المبدعون إلى وظائفهم بسبب المكافآت الكامنة في طبيعة وظائفهم؛ فمثل هذه الأعمال تسمح للفرد بممارسة النزعة الفطرية المحددة في النقطة (أ).

  • (هـ)

    يُستخدم الإبداع باعتباره مصطلحًا بديلًا للأعمال التي تُنتج «الجديد»: الأفكار الجديدة، أو المفاهيم الجديدة، أو المنتجات الجديدة. بعبارة أخرى، الجديد هو الإبداع (والعكس صحيح).

  • (و)

    يرتبط الإبداع ارتباطًا وثيقًا بالتكنولوجيا. من مقاييس الإبداع عدد براءات الاختراع للفرد الواحد، وهناك مقياس آخر هو مقدار الإنفاق على البحث والتطوير. ويشير فلوريدا إلى هواتف نوكيا المحمولة وسلسلة أفلام «سيد الخواتم» بوصفهما من المنتجات الإبداعية. وعلى الرغم من أنه يشير إلى مجالات أخرى من النشاط ومنتجات أخرى بوصفها إبداعية، ليس ثمة شك في أنه يرى أن مجال التكنولوجيا المتقدمة المعاصرة هو أكثر المجالات التي يحدث فيها إبداع.

  • (ز)
    وأخيرًا، تم تعريف الإبداع مرارًا باعتباره سمة من سمات العمل في مجال الفنون، الذي تقع أنشطته ضمن نطاق مؤشر البوهيميين. وقد تَوسَّع هذا العنصر من الفنون الآن ليغطي أشكالًا أخرى من النشاط البشري نتيجة للتغير الاجتماعي والتطور التكنولوجي، أو ببساطةٍ نتيجةً لإعادة النظر في العملية الإنتاجية؛ فبنظرة سريعة يتضح أن العديد من أشكال العمل كان يتسم دائمًا بالفعل بالإبداع. إن «تأليف كتاب، أو إنتاج عمل فني، أو تطوير برامج جديدة يتطلب فترات طويلة من التركيز.»26 وعندما يصف فلوريدا الإبداع، تكون الفنون دائمًا على رأس القائمة: «يتطلب [الرخاء] زيادة الاستثمارات في أشكال متنوعة ومتعددة الأبعاد من الإبداع، مثل الفن والموسيقى والثقافة والتصميم والمجالات ذات الصلة؛ لأنها ترتبط جميعًا بعضها ببعض وتزدهر معًا.»27
في بعض الأحيان تقف هذه الأفكار المختلفة عن الإبداع منفردة؛ وفي كثير من الأحيان، يتم وصف الإبداع وتناوله من خلال ربط فكرتين أو أكثر من هذه الأفكار معًا. وتبدو سلسلة الارتباط التي يدير من خلالها فلوريدا هذه الأفكار كالتالي:
التكنولوجيا (و) مبدعة لأنها:
تمتلئ بالأشخاص الذين يسُمح لهم بكسر القواعد (ﺟ) ومن ثَمَّ، يستطيعون أن ينتجوا أشياءَ جديدة (ﻫ)،
وكل هذا نتيجةً لوضع اجتماعي جديد (ب)
يمكِّن الشركات من (د) إتاحة ظروف العمل التي تسمح بحدوث ذلك.
إن العمل في شركة للتكنولوجيا المتقدمة وامتلاك القدرة على الإبداع بهذا الشكل هو أفضل العوالم الممكنة جميعها، ولكن هذا مع ذلك في أساسه:

(أ) تعبير عن نزعة إنسانية فطرية سحقها الاقتصاد العالمي حتى الآن تحت الأقدام.

مما لا يثير الدهشة أنَّ تداول هذه الأفكار المتعددة عن الإبداع يَنتج عنه زيادة في الإطناب والتناقضات مع المضي قدمًا في الكتاب. يوصف الإبداع بأنه جانب أساسي في البشر،28 ومع ذلك، يخبرنا مرارًا وتكرارًا أن هناك «أشخاصًا مبدعين» (ومن ثم فهناك أيضًا مَن يُفترض أنهم أقل إبداعًا)، وطبقة متميزة يجب أن يكون إبداعها وظيفة شيء غير مجرد كونهم بشرًا عاديين.
لا شك أن التعريف السابع للإبداع (ز) هو الأهم من وجهة نظر فلوريدا. يحدد تعريفه الأكثر موضوعية السمة الرئيسية للطبقة المبدعة كالتالي: «أن أعضاءها منخرطون في عمل تتمثل مهمته في «إنتاج أشكال جديدة لها معنًى».»29 وبالتأكيد، يبدو هذا التعريف عامًّا بلا شك؛ تتضح طبيعة هذه الأشكال ووظيفتها في الاستفاضة في شرحه لأنواع العمل التي تشكل عمل الطبقة المبدعة. باستخدام الفئات الواردة في مسح العمالة المهنية الذي قام به المكتب الأمريكي لإحصاءات العمل، يقسم الكاتب الطبقة المبدعة إلى فئتين أساسيتين؛ وهما: الفئة الرئيسية العالية الإبداع والفئة المبدعة بنحو أعم. وتضم المجموعة الأولى عاملَين عبر نطاق واسع من فئات العمالة؛ وهي كالتالي:
العلماء والمهندسون وأساتذة الجامعات والشعراء والروائيون والفنانون والممثلون والممثلون الهزليون والمصممون والمهندسون المعماريون، فضلًا عن قادة الفكر في المجتمع الحديث؛ وهم: مؤلفو الأعمال الأدبية غير القصصية والمحررون والمثقفون والباحثون المفكرون والمحللون وغيرهم من صناع الرأي العام … ويمكنني أن أحدد أعلى شكل للعمل الإبداعي بأنه ذلك الذي ينتج أشكالًا أو تصميمات جديدة يمكن نقلها بسهولة والاستفادة منها على نطاق واسع، مثل تصميم المنتجات التي يمكن إنتاجها وبيعها واستخدامها على نطاق واسع.30
تحصل هذه الفئة على رواتبها مقابل المشاركة في إنتاج أشكال جديدة يمكن نقلها والاستفادة منها. وعلى العكس، بينما يُنتج باقي أفراد الطبقة المبدعة أحيانًا أشكالًا جديدة، فإن ذلك ليس جانبًا أساسيًّا من وظائفهم؛ فعليهم أن يفكروا بأنفسهم، ولكن أثناء ذلك قد لا ينتجون بالضرورة أشكالًا جديدة. أما المجموعة الثانية فهي على نفس المستوى من الاتساع، وتشمل العمال الذين يتمتعون بمعرفة عميقة مثل موظفي الصحة والقانون، ومقدمي الخدمات المالية، والمحامين، والعاملين في صناعة التكنولوجيا المتقدمة. إذا حظي أيٌّ من هؤلاء العاملين بفرصة المشاركة في إنتاج أشكال جديدة من خلال وظائفهم — كل شيء بدءًا من المنتجات الجديدة حتى فرص الوظائف الجديدة — فستصبح لديه الفرصة للانتقال إلى المستوى العالي الإبداع، حيث يصبح إنتاج أشكال جديدة صالحة للاستعمال وقابلة للنقل هو الغرض الرئيسي من عملهم.
يرى فلوريدا أن الإبداع سلعة اقتصادية، مثل النفط أو الفحم، أو عمل العمال في المناطق الحرة أو الماكيلدوراس، إلا أنها ليست كأي سلعة؛ فكما يقول فلوريدا بنحو مباشر في تمهيد طبعة كتابه الورقية الغلاف، ويكرر في مختلف أجزاء الكتاب، «الإبداع البشري هو المورد الاقتصادي الأساسي.»31 قد يتصور الكثيرون أن الإبداع صفة أو ميزة لها قيمة جوهرية، وهي قيمة لا تحددها الأسواق، ولا تتأسس من خلال فائدتها أو إمكانية نقلها. يرى فلوريدا الأمور من منظور مختلف. بالنسبة إليه، يقع الإبداع في صميم «التكنولوجيات الجديدة، والصناعات الجديدة، والثروة الجديدة»؛ ومن ثم لا بد من تشجيعه، حيث إن جميع «الأشياء الاقتصادية الجيدة تتدفق منه»؛32 ومن ثم، كانت مساهمة كتاب فلوريدا ذات شقين؛ أولًا: يلعب فلوريدا دور جماعات الضغط نيابة عن الإبداع بالنسبة إلى الحكومة، وقطاع الأعمال، والجمهور العام؛ حيث يعمل دون كلل لحملهم على الاعتراف بأهمية الإبداع بالنسبة إلى الاقتصاد. وثانيًا: وضع فلوريدا، في إطار دوره كعالم اجتماع، العديدَ من المخططات النظرية والتجريبية التي تهدف إلى الوصول إلى فهم أفضل للأنظمة الاقتصادية الإبداعية التي قد تطورت، حتى الآن، من تلقاء نفسها. وقد كان هدفه مساعدة التشجيع على الإبداع والاستفادة منه حتى يمكن أن تعمل تلك الأنظمة بنحو أفضل بفضل المعرفة التي تقدمها العلوم الاجتماعية؛ مما سيعود بالنفع — على حدٍّ سواء — على كلٍّ من الدول القومية وحياة العمال الذين يضيع إبداعهم حاليًّا في وظائف تقع خارج نطاق الطبقة المبدعة.
يا لها من رؤية يوتوبية، أليس كذلك؟ من يمكن أن يقف ضد المزيد من الإبداع في العالم، أو النتائج التي يبدو أن الإبداع قادر على إنتاجها: مجتمعات أكثر تنوعًا وتسامحًا، وظائف أفضل، وثروة للجميع؟33 كان رأي فلوريدا فيما يتعلق بأهمية الطبقة المبدعة لمستقبلنا جميعًا واضحًا لا لبس فيه، فيقول: «لقد تطورت النظم الاقتصادية والاجتماعية التي تستغل الإبداع البشري وتستفيد منه كما لم يحدث من قبل. ويُنتج هذا بدوره فرصة ليس لها مثيل في رفع مستوى المعيشة، وبناء اقتصاد أكثر إنسانية واستدامة، وجعْل حياتنا أكثر اكتمالًا.»34 ولم تُستغل هذه الفرصة حتى الآن. لحسن الحظ، إنَّ كل ما يقتضيه الأمر لتحقيق هذا المستقبل الاستثنائي هو اكتمال «التحول إلى مجتمع يستغل إمكاناتنا الإبداعية بالكامل ويكافئ عليها.»35 ويبدي فلوريدا — بوصفه عضوًا فخورًا من قادة الفكر في مجتمعنا — استعدادًا للمساعدة في إضاءة الطريق نحو مستقبل أفضل (وتكوين ثروة من خلال شركته الاستشارية أثناء ذلك).
وعلى الرغم من حماس فلوريدا لمشروع تحويل العالم لمكان أكثر أمانًا للإبداع، فإن نظرته للنظام الاجتماعي والاقتصادي بأنه نظام شبه كامل تفشل في معالجة عدد من القضايا أو تفسيرها، التي — مع أخذ الموضوع الذي يعرضه والمفاهيم التي يستخدمها في الاعتبار — لا يمكنه أن يتجاهلها. ويمكننا أن نحدد هذه الفجوات والأمور المحذوفة من خلال النظر إلى اللحظات القليلة التي كان يثير فيها المخاوف أو التساؤلات حول الصورة التي يرسمها للحاضر. في كتاب مكوَّن من ٤٠٠ صفحة يبدو في بعض الأحيان عازمًا على معالجة كل شيء تقريبًا (جيمي هندريكس وصعود الزراعة، وَتوماس فرانك ومدرسة فرانكفورت، ووادي السيليكون ومهارة فلوريدا الخاصة في بناء سيارات خشبية في مرحلة الطفولة)؛ هناك «ثلاث» لحظات فقط من الشك أو التردد إزاء وجهات النظر التي يقدمها. وتستحق هذه اللحظات أن تنقل بالكامل:
إن الاقتصاد الإبداعي ليس حلًّا ناجعًا للعلل الاجتماعية والاقتصادية العديدة التي يواجهها المجتمع الحديث؛ فهو لن يقوم بطريقة سحرية بتخفيف حدة الفقر، ولا القضاء على البطالة، ولا التغلب على الدورة الاقتصادية، ولن يؤدي إلى المزيد من السعادة والوئام للجميع … إن هذا النظام القائم على الإبداع، إذا تُرك دون قيود ودون تدخل بشري مناسب، قد يزيد بعض مشاكلنا سوءًا.36
تشير أبحاثي الإحصائية إلى علاقة إحصائية سلبية ومثيرة للقلق بين أماكن تركُّز شركات التكنولوجيا المتقدمة ونسبة السكان غير البيض … يمكن للاقتصاد الإبداعي أن يفعل القليل للحد من الفجوة التقليدية بين الشرائح السكانية من البيض وغير البيض، وربما يزيد الأمور سوءًا.37
الإبداع ليس سلعة رابحة في كل الأحوال، وإنما هو من القدرات البشرية التي يمكن استخدامها لتحقيق العديد من الأهداف المختلفة … وقد أدت التجارب الضخمة والمركزية المتعلقة بأشكال جديدة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية إلى حالات فشل ذريع مثلما حدث في الاتحاد السوفييتي، بينما هنا في الولايات المتحدة الأمريكية، أدى إبداع السوق الحرة إلى تحقيق الكثير من الأمور التافهة والمبتذلة، والتي بلا فائدة.38
لا يوجد أي تعليق بعد أول اقتباسين؛ حيث يقعان في نهاية أجزاء يستأنف فلوريدا بعدها تأييده الذي بلا هوادة للإبداع. ويأتي التحذير الثالث المتعلق بالأخطار المحتملة للإبداع في خاتمة الكتاب؛ حيث يوجه فلوريدا طاقاته نحو إقناع الرأي العام الأمريكي والحكومة بالاعتراف بأهمية الطبقة المبدعة ودعمها. وهناك دفاع وديع عن إمكانية توجيه الإبداع نحو الاستخدامات الشمولية، أو أن يؤدي إلى تخلف ثقافة المستهلك. ببساطة، بما أن الإبداع أصبح الآن في قلب الاقتصاد، ونظرًا لأنه يُعَد زيادة في الموارد التي من شأنها تعزيز القدرة على تحسين الأحوال في العالم، فهو سيبقى ضروريًّا، بغض النظر عن أن نتائجه تشمل كل شيء؛ بدءًا من القنبلة الذرية، ووصولًا إلى السلع غير الضرورية التي تملأ رفوف متاجر السلع البسيطة في جميع أنحاء العالم.
أما ما يظهر في هذه الفقرات الثلاث، فهو ما لا يَرِدُ ذكره على الإطلاق في بقية الكتاب؛ وهو: «الشق السياسي.» لم يتم أبدًا تحديد لمَ قد يؤدي هذا النظام القائم على الإبداع إلى زيادة مشاكلنا سوءًا؛ كما أنه يأتي من قبيل المفاجأة، نظرًا لِلَهجة الكتاب وانتصاره للإبداع، أن نعلم أن هذا النظام «ليس» حلًّا ناجعًا. ويدرك المرء من قراءة هذه الفقرات أنه لا توجد أي إشارة، أو ربما إشارات بسيطة فحسب، إلى مجموعة كاملة من القضايا المتعلقة بالعمل والعمالة في حقبة العولمة: الفقر والبطالة والتعهيد الخارجي والعمل في الخارج والدورة الاقتصادية؛ أو العِرق والعرقية في هذا الإطار. إلا أن هذه العوامل جميعها حاسمة في تشكيل تجربة العمل ودرجة المشاركة الاقتصادية للشخص، سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في أي مكان آخر. وهناك طرق أخرى لفهم قائمة المدن التي وضعها فلوريدا، ومستوياتها الحالية من عمال الطبقة المبدعة، التي ترتبط تحديدًا بالفقر، والبطالة، والعِرق، وعدم الحصول على التعليم (وهو أمر مطلوب في وظائف الطبقة المبدعة)، ووجود نقص في وسائل التنقل، وكذلك في الفرص.39 هذه القضايا سياسية عميقة، وليست مجرد أمور خارجية أو إضافية بالنسبة إلى النظام الذي يصفه. عند مناقشة فلوريدا للعرقية أو الهجرة، يصيغها باعتبارها سياقًا أو خلفية في إطار حضري؛ أي إنها التلون الحضري الذي يعطي المكان طابعًا خاصًّا من التنوع والتسامح، أو بعبارة أخرى، تبدو كمشهد موسيقيٍّ بديل جيد: جزء من التشكيل الضروري للمدينة الذي يسمح لأعضاء الطبقة المبدعة من البيض بالشعور بالرضا عن أنفسهم وعن المكان الذي يعيشون فيه. وقد أعلن فلوريدا عن أحد أسباب عدم تطرقه إلى السياسة، إلى جانب أن التطرق إليها من شأنه أن يفسد أناقة أنظمة فلوريدا والارتباطات القوية الواضحة الخاصة بها بين نوع العمل و«التسامح» و«التنوع»، في ردِّه على المشكلة المقدمة في الفقرة الثالثة أعلاه. عندما يتعلق الأمر بمنطق الاقتصاد، فإنه يفوق كل شيء آخر، حتى إمكانية صناعة أسلحة جديدة رهيبة، منوط بأعضاء الطبقة المبدعة (من دون شك) تصميمُها. وأيًّا كانت حقيقة الإبداع الاجتماعية، فقد بدا وكأنه اسم آخر للِّيبرالية الجديدة، أو إن لم يكن يعادلها، فهو عامل مهم في تفعيلها، لا سيما في اقتصادات ما بعد الصناعة.

على أحد المستويات، لن تكون هناك مبالغة إذا ما قلنا إن غياب السياسة هو غياب ﻟ «العالم» بنحو عام؛ إذ لا يوجد ذكر للأحداث الطارئة والتحديات التي تشكِّل القرارات الاقتصادية، وكذا قرارات مجالس المدن ومخططي المدن. ويمكن أن يكون هذا هو أحد الأسباب وراء وجود خلط تركيبي أساسي بين السبب والنتيجة في عمل فلوريدا عند تخيل كيفية عمل المناطق الحضرية: «نادرًا» ما يتم أولًا إنشاء المدن المبدعة التي تجتذب إليها العمال المبدعين فيما بعد (بعيدًا عن المدن الإبداعية الأخرى). العكس هو الصحيح والأكثر شيوعًا، مع ظهور أنواع معينة من المدن بسبب عمليات تاريخية خاصة بالصناعة والعمل. (هل يمكن للمرء أن يتصور، على سبيل المثال، أن تؤسس الصين مدينة مبدعة على نمط برازيليا من العدم؟ ما الذي يتطلبه الأمر لجعل هذا المكان مكانًا يدفع «قادة الفكر» لترك بكين وشانغهاي للذهاب والعيش فيه؟) ولكن قد يكون من الأفضل أن نركز على عنصر أصغر من الكتاب، يوضح — على صغره — بعض نقاط التقصير الأوسع نطاقًا.

يمكن التعرف على حدود بناء فلوريدا للطبقة المبدعة وما تقدمه من وعد للمستقبل من خلال حقيقة أن الكتاب الذي يعالج في الأساس قضية العمل لا يحتوي على أي مناقشة حقيقية للعمل على الإطلاق. تعمل الطبقة المبدعة على إنتاج أشكال جديدة وذات جدوى، إلا أنها تقوم بذلك باعتباره «عملًا»، أو نشاطًا داخل الشركات والمؤسسات المعروفة لنا جميعًا (الشركات التي تسترعي اهتمام فلوريدا هي عمالقة التكنولوجيا مثل ديل، ومايكروسوفت، وأبل). في مناصرة فلوريدا للإبداع، يبدو أنه قد نسي العمل، سواء عن عمد أو غير عمد. للعمل في ظل الرأسمالية عدد من الوظائف الاجتماعية والاقتصادية، أهمها — وهو سبب تعيين شركةٍ أو مؤسسةٍ ما لعضو من أعضاء الطبقة المبدعة — إنتاج منتج أو تقديم خدمة (مفيدة ويمكن نقلها، سواء كانت مادية أو معنوية). لا تتم هذه العملية من أجل خير الإنسانية، أو لأنها تسمح لأحد أفراد الطبقة المبدعة بالاستفادة من قدراته، ولكنها تهدف إلى تحقيق أرباح. وكما يعلم أي طالب في الصف الرابع، لا يمكن تحقيق الأرباح إلا إذا كان المبلغ المدفوع للعاملين المبدعين (وسائر العاملين) أقل من الدخل الذي يمكن أن يتولد من خلال المنتج.

هذا المعنى للعمل الرأسمالي — بوصفه جزءًا من نظام للربح — لا يظهر أبدًا في كتاب فلوريدا. بدلًا من ذلك، يؤكد فلوريدا على أن أعضاء الطبقة المبدعة «لا يعملون» بدافع جَنْي الأموال، وأن الفئة العالية الإبداع منها تحصل على مقابل مادي يقل حتى عن نظرائهم من المبدعين.40 وفي الاستطلاعات التي يستشهد بها فلوريدا، يشير العاملون في مجال تكنولوجيا المعلومات إلى أن تحدي العمل، والمرونة، والاستقرار هي الأسباب التي تسبق الأجر في سبب اختيارهم لوظائفهم، بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة (الإجازات، وتقدير آرائهم، وما إلى ذلك) تأتي بعد ذلك بفارق بسيط.41 بالنسبة إلى فلوريدا، يبدو هذا الاهتمام بالعوامل الأخرى غير الراتب هو العنصر الذي يميز الطبقة المبدعة؛ فرغبتهم في الحصول على وظائف مرنة ومنفتحة — تسمح لهم بتجنب ارتداء ملابس رسمية، أو الوصول إلى العمل في وقت متأخر، أو أفضل من ذلك مواصلة العمل أينما ومتى شاءوا (في المنزل، في مترو الأنفاق، أثناء التسوق، أثناء قراءة الرسائل على هواتفهم المحمولة، وما إلى ذلك) — يُنظر إليها باعتبارها علامة على نمط جديد من الحرية في العمل، ليس هذا فحسب، بل وشكلًا من أشكال الحرية الاجتماعية بوجه أعم.
وقد وجه العديد من النقاد الاجتماعيين والثقافيين الانتباه إلى الطرق التي تخفي بها هذه الحرية الجديدة الظاهرية التي حصلنا عليها في الواقع امتدادًا ليوم العمل التقليدي المستمر لثماني ساعات لكل جانب من جوانب حياة الفرد.42 بالنسبة إلى من يتمتعون بفهمٍ أكثر منهجيةً للاقتصاد الرأسمالي، وتحديدًا التغيرات التي مر بها على مدى العقدين الماضيين، يبدو هذا التحرر في بيئة العمل مجرد وضع جديد لإدارة العمل، يظل هدفه إجمالًا هو تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح للشركات والمساهمين. إذا كان العمال يرون أن وظائفهم تمثل مواقع لإثبات ذواتهم، وللتحدي والحرية وليس العكس، فسيكون ذلك أفضل كثيرًا للهدف الأساسي للشركات والمساهمين! إن تدريب الأفراد على الاستعداد للعمل في أي وقت من اليوم، والقيام بذلك دون إكراه خارجي، بل بسبب دافع فطري لإثبات الذات، لَهُو وسيلة سهلة لزيادة الإنتاجية دون الحاجة إلى زيادة الأجور. لا يبدي فلوريدا أي قلق إزاء إعادة التعريف هذه للعمل، بل إنه يجادل حتى بأن هذه المخاوف مبالَغ فيها ولا معنى لها.43
إن ما يعبِّر عنه كتاب فلوريدا، في جوهره، هو أحد أوهام العمل في ظل الرأسمالية: إمكانية أن يكون هناك في ظل الرأسمالية عملٌ دون استغلال؛ عمل يشبه اللعب. أما ما يدعو من يدرسون الفنون والثقافة إلى التوقف هنا لوهلة، فهو كيف تقترب بشدة هذه الرؤية من الغرض والوظيفة الاجتماعيَّين المثاليَّين للثقافة، إذا عملت في الاتجاه المعاكس. لقد كان الهدف من الطليعة التاريخية هو رفض العقلانية القاسية للمجتمع الرأسمالي من خلال إنشاء «تقليد لحياة جديدة ذات أساس فني.»44 يشير وصف فلوريدا للطبقة المبدعة إلى أن هذه الحياة الجديدة قد تحققت بالفعل. وبالنسبة إلى الطليعة التاريخية، كان من المفترض أن يحدث الانتقال إلى يوتوبيا ممارسة الحياة الجديدة عن طريق تحول الحياة والعمل عن طريق «الفن»؛ بحيث لم يعد الفن — باعتباره مجال حياة مستقلًّا ومنفصلًا عن النشاط الأكثر واقعية للحياة — ضروريًّا. إن الفصل بين الفن والحياة، الذي جعل النشاط المستقل المسمى بالفن على ما هو عليه، سيُتراجع عنه من خلال الممارسة الفعلية للفن ذاته. في ضوء رؤية فلوريدا لحاضرنا الإبداعي، يميل «العمل» نحو الفن بسبب حدوث تغيرات في شخصية العمل وطبيعته، ويعود ذلك جزئيًّا إلى التطورات التكنولوجية، وإلى ما يمكن وصفه فقط بتنوير جديد فيما يتعلق بطريقة توصيف مكان العمل. قد تبدو مساواة الطبقة المبدعة مع نشاط الطليعة أمرًا خياليًّا، إلا أنها الطريقة الأساسية التي تَصوَّر فلوريدا من خلالها الوظيفةَ الاجتماعيةَ للطبقة المبدعة. بالنسبة إليه، جمعت الطبقة المبدعة مختلف مجالات الحياة معًا لتسمح لهذا العنصر الفطري الخاص بالإبداع الذي نتَّصف به بوصفنا بشرًا ويميزنا عن الحيوانات بأن يظهر أخيرًا على المستوى الاجتماعي. ويكتب فلوريدا قائلًا: «لقد سئمنا من الفواصل الصارمة التي رسمت في السابق حدود العمل والمنزل والترفيه.»45 لحسن الحظ، تم محو هذه الفواصل في حقبة العولمة؛ «فصعود اقتصاد الإبداع يقرِّب بين مجالات الابتكار (الإبداع التكنولوجي)، والأعمال التجارية (الإبداع الاقتصادي)، والثقافة (الإبداع الفني والثقافي)، وذلك في توليفات أكثر تقاربًا وأكثر قوة من أي وقت مضى.»46 ويردف قائلًا: «اليوم، يحدث تداخل بين المثقفين وغير المثقفين، الجديد والشائع، العمل واللعب، الرئيس التنفيذي والإنسان العادي.»47 الرئيس التنفيذي والإنسان العادي، الأستاذ الجامعي والمصرفي: ربما، ولكن ماذا عن العمال الذين يصنعون ملابسهم وأجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم؟ وأولئك الذين يجمعون هواتف الآيفون الخاصة بهم؟
بطبيعة الحال، نرى أن رؤية فلوريدا تُعَد نوعًا من التفكير التواق أكثر منها يوتوبيا يمكن أن تتحقق بالفعل. فهو يتصور أن الرأسمالية قد حققت ما كانت الطليعة ترغب به كوسيلة للقضاء على الرأسمالية. كيف يمكن لهذا أن يكون؟ ما يمكن أن يتيح ويُبقي وَهْم الرأسمالية باعتبارها طليعية — أي إن الرأسمالية قد تجاوزت نفسها بالطريقة التي ظن الفن يومًا أنها يمكن أن تسلكها — هو مفهوم الإبداع نفسه. إن تاريخ مفهوم الإبداع والتغيرات التي مر بها بمرور الوقت معقدٌ للغاية.48 ويكفي أن نقول إن الإبداع، من حيث تاريخه الحديث، يرتبط على نحو شائع بعملية الإنتاج في الفنون الجميلة. إن فكرة إنتاج لوحة أو نوتة موسيقية تنطوي على خَلْق من عدم — ظهور شكل جديد من العدم — ينبع جزئيًّا من فردية الممارسة الفنية في بداية القرن التاسع عشر، وكذا من الخروج عن التصنيفات الشكلية المحددة بصرامة التي كان من المفترض ممارسة مثل هذه الأنشطة داخلها. إن الفنان هو نموذج للفرد المبدع، كما أنه نموذج لنوع من العمل تُحركه الدوافع الذاتية والأغراض الداخلية، والذي يتم خارج المؤسسات الرسمية للعمل.

على مدى القرن العشرين، أصبح الإبداع مرتبطًا بكل أنواع الأنشطة: الاكتشافات العلمية، والرياضيات، والاقتصاد، والأنشطة التجارية، إلى آخره؛ أيْ مرتبطًا بأيِّ شيء يبدو أنه ينطوي على إنتاج شيء جديد من أي نوع. وعلى الرغم مما تبقى من إنسانوية رومانسية في المصطلح، فإن أحد آثار هذا التوسع فيه هو تحوُّل الإبداع ليكون مرادفًا للأصالة أو الابتكار. في استخدام فلوريدا للمصطلح، يصبح الإبداع فعلًا أقل تحديدًا؛ حيث يدل في بعض الأحيان على أنه نوع من «حل المشكلات» الذي يحدث طوال الوقت في العمل وفي الحياة اليومية. ومع ذلك، فمن الضروري أن يحافظ الإبداع، تقريبًا في كل مرات استدعائه في كتاب فلوريدا، على صلته بالفنون والاستقلال والحريات (المتخيلة) المرتبطة بمثل هذا العمل. ويعزز ذلك من خلال المساواة التي يشير إليها فلوريدا مرارًا بين أعمال الفنانين والمهندسين والموسيقيين وعلماء الكمبيوتر. سيكون هناك شيء مفقود بالغ الأهمية في سرد فلوريدا إذا كان يريد أن يُشِيد لا بعمل الطبقة المبدعة، ولكن بعمل «عمال المعرفة»، أو «طبقة ما بعد الصناعة»، أو «الطبقة الإدارية المحترفة»، أو «المحللين الرمزيين»، أو «العمال المعرفيين» كذلك. يجعل وصفُ هذه الطبقة بأنها «مبدعة» طبيعةَ عملها غامضًا، ويحولها إلى شيء أكبر بكثير من مجرد تسمية لفئة جديدة من العمل في الرأسمالية المتأخرة. إن عبقرية استخدام كلمتَي «مبدعة» و«إبداع» بالطريقة التي استعان بها فلوريدا تتمثل في تحول العالم إلى شيء يتكون من «نشاط فني فقط» — إن لم يكن اليوم، ففي يوم قريب — إذا ما نُفِّذ ذلك من خلال أشكال مختلفة من العمل (ليس باستخدام ألوان الرسم، ولكن عن طريق لغة إكس إم إل، وليس من خلال مقاطع الفيديو المخصصة للمعارض الفنية، ولكن للعملاء على شبكة الإنترنت)، ومع وضع أهداف مختلفة في الاعتبار. ومن ثم، تصبح الفروق بين المهندس، وعالم الكمبيوتر، والمحامي شيئًا أقرب إلى ما بين الرسامين، والنحاتين، والسينمائيين؛ أي أشكالًا مختلفة لنفس النزعة الإبداعية الأساسية. في نفس الوقت، يفضي ملء العالم بالفن إلى تفريغه من التقلبات والظلم الناتجَين عن العمل في ظل الرأسمالية؛ أي عن العالم الذي نحيا فيه ويتوجب علينا أن نحسنه.

أما أكثر مجموعة تثير إعجاب فلوريدا، فهم العاملون في صناعة التكنولوجيا المتقدمة في أماكن مثل وادي السيليكون وَأوستن في تكساس. يشكل فهمُه لطبيعة الابتكار التكنولوجي، وإنتاج أجهزة وبرمجيات جديدة وعجيبة، فهمَه لما يُعد إبداعًا. وعلى الرغم من عدم إفصاحه عن ذلك، فإذا كان العمل الفني يُعد نموذجًا لما يشكل العمل الإبداعي بنحو عام، فالتكنولوجيا الجديدة هي الآلية التي يمكن من خلالها أن نتصور أن الإبداع يمكن أن يشكل نشاطًا حياتيًّا لعدد أكبر من الناس: فيمكن للابتكار أن يقضي على العمل الممل، تاركًا خلفه العمل الذي يمثل تحديًا فحسب. إلا أن هناك مستوًى آخر يمكن من خلاله أن نرى الصلة بين العمل الفني وذلك الخاص بالصناعات التكنولوجية الذي يهتم به فلوريدا. في موضعٍ ما في كتاب فلوريدا، يتفاخر بأن عدد الأشخاص الذين يَعتبرون أنفسهم فنانين وعاملين في الحقل الثقافي زاد بنحو كبير خلال نصف القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، من ٥٢٥ ألفًا في عام ١٩٥٠ إلى ٢٫٥ مليون في عام ١٩٩٩، «بزيادة قدرها أكثر من ٣٧٥ في المائة.»49 إلا أنه لم ينظر في كيفية حصول هؤلاء العمال على دخلهم، وهذا أمر مفهوم حيث يرى أن الفنانين والعاملين في مجال الثقافة يقدرون فرصة الاستمتاع بحريتهم الإبداعية أكثر بكثير مما يقلقون بشأن كيفية كسب قوت يومهم.
قد يكون فلوريدا محقًّا في تحديده للعلاقة بين الفنانين والعاملين في الصناعات المعرفية الخاصة ﺑ «الاقتصاد الجديد». أما موضع الخطأ، فيكمن في الطبيعة المحددة لهذه العلاقة. إن ما يجري تحويله من الفنان للعامل في مجال تكنولوجيا المعلومات عبر وسط الإبداع هو «الخصم الثقافي»، الذي طالما صاحب العمل الفني بجميع أنواعه لفترة طويلة (وذلك دون التطرق إلى القضايا المتعلقة بالملكية الفكرية، التي سننحيها جانبًا هنا). أحد الأسباب التي تجعل معظم الفنانين غير قادرين على الاعتماد على ثمار عملهم في الحياة هو أنه من المفترض أن يكونوا «على استعداد لقبول مكافآت غير نقدية — الإشباع من إنتاج الفن — بوصفها مقابلًا لعملهم؛ مما يؤدي إلى تقليل المقابل النقدي لعملهم.»50 وعلى الرغم من أن عمال تكنولوجيا المعلومات عادة ما يحصلون على مقابل لعملهم أفضل كثيرًا مما يحصل عليه الفنانون، فإنَّ ربط عملهم بالعمل الفني يتسبب في خفض مماثل يعود بالفائدة على أصحاب الشركات التي يعملون بها، حتى ولو كان عامل تكنولوجيا المعلومات يؤمن بأن الفوائد الأساسية ملك له. تتمثل صفات عامل المعرفة في اقتصادِ ما بعد الصناعة، الممثل النموذجي للطبقة المبدعة كما يعرِّفها فلوريدا، في أنه «يشعر بالراحة في بيئة دائمة التغير تتطلب تحولات إبداعية للتواصل مع مختلف أنواع العملاء والشركاء؛ وينصبُّ اهتمامه على الإنتاج الذي يتطلب ساعات طويلة من العمل، وغالبًا ما يكون في معزل عن الآخرين؛ كما أنه معتاد، في الممارسات المتنوعة لعمله العقلي، على روتين مؤقت، غير ثابت، للتطبيق الذاتي.»51 الآن، نحن جميعًا فنانون، ولا يعني هذا أن نحيا حياة الحرية غير المقيدة والإبداع؛ على العكس، يعني هذا أنه إذا كنا محظوظين، فإن العمل الطاحن لساعات طويلة يمكن أن يُخفف بسبب عدم الحاجة إلى ارتداء ملابس رسمية في العمل، وإمكانية اللعب مع الزملاء على طاولة لعبة كرة القدم في الزاوية بين الحين والآخر.

هناك الكثير مما يمكن للمرء أن ينتقده حول رؤية فلوريدا لمستقبلنا الجماعي؛ على سبيل المثال، هناك حقيقة أنه على الرغم من رغبته في إيجاد علاقة بين الفن والطبقة المبدعة، ففي نهاية المطاف لا يستطيع الفنانون والموسيقيون أن يتنافسوا مع الكبار في عالم تكنولوجيا المعلومات. ويؤكد مؤشر البوهيميين، الذي يقيس وجود الشخصيات الإبداعية في المدن، على أنهم هم الأساس الذي ينمو منه إبداع الشخصيات التكنولوجية: تمامًا مثل التنوع العرقي؛ فهم يسبغون على المكان لونًا مميزًا، وقد يكونون مصدرًا للترفيه المسائي من آنٍ لآخر. إن رؤية فلوريدا المحدودة للإبداع، أي استبعاده لأي إشارة للقيمة الجوهرية، أو الوظيفة السياسية أو الاجتماعية، لأنواع معينة من النشاط البشري؛ تتضح من استخدامه لبراءات الاختراع باعتبارها وسيلة لقياس الإبداع، وكذا في وصفه للإبداع، دون أي شعور بالخجل، بأنه محض فائدة، ويتمتع بقابلية للنقل، وبأن له وظيفة اقتصادية. ويتخيل فلوريدا أن هناك توسعًا تدريجيًّا للطبقة المبدعة سيفضي بها في يومٍ ما إلى أن تشمل «الجميع». ولا نعلم تحديدًا من سيبقى لتقديم المشروبات التي يعشقها أساتذة الجامعات والمصرفيون. أما ما يبدو واضحًا فهو أنه حتى وسط كل الإبداع الذي يشترك فيه كلٌّ من الطبقة المبدعة وفلوريدا نفسه، هناك شيء واحد «جديد» استُبعد منذ البداية؛ وهو وجود نظام اقتصادي واجتماعي جديد تمامًا؛ حيث يمكن للعمل أن يكون له طابع اجتماعي يختلف تمامًا عما يمكن للرأسمالية الليبرالية أن توفره، حتى في أكثر الحالات اليوتوبية. بدايةً، قد لا يتم تنظيمُ مثلِ هذا النظام حول مستويات متزايدة من الأرباح والإنتاجية. وعلى الرغم من جميع الوسائل الجديدة المثيرة للاهتمام المعروضة في كتاب فلوريدا للتفكير في العمل في حقبة العولمة، فإن الكتاب يبقى في النهاية محجمًا عن التفكير في طرق جديدة للوجود والحياة، وفضَّل أن يضع أمله في فكرة أن الرأسمالية ستصبح، بلمسةٍ من عصا التكنولوجيا السحرية، أساس أفضل عالم من الممكن أن نحيا فيه.

لنَكُن واضحين: إن آراء فلوريدا حول الإبداع تمييزية أكثر منها تشخيصية. ويجد المرء أن هذه الأفكار متداولة على نطاق واسع في المجال الثقافة عمومًا، كما أنها منتشرة جدًّا اليوم، خاصة في لغة الأعمال والاقتصاد. وكما يكتب بول كروجمان (لنأخذْ مثالًا واحدًا): «في تسعينيات القرن العشرين، عاودت الفكرة القديمة التي تقول بأن الثروة نتاج الفضيلة، أو على الأقل الإبداع، الظهورَ من جديد.»52 في بعض النواحي، قد لا تبدو إعادة تعريف الأعمال بأنها فن عبر مفهوم الإبداع تطورًا مثيرًا للقلق بنحو خاص. ومن المؤكد أنها لا تبدو كما لو كانت تتهادى في المجال الذي يفترض بها أن تكون به: مجال الدراسة والتحليل الثقافي؛ ففي نهاية المطاف، لم يكن الإبداع قطُّ من ملامح المفردات المفاهيمية القديمة للدراسة الثقافية (من يوهان يواخيم فينكلمان، حتى إيمانويل كانط، وصولًا إلى جوتهولد ليسينج)، كما أنه ليس مهمًّا في المفردات الحديثة. وفي الوقت نفسه، تم ربط الإبداع بنشاط الفن والأدب والثقافة من خلال المفردات اليومية المعتادة للمجتمع. ونحن نوجه انتقاداتنا لفلوريدا لإعادة التعريف الأيديولوجي المستمر للعمل والتجربة الاجتماعية والتوقعات في ظل الليبرالية الجديدة. ولكن هل نحن بحاجة إلى أن نذهب أبعد من ذلك وننظر في معنى إعادة التعريف المعاصرة هذه للإبداع بالنسبة إلى ممارسة الفن والثقافة؟

إن استعارة الإبداع من الفنون لاستخدامه في وصف نشاط له آثار لا يمكننا إغفالها. من وجهة نظر فلوريدا، ما كان قبل ذلك يبدو خطرًا أو ثوريًّا في الفن يبدو الآن مألوفًا تمامًا. إن حرية الفنان فيما يتعلق ببعض جوانب تنظيم عمله تصبح نموذجًا للعمل بنحو عام؛ ونتيجةً لذلك، فإن «المحتوى» الاجتماعي أو السياسي للفن أو الممارسات الثقافية، وليس «شكلها» الاجتماعي — بوصفه نوعًا من العمل متميزًا عما سواه — هو فقط الذي يمكن أن يمثل تهديدًا أو خطرًا. لقد قدم العمل الفني قبل ذلك نماذج لإمكانية وجود أوضاع أخرى للعمل غير أرض المصنع أو مكتب المدير، كلٌّ منها خاضع بطريقته الخاصة لإيقاعات رأس المال. وبمجرد أن يصبح للفن طابع عالمي من خلال انتشار خطاب الإبداع، يصبح حتى هذا التحدي السياسي المحتمل مخففًا. إن الثورية المغامرة للفنانين الظاهرة في المعارض المستقلة والمتاحف الفنية المعاصرة هي الشيء الذي يجد فيه فلوريدا تشابهًا مع روح العمال المبدعين في أماكن أخرى من الاقتصاد؛ فالمتاحف المشهورة التي تعرض كلاسيكيات الفن الغربي لا تسترعي اهتمامه أو (كما يدعي) اهتمام الطبقة المبدعة على الإطلاق. إذا كان الجميع يشاركون في نفس السرد حول التنمية الاجتماعية من خلال الإبداع، سواء الفنانون أو العاملون في مجال تكنولوجيا المعلومات، وأساتذة الجامعات أو المصرفيون، فما سيتبقى فقط للفن هو تقديم الأفكار على نحو غير مباشر للاقتصاد الرأسمالي، وذلك من خلال شرارة أو وميض يحمل مفهومًا جديدًا قد يظهر عندما يقف مصمم برامج أمام لوحة زيتية تشجب الرأسمالية التكنولوجية والهيمنة الاجتماعية لأجهزة الكمبيوتر؛ ومن ثم، فإن سيادة الإبداع تفرض تحديات على طريقة عمل النقد الاجتماعي اليوم، حتى لو لم يكن الإبداع مفهومًا له أهمية نظرية خاصة في النقد الثقافي كما هو الحال الآن.

إلا أن التحدي أو التهديد يتجاوز ذلك. لقد أشرنا على نحو عابر في البداية إلى أن الإبداع كان مفهومًا يستخدمه الطرفان السياسيان؛ اليسار واليمين. وحال دراسة تعميم فلوريدا للعمل بوصفه مشهدًا للإبداع، فقد ركزنا عليه باعتباره المُنظِّر والمؤيد الرئيسي لفكرة الإبداع التي تحول الرأسمالية من وسيلة للاستغلال إلى شيء يمكِّن الأشخاص من توظيف قدراتهم الفطرية بالكامل. انتقد اليمين الأمريكي دوافع فلوريدا السياسية في وصف هذا المكان أو ذاك بالمدينة المبدعة، حتى مع استيعابها للفكرة الكبرى التي تتمثل في التشجيع على الإبداع. ولكن ماذا عمَّن يحتلون أقصى اليسار؟ هناك أيضًا استطاع مبدأ الإبداع أن يشكل جزءًا مهمًّا من كيفية تصور السياق الاجتماعي الحالي. خاصةً في أعمال الكتَّاب المرتبطين بالفكر الذاتي الإيطالي، بدايةً من باولو فيرنو حتى مايكل هارت وأنطونيو نيجري، يُنظر للهيمنة الحالية للعمل في مرحلةِ ما بعد الفوردية، أو العمل المعرفي أو العمل الوجداني، بأنها ألقت الضوء على ما كان موجودًا بالفعل فيما يتعلق بالعمل، ولكنه أصبح اليوم من المستحيل تجاهله من الناحية الهيكلية. ويعتمد الرخاء الاجتماعي على اللغة، والتواصل، والمعرفة، والإبداع؛ أي «العقل العام» الذي يصفه ماركس في فقرة في كتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي»، التي أصبحت جزءًا أساسيًّا من الفلسفة السياسية اليسارية المعاصرة. وعلى الرغم من أنَّ ما يلي قد يبدو مفاجئًا، فإن الفرق بين اليمين واليسار، بين فلوريدا وَفيرنو، لا يكمن في تحليلهما لِبِنْية الرأسمالية المعاصرة والتطورات الاجتماعية والسياسية التي رافقتها، بقدرِ ما يكمن في الدروس المستفادة التي يستقيها كلٌّ منهما منها. تبدو يوتوبيا العمل في مرحلةِ ما بعد الفوردية التي يتصورها فلوريدا بالنسبة إلى المفكرين اليساريين أنها قد تؤدي إلى أي شيء سوى عالم خالٍ من العمل؛ بدلًا من ذلك، فهي تضع شكلًا جديدًا للاستغلال، وربما يكون أكثر خطورة؛ نظرًا للقوة الأيديولوجية لسرد الأعمال المعاصرة، مثل ذلك الخاص بفلوريدا. يزدهر الإبداع بالفعل في ظل الرأسمالية المعاصرة، ولكن بقدر استخدامه لتوليد الربح، عادة ما يتم نزع فتيل الآثار السياسية المحتملة لهذا الوضع الجديد، على الأقل مؤقتًا. بالنسبة إلى اليسار، يمثل الاعتماد المتزايد للمجتمعات المعاصرة على أشكال العمل الإبداعي انفتاحًا سياسيًّا وخياليًّا؛ اعترافًا (متأخرًا) بأن الرأسمالية تحتاج إلى العمل أكثر بكثير من احتياج العمل للرأسمالية، وأن سيادة الدولة يمكن الاستعاضة عنها بمجتمع جديد يقوم على العقل العام.53
وعلى الرغم من الدروس المختلفة المستمدة من الآثار الاجتماعية والسياسية للعمل فيما بعد المرحلة الفوردية، فمن الغريب أن هناك وجهة نظر مشتركة تتعلق بما يشكله الإبداع وعلاقته بالفن والثقافة والجمال؛ ففي الفكر الاجتماعي والسياسي المعاصر، يبدو أن الإبداع قد أصبح العنصر الحاسم المعرِّف للإنسان؛ فلَم نعد «الإنسان العامل» بل «الإنسان المبتكر». وكما هو الوضع في حالة فلوريدا، يجد الإبداع اليساري مرجعيته في رؤية مثالية للعمل الفني، ووجهة نظر مشوهة لطابع الجماليات الكلاسيكية، كما يُنظر إليه على أنه شيء يجب أن يُمكَّن ويُطلق سراحه حتى تكون هناك حرية اجتماعية حقيقية. في مقابلة أُجريَت مع فيرنو مؤخرًا، أشار إلى الدمج المقلق للجماليات مع الإنتاج، ولكنه بذلك يؤكد نظرة للجماليات تذكِّرنا بمزاعم فلوريدا نفسه حول وجود الإبداع في طبيعة الإنسان.54 وبينما اعترف فيرنو في بداية هذه المقابلة الطويلة بأن معرفته بالفن الحديث «في الواقع محدودة للغاية»، لم يُبدِ تخوفًا من استخدام العديد من مفاهيمه الأساسية في مناقشات خاصة بالفن والجماليات، مثل «البراعة»، أحد التسميات العديدة للقدرة الإنتاجية الفطرية للبشر (التي يطلِق عليها أنطونيو نيجري في أعماله اسم «القدرة الأساسية»).55 إذا كانت الخطابات اليسارية متفقة مع النقاط التي تجاهلها فلوريدا في احتفائه بظروف العمل في ظل رأس المال المعاصر، فإنها أقرت نفس التلميح البلاغي والمفاهيمي لتحويل النشاط البشري (أو على الأقل إمكاناته) كما هو إلى فن؛ إلى فكرة عن الفن لم تؤخذ من علم الاجتماع، وإنما من الأوهام حول علاقته المثالية بشيء يسمى «الإبداع».

ومن جديد، كان أثر ذلك هو كبت القدرات الأساسية و(على الأقل) الوظيفة السياسية المحتملة للفن والثقافة، حتى عندما ترتبط مع نشاط الحياة البشرية على ما هو عليه. بالإضافة إلى ذلك، فهو يضع الفن في مركز السياسة، ولكن فقط عن طريق القضاء على أهمية الفن بوصفه فنًّا. للفن والإنتاج الثقافي المعاصرَين خصوصية اجتماعية تلعب دورًا أساسيًّا في وظيفتهما السياسية. وهما لا يحتاجان إلى التفكير في أنفسهما بوصفهما مجالَي إبداع. في الواقع، يبدو أنهما كلما ابتعدا عن حركة الفكر والسياسة في الإبداع، كان من الأرجح أن يستطيعا الاستمرار في تحدي حدود طرقنا في التفكير، والرؤية، والوجود، والإيمان.

إن القضية هنا هي الحدود وكيف يمكن معالجتها على أفضل نحو. في بعض الأحيان في عمله، يبذل فلوريدا جهدًا كبيرًا لشرح كيفية وجود، أو احتمالية وجود، جوانب إبداعية في عمل القائم على التنظيف أو رعاية الحديقة في منزله أو غيرهما من العاملين في اقتصاد الخدمات الذين يحتك بهم يوميًّا أثناء أدائهم لأعمالهم. بالنسبة إليه، كان اقتراح أي شيء غير ذلك سيكون بمنزلة وصفهم بأن حياتهم أقل «إنسانية» من حياته هو شخصيًّا. بنحو ما، كان فلوريدا على حق في ذلك: فمن ذا الذي لا يريد أن يكون أستاذًا جامعيًّا أو مصرفيًّا بدلًا من أن يكون النادل الذي يقوم على خدمتهما؟ بطبيعة الحال، لا ريب أن الوضع كان سيصبح مختلفًا إذا كان النادل يمتلك المحل الذي يعمل به، وإذا كان المصرفي الذي أشار إليه ديفيد بروكس في الاقتباس الموجود في بداية هذا القسم صرافًا وليس أحد المديرين وصناع القرار المهمين، أو إذا كان دخل الأستاذ الجامعي منخفضًا؛ حيث يعمل محاضرًا بالتعاقد وليس أستاذًا في إحدى الجامعات المرموقة ممن يتقاضون أجورًا مرتفعة. تكمن عبقرية نظام فلوريدا في تصور وجود يوتوبيا «داخل» الرأسمالية، يوتوبيا لا تتطلب أي توقف، أو تغير، أو تحول ثوري في السلوك. ويستشهد فلوريدا بأمثلة من الحاضر تشير إلى أننا بالفعل قد حققنا هذه اليوتوبيا، أو على الأقل بعضنا، وأننا في حاجة إلى دفع الأمور قُدُمًا حتى يتسنى لنا جميعًا أن نصعد إلى جنة العمل في مجال تكنولوجيا المعلومات. هل يمكننا جميعًا تفعيل جوهر الإنسان الفطري في داخلنا من خلال العمل الإبداعي؟ يبدو أن فلوريدا يؤمن بذلك. ولكن هناك جزء آخر من السرد في أعمال فلوريدا، وخاصة كتاباته في أعقاب الأزمة المالية لعام ٢٠٠٨، يشير إلى أن الطبقة المبدعة تشكل مجموعة صغيرة من العمال بالضرورة، وإن كانت مرغوبة على نحو كبير، يتعين على المدن والأقاليم والدول أن تكافح للحصول عليهم إذا كانت ترغب في أن ينتهي بها الأمر على قمة اللعبة الاقتصادية. لكنه أشار إلى أنه من دون الأمل في وجود إمكانياتٍ وقدراتٍ فردية أكبر على النطاق العالمي، تبدو قصة المدن التي تكافح لاجتذاب عمال تكنولوجيا المعلومات والسينما والتليفزيون وما شابه، أنها تفتقر إلى البصيرة اللازمة لخبير يريد أن يقودنا إلى المستقبل، حتى ذلك المستقبل الذي يشبه الحاضر إلى حد بعيد. وعلى الرغم من أن فلوريدا نادرًا ما يَستخدم المصطلح بنفسه، تعمل رؤيته داخل نطاق من الافتراضات والمعتقدات التي تعارفنا عليها باسم العولمة.56 تظن الشخصية التالية التي سنعرضها أنها تقدم خريطة لهذا النطاق واحتمالاته، وتشير إلى كيف ولماذا يؤدي هذا الجهد لإظهار بعض الحدود الداكنة التي رُسمت حول فهمنا للحاضر على مستوى العالم.

(٣) رجل الحكايات: توماس فريدمان

حصل الأمريكي توماس فريدمان على جائزة بوليتزر ثلاث مرات، ومنذ عام ١٩٩٤، أصبح كاتب عمود الشئون الخارجية في صحيفة «نيويورك تايمز». وبالإضافة إلى كتابة مقال رأْي في صحيفة «ذا تايمز» مرتين أسبوعيًّا، كتب فريدمان خمسة كتب أدبية غير قصصية مؤثرة جدًّا وتعد ضمن الكتب الأكثر بيعًا، وتتناول الشرق الأوسط، والشئون الجيوسياسية والمالية الدولية، وأحداث ١١ / ٩، والأزمة البيئية المعاصرة.57 موجِّهًا حديثه إلى الحكومات وقادة قطاع الأعمال في جميع أنحاء العالم (بالإضافة إلى طلاب المدارس الثانوية، وربَّات البيوت، والجماهير في العديد من البرامج الحوارية التليفزيونية)، سطع نجم فريدمان باعتباره واحدًا من أبرز الأصوات في عصرنا. يرى فريدمان نفسه أقرب إلى العراف، ولكن وجه الاختلاف هو أنه يتكلم بوضوح تام دون ألغاز، وكلامه مدعمًا بالحس العام والحكايات الشخصية.
تمثل العولمة موضوع دراسة فريدمان والمبدأ التنظيمي الوحيد لنظرته إلى العالم وإنتاجه المتواصل من الأفكار والآراء والمعتقدات والمواقف والانتقادات والتنبؤات والمخاوف والآمال. في عام ١٩٩٩، كتب فريدمان كتاب «ليكزس وشجرة الزيتون»؛ حيث كشف النقاب بحماس كبير عما أسماه بالنظام الجديد للعولمة، في مقابل نظام الحرب الباردة الذي ساد في فترةِ ما بعد الحرب العالمية الثانية.58 وفقًا لفريدمان، مع سقوط جدار برلين في شتاء عام ١٩٨٩، ظهرت مجموعة جديدة من الأفكار والاتجاهات الديموغرافية ووجهات النظر المتعلقة بالعالم والتقنيات المحددة والقياسات والمخاوف إلى حيز الوجود، التي أدت ليس إلى تقسيم العالم (كما فعل منطق الحرب الباردة)، ولكن إلى جمع شمله. بالنسبة إلى فريدمان، العولمة هي «الدمج القوي بين الأسواق، والدول القومية، والتقنيات إلى درجة لم تَحْدث من قبل؛ بطريقة تمكِّن الأفراد والشركات والدول القومية من الوصول إلى جميع أنحاء العالم بطريقة أوسع وأسرع وأعمق وأرخص من أي وقت مضى، وبطريقة تمكِّن العالم من الوصول إلى الأفراد والشركات والدول القومية على نحو أسرع وأعمق وأرخص من أي وقت مضى.»59 يصبح كل هذا ممكنًا من خلال رأسمالية السوق الحرة وكذلك (على الأقل في هذا الكتاب الأول حول العولمة، قبل أن يخفف الانهيار المالي من ولاء فريدمان الصريح لفريدمان الآخر، ميلتون فريدمان) ذكر بإخلاص رؤية الليبرالية الجديدة:
كلما سمحتَ بتولي قوى السوق زمام الأمور، وكلما فتحتَ اقتصادك أمام التجارة والمنافسة الحرة، أصبح الاقتصاد أكثر كفاءة وازدهارًا. وتعني العولمة انتشار رأسمالية السوق الحرة تقريبًا في كل بلد من بلدان العالم؛ ومن ثم، تمتلك العولمة أيضًا مجموعتها الخاصة من القواعد الاقتصادية؛ القواعد التي تدور حول الانفتاح، ورفع القيود، والخصخصة، حتى يستطيع الاقتصاد أن يصبح أكثر قدرة على المنافسة وتتزايد جاذبيته للاستثمارات الخارجية.60

تشير كلمة ليكزس الواردة في عنوان الكتاب إلى مصنع السيارات اليابانية الفائق الحداثة والكفاءة وذي الفكر التقدمي، الذي ذهب بلبِّ فريدمان عندما زاره عام ١٩٩٢، في حين أن شجرة الزيتون تشير إلى دفاع الفلسطينيين العنيف عن حقهم في العودة إلى أرضهم أمام إسرائيل. ولكن، كما هو معتاد من فريدمان، فقد حوَّل هذه الأشياء الحقيقية إلى استعارات؛ بحيث تمثل ليكزس التقدم والرخاء والسعي لما هو جديد، في حين أن شجرة الزيتون تمثل الهوية والقومية والتمسك الشديد بالماضي. في جميع أعمال فريدمان، رغم أن ذلك يبدو بوضوح أكبر في الكتب والأعمدة التي كتبها في أعقاب الأزمة المالية عام ٢٠٠٨ وزيادة المخاوف الخاصة بالبيئة، يريد فريدمان أن يشير إلى الحاجة إلى دمج كلٍّ من الليكزس (التطور الرأسمالي السريع النمو) وشجرة الزيتون (الهوية، والبيئة، والأصول الثقافية) دمجًا سليمًا، ولكنه ببساطة لا يستطيع أن يمنع نفسه من الاعتقاد بأن السيارة ليكزس هي الوسيلة الفُضلى والوحيدة التي يمكن أن تقودنا إلى مستقبل أفضل. أما أشجار الزيتون، فليس لديها عدادات السرعة، فضلًا عن امتلاكها لأجهزة راديو أقل من شأنها أن تسمح لنا بالاطلاع على الأحداث العالمية أولًا بأول على طول الطريق السريع للرخاء الرأسمالي.

وبعد مرور ست سنوات على نشر كتاب «ليكزس وشجرة الزيتون»، قام فريدمان بتحديث أفكاره حول العولمة في كتاب «العالم مسطح: تاريخ موجز للقرن الحادي والعشرين». أدرك فريدمان أثناء رحلة إلى بنجالور عام ٢٠٠٤ أن الأمور قد تغيرت مرة أخرى، من الإصدار الثاني للعولمة (بلغة فريدمان) الذي يعتمد على الاندماج العالمي للدول والشركات الذي يدفعه النمو المستمر لتكنولوجيا الاتصالات (من التلغراف إلى شبكة الإنترنت العالمية، من عام ١٨٠٠ إلى عام ٢٠٠٠)؛ إلى الإصدار الثالث للعولمة، الذي يعتمد أكثر على الأفراد الذين أصبحوا أكثر قدرة على التعاون والمنافسة عالميًّا بطرق جديدة تمامًا، وذلك بفضل التقارب الذي تدفعه تكنولوجيا الاتصالات الجديدة (الكمبيوتر الشخصي، وكابلات الألياف الضوئية، وبرامج تدفق العمل). إذا كان الإصدار الثاني للعولمة يدور حول تحول كبرى المؤسسات والدول إلى نظام عالمي بفضل الثورة الصناعية ونمو تكنولوجيا المعلومات (وكان الإصدار الأول للعولمة، من عام ١٤٩٢ وحتى عام ١٨٠٠، يتعلق أكثر بأصول النظام القائم على الدولة القومية، وكيف شكَّلَته «قوة البلد … وكيف يمكن استخدامها بأسلوب خلاق»)؛ إذن فالإصدار الثالث للعولمة يتناول نهاية الأمة وبداية تمكين الفرد.61
عند النظر إلى كتابَي فريدمان جنبًا إلى جنب، نرى أسلوبَي سرد مختلفين تمامًا للتاريخ، وكذا نظريات مختلفة تمامًا للتاريخ. في كتاب «ليكزس وشجرة الزيتون»، على سبيل المثال، كانت نقطة التصدع هي سقوط جدار برلين الذي يفصل تمامًا بين نظامَين دوليَّين مختلفين للغاية، وهما نظام الحرب الباردة ونظام العولمة. ويحذر فريدمان من أن التظاهر بأن العولمة هي مجرد موضة اقتصادية أو «اتجاه عابر، لا يختلف نوعيًّا عما جاء قبله، يعني التغافل عن الحقيقة الأكثر أهمية المتعلقة بعالمنا الحالي.»62 وفي كتاب «العالم مسطح»، أصبح يُنظر للعولمة على أنها ستستمر لمدة أطول من ذلك بكثير، وأنها ستمرُّ بمراحل مختلفة. ومن خلال هذا السرد الأحدث، تُبنى التحولات كلٌّ فوق الآخر، بطريقة تصل بها، في نهاية المطاف، إلى تحرير الفرد على مستوى العالم. ويهيمن على السرد الأول الأسلوب التزامني لكتابة التاريخ، في حين يتميز السرد الثاني بالأسلوب التعاقبي.

وفي إطار المجال المعروف باسم فلسفة التاريخ، ينظم الأسلوب التزامني (بمعنى «الذي يحدث في الوقت عينه») الأحداثَ والظواهرَ لِلَحظة تاريخيةٍ ما في هيكل منفصل يتناقض جذريًّا مع غيره من الهياكل (وإن كانت توجد أوجه شبه فيما بينها). ويتبع التأريخ التزامني منطقًا مكانيًّا يؤكد على العلاقات بين وحدات أي شريحة معينة من الزمن، في حين أن التأريخ التعاقبي يتبع منطقًا زمنيًّا يؤكد على حركة الظواهر من هيكل إلى هيكل تالٍ (وذلك كما يشير الاسم الذي يعني هذا «عبر الوقت»). ويؤكد الأسلوب التزامني على الانفصال وعدم الاستمرارية وتكامل اللحظة التاريخية المنفصلة، فيما يؤكد الأسلوب التعاقبي على التراكم والاستمرارية وتكامل الظواهر التي تتجاوز الفترات التاريخية.

بطبيعة الحال، لا يهتم فريدمان بالمشكلة النظرية الخاصة بتنظيم التاريخ وسرده، إلا أنه لا مفر لجميع حججه من أن تتشكل من خلال إساءة إدارته لهذه المشكلة. إن الاهتمام بتنظير التاريخ هو تمامًا ما يدفع أهم الأعمال التي تتناول العولمة. خذ كمثالٍ الجغرافيَّ ديفيد هارفي؛ ففي كتابه «حالةُ ما بعد الحداثة»، يشير إلى التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة عن طريق التأكيد على الأشكال المرنة الجديدة للتراكم التي أصبحت ممكنة بفضل التطورات في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات.63 يرى هارفي أن نقطة التحول المهمة جاءت خلال سبعينيات القرن العشرين مع أزمات النفط؛ فقد أصبحت الرأسمالية الصناعية (بناءً على خط تجميع هنري فورد) جامدة للغاية؛ حيث إن النموذج الهرمي الرأسي المجزأ تمامًا هذا لم يكن يمكنه أن يستجيب بالسرعة والفاعلية الكافِيَين في مواجهة الأزمات؛ سواء فيما يتعلق بالموارد، أو جراء الإفراط في الإنتاج، أو نقص الاستهلاك، أو الاضطرابات العمالية. أما ما ينتج عن مرحلةِ ما بعد الفوردية (اعتمادًا على العديد من الخصائص نفسها التي وصفها فريدمان) فهو تزايُد المرونة في القدرة على إدارة الأزمات؛ إذن، على سبيل المثال، عندما تصبح النقابات العمالية في هايتي قوية للغاية، يمكن لشركة تعمل في مرحلةِ ما بعد الفوردية أن تنقل مصنعها بسهولة وهدوء إلى بلد تتميز قوة العمل به بخضوع أكبر، مثل ماليزيا وفيتنام.

إن ما يطلق عليه فريدمان «منصة العالم المسطح»، هو ما يدعوه هارفي «ضغط الزمان والمكان»، ويشكل مفهوما التغيير هذان حدود وفرص الأفراد، والدول، والشركات المتعددة الجنسيات. إلا أن الفارق الكبير بين هذين المفكرين يتمثل في مفهومهما عن أساس هذا التحول التاريخي الحاسم. يرى فريدمان التحول الكبير إلى العولمة باعتباره ثمرة التطور التكنولوجي، لكن من أين يأتي هذا التطور التكنولوجي الهائل؟ من خلال أفراد عظام يعملون في بيئات حرة! ومن أين يأتي هؤلاء الأفراد العظام والبيئات الحرة هذه؟ من أمريكا ومن الرب (وهو إصرار على أهمية وضع الولايات المتحدة الأمريكية في الاعتبار؛ مما يعيدنا إلى مزاعم زكريا في كتابه «عالمُ ما بعد أمريكا»)! عندما ننظر إلى العالم المسطح، نرى أن الخوف الأكبر لفريدمان هو «خسارة أمريكا لوضعها»، وكذا عدم السماح للعبقرية التي وهبها الرب للبشر بالازدهار حتى تكون لديهم الفرصة لبناء مصانع ليكزس جديدة (وهي وجهة نظر للإنسان تذكِّرنا ببعض مزاعم وأفكار ريتشارد فلوريدا).

على النقيض من ذلك، يوضح هارفي التغيير التام في مرحلةِ ما بعد الفوردية من خلال تحليل التحولات التي حدثت داخل الرأسمالية. بالنسبة إلى هارفي، تُعد الرأسمالية هي النظام الذي شكَّل الحرب الباردة والعولمة، وليس العكس، كما يريد فريدمان أن يصف الأمر؛ فمنطق الرأسمالية مُنَظَّم حول إنتاج السلع والعلاقات الاجتماعية التي تنشأ عن هذا الشكل المحدد للإنتاج. وهناك بعض القواعد الأساسية للرأسمالية (مثل حتمية إنتاج الربح، والعلاقات الاجتماعية غير المتساوية المتمثلة في إنتاج السلع، وضرورة التوسع المستمر) التي تحدد هذا الوضع وتضع هيكله، منذ تحوله من نظام الإقطاع وحتى الوقت الحاضر. قد يكون الشكل المتطور للتراكم قد تحول من التصنيع إلى المضاربات المالية، إلا أن القواعد الأساسية لم تتحول. من خلال التركيز على الهوية واختلاف رأس المال على مدى تاريخ الرأسمالية الطويل (الهوية من حيث استمرارية ثبات قواعدها، والاختلاف من حيث تغير الشكل السائد للتراكم)، استطاع هارفي أن يحلل الهوية والاختلاف بين البشر، والدول، والتشكيلات الثقافية بمرور الوقت.

إن الهدف من ذكر هارفي في النقاش هو إظهار مدى اختلاف فريدمان عن الآخرين عند النظر في العولمة. إن تعبير المرء عن آرائه وتقديم حججه حول العالم (كما يفعل فريدمان في مقالاته في «نيويورك تايمز») شيء، ولكن التظاهر بعرض نقد منهجي وصارم لِلَحظة تاريخيةٍ ما، كما يفعل فريدمان، أمر مختلف تمامًا؛ على سبيل المثال، يبدأ فريدمان كتابه «ليكزس وشجرة الزيتون» بتأكيد قوي على أن العولمة نظام دولي «حل الآن محل نظام الحرب الباردة القديم، ومثلها في ذلك مثل نظام الحرب الباردة، تمتلك العولمة قواعدها ومنطقها الخاصين اللذين يؤثران اليوم، تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر، على السياسة والبيئة والجيوسياسة والاقتصاد تقريبًا في كل بلد من بلدان العالم.»64 وهذا هو الخطأ التصنيفي الذي ذكرناه من قبل؛ فالحرب الباردة لم تكن نظامًا سياسيًّا واقتصاديًّا، بل كانت وسيلة لوصف العلاقات الجيوسياسية التي يحكمها شكلان اجتماعيان متنافسان، أحدهما رأسمالي والآخر اشتراكي. وبالمثل، لا تؤثر العولمة على أي شيء؛ وذلك لأنها ليست نظامًا، بل هي أثر أو نتيجة لنظام العولمة الخاص بالرأسمالية، وهي نقطة (على الأرجح واحدة من نقاط قليلة) يتفق عليها الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد والماركسيون على حدٍّ سواء.
لا يبدي فريدمان، على عكس زميله في صحيفة «نيويورك تايمز» بول كروجمان، اهتمامًا كبيرًا بالاقتصاد السياسي. صحيح أن فريدمان يشير إلى فكرة جوزيف شومبيتر الخاصة ﺑ «التدمير الخلاق»، ويحتفي بنظرية ديفيد ريكاردو حول الميزة النسبية، كما يتفاجأ بمعرفة أن ماركس كان لديه بالفعل ما يقوله عن الرأسمالية؛ ومع ذلك، يرى فريدمان أن الرأسمالية ليست منطقًا اقتصاديًّا، ولكنها بالأحرى حدث مهم قديم وغير مثير في تاريخه المفرط في التبسيط. يضع فريدمان فرانسيس فوكوياما مع مشاهير الرؤساء التنفيذيين (مثل بيل جيتس من مايكروسوفت، ومايكل ديل من شركة ديل، وأندرو جروف من شركة إنتل)؛ بغية إخفاء أي تحليل للرأسمالية سوى أسعار أسهم الشركات التي يستثمر فيها. في نهاية المطاف، يرى فريدمان أن أي نقد للرأسمالية يجب أن يتماشى مع فهمه للتاريخ: «إن إضفاء الصبغة الديمقراطية على التمويل والتكنولوجيا والمعلومات لم يُطِحْ بكل الجدران الحامية للنظم البديلة فحسب؛ بدءًا من الكتاب الأحمر الصغير لِماو إلى «بيان الحزب الشيوعي»، إلى دول الرفاهة المنتمية لأوروبا الغربية إلى رأسمالية المحسوبية في جنوب شرق آسيا، بل أدى إلى ظهور مصدر جديد للقوة في العالم، وهو ما سأسميه القطيع الإلكتروني.»65 إن القطيع الإلكتروني هو الاسم الذي أطلقه فريدمان على المتاجرين بالأسهم والسندات، والعملة، وكذلك الشركات المتعددة الجنسيات التي، وفقًا لرأيه، أصبحت المولِّد الرئيسي لنمو رأس المال، كما حلَّت محل الحكومات بقيامها هذا الدور. أما سبب وكيفية التنسيق التام بين الحكومات والقطيع الإلكتروني (وهو ما كان عليه الحال بالفعل بدايةً من تولِّي إدارة كلينتون الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية وتعزيز دينج شياو بينج لاقتصاد السوق الاشتراكي في الصين)، فهو ليس جزءًا من قصة فريدمان.
ولكن يجب ألا يفاجئنا تشجيع فريدمان للسوق الحرة، ويجب ألا نظن أنه أمر استثنائي، كما ينبغي الثناء عليه لتتبعه العولمة مثل صائد الهاربين؛ حيث التقط رائحتها في مكانٍ ما وربطها بظواهر أخرى، مهما كانت تبدو متباينة عنها وغير مرتبطة بها. لكن ينصبُّ اهتمامنا أكثر على تحليل كيفية جمع فريدمان (حتى على نحو غير واعٍ) مجموعة من المبادئ معًا، وكيفية ربط استراتيجياته التمثيلية بالأطروحات التي أوضحناها في الفصل الأول من الكتاب. وبدلًا من الغضب من الفقرة التي أوردها ماركس في «بيان الحزب الشيوعي»، والتي يقول فيها: «كل ما هو صلب، يذوب في الهواء»، التي اقتبسها فريدمان في كتابيه «ليكزس وشجرة الزيتون» و«العالم مسطح» (والتي استغرقت صفحة كاملة في الكتاب الأخير)؛ ربما كان على فريدمان أن ينظر أيضًا في الفكرة الرئيسية لماركس في عمله «الأيديولوجية الألمانية» التي تقول: «إن أفكار الطبقة الحاكمة في كل عصر هي الأفكار الحاكمة؛ أي إن الطبقة التي تمثل القوة المادية الحاكمة للمجتمع، هي في الوقت نفسه قوته الفكرية الحاكمة.»66

كتب ماركس أيضًا، مثل فريدمان، عن الشئون الخارجية لواحدة من كبرى صحف نيويورك. ولكن، على عكس فريدمان، كان ماركس يدرك جيدًا أن كيفية تعبيره عن أفكاره ترتبط بمحتواها. وكان في كثير من الأحيان يغير أسلوبه ليتناسب مع النوع الأدبي الذي يتعامل معه؛ فقد اختلفت طريقته في الكتابة على نحو كبير في الأعمدة التي يزيد عددها عن ٣٥٠ التي كتبها لصحيفة «نيويورك تريبيون» (١٨٥٢–١٨٦١)، أو السجالات مثل «بيان الحزب الشيوعي» (١٨٤٨)، أو التحليل الأكثر دقة وطولًا الذي قدمه في كتابه «رأس المال» (١٨٦٧). عندما كان يكتب لجريدة «تريبيون»، التي كانت في ذلك الوقت لها أكبر نسبة توزيع على مستوى العالم، والتي تصل إلى ٣٠٠ ألف قارئ أسبوعيًّا، كان ينشئ روابط بعيدة المدى بين البلدان العديدة التي كان يكتب عنها، مع الاهتمام بنحو خاص بالصين، وأمريكا، والهند. كان ماركس يستخدم ضمير المتكلم (باستثناء استخدام الضمير «نحن» عندما يشترك في الكتابة مع فريدريك إنجلز)، وكان يملأ عموده المكون من ألف كلمة بأسماء الأفراد وتفاصيل السياسات، فضلًا عن مراجعه الأدبية المعتادة، والنكات، والغضب المتهكم. ويختلف هذا، بطبيعة الحال، عن أسلوب الجدل المنظم في «بيان الحزب الشيوعي»، بل ويختلف بنحو صارخ عن النقد المنهجي في كتاب «رأس المال». في الواقع، إن المغزى الأساسي لكتاب «رأس المال» (إن لم يكن للمشروع الماركسي بأكمله) هو تحليل الرأسمالية بطريقة تمثل منطقها الهيكلي، هذا المنطق الذي يُنتج بعض الآثار المتفاوتة، ليس بسبب الإجراءات الجشعة وغير العادلة للرأسماليين، ولكن بسبب أن هذا التفاوت أمر داخلي في النظام ذاته، وفي منطق السلع بنحو خاص؛ ولهذا السبب، يبدأ الكتاب بتحليل «للسلع البسيطة». فقط من خلال الوحدة الأساسية للإنتاج الرأسمالي يمكن فهم النظام الأكبر للرأسمالية.

إن الشكل الذي اتخذه كتاب «رأس المال»؛ أي تحوُّله من الحالة الخاصة لشكل السلعة إلى النظام العام للرأسمالية، يهدف إلى تعليم القراء كيفية فهم حياتهم، ليس عن طريق إلقاء المواعظ التي تحرضهم ضد رؤسائهم الجشعين، أو إلقاء اللوم عليهم لتسبُّبهم في هذا الوضع البائس لأنفسهم (وكلاهما يأتي بنتائج عكسية)، ولكن من خلال فهم كيفية وصولهم إلى هذا الوضع الحالي في المقام الأول، وكيفية تكرار ذلك يوميًّا وبانتظام. يرى ماركس أن هذا النقد الأكثر موضوعية هو وحده ما يمكن أن يقدم الخريطة الأوضح لكيفية عمل النظام. وعلاوة على ذلك، والأهم هنا، أن هذا النقد الموضوعي (الذي انعكس شكليًّا، مثل عمليات التقعير الأدبي والفلسفي العظيمة) يكشف عن أن عدم المساواة الناتجة عن الرأسمالية لا تشير إلى أن هناك خللًا في النظام أو أنه معطل مؤقتًا، ولكنها تفيد بأنه يعمل جيدًا؛ فمن السهل أن تنتقد الرأسمالية عندما تطول الحرائقُ المصانعَ المتداعيةَ، أو يرفض أرباب العمل دفع أجور العمال، ولكن التحدي الأهم والأصعب هو صياغة نقد للنظام عندما تُنفَّذ بنود التعاقد بين أرباب العمل والعمال ويعمل أرباب العمل بنزاهة ورحمة. ويتطلب هذا النقد البنيوي أسلوبًا حياديًّا ومتجردًا أكثر، قلَّ أنْ نجده في مقال رأي تقليدي.

المعضلة هنا (والنقطة التي تعود بنا إلى عمل فريدمان) هي أنه ليس من السهل استخدام مثل هذا الأسلوب، كما أنه ليس جذابًا على نحو مباشر بالنسبة إلى مجموعة متنوعة من القراء. وفي المقابل، تتَّسم الصحافة بكونها مناسبة بنحو استثنائي لجذب القراء بسردها الجذاب والسهل الاستيعاب. ونحن الآن بصدد تعيين الحدود العامة الأساسية للعمل الأكاديمي والصحفي؛ إذ يؤكد العمل الأكاديمي على التجرد العلمي على حساب سهولة الوصول للقراء واتصافه بطابع جذاب، بينما يركز العمل الصحفي على الأشياء الصغيرة الخاصة بالحياة اليومية على حساب التجرد الصارم والبحث الأكاديمي التقليدي. بطبيعة الحال، هذه تعميمات، وهناك العديد من الكتَّاب الذين يحاولون حل هذه المعادلة الصعبة، مثل علماء الأنثروبولوجيا الأكاديميين الذين يقومون بالتنظير عن طريق الوصف المكثف، أو من خلال مقالات المراجعات الطويلة في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، أو «ذا تايمز ليتراري سبلمنت». ومع ذلك، في نهاية المطاف، للكتابة الأكاديمية والصحافة حدود وإمكانيات مختلفة على نحو لا يمكن إنكاره، ولا تتفوق إحداهما بالضرورة على الأخرى.

إن كتابَي «ليكزس وشجرة الزيتون» و«العالم مسطح» عبارة عن دراستين ضخمتين (٤٩٠ و٦٠٠ صفحة على التوالي) كُتبتا بأسلوب مطابق للأسلوب المكتوبة به أعمدة فريدمان في صحيفة «نيويورك تايمز». وهذا هو بالضبط الأسلوب الصحفي الذي استخدمه في كتابة كتبه التي أصبحت أكثر الكتب بيعًا، والذي يهدف من خلاله إلى تقديم عمل يعرض أكثر من رأي واحد؛ حيث نستطيع تحديد التجسيدات الأقوى المعتمدة على الحس العام التي تتناول العولمة والعالم المعاصر.67
يتمثل أول وأقوى أسلوب شكلي عند قراءة أي شيء كتبه فريدمان في استخدامه لضمير المتكلم المفرد لتقديم العديد من الحكايات الشخصية. لا يمكن للمرء أن يغض الطرف عن هذا؛ فكل فكرة تبدأ بحكاية مستقاة من رحلات فريدمان المستمرة حول العالم. ويمكن أن نأخذ الحكاية الأساسية لكتاب «ليكزس وشجرة الزيتون» بوصفها مثالًا على ذلك. عندما كان فريدمان في اليابان عام ١٩٩٢، زار مصنع سيارات ليكزس الواقع خارج حدود مدينة تويوتا وأثار إعجابه، بل وذهوله، مدى تقدم التكنولوجيا المستخدمة في إدارة العمليات هناك. يقول: «ظللتُ أحدق في هذه العملية، وأفكر كم استغرقهم الأمر من تخطيط وتصميم وتكنولوجيا لحمل الذراع الروبوتية هذه على القيام بعملها، ثم تتحرك في كل مرة، بالزاوية المطلوبة، بحيث يمكن لهذا السلك الصغير جدًّا أن يلتقط آخر جزء من المطاط الساخن حتى يبدأ الروبوت في العمل مع النافذة التالية.»68
وبعد زيارة فريدمان لمصنع ليكزس، وخلال ركوبه أحد قطارات شبكة السكك الحديدية اليابانية الفائقة السرعة للعودة إلى منزله، يوضح أنه توقف أثناء قراءة الصحيفة عند مقال يتناول ما أثارته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية من ضجة في الشرق الأوسط عندما كانت تعلق على اللاجئين الفلسطينيين. يقول فريدمان:
كنت أتنقل بسرعة ١٨٠ ميلًا في الساعة على متن أحدث قطار في العالم، وأنا أقرأ هذا المقال عن أقدم ركن من أركان العالم. لقد تبادر إلى ذهني كيف أن هؤلاء اليابانيين، الذين شيدوا مصنع ليكزس الذي زرته لتوِّي وصنعوا هذا القطار الذي أركبه، يصنعون أعظم السيارات الفاخرة في العالم باستخدام الروبوتات. وهنا، في الجزء العلوي من الصفحة الثالثة من صحيفة «هيرالد تريبيون»، لا يزال مَن عشت بينهم لسنوات عديدة في بيروت والقدس، الذين كنت أعرفهم جيدًا، يقتتلون لتحديد من يمتلك شجرة الزيتون؛ ومن ثم، خطر ببالي أن ليكزس وشجرة الزيتون كانا في الواقع رمزين جيدين لحقبةِ ما بعد الحرب الباردة هذه: لقد بدا أنَّ نِصْف سكان العالم قد خرجوا من الحرب الباردة وفي نيتهم تصنيع سيارات ليكزس أفضل، وكرسوا أنفسهم لتحديث اقتصاداتهم وتنظيمها وخصخصتها بهدف الازدهار في ظل نظام العولمة. بينما كان نصف سكان العالم … لا يزالون منخرطين في الصراع على من يملك شجرة الزيتون.69

ما هي بالضبط الحكاية؟ كيف تعمل؟ وكيف ترتبط استراتيجياتها الشكلية بمحتواها؟ كيف ستبدو كتب فريدمان لو حذفنا منها هذه الحكايات؟ وكيف يمكن للحكاية أن ترتبط بالأفكار السياسية لفريدمان — أي حسه العام، وفهمه للأمة، والرأسمالية — ومواقفه الأخلاقية؟

إن الحكاية هي قصة موجزة تروي حادثة حقيقية (عادة، ولكن ليس دائمًا، من السيرة الذاتية) وهدفها الأساسي هو الكشف عن حقيقة تتجاوز خصوصية الحادثة نفسها. ويعني المقابل الإنجليزي لهذه الكلمة باللغة اليونانية «غير المنشورة»؛ أي إن الحادثة لا يمكن التأكد من صحتها، كما لا يوجد مصدر لها سوى الراوي. وعلى الرغم من إيجاز تلك الحكاية، فإنها عادة ما يكون لها الهيكل الثلاثي الذي للسرد الطويل: عرض الموقف، وحدوث توترٍ أو أزمةٍ ما، والتوصل إلى حل. أما الصفة المميزة للحكاية، فهي افتقارها إلى التعقيد وليس قِصَرها. في «الحكاية والتاريخ»، وهو مقال يتتبع تاريخ واستخدام الحكاية في أوروبا، يوضح ليونيل جوسمان أنه قد يجوز استدعاء الحكاية لتوضيح «مشكلة أو حتى مفارقة، لكنها لن تؤدي في المعتاد إلى إعادة النظر في جوانب المشكلة أو المفارقة.»70

وتمتلك الحكاية إمكانات مزدوجة نتيجة لتدخلها الشكلي: إمكانات رجعية وراديكالية. باعتبارها مجازًا رجعيًّا، تؤكد الحكاية وجهات نظر الحس العام الخاصة بالعالم والحالة الإنسانية وتعيد إنتاجها. وهي أيضًا وضعية؛ فهي تعطي معنًى للحادثة نفسها من خلال فصلها عن سياق أكبر من المعنى. بعبارة أخرى، فإن الحكاية تضفي أهمية خاصة على الحادثة؛ حيث تجمد ديناميكية النظام الأكبر الذي تعمل في إطاره الحادثة، وتستثمر الكثير من المعاني في هذا الجزء المنفصل. أما بالنسبة إلى حكاية فريدمان الخاصة بِليكزس وشجرة الزيتون، فكل هذا يبدأ باليابان.

وحتى إذا نحَّيْنا حقيقة الكساد الياباني جانبًا، (الذي كان بالفعل قاسيًا للغاية في وقت نشر كتاب «ليكزس وشجرة الزيتون»)، وتظاهرنا بأن الكفاءة اليابانية ومرونة الشركات في الاقتصاد الياباني لم تكونا موضعًا للتساؤل على الأقل منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، فلا تزال هناك حاجة للنظر في السياق الذي ولدت فيه المعجزة الاقتصادية اليابانية. إن الاقتصاد الياباني ذا معدل النمو المرتفع، من نهاية الاحتلال الأمريكي عام ١٩٥٢ حتى دورة الألعاب الأولمبية في طوكيو عام ١٩٦٤، يجب أن يُفهم من حيث السياق الجيوسياسي الأكبر، الذي تحميه المظلة النووية الأمريكية، ويغذيه المسار العكسي (خيانة وعودِ ما بعد الحرب مباشرة فيما يتعلق بالديمقراطية ونزع السلاح) الذي اتبعه حكم الحزب الواحد؛ وهو الحزب الديمقراطي الليبرالي بدايةً من عام ١٩٥٥. بالنسبة إلى معظم فترة النمو المرتفع، تقلصت الحريات المدنية إلى حد كبير بحيث إن أي تعبير عن المعارضة عادة ما كان يُكبَت، وكان الرد المعتاد هو: «كيف يمكنك أن تتذمر في ظل السرعة التي ينمو بها الاقتصاد؟» ولكن لم يكن من الصعب جدًّا التمييز بين النمو الاقتصادي والرخاء الاقتصادي (كما فعلت حركات الطلاب والفلاحين الضخمة في اليابان خلال ستينيات القرن العشرين وسبعينياته). ربما تكون اليابان قد أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ولكن الشعب الياباني لا يشعر بأنه شعب ثري جدًّا.

استندت المعجزة الاقتصادية اليابانية (نمو الناتج المحلي الإجمالي بمعدل يزيد عن عشرة بالمائة على مدى عقود) إلى سياسة اقتصادية وطنية؛ حيث لم يكن هناك أي فصل على الإطلاق بين المؤسسات اليابانية الخاصة والعامة. لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية لتشجع مثل هذا الاقتصاد الموجه (حددت وزارة التجارة الدولية والصناعة اليابانية بإتقان شديد العلاقةَ المتبادلةَ بين القطاعات التجارية، والمصرفية، والمالية للاقتصاد الياباني) لولا وجود ضرورة لحماية نفسها من الصين والتهديد المحتمل المتمثل في انتشار الاشتراكية في جميع أنحاء شرق وجنوب شرق آسيا.

بالإضافة إلى ذلك، عادت القومية اليابانية بروح انتقام على مدى العقود القليلة الماضية. تواترت تعليقات حاكم مدينة طوكيو، شينتارو إيشيهارا، المعادية للمهاجرين، وأصبح انعدام الثقة الطويل الأمد في اليابان من قِبل مستعمراتها السابقة (وخاصة كوريا والصين) شائعة. في الواقع، يمكن للمرء أن يجادل بأن هناك مناوشات حول شجرة الزيتون في اليابان أكثر من سيارات ليكزس؛ فبدلًا من تقديم الحكمة وتوفير سبيل غير معتاد إلى معنًى أعمق، تعزِّز حكايات فريدمان الصور النمطية التي تعوق التفكير النقدي.

إلا أن الحكاية لا تكون دائمًا في خدمة هذه الوظيفة الرجعية. بدلًا من ذلك، قد يربك استخدامُ الحكاية الرواياتِ المهيمنةَ على العالم والتاريخ، وتحديدًا من خلال طريقة خروجها عن الحدود أو تحولها إلى شوكة في حلق التاريخ؛ على سبيل المثال، في كتاب «تاريخ الحكاية»، يطلق جويل فاينمان على الحكاية أصغر وحدة في السجل التاريخي، وعلى هذا النحو فإن الحكاية «هي الشكل الأدبي الذي «يتيح للتاريخ أن يحدث» من خلال طريقته في افتتاح السرد الغائي، ومن ثَمَّ اللازمني، من بداية ووسط ونهاية.»71 وعلى هذا النحو، يقول فاينمان إن الحكاية يمكنها أن تحرر الفكر مما يسمى بنظرية «الرجل العظيم» أو نظرية «الحدث الكبير» الخاصة بالتاريخ.

القضية هنا هي أن المؤرخ غير التقليدي الذي يرفع قدر الحكاية في مقابل الأرشيف التاريخي التقليدي يمكنه أن يفعل ذلك فقط من خلال الاستماع بعناية فائقة لشيء غير محسوس تقريبًا في الحادثة التي تنبثق عنها الحكاية. يشبه هذا الاستماع الخاص بالتحليل النفسي؛ حيث يستمع المحلل لأصغر التفاصيل ويتتبعها (بدلًا من الالتفات للمشاكل المفترض أنها كبيرة)؛ وذلك للوصول إلى صلب المشكلة. وحيث إن الروايات السائدة لحياة المريض تعمل على إبقاء المريض على الحالة التي هو عليها، عادةً ما تفتح التفاصيل الطارئة (زلة لسان، أو نكتة، أو ملاحظة عابرة) الطريقَ إلى اللاوعي. ويتطلب الاستماع بهذه الطريقة انفصالًا محددًا، وأهم من ذلك أنه يتطلب ضبط النفس لمنع فرض معنًى على القضية أو الحدث. وبدلًا من استخدام الحكاية استخدامًا نفعيًّا، يجب أن تُعطى الحكاية الفرصة للوجود على نحو منفصل عن الروايات المهيمنة. عندها فقط ستنطلق الحكاية وتقدم طرقًا جديدة وقوية للتفكير في العالم.

إلا أن مثل هذا الاستخدام الراديكالي للحكاية لا يأتي عن طريق إعادة تشكيل دقيق وصبور ومتقن للتفاصيل، ولكن من خلال استخدامها على نحو منهجي وتعليمي وثاقب. لنأخذْ برتولت بريخت على سبيل المثال؛ من عشرينيات القرن العشرين وحتى خمسينياته، ألَّف بريخت مجموعة متنوعة من الحكايات ومقتطفات قصيرة أخرى، جُمع بعضها تحت عنوان «حكايات السيد كونر».72 لم يكن السيد كونر، أو السيد كيه، في عمل بريخت متحذلقًا ولا شعبيًّا، ولا أكاديميًّا ولا هاويًا فكريًّا، بل كان صوت بريخت للتعليق على مجموعة متنوعة من الموضوعات المختلفة؛ على سبيل المثال، كانت الحكاية التالية تحت عنوان «رجل له عزم»:

طرح السيد كيه الأسئلة التالية: «كل صباح يشغِّل جاري بعض الموسيقى على الجرامافون. لماذا يشغل الموسيقى؟ لقد سمعت أن ذلك بسبب أدائه لتمارين رياضية. ولِمَ يؤدي هذه التمارين؟ لأنه يحتاج لأن يكون قويًّا، كما سمعت. لماذا يحتاج لأن يكون قويًّا؟ لأن عليه أن يتغلب على أعدائه في البلدة، كما يقول. ولِمَ يجب عليه أن يتغلب على أعدائه؟ لأنه يريد أن يأكل، كما سمعت.»

وبعد أن علم أن جاره يشغل الموسيقى لأداء التمارين الرياضية، ويؤدي التمارين ليكون قويًّا، ويريد أن يكون قويًّا ليقتل أعداءه، ويقتل أعداءه ليأكل، طرح السؤال التالي: «لماذا يأكل؟»73

إحدى إجابات هذا السؤال الأخير هي «للبقاء على قيد الحياة». وقد يرد السيد كيه على ذلك بالسؤال التالي: «ولماذا يبقى على قيد الحياة؟» وهكذا تستمر هذه الأسئلة التي تبدأ ﺑ «لماذا» إلى ما لا نهاية. ولكن هذا الاقتصار المحبط على الأسئلة التي تستفهم عن السبب ليست لعبة بسيطة ساذجة تؤدي إلى لا شيء، بل هي استراتيجية بلاغية لإثارة صمتٍ منتِجٍ، صمتٍ يربك الوظيفة السلسة والتكرارية للخطاب. وفي نقطة بعينها من هذه العملية، يقتصر الجواب على رد أبوي من قبيل: «هكذا وحسب!» ومن بعده يسود الصمت. وعند هذا التدخل «غير المعقول» بالضبط يتم التوصل إلى اللحظة السياسية الحقيقية؛ عندما يدرك الجانبان المتقابلان علاقات السلطة غير المتكافئة المتضمنة في الجدال، ويفهمان تصرفاتهما على أساس المصالح الأيديولوجية المختلفة. كما أن هذه هي لحظة توقف المواعظ وبدء التعبير الصريح عن السلطة. ولكن هذه هي اللحظة التي لا يستطيع فريدمان، بسلسلة جُمَله النرجسية ومخزون حكاياته الشخصية، أن يصل إليها.

عندما نسأل فريدمان «لماذا» أمريكا هي الأنسب لقيادة العالم اليوم؟ يجيب باستدعاء ماضي أمريكا العظيم. لماذا تقف أمريكا في طليعة التطور العالمي المسمى بالعولمة؟ لأنها كانت زعيمة العالم الحر، وهكذا يجب بالضرورة أن تستمر في قيادته إذا كان من المقدر للمستقبل أن يكون أفضل من الماضي، وهذا هو السبب. وعلى النقيض من طريقة بريخت في استخدام الحكاية للوصول للتخلص من الافتراضات المسبقة، ينشرها فريدمان من أجل تأكيدها. كل حكاية من حكايات فريدمان تماثل الحكاية التي رواها عن تجربته وهو يركب القطار الياباني السريع. من خلال أحداث تبدو عشوائية في ظاهرها — زيارة المصنع التي تليها فرصة إلقاء نظرة على قسم معين من الصحيفة — يبني نظرية كاملة للواقع، وهو شيء يفعله بنفس الطريقة سواء كان يكتب ألْف كلمة أو ٦٠٠ صفحة. إن ومضة التبصر التي تخرج من الحكاية تبدو وكأنها تعيد تشكيل العالم بطريقة جديدة. ومع ذلك، ينبغي أن يكون واضحًا أن الطريقة الوحيدة لتأطير هذه اللقاءات العرضية في شكل شيءٍ ما له معنًى هي أن تعرف بالفعل النظام مقدمًا. إن الظروف المحيطة بحكايات فريدمان لها نفس أهمية محتواها: القطار السريع في اليابان، أو شرفة شقة شيخ في دبي؛ هذه الحركة حول العالم للبحث عن حقيقة العولمة هي بالفعل عولمة. يسمح القراء لمجموعة فريدمان من الحكايات بالتحول إلى مزاعم تاريخية عن العالم (الإصدار الأول والثاني والثالث من العولمة)، جزئيًّا لأنها تُظهر حجم أسفاره؛ إذ يسمح له اختبار العالم بأن يعرف كنه العولمة. في الواقع، يبدو أحيانًا كما لو أن النظام العالمي واضح بالفعل في نظام هذه الحكايات الشخصية؛ ومن ثَمَّ ليست هناك حاجة لأنواع الأدوات النظرية والتحليلية التي يجدها المرء، على سبيل المثال، في أعمال ديفيد هارفي.

يعرف فريدمان، الرحالة العالمي، العولمة بسبب أسفاره. بوصفه رحالة، يبدو فريدمان قادرًا على اكتشاف الجديد أينما ذهب. إن «الجديد» هو عنصر أساسي في مقالاته وكتبه، ويشير إلى وجود اهتمام يستحق الثناء بعالم يتغير أمام عينيه. ولكن كما يُظهر مثال ليكزس، يمكن للمرء أن يتصور العثور على شيء جديد، إلا أنه لا يستطيع أن يلتقط الصورة الكبيرة على الإطلاق. في الواقع، ودون أن يدرك، يمثل فريدمان سائحًا أمريكيًّا سيئًا؛ فهو ليس بالشخص الذي يبعثر أمواله من حوله ويذل السكان المحليين، ولكنه الشخص الذي يتخيل أنه من الضروري أن يصادف أشياءَ جديدة موسعة للأفق في الخارج؛ ومن ثم يمكنه أن يتعامل معها. ستعطي السيارة ليكزس انطباعًا إيجابيًّا، أما عالَم شجرة الزيتون، فلن يفعل أبدًا. يتمثل جزء من الحدود التي صادفها فريدمان في أنه يسافر في عالم أصبح الآن متأمركًا بالكامل. وفي حين أن زكريا يستطيع الإشارة إلى هذا بوصفه نجاحًا للنظام، فعلى السائح السيئ فريدمان أن يقمع التشابه الذي قد يجده في كل مكان، ويتعامل دائمًا مع الأشياء الجديدة بالطريقة الصحيحة، في إطار هذه الرؤية التكنولوجية للعالم التي يعجب بها فلوريدا لدرجة الافتتان.

التحديث، والتنظيم، والخصخصة؛ بالنسبة إلى فريدمان، من الواضح أن هناك رابحين وخاسرين في نظام العولمة. أما عن السبب وراء اتجاه البعض للصراع حول شجرة الزيتون، أو التفكير فيها، أكثر من سيارة ليكزس (أو الطبيعي في مقابل الصناعي، ولا يسعنا ألا نشير إلى ذلك)، وحتى يومنا هذا؛ فهو أمر لا يمكن لفريدمان أن يقدره، كما أنه لا يستطيع أن يرى أن الهيمنة العالمية لهذه القيم قد تكون الإجابة الصحيحة عن السؤال: «لماذا» أمريكا؟ وعلى الرغم من هذا المنطق الدائري (أو ربما بسببه)، كان لتأكيد فريدمان الجازم على قيم النظام تأثير هائل؛ فهو يؤكد على مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم (على سبيل المثال، أن الفرد هو الأهم، وأن السرعة هي أهم عامل، وما إلى ذلك)، حتى وهو يأخذ متعة تعليمية في الإشارة من خلال الحكايات إلى أجزاء العالم الأخرى التي قد انطلقت قُدُمًا بالفعل. وقد كان التأثير الكلي قويًّا؛ حيث يشير في الوقت نفسه إلى اهتمام أكثر دقة ونقدية بطابع العولمة وأبعادها المتعددة، فضلًا عن طابعها السياسي وتوجهها المستقبلي بنحو خاص، وفي الوقت نفسه يؤكد على صلابة الأشكال الحالية للتنظيم السياسي والاجتماعي، حتى في مواجهة الكثير من الأشكال الجديدة المفترضة لسير الأمور.

قد يكون فريدمان راويًا موهوبًا ومؤثرًا؛ إلا أنه لا يخبرنا بأي شيء تقريبًا عن إحدى الديناميكيات الأساسية للعولمة التي أصررنا عليها؛ ألا وهي: مصير السيادة القومية في مواجهة السوق العالمية. ويُعد هذا أحد الموضوعات الرئيسية لزميله في الصحيفة، الاقتصادي بول كروجمان، الذي تحولت كتاباته العامة بعيدًا عن الاقتصاد باتجاه الدفاع عن التعاون المثمر بين الليبرالية والرأسمالية في القرن الحادي والعشرين. إن كروجمان هو المفكر الأكثر دقة، الذي لا تقيده الحدود المفاهيمية التي عادة ما ترافق الحس العام للحكاية، ولكن هذا لا يعني أن الحس العام لِلَّحظة العالمية لا يؤطر أفكاره الخاصة بشكل يبدو وكأنه لا مفر منه.

(٤) لعبة الثقة: بول كروجمان

أكد بول كروجمان مكانته في تاريخ علم الاقتصاد بفوزه بجائزة نوبل لعمله الخاص بنظرية التجارة وعلاقتها بالجغرافيا. ومع ذلك، وخلافًا لبعض الفائزين بجائزة نوبل، كان تأثيره وشهرته العامة متحققَين جيدًا بالفعل قبل حصوله على الجائزة عام ٢٠٠٨؛ ففي العالم الأكاديمي، نُشرت أعمال كروجمان على نطاق واسع في مجالات تخصصه، كما شارك في تأليف كتاب أصبح مرجعًا جامعيًّا مهمًّا في علم الاقتصاد الدولي.74 واكتسب كروجمان كذلك وضعًا عامًّا بارزًا نتيجة لمقالاته المقروءة على نطاق واسع حول القضايا الاقتصادية والسياسية التي تُنشر في صحيفة «نيويورك تايمز» (التي تم جمع مجموعة مختارة منها في أحد أكثر الكتب بيعًا عام ٢٠٠٤؛ وهو كتاب «السقوط العظيم»)، ومطبوعات أخرى (مثل مجلة «سليت» و«فورتشن»، وما إلى ذلك)، فضلًا عن عدد من الكتب الموجهة لعامة الناس. ويقدم كروجمان نفسه بوصفه ليبراليًّا دون أن يجد غضاضة في ذلك، ويشكل هذا جزءًا كبيرًا من جاذبيته. لقد تكوَّن تأثير ونفوذ كروجمان بوصفه مفكرًا عامًّا على مدى العقد الأول من القرن الحالي، من خلال دوره كناقد له جمهور واسع من القراء ينتقد عملية صنع القرار الاقتصادي والسياسي لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش. وتزايدت شعبيته بعد فترة حكم بوش (وبعد حصوله على جائزة نوبل) نتيجة لتعليقاته على استجابة حكومتَي بوش وأوباما (أو فشلهما في الاستجابة) للأزمة المالية عام ٢٠٠٨ وانتقاداته لها. بالنسبة إلى الليبراليين واليساريين، يُعد كروجمان هو المفكر الذي يمكن اللجوء إليه في محاولة لفهم التفاصيل الدقيقة للاقتصاد المعاصر. ولا يقدم كروجمان الروايات الاقتصادية مدفوعًا بالإيمان الأعمى بفكرة أن تقديم امتيازات اقتصادية لأصحاب الدخول الكبيرة سيفيد في النهاية المجتمع ككل، من خلال استثمار هؤلاء لثرواتهم في الاقتصاد مما يوفر فرص عمل لأصحاب الدخول القليلة، ولا بثقة مفرطة في قدرة اليد الخفية على تصحيح الأوضاع؛ ولكنها تشير إلى أن الحكومات لها دور ضروري وأساسي عليها أن تلعبه، وكان لهذا الكلام وقع الموسيقى على آذان مَن كانوا يرون لعقود طويلة أن الحكومة الأصغر، والضرائب الأقل، وعدم وجود قيود؛ كارثةٌ محققةٌ.

أصبح كروجمان ممثلًا لمن ينادون بسوق أكثر رحمة وعطفًا؛ أي ما يماثل حلم اليسار الليبرالي بوجود رأسمالية تقدمية تحسينية — تُحكَم وتُدار بنحو سليم، هُذِّبت حوافها الخشنة وكُبح جماح ميلها نحو الفساد — يستفيد منها الجميع على المدى البعيد. وتبدو الأفكار التي يقترحها جذابة، لأسباب ليس أقلها أنها تأتي من شخص ذي خبرة في علم السوق، يتجنب تطرُّف كلٍّ من الليبراليين الجدد (من ميلتون فريدمان حتى آلان جرينسبان) واليسار المناهض للعولمة (الذي كان قد انتقده مرارًا). ولعل أكثر ما يبدو جذابًا في الأفكار التي يعبر عنها هو أنها تؤكد دون هوادة على العقلانية الجوهرية، ليس للسوق الرأسمالية فحسب، ولكن للروايات الكبرى للتقدم والعقل أيضًا. وبينما قد تخفق النظم الاقتصادية وتَنتج عنها أزمات من حين لآخر — ويرى كروجمان أن السبب في ذلك عادة هو ضعف عملية صنع القرار التي تسترشد بالأيديولوجية بدلًا من العلم — لا يوحي أي مما وقع من أحداث على مدى القرن العشرين (ولا حتى الأزمة الاقتصادية الأخيرة) بأن هناك شيئًا يمكن أن نطلق عليه الجانب المظلم للتنوير الاقتصادي. إن الراحة التي يجدها المرء في رؤية كروجمان للعالم هي أنه، في نهاية المطاف، ليست هناك حاجة لإجراء أي تغيير منهجي واسع النطاق من أجل معالجة مشاكل اجتماعية وسياسية ملحَّة. إلى حدٍّ كبير، تبدو الأمور على ما يرام على ما هي عليه؛ فمع عودة الأفكار الكينزية — على استحياء وبنحو ضئيل للغاية، كما لا بد أن نعترف — والقضاء على أصحاب الأيديولوجيات من الحكومة (سواء من اليمين أو اليسار)، تستطيع النظم الحالية للديمقراطية التمثيلية الليبرالية الرأسمالية أن تؤدي المفترض منها؛ ألا وهو: توفير العدالة والفرص للجميع.

حصل كروجمان على جائزة نوبل لأبحاثه التي ركزت على ديناميكيات الإنتاج والاستهلاك على نطاق عالمي.75 ومن المستغرب إذن أن تجد في عمله أقل القليل مما يشير إلى التعقيدات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في عصر العولمة. في مقال له في مجلة «سليت» نُشر في الأيام التي سبقت اجتماع منظمة التجارة العالمية في سياتل عام ١٩٩٩، هاجم كروجمان معارضي العولمة.76 ويرى كروجمان أن هؤلاء لا يفهمون جيدًا مما أصبح على المحك في وجود العولمة، ويتصورهم مجموعات وأفرادًا يرون منظمة التجارة العالمية بوصفها «مركز مؤامرة عالمية ضد كل ما هو جيد ومهذب … هيئة أعلى من الحكومات تجبر الأمم على الرضوخ لرغبات الشركات المتعددة الجنسيات، وتدمر الثقافات … وتنهب البيئة؛ وتستخف بالديمقراطية؛ مما يجبر الحكومات على إلغاء القوانين التي تتعارض مع أغراضها الشريرة.»77 ويرفض كروجمان الفكرة القائلة بأن الاقتصادات القومية تؤدي أداءً أفضل إذا سعت نحو الاكتفاء الذاتي بدلًا من الإنتاج للسوق العالمية، على الرغم من أنه من غير المؤكد أن أيًّا من المحتجين المعارضين لمنظمة التجارة العالمية يعتقد ذلك لأنه يريد العودة إلى استراتيجيات إحلال المنتجات المحلية محل الواردات التي كانت سائدة في خمسينيات القرن العشرين وستينياته. كما يتناول فكرة أن العولمة تتسبب في إنتاج «ثقافة أحادية عالمية»، وهو ما يراه أحد المخاوف الأبوية؛ أي رؤية للعالم وكأنه مُصمَّم لتسلية السائحين الغربيين الذين يأملون في تجارب متنوعة ومبتكرة في رحلاتهم في الخارج، وليس «لمصلحة الناس العاديين في حياتهم اليومية.»78 إلا أنه لا يذكر أي شيء عن تأثير العولمة على البيئة، أو آثارها على الديمقراطية، أو دورها في تشكيل القرارات الحكومية لتعكس عقلانية السوق (المنطق الذي نطلق عليه الآن اسم الليبرالية الجديدة). يشير التصور المحدود للعولمة إلى أنها مرتبطة بالتجارة الاقتصادية، وبنحو ثانوي، بالتدفقات الثقافية؛ ومن وجهة نظر كروجمان، لا تزال الدولة القومية هي الموقع الأساسي الذي يتم من خلاله اتخاذ القرارات السياسية، كما أنها الوحدة التنظيمية للشئون العالمية. بعبارة أخرى، تُفهم العولمة في شكلها الأكثر شيوعًا على أنها تدفق للأموال والسلع إلى ما وراء الحدود. بالنسبة إلى كروجمان، يبدو القليل من الأشياء متضمنًا في هذا التدفق أو متأثرًا به، بما في ذلك الأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة بالفعل.

تؤدي الدولة القومية دورًا كبيرًا على نحو خاص من وجهة نظر كروجمان. إن حكومات الدول القومية هي المسئولة في نهاية المطاف عن اتخاذ القرارات التي تشكل عمليات الأسواق العالمية، تمامًا كما هي مسئولة عما يحدث داخل حدودها المحلية؛ ومن ثم، تبدو كتابات كروجمان عادةً موجهة لصناع السياسات هؤلاء. السؤال الآن: هل يمكن للرأسمالية أن تنقذنا على نحو تدريجي من خلال إشراك أكثر فاعلية للأمة، كما يقترح كروجمان وغيره من الليبراليين؟ وهل «نحن» التي يقولها كروجمان تشير إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، أم أنها تشملنا جميعًا بطريقة أو بأخرى؟ باختصار: كيف تبدو ليبرالية بول كروجمان؟ هل يجب أن نستسلم لإغراءات اتجاه يسار الوسط البراجماتي الخاص بها، أم نتعامل معها بالشك الذي تبديه الذبابة تجاه العرض الحلو اللزج الذي يقدمه لها نبات خناق الذباب؟

***

لطالما عرفنا أن الاهتمام بالمصلحة الشخصية دون مراعاة مصلحة الآخرين علامة على الأخلاق السيئة؛ والآن نعرف أنه علامة أيضًا على الاقتصاد السيئ.

فرانكلين ديلانو روزفلت، ١٩٣٦
كان العنوان الفرعي لكتاب كروجمان «السقوط العظيم» هو «انحرافنا عن الطريق في القرن الجديد». كان الضمير في كلمة «انحرافنا» يشير بطبيعة الحال إلى الجمهور الأمريكي الذي يتصور كروجمان أنه يمثل جمهور القراء الرئيسي له (على غرار فريدمان والشخصيات الأخرى التي ندرسها هنا). وقد تكون المضامين الواردة في باقي العنوان هي الأكثر أهمية؛ فهناك زعم بوجود طريق نسير عبره، اتجاه سرنا نحوه ذات يوم، وتخلينا عنه الآن أو فقدناه. إن الإشارة الواضحة هي أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تسير في الاتجاه «الصحيح» خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين (إن لم يكن خلال تاريخها كله)، ولم تفقد بوصلتها إلا في العقد الأول من القرن الجديد. تقدم مجموعة مقالات الرأي المجمعة في كتاب «السقوط العظيم» أدلةً على كلٍّ من الطرق المتعددة التي جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تضل طريقها، والخطوات التي يجب عليها أن تتخذها لتعود مرة أخرى إلى المسار الصحيح. وكما قد يتوقع المرء من سلسلة مقالات كُتبت بين الحين والآخر في خضم أحداث اقتصادية أو سياسية محددة، تأتي الرسالة العامة التي يخرج بها المرء غير مباشرة وغير مركزة؛ لذا، يتم توجيه الكثير من الانتقادات لبوش وأعضاء حكومته، حتى يتوقع المرء أن كل ما يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية أن تقوم به للعودة إلى المسار الصحيح، هو أن تتخلص من الأشرار الذين ظهروا في واشنطن على نحو مفاجئ لإدارةِ أكبر اقتصاد وجيش في العالم لما يقرب من عقد من الزمان.

ويشكل سرد مماثل عن الضياع والعودة كتاب كروجمان «ضميرُ ليبرالي». نُشر هذا الكتاب لأول مرة في عام ٢٠٠٧ (مع إضافة مقدمة جديدة له عام ٢٠٠٩)، وهو يعرض الخطوط العريضة للاقتصاد والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية منذ العصر المُذهب وحتى وقت تأليف الكتاب، مع الإشارة في الفصول الختامية إلى مشاكل الرعاية الصحية وعدم المساواة الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية. كانت الغاية من هذه اللمحة التاريخية هي محاولة تقديم رؤية عميقة بعض الشيء للاتجاه الذي ينبغي على الولايات المتحدة أن تسلكه الآن. لا يوجد الكثير من الجوانب الجديدة في هذا الكتاب، سواء من الناحية النظرية أو الواقعية: بنحو عام، يعمل كروجمان من خلال مجموعة نموذجية إلى حدٍّ ما من القضايا والمفاهيم والمواقف التاريخية، القائمة على تقسيم قياسي للحياة السياسية الأمريكية؛ المحافظين والليبراليين. على عكس الكثير من كتابات كروجمان الأخرى (سواء الأكاديمية أو العامة)، فإن كتاب «ضمير ليبرالي» هو كتاب «سياسي» تمامًا، يأمل في كسب القراء وجذبهم باتجاه طريقته في رؤية الأشياء من خلال إعادة سرد التاريخ الأمريكي الحديث؛ ومن ثم، التأكيد على ضرورة وجود طريقة جديدة للقيام بهذه الأمور؛ إنه هنا لا يعتمد على خبرته الاقتصادية بقدرِ ما يعتمد على المهارات التي اكتسبها في تقييم الحياة الاجتماعية الأمريكية خلال عصره بوصفه كاتبًا عامًّا.

يبدو المستقبل في حالةِ كون الولايات المتحدة الأمريكية تتبع أفكارَ ومُثُلَ «حركة المحافظين» (مثل أنصار حركة الشاي) أو خصومهم الليبراليين، بالنسبة إلى كروجمان، أنه لن يعود إلى المسار المفقود فحسب، بل وإلى الماضي المفقود كذلك. يقول في هذا الشأن: «يريد الليبراليون استعادة مجتمع الطبقة المتوسطة الذي ترعرعتُ فيه؛ فهؤلاء الذين يصفون أنفسهم بأنهم محافظون يريدون أن يُرجعونا إلى العصر المُذهب، ماحين بذلك عمل قرن من التاريخ.»79 ويمكننا بسهولة أن نضع هنا كلمة «التقدم» محل كلمة «التاريخ»؛ فالزمن يتقدم نحو الأمام، وذلك من خلال تراكم الحريات وتوقعات أكبر بتحقيق العدالة الاجتماعية. وكان الادعاء المثير للدهشة (وإن كان ليس جديدًا) في كتاب «ضمير ليبرالي» هو أنه بالنسبة إلى كلٍّ من الليبراليين والمحافظين المجتمعُ المثاليُّ قد تحقق «بالفعل». وعلى هذا النحو، فهذا الكتاب لا يعرض توقعات يوتوبية استشرافية، ولكنه يقدم مشروعًا للاستعادة. يريد المحافظون أن يعودوا بالبلاد إلى العصر المُذهب الطويل حين ازدهرت الرأسمالية الجامحة لصالح الأغنياء وعلى حساب غيرهم. ومن ناحية أخرى، يريد الليبراليون أن يعودوا إلى الأيام الذهبية لأمريكا في مرحلةِ ما بعد الحرب، أيام شباب كروجمان نفسه، من أجل إضافة الجزء الأخير في أحجية الصور المقطعة الاجتماعية الخاصة بما كان بالفعل مجتمعًا عظيمًا؛ ألا وهو الرعاية الصحية القومية.
يُعد الفصل الافتتاحي لكتاب «ضمير ليبرالي» لافتًا للنظر لأمرين؛ يتمثل الأمر «الأول» في الصورة التي يرسمها كروجمان للحياة في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية. إنها قصة معروفة، تكررت كثيرًا على لسان النقاد الليبراليين اليساريين، وربما أيضًا بوجه خاص جيل الطفرة السكانية في الولايات المتحدة الأمريكية. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انتخاب رونالد ريجان في عام ١٩٨٠، كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أصبحت في واقع الأمر دولة تعتمد على الطبقة المتوسطة؛ فقد انخفضت معدلات الفقر، وتم كبح جماح تجاوزات الأغنياء، ودعمت الحكومات بجميع مستوياتها السياسةَ العامةَ التي تهدف إلى تعزيز العدالة الاجتماعية وتحقيق المزيد من المساواة الاقتصادية، وكان هناك حزبان يشتركان في عملية صنع القرار التشريعي في الكونجرس. وكانت الاستجابة المثيرة للجدل من قِبل الحكومة للكساد العظيم؛ أي الصفقة الجديدة التي وضعها الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت، إلى جانب الإنفاق الحكومي الهائل الذي تطلبته مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، هما ما أنقذا أمريكا من كارثة اقتصادية وجعلاها نموذجًا للمجتمع الذي يتميز بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية. يقول كروجمان: «الآن، بما أن أمريكا قد نضجت، بحسب اعتقادنا، أصبح الوضع الطبيعي للمجتمع هو أن تكون هناك مساواة نسبيًّا بين أفراده، مع وجود طبقة وسطى قوية ومشهد سياسي متكافئ.»80 ومن وجهة نظر كروجمان، تتميز هذه الفترة بعملية سياسية «يحكمها في الغالب ائتلاف بين حزبين صنعه رجال اتفقوا على قيم أساسية.»81 مما لا شك فيه أنه كانت هناك بعض القضايا الاجتماعية المهمة التي كانت محل جدل بين الحزبين، مثل إعطاء حق التصويت للمرأة والأقليات، إلا أن أساس المجتمع العادل كان قد أنشئ بالفعل، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تتحرك في الاتجاه الذي يسمح أيضًا بحل هذه القضايا على النحو الأفضل.
هناك العديد من الأسئلة التي يمكننا أن نطرحها حول هذا الاستعراض الحالم لحقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. بادئ ذي بدء، نظرًا للاتفاق العام على القيم والحياة السياسية الثنائية الحزب، يمكن للمرء أن يتساءل عن الأساس الذي استند إليه المواطنون الأمريكيون في قرارهم بالتصويت لصالح أحد الحزبين ضد الآخر، إذا ما كانت الأمور ستتساوى في نهاية المطاف. (هل كان هذا من قبيل العادة فحسب؟ ولماذا لا نؤسس حكم الحزب الواحد؟) ولكن دعونا نركز أولًا على الأمر «الثاني» الذي طرحه كروجمان في الفصل الأول من كتابه؛ وهو الزعم الذي يضع الإطار لفكرة الكتاب بأكمله، كما أنه زعْم يبعث على الدهشة ليس فيما يسعى لتأكيده بقدرِ ما يعرضه عن فهمه لموقع الاقتصاد في المجتمع والسياسة. إن عدم المساواة الاقتصادية المتنامية التي ميزت الحياة الأمريكية خلال العولمة — المتمثلة في الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء، واختفاء الطبقة الوسطى، وزيادة رقعة الفقر — لم توصف بأنها نتيجة «قوًى مادية مثل التغير التكنولوجي»؛82 أي ناتجة عن دفعة من يد اقتصادية خفية، ولكنه اعتبرها نتيجة للسياسة. يقول كروجمان: «تزداد قناعتي بأن معظم السببية يعمل في الاتجاه المعاكس؛ أي إن التغيير السياسي في صورة زيادة الاستقطاب كان سببًا رئيسيًّا في زيادة نسب عدم المساواة.»83 بالنسبة إلى معظم المعلقين والجماهير، لم يكن هذا مفاجئًا على الإطلاق. ولكن كان إيمان كروجمان بالاقتصاد بوصفه الخطاب الاجتماعي السائد واضحًا في الحاجة التي استشعرها لتقديم أدلة على أولوية السياسة على الاقتصاد. وأضاف كروجمان: «هل يمكن للبيئة السياسية أن تكون حاسمة هكذا في تحديد عدم المساواة الاقتصادية؟ يبدو هذا وكأنه غير صحيح، ولكن هناك مجموعة متزايدة من الأبحاث الاقتصادية التي تشير إلى أنها يمكنها ذلك.»84 ويقدم كروجمان أربع نقاط للدفاع عن هذا الموقف: مجتمعِ ما بعد الحرب القائم على الطبقة الوسطى، الذي يقدره كروجمان، أُنشئ من خلال المؤسسات والقواعد والبيئة السياسية لتلك الفترة؛ ويبدو أن توقيت التحولات الاقتصادية يوحي بأن السبب وراءها هو التغيرات السياسية؛ وتَسبَّب تآكل المعايير والمؤسسات الاجتماعية على مدى السنوات الثلاثين الماضية في ظهور عدم المساواة في الولايات المتحدة الأمريكية (في مقابل أن يكون مثلًا التغير التكنولوجي هو السبب في ذلك). وهناك زعم مشكوك فيه يقول إن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة التي واجهت أكبر قدر من عدم المساواة خلال العولمة: يقول كروجمان إنه إذا كان الأمر يرجع إلى السوق، فلنا أن نتوقع أن تكون هناك مستويات مماثلة من عدم المساواة في جميع أنحاء العالم.
إذن، ما يثير الدهشة هو تفاجؤ كروجمان بقدرة السياسة على تحديد التطورات والتغيرات الاقتصادية؛ من ثَمَّ، لا يمكن لفهمه لطبيعة ومضمون السياسة إلا أن يشغل معظم الكتاب، حتى لو لم يقضِ أي وقت أو قضى وقتًا قليلًا في التفكير في طابع السياسة على هذا النحو. بالنسبة إلى كروجمان، ليست السياسة في نهاية المطاف مسألة سلطة، أو شكل تاريخي، أو تعقيدات البنية الاجتماعية، ولكنها مسألة «ضمير»، كما يوحي عنوان الكتاب؛ إنها تلك القوة الداخلية المتمثلة في الأخلاق التي تدفع الشخص للتصرف بالطريقة الصحيحة. من أُولى صفحات الكتاب، تم تقديم الكتاب بوصفه عملًا دراميًّا يضم أشرارًا وأبطالًا؛ حيث الأشرار هم «حركة المحافظين»، أي المجموعة التي تحركها سلسلة كاملة من المطبوعات والأشخاص والمفكرين ووكالات الأنباء، الذين سيطروا على الحزب الجمهوري بأفكارهم المناهضة للحكومة، التي تدعو لخفض الضرائب. في هذا الشأن، يقول كروجمان:
المال هو العامل الذي يربط معًا كل أتباع حركة المحافظين، التي تمولها إلى حدٍّ كبير مجموعة صغيرة من الأشخاص الشديدي الثراء وعدد من الشركات الكبرى، الذين يستفيدون جميعًا من زيادة مستويات عدم المساواة، ومنع الضرائب التصاعدية، والتراجع عن دولة الرفاهة؛ باختصار، عكس بنود الصفقة الجديدة … ولأن حركة المحافظين تهتم في نهاية المطاف بالتراجع عن السياسات التي تضر بمصالح نخبة ثرية قليلة العدد، فهي في الأساس مناهضة للديمقراطية.85
إن جشع عدد قليل من الأفراد وافتقارهم إلى الضمير الذي يرشدهم إلى أفضل السبل للعمل لصالح إخوانهم من البشر يحرف ما يمكنه أن يكون عملًا سلسًا وعاقلًا للاقتصاد. لا يمكن للمرء إلا أن يفترض أن هناك درجة أكبر من الفضيلة الأخلاقية في الحقبة التي بدأت بتولي فرانكلين روزفلت وحتى ستينيات القرن العشرين، التي حلت محلها الآن قيم جوردون جيكو وأمثاله. ولكن لماذا؟ وإذا كان هؤلاء أقلية، فلِمَ التغاضي عن هذا التحول، لا سيما في ضوء إصرار كروجمان على أن استطلاعات الرأي التي تناولت مجموعة متنوعة من القضايا تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية يغلب عليها في الواقع اتجاه يسار الوسط؟
يتكون الجزء الأكبر من الكتاب من سرد مفصل، وفي كثير من الأحيان متبصر، لتاريخ صعود وسقوط الطبقة الوسطى الأمريكية منذ الصفقة الجديدة وحتى الوقت الحاضر؛ أو كما يقول كروجمان، من عقد الأربعينيات الذي شهد تقليلًا كبيرًا للفجوة بين الأجور، إلى حالات عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية التي تميز ما يسمى بالتفاوت العظيم في حقبتنا الحالية. إنها قصة مؤامرة الرأسمالية اليمينية (وقد تمت الإشارة إليها مباشرة بهذا الاسم). وهناك نقطتان تم التأكيد عليهما خلال الكتاب؛ الأولى: أن قصة التغييرات في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين هي قضية سياسية («وليست ظاهرة اقتصادية»)،86 والثانية: أن المحافظين لعبوا مرارًا وتكرارًا، برؤية متبصرة للمشهد المتغير للسياسة الأمريكية، على المخاوف الاجتماعية (مثل الخوف من الشيوعية)، والتقسيمات (خاصةً على أساس العرق)؛ ليسيطروا على الأمور ويكون بإمكانهم تطبيق سياساتهم. ويتعين على كروجمان، المنظِّر السياسي، أن يحاول فهم سبب استعداد الناخبين لانتخاب ساسة يعملون فقط لتحقيق مصالح النخبة المكونة من رجال الأعمال. لا توجد أي إشارة إلى أن شيئًا مثل الأيديولوجية يمكن أن يكون له دور؛ أي إن الناخبين قد يتصورون أنهم يتفقون مع الكثير من القيم والمعايير التي تتبناها حركة المحافظين، حتى لو انتهى بهم الأمر إلى دفع ثمن ذلك اقتصاديًّا في نهاية المطاف. وبدلًا من النظر إلى الصورة الكبيرة التي توضح سبب تصويت أي شخص لصالح الحزب الجمهوري الذي «استولى عليه المتطرفون»،87 ينظر كروجمان في سياسة تصويت الأغلبية، ويتساءل: «لماذا استطاع دعاة دولة الرفاهة الأصغر والسياسات الضريبية التنازلية الفوزَ في الانتخابات، بالرغم من أن تزايد عدم المساواة في الدخل كان ينبغي أن يجعل دولة الرفاهة أكثر شعبية؟»88 وبما أنه ليس عليه سوى تحديد ذلك الجزء الصغير من الناخبين الذين يدفعون المحافظين إلى القمة، فقد أصبح من السهل التوصل إلى المشكلة المتمثلة في حدوث تغيير في أنماط التصويت من قِبل الجنوبيين البيض. يقول كروجمان:
تشير الأهمية القصوى للتحول الجنوبي إلى قصة مفرطة في البساطة للنجاح السياسي لحركة المحافظين، وهذه هي القصة: بفضل تنظيم المؤسسات المتشابكة التي تشكل المؤامرة اليمينية الواسعة، استطاعت حركة المحافظين أن تسيطر على الحزب الجمهوري، وأن تنقل سياساتها بقوة إلى اليمين السياسي. في معظم أنحاء البلاد، أدى هذا التحول نحو اليمين إلى نفور الناخبين، الذين تحولوا تدريجيًّا نحو الديمقراطيين. ومع ذلك، استطاع الجمهوريون أن يحرزوا فوزًا في الانتخابات الرئاسية؛ ومن ثم تمكنوا من السيطرة على الكونجرس؛ لأنهم كانوا قادرين على استغلال المسألة لكسب الهيمنة السياسية في الجنوب. وتلك هي القصة باختصار.89
إن عنصرية البيض الجنوبيين جعلتهم ينجذبون نحو «الحزب القديم الكبير». أما بالنسبة إلى ما يعتقدون أنهم سيحصلون عليه جراء التصويت ضد مصالحهم الاقتصادية الخاصة، فهو سؤال قد يكون كروجمان غير قادر أو غير راغب في الإجابة عنه.
وماذا عن حل المأزق السياسي الذي وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها فيه؟ إذا لم تكن النخبة الاقتصادية قد تلقت عقابها بالفعل جراء الأزمة المالية لعام ٢٠٠٨، فيبدو كروجمان واثقًا من أن التغيرات الديموغرافية ستقلل بالضرورة من شعبية حركة المحافظين، ويقول: «على المدى الأطول، ستساعد الهجرة على تقويض الاستراتيجية السياسية لحركة المحافظين … فلا يمكن لحركة المحافظين أن تخاطب الناخبين البيض ضمنيًّا على أساس العرق، وفي الوقت نفسه تخطب ود العدد المتزايد من الناخبين من أصول لاتينية وآسيوية.»90 قد تقودنا السياسات الصادرة عن حكومة ولاية أريزونا في عام ٢٠١٠ وانتخاب سكوت براون لمجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية ماساتشوستس في الانتخابات الفرعية لعام ٢٠١٠ للشك في الثقة التي يؤكد بها كروجمان على حدوث تغيير في المشهد السياسي.
قد يكون من الصعب أن نتوقع من مفكرٍ مؤسَّسِيٍّ مثل كروجمان أن يشكك في طبيعةِ ما يعنيه التصويت الديمقراطي من أنه تمثيل دقيق لآراء الناخبين أو آمالهم. إلا أن المرء قد يتوقع أكثر من هذا النقاش الذي عرضه في هذا السياق. يقوم تحديه لحركة المحافظين وكذا دعوته لرأسماليةٍ أكثر رحمة وعطفًا على نقد أخلاقي. وبدلًا من تقديم تحليل أيديولوجي يمكن أن يصف كل التطورات التي حدثت على مدى العقود الثلاثة الماضية بكل تعقيداتها — كل شيء بدءًا من الأخبار التي تقدم على مدار الساعة، إلى الاتجاه العالمي لعزوف الناس عن المشاركة السياسية، والتحديات والفرص التي أتيحت من خلال اقتصاد وسياسة العولمة، وما إلى ذلك — قدَّم كروجمان سردًا للأخيار والأشرار، الذين يستحقون الإدانة. من المستحيل بالنسبة إليه أن يتصور، على سبيل المثال، أن دوافع وضرورات الاقتصاد الرأسمالي ذاته قد تشكل المعايير والسلوكيات بطريقة جوهرية. ومن خلال تحويل التركيز إلى السياسة والأخلاق، يأخذ الاقتصاد (بالنسبة إلى كروجمان) وضعه المناسب في علم السوق. وإذ يتتبع كروجمان آثار ولادة حركة المحافظين، يلاحظ أن «النخبة الاقتصادية المحافظة ظهرت أولًا؛ لأن حقائق الاقتصاد الفعلية تتسبب في ظهور ميل طبيعي لدى الاقتصاديين للتوجه إلى أصولية السوق الحرة.»91 لماذا لا تولِّد هذه الحقائق نفس الميل لدى كروجمان؟ لأن ضميره ينقذه، ويدفعه إلى تصور الحاجة ليس لنظام اقتصادي بديل، ولكن لنسخة أكثر رحمة وعطفًا من النظام الحالي لا تزال تَعتبر جني الأرباح والملكية الخاصة من بديهياتها الأساسية.
في مقدمة طبعة الكتاب الورقية الغلاف، يتحدث كروجمان بثقة عن فرصة باراك أوباما في تحقيق أجندة تقدمية، تعود بنا إلى الأحوال السائدة أيام طفولة كروجمان، ولكن مع إضافة الرعاية الصحية الشاملة؛ فمع وجود الأخيار الآن في موقع المسئولية، يمكن للاقتصاد أن يعمل كما يفترض به، ليس لزيادة ثراء الأغنياء فحسب، ولكن أن ينظَّم ويُدار بطريقة يمكنها أن تُنتج مجتمعًا تسوده الطبقة الوسطى من جديد. يقول: «إن الادعاء بأن أمريكا مستعدة لصفقة جديدة — الأمر الذي اعتبره بعض القراء غير عمليٍّ عند نشر الطبعة ذات الغلاف المقوى من الكتاب — أصبح الآن هو الرأي السائد بنحو أو آخر.»92 وبعد عامين من رئاسة أوباما، يمكن للمرء أن يؤكد بثقة أن الرأي السائد يمكن أن يكون خاطئًا أحيانًا.

***

لم يكن أحد يظن أن شيئًا كهذا يمكن أن يحدث في العالم الحديث، ولكنه حدث، وكانت النتائج مذهلة.

بول كروجمان93
كان أحد الافتراضات الأساسية في كتاب «ضمير ليبرالي» هو أنه بوجود القادة المناسبين في المكان المناسب، ستكون الحكومات قادرة على اتخاذ القرارات المناسبة بالنسبة إلى الاقتصاد، وتشكيل تأثيره وآثاره على الناس. وهذا ليس افتراضًا جديدًا، بل هو من قبيل الحس العام. في كتاب «عودة اقتصاديات الكساد وأزمة عام ٢٠٠٨»، يعالج كروجمان مجموعة مختلفة تمامًا من الأسئلة. في كتاب «ضمير ليبرالي»، يُجري تحليلًا للسياسة الأمريكية في القرن الماضي من خلال مناقشة محدودة للظروف العالمية الأوسع نطاقًا، التي قد يكون لها تأثير على التوجهات الاقتصادية والسياسية التي اتخذتها البلاد. على الجانب الآخر، يتناول كتاب «عودة اقتصاديات الكساد وأزمة عام ٢٠٠٨» صراحةً النظام العالمي الجديد والتحديات التي يمثلها فيما يتعلق بعمل الاقتصادات. يقدم هذان الكتابان معًا النطاق الكامل لِلِيبرالية كروجمان: احتمالات تدخل الدولة في الاقتصاد على المستويين العالمي والقومي، وكذا حدوده الحقيقية الواضحة.
يبدأ كتاب «عودة اقتصاديات الكساد وأزمة عام ٢٠٠٨» بعرض ما يعتبره كروجمان الواقع الذي يجب أن تعمل من خلاله عملية صنع القرار الاقتصادي اليوم؛ فبعد عام ١٩٨٩، نعيش في عالم لم تعد فيه الاشتراكية «فكرة تستطيع أن تستحوذ على عقول الرجال»،94 والذي جعلت فيه رأسمالية عالمية بنحوٍ كاملٍ العالمَ الناميَ ينخرط في عملية إنتاج (ومن ثم في الاقتصاد العالمي) بدرجة لم يسبق لها مثيل. بعبارة أخرى، «نحن نعيش في عالم يُنظر فيه إلى حقوق الملكية والأسواق الحرة بوصفهما مبادئ أساسية، وليس بوصفهما ذريعتين نلجأ إليهما على مضض، ونتقبل فيه الجوانب غير السارة لنظام السوق — عدم المساواة والبطالة والظلم — بوصفها حقائق حياتية.»95 ومن الواضح حتى من هذا الاقتباس أن تحليل كروجمان للاقتصاد العالمي لن يشمل قضايا الأخلاق والضمير، أو حتى — بدرجةٍ ما — السياسة. هذا الكتاب معنيٌّ بالتحليل الاقتصادي الذي يهدف إلى محاولة فهم أسباب عدم استقرار النظام الاقتصادي العالمي. إن اقتصاديات «الكساد»، ونميزه هنا عن «الركود»، قد عادت في لحظة من المفترض أن تكون لحظة انتصارِ رأسماليةِ ما بعد عام ١٩٨٩. يحدد كروجمان كيفية حدوث ذلك، وأسبابه وما يمكن عمله حياله، بالنظر في أزمات العملة في أمريكا اللاتينية (المكسيك عام ١٩٩٤، والأرجنتين عام ٢٠٠٢) وآسيا (١٩٩٧–١٩٩٩)، وتقييم ما يسمى بالعقد الضائع في اليابان (تسعينيات القرن العشرين)، بالإضافة إلى تقديم تحليلات لفقاعات سوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة (فقاعة الإنترنت في أواخر التسعينيات وفقاعة سوق العقارات الأخيرة)، وتقديم تعليق موجز على الأزمة العالمية التي حدثت عام ٢٠٠٨.
في كثير من الأوجه، تبدو تفاصيل النقاش أقل أهمية من الشكل والادعاءات الأكبر التي تنشأ من تحليل كروجمان؛ فبوصفه محللًا سياسيًّا، يرى كروجمان أن الأزمة المالية تقدم فرصة: فتمامًا كما أدى الكساد العظيم إلى الصفقة الجديدة، تهدد الأزمة الحالية بتقويض مكانة حركة المحافظين وتقدم إمكانية عمل صفقة جديدة قد تلغي عدم المساواة الناتجة عن التفاوت العظيم. وبوصفه خبيرًا اقتصاديًّا، يرى كروجمان أن عودة اقتصاديات الكساد تؤدي إلى فشل محتمل للنظام الذي يجب التعرف على سببه لتستمر الرأسمالية في عملها، سواء كانت عملياتها ونتائجها محمودة من الناحية الأخلاقية أم لا. إن الآلية الأساسية التي يمكن من خلالها منع حالات التراجع الاقتصادي والحفاظ على الملكية الخاصة وعملية اتخاذ القرار الخاصة معروفة؛ حيث وُضعت للتعامل مع الآثار الناجمة عن الكساد العظيم. ويطلق كروجمان على هذه الآلية اسم «الميثاق الكينزي»:
لم يكن ما أعاد الثقة في الأسواق الحرة هو التعافي من الكساد فحسب، ولكن التأكيد على أن التدخل الاقتصادي الكلي، من خفض لأسعار الفائدة أو زيادة العجز في الموازنة لمحاربة حالات الركود، يمكنه أن يحافظ على اقتصاد السوق الحرة مستقرًّا إلى حدٍّ ما وبوضع توظيف كامل بنحو أو بآخر. في الواقع، عقدت الرأسمالية واقتصاديوها اتفاقًا مع الناس: من الآن فصاعدًا، سيكون وجود الأسواق الحرة لا غبار عليه لأننا نعرف ما يكفي لمنع حدوث أي حالات كساد عظيم أخرى.96
والسؤال الذي يدور حوله الكتاب، والذي غذَّى جزءًا كبيرًا من استجابة كروجمان إلى ما يُنظر إليها باعتبارها استجابة خجولة للغاية من قِبل إدارة أوباما فيما يتعلق بالأزمة الاقتصادية الحالية؛ هو: لماذا يبدو أن هذا الميثاق قد فشل أو انهار، مما سمح لاقتصاد الكساد بالعودة، ليس فقط إلى أطراف الرأسمالية بل إلى مركزها في الولايات المتحدة الأمريكية؟ جدير بالذكر أنه على الرغم من أهمية هذا السؤال لتغذية النقاش الدائر في الكتاب، فإن كروجمان يقدم شرحًا ضئيلًا للغاية لما يشكل هذا الميثاق. يبدو هذا مقتصرًا على حقيقة أن الدولة ستتدخل من خلال خفض الضرائب وزيادة الإنفاق لتفادي حالات الركود، ولا يمتد ذلك ليشمل الديناميكيات الأوسع للصفقة الجديدة التي شملت آليات (على سبيل المثال) لتقليل الفجوة المتسعة في تقسيم الثروة خلال العصر المُذهب (الذي عدنا إليه في الوقت الحاضر)، أو لمحاولة ضمان وضع التوظيف الكامل والتخفيف من آثار نزوات السوق التي أحيانًا ما تكون قاسية.
وحتى في هذا الوضع المالي المقيَّد، لا يخلو الميثاق الكينزي من المشاكل. في حقبة حيث يأتي الجزء الأكبر من الإيرادات الحكومية من الأفراد وليس من المؤسسات، يثير استخدام الأموال العامة لدعم الشركات الخاصة انتقادات هائلة في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن الأساس المنطقي الاقتصادي الكلي المعني وفوائده المفترضة للنظام على المدى البعيد (كان كينز هو من قال التعليق الشهير بأنه على المدى البعيد سنكون جميعًا في عداد الأموات). ولعل الاتفاق الذي أُبرم يومًا ما مع الجماهير إزاء استمرار الأسواق الحرة — وهي إشارة كان الهدف منها في المقام الأول التخفيف من حدة التحديات السياسية لشرعية الرأسمالية الليبرالية — هو الذي يرغب الكثيرون الآن في إعادة النظر فيه. على أي حال، يظهر سببان لعودة اقتصاديات الكساد في تحليل كروجمان؛ السبب «الأول» هو التغيرات التي حدثت في الممارسات المالية في الولايات المتحدة الأمريكية، نتيجة لتخفيف القيود المفروضة على القطاع المصرفي في نهاية القرن العشرين وظهور نظام ظِل مصرفي «لم يُنظَّم على الإطلاق في المقام الأول.»97 سيجد أي شخص تابَع باهتمامٍ المناقشاتِ المتعددةَ لمشاكل الاقتصاد الأمريكي، والتي أدت إلى الأزمة التي وقعت في خريف عام ٢٠٠٨، أن العناصر التي ألقى كروجمان باللوم عليها في حدوث الأزمة مألوفةً لديه؛ وهي: المستويات الزائدة من المخاطر، والمضاربة في نظام مالي أصبح بعيدًا تمامًا عن الاقتصاد الحقيقي، وإنشاء أدوات مالية جديدة مع وعود بعوائد مذهلة، ولكن عناصرها ومخاطرها كان من المستحيل على المستثمرين فهمها، والتغيرات في ممارسات الإقراض لأصحاب المنازل، التي أُدخلت مع إيمان مفرط وغير عقلاني بالزيادة التصاعدية المستمرة في قيمة العقارات، واستخدام صناديق التحوط للتحكم في السيولة المالية، خصوصًا مع العلم بأنه «بالنسبة إلى الكثير من الأصول غير السائلة، كانت هي السوق»،98 والإثقال الزائد لجميع أنواع المؤسسات المالية بالديون، سواء كانت مؤسسات رسمية أو مؤسسات ظِل. يدعو كروجمان لإدخال المزيد من التنظيم، بالإضافة إلى «التأميم المؤقت» لبعض عناصر النظام المالي، ما دامت «ستُعاد خصخصتها في أقرب وقت آمن للقيام بذلك.»99 عندما يتعلق الأمر بإلقاء اللوم على أرض الوطن، فإن المشكلة تتمثل في اللامنطق، والإهمال، و«الوفرة اللاعقلانية» للأسواق، فضلًا عن فشل أهم صناع السياسات في اتخاذ قرارات صعبة، وعلى الأخص آلان جرينسبان خلال فترة توليه منصب رئيس مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي (١٩٨٧–٢٠٠٦).

ترتبط فقاعات السوق والأزمات الاقتصادية التي تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية بالطبع بالسوق العالمية بصورة لم تحدث من قبل؛ ولهذا السبب، كما يمكن أن نتوقع، يقدم كروجمان تحليلات لأزمات العملة في أمريكا اللاتينية وآسيا، في شكل حالات اختبار استكشافية لفهم ما سيحدث بعد ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن في سياق التحليل، يظهر أن مشاكل الولايات المتحدة في الواقع قليلًا ما ترتبط (ربما حتى وقت قريب) بعودة اقتصاديات الكساد في مكان آخر. يؤكد الميثاق الكينزي على الثقة في الأسواق الحرة؛ ففي أمريكا، تتدخل الحكومات عادة في الأسواق لتحقيق الاستقرار فيها، سواء من خلال الإنفاق الحكومي الكبير عند الضرورة، أو من خلال التعديلات الأكثر انتظامًا من قِبل الاحتياطي الفيدرالي لسعر الفائدة الأساسي. لم تَعُد اقتصاديات الكساد بسبب فشل حكومات الولايات المتحدة في اتباع الأفكار الكينزية، سواء كانت الحكومة التي تتولى السلطة تدَّعي الإيمان بتلك الأفكار أو ترفضها. إن المشكلة الحقيقية هي في عمليات الميثاق الكينزي على الصعيد العالمي، وهو ما يشير إليه بوصفه السبب «الثاني»، الأكثر أهمية، لحدوث الأزمة المالية العالمية. ولهذا انعكاساته على النظرية المعرفية التي تحكم الاقتصاد — أي ادعاءاتها المعرفية؛ ومن ثَمَّ قدرتها على العمل بوصفها نظامًا منطقيًّا — وكذا على العمليات الفعلية للاقتصادات الفعلية. وعلى الرغم من أن كروجمان كان على صواب إذ لفت الانتباه إلى هذا الانهيار المعرفي، فإنه فشل في معرفةِ ما قد يعنيه هذا بالنسبة إلى الرأسمالية العالمية الجديدة، مفضلًا الاعتماد على مزيج من نقد السياسات والوعظ الأخلاقي (أشخاص أشرار يحكمون على نحو سيئ) عندما ينقل تحليله إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

كيف يمكن للمرء أن يتعامل مع اقتصاد يعاني من أزمة لتجنب الركود أو الكساد؟ يمكن للمرء أن يخفض أسعار الفائدة أو يقلل الضرائب أو يزيد الإنفاق، أو يطبق مزيجًا من هذه الإجراءات. هذا هو المطلوب بموجب بنود الميثاق الكينزي. ما يفاجئ كروجمان في تأملاته حول الأزمات الاقتصادية العالمية (فيما بعد عام ١٩٨٩) هو أنه في جميع الحالات — المكسيك، والأرجنتين، والبرازيل، وتايلاند، وماليزيا، وإندونيسيا — دعا صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية إلى اتباع «سياسات منحرفة تمامًا لاقتصاد السوق الناشئ من منظور المذهب الاقتصادي القياسي.»100 وبدلًا من خفض أسعار الفائدة، حدثت زيادة فيها؛ وبدلًا من زيادة الإنفاق الحكومي، فُرض التقشف المالي وضعفت العملات؛ وأدى ذلك إلى زيادة أعباء الديون بالنسبة إلى الحكومات والشركات والأفراد؛ وكانت النتيجة هي زيادة الضرائب. وهناك الرد المعتاد على هذا الانحراف في السياسات الذي يقوله الكثيرون ممن ينتمون لليسار؛ وهو: باختصار هذا مثال لتحقيق الربح الفاحش من جانب المصالح الحكومية والمالية الأجنبية في العالم المتقدم، على حساب الاقتصادات الجديدة في العالم النامي. ويقدم كروجمان سببًا مختلفًا لعدم عمل الميثاق الكينزي خارج العالم الغربي؛ ألا وهو: الخوف من المضاربين.
في كل دراسة من دراسات الحالة التي عرضها كروجمان، نجد أن الحكومات غير قادرة على إيقاف انهيار عملاتها وهروب رءوس الأموال الأجنبية، بغض النظر عما تفعله. وبمجرد أن يكون هناك فقدان للثقة في اقتصاد بلدٍ ما بسبب مشكلةٍ ماليةٍ ما، تبدأ عملية من الصعب التعافي من نتائجها. وسواء كانت مشكلة معينة تدل على قضايا أكبر كامنة متعلقة بالاقتصاد الكلي أم لا، يمكنها أن تتسبب في فقدان ثقة المستثمرين، وينتج عن هذا هبوط لقيمة العملة وارتفاع في أسعار الفائدة، في محاولة لجذب المستثمرين مرة أخرى، لكنه يؤدي لركود الاقتصاد بسبب ارتفاع أسعار العملات الأجنبية وزيادة تكلفة الديون؛ الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من المشاكل المالية للمصارف والأسر والشركات في البلاد؛ ومن ثَمَّ إلى خسارة المزيد من الثقة، وهكذا دواليك. يقول كروجمان في هذا الشأن: «لأن هجمات المضاربة يمكن أن يكون لها تبرير، لا يكفي اتباع سياسة اقتصادية منطقية من حيث الأساسيات لضمان الثقة في السوق. في الواقع، يمكن للحاجة إلى كسب تلك الثقة أن تمنع الدولة من اتباع سياسات حكيمة أخرى، وتجبرها على اتباع سياسات تبدو في الظروف العادية منحرفة.»101 إن ما ينطبق على الحكومات القومية ينطبق أيضًا على صندوق النقد الدولي:

لأن الأزمات يمكن أن تكون محققة لذاتها، لا يكفي اتباع سياسة اقتصادية سليمة لكسب ثقة السوق؛ فلا بد من التوافق مع مفاهيم السوق وتحيزاتها وأهوائها، أو — بالأحرى — يجب على المرء أن يتوافق مع ما «يأمل» أن تكون عليه مفاهيم السوق …

لقد أصبح الأمر بمنزلة ممارسة لعلم النفس للهواة؛ حيث حاول صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة إقناع الدول بأن تفعل أشياء تأمل أن تراها السوقُ ملائمة.102
هل كان على الحكومات الأجنبية وصندوق النقد الدولي أن تمارس هذه الألعاب؟ في كل حالة من الحالات التي يحللها كروجمان، يشير إلى المسارات الأخرى التي كان يمكن اللجوء إليها. ومع ذلك، يبقى استنتاجه واضحًا لا لبس فيه، وهو: «خلاصة القول هي أنه لم تكن هناك خيارات جيدة. يبدو أن قواعد النظام المالي الدولي لم تقدِّم أي مخرج للعديد من البلدان؛ ومن ثم، فلا يمكن الإلقاء باللائمة على أي أحد بسبب سير الأمور بنحو سيئ للغاية.»103
يبدو أن الميثاق الكينزي الذي يتوقف عليه مصير الأسواق يعمل فقط في حالة البلدان الغربية المتقدمة؛ أما في أي مكان آخر، فيصبح علم الاقتصاد لعبة لعلم نفس الهواة تعتمد على جانب مختلف من الفكر الكينزي: «الغرائز الحيوانية».104 لكن في عصر الاقتصاد العالمي، أثبتت الأحداث الأخيرة أن هذه الغرائز الحيوانية أصابت الكوكب بأسره بعدواها. لقد استمر الحل الكينزي في مواجهة الكساد العظيم — وساعده في الظهور بسرعةٍ نشوبُ الحرب العالمية الثانية، بمتطلباتها الهائلة على خزينة الحكومة — في العمل بالدرجة التي يعمل بها فقط بسبب أن رأس المال في كل مكان يمكن أن يعود ليجثم قريبًا من الأمان النسبي للولايات المتحدة الأمريكية. لقد كانت الولايات المتحدة مكانًا معفًى من ألعاب الثقة؛ وكان هذا الاستثناء ضروريًّا لاستمرار النظام بأسره في العمل. لقد كان حجم وقوة الاقتصاد الأمريكي من أسباب الثقة الثابتة (نسبيًّا) فيه؛ وكان السبب الآخر هو اقتصاد الحرب الدائم لأمريكا (أي ما يشبه ما كانت عليه الحرب العالمية الثانية بالنسبة إلى الفكر الكينزي)، الذي يتعهد العملة الأمريكية (ما يدعوه روبرت كورتس «دولار الأسلحة»)105 بوصفها وحدة للتبادل العالمي. ويبدو أن هذا المركز المستقر أيضًا كان مهمًّا لليقين الذاتي المعرفي للاقتصاد.

وماذا الآن بعد أن تم استبدال علم نفس الهواة وألعاب الثقة بالاقتصاد «في كل مكان»؟ إن حالات اللامنطقية الواضحة والانهيار السريع للأسواق والعملات (التي تليها حالات تعافٍ سريع مقابلة) تعود جزئيًّا إلى صناديق التحوط المتدنية وبنوك الظِّل التي يلفت إليها كروجمان الانتباه (معجبًا، في بعض الأحيان). لقد كشف حجمُ الأسواق المالية ونطاقها، والسرعة التي يمكن بها اتخاذ القرارات عن طريق تكنولوجيا المعلومات، وحقائق نظام لم يَعُد هناك أي شيء خارجه — النظام الاشتراكي أو اقتصادات الدول النامية التي لم تندمج اندماجًا كاملًا في الأسواق الرأسمالية — الغرائزَ الحيوانية الكامنة داخل عملية صناعة القرار الاقتصادي من البداية. هل يمكن للسياسات والنظم الحكومية للدول القومية أن تكبح جماح تلك الغرائز إلى درجة من شأنها أن تُحدث فارقًا؟ ألا ينبغي علينا أن نراجع حقائق الميثاق الكينزي ونتخيل طرقًا أخرى لتنظيم أنفسنا على الصعيد العالمي؟ أو ألا يمكن أن نصرَّ على ميثاق أكثر كينزية مما يبدو أن كروجمان يريد أن يكون عليه (أي يتضمن أكثر من تدخلٍ للدولة على مستوى أسعار الفائدة، والضرائب، والإنفاق)؟ بالنسبة إلى كروجمان، هذا غير وارد. بدلًا من ذلك، يُسمح لأهواء السوق بالسيطرة على المشهد، وفي حالة عدم وجود أفكار أخرى، سيكون علينا فقط أن نتعايش مع «حقائق الحياة»؛ وهي: عدم المساواة والبطالة والظلم، التي ستتفاقم كلها بسبب اقتصاديات الكساد.

***

إذن، كيف تبدو ليبرالية بول كروجمان؟ هل يمكننا أن نعتمد عليها لتقدِّم لنا الطريق إلى المستقبل؛ مستقبل أفضل من الحاضر الذي نحيا فيه؟

تتطلب الليبرالية أن يتعايش الفرد مع عدة تناقضات، وأن يؤمن بنظرة للعالم أصبحت بالنسبة إلى الكثيرين تُعادل الواقع نفسه (ومن ثم لا تحتاج إلى تعليق إضافي). إن التناقضات — والأمور المحذوفة، والحجج المفقودة، والفجوات في المنطق — تبدو واضحة جدًّا في هذين الكتابين اللذين وضعهما كروجمان؛ ففي كتاب «عودة اقتصاديات الكساد وأزمة عام ٢٠٠٨»، يظهر لدينا اقتصاد افتراضي أصبح من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، السيطرة عليه؛ إن الآلية التي يمكن للحكومات أن تستخدمها لتحافظ على عمل الرأسمالية؛ ومن ثَمَّ تحافظ على أوقات الرخاء، كما نفترض؛ تتعرض لخطر التحول إلى مفارقة تاريخية. وفي نطاق مختلف يتعلق بالدولة القومية وليس بالاقتصاد العالمي، يَعرض كتاب «ضمير ليبرالي» تصورًا لاقتصاد شبه عادل يعتمد على التدخل الحكومي، مع تقديم حل يبدو بسيطًا (فرض ضرائب أعلى على الأغنياء!) ولكنه يخرج عن مساره، ليس بسبب جوانبه المعرفية، ولكن بسبب سوء النية السياسية والمصالح الشخصية. ولدرجة غير متوقعة، في أعمال كروجمان، لا تعوق تطورات الاقتصاد العالمي التي ولدت الظروف لعودة اقتصاديات الكساد مثل هذه القرارات على مستوى الدول أو تؤثر بها. على سبيل المثال، لا يرتبط الفشل في رفع الضرائب مطلقًا بحاجة الدول إلى جذب الشركات والحفاظ على استثماراتها من خلال تقليل الضرائب نتيجة المنافسة بين الدول القومية، ولكنها مجرد مسرحية محلية تتعلق بصعود حركة المحافظين؛ فالقومية والعالمية لا تتقاطعان؛ وكذا السياسة والاقتصاد؛ حيث تحافظ كلٌّ منها على المجال الجغرافي لنفوذها.

أما ما هو مفقود أو محذوف في هذه الصورة، إلى جانب حقيقة العولمة وآثارها على صنع السياسات القومية والأسواق المالية، فهو شيء عادةً ما يكون في صميم الليبرالية: المستقبل. في المعتاد، لا تكون الرؤى السياسية الليبرالية مقيدة بحدود وقت معين. هناك دائمًا ما يتعين القيام به لجعل الأمور أفضل؛ المزيد من العدالة والمزيد من الإنصاف (السياسي والاقتصادي)؛ مما يتيح فرصًا حياتية أفضل للجميع. ولكن في ليبرالية كروجمان، يتوقف الزمن. وفي كتاب «عودة اقتصاديات الكساد وأزمة عام ٢٠٠٨»، تبدو رؤى كروجمان قريبة من أفكار مفكرين مثل روبرت كاجان أو فرانسيس فوكوياما إلى حد خطير من حيث التأكيد على حتمية الرأسمالية، مع كل عواقبها المصاحبة لها (البطالة) ومظالمها (التفاوتات في الدخل؛ ومن ثَمَّ في كل فرص الحياة). وبوصفه اقتصاديًّا، تبدو الرأسمالية بالنسبة إليه أكثر من مجرد نظام تاريخي لتنظيم الإنسان اجتماعيًّا؛ فهو ليس مجرد نظام في تاريخ، ولكنه نظام «عرضة» للتاريخ كذلك؛ أي إنه من المحتمل أن يكون منفتحًا على التغيير والتعديل من أجل توليد نتائج مختلفة وتقليل المظالم الاجتماعية. بالنسبة إلى هذا المفكر الليبرالي، الرأسمالية والاقتصاد لا يختلف كلٌّ منهما عن الآخر. تتضح صفة تبرير الذات للاقتصاد؛ أي ميله إلى وضع موضوع للدراسة والإبقاء عليه، ونسيان جذوره في الأيديولوجية والسياسة في طريقه ليصبح علمًا، بصورة صارخة عبر كتاباته.106 لا يمكن لِكروجمان أن يؤطر تفكيره ضد الحقيقة القائلة بأن ظهور الرأسمالية على صعيد عالمي بعد نهاية الاشتراكية هو ظهور للاقتصاد السليم إلى حيز الوجود — ذلك الموضوع الذي يدرسه الاقتصاديون علميًّا — وهو ما أعاق تعبيره التاريخي العالمي عن ذاته على نحو كامل الهواةُ الذين أرادوا أن يمنعوا التقدم عن طريق إفساد الاقتصاد من خلال السياسة.
المشكلة هي أن هذا الاقتصاد اتضح أنه قاسٍ، إلا أن هذه المشكلة تظهر فقط إذا كان هناك مَن لديه ضمير، أو بالأحرى إذا كان أحد لديه ضمير «ليبرالي». ما يفتقر إليه كتاب «ضمير ليبرالي» هو وجود أي عرض للمبادئ الأخلاقية أو رؤية للخير الاجتماعي. ألا يتطلب استدعاء الضمير ووصف وتسمية الأخيار (الليبراليين والتقدميين) والأشرار (حركة المحافظين) عرضًا للخطوط العريضة للمبادئ؛ بحيث يمكن تصورُ وقياسُ ما هو جيد (الحكومة الرشيدة والحكم الرشيد)؟ يمكن للمرء، على سبيل المثال، أن يؤكد على أن الجميع متساوون بالفعل من حيث المبدأ؛ ومن ثم، تحتاج النظم الاجتماعية إلى إعادة تصميم لتحقيق هذه الإمكانية. لا يقدم كروجمان مثل هذا السرد، لأنه يتعارض مع ما هو ممكن في ظل الرأسمالية. يتم التعامل مع الرأسمالية بوصفها المبدأ الذي يحكم المجتمع؛ فكل ما يمكن للسياسة أن تقوم به هو محاولة التخفيف من بعض نتائجها وآثارها السلبية. وفي غياب مجموعة من المبادئ لتقييم نوعية ووظيفة عمليات التخفيف هذه، فإن ما يقدمه كروجمان هو رؤية لمجتمع «سابق». لقد بُني ضميره اعتمادًا على صور من الأيام الذهبية لأمريكا: الأب يخرج إلى العمل، والأم في المطبخ، والأبناء قصار الشعر يلعبون البيسبول، والفتيات يرتدين الفساتين ويلعبن بالدُّمى. مرة أخرى، توقف الزمن عند مرحلة معينة: لا يوجد ما يمكن أن نفعله كي يصبح مجتمعنا أفضل — إذا كان المرء يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية — سوى أن نضيف الرعاية الصحية لما كان لدينا بالفعل في الماضي. هذا الضمير يرتكز على نظرة انتقائية حتى فيما يتعلق بأيام مجد المجتمع الأمريكي. فلننظر إلى طريقة تعقيد وجهة النظر العالمية لحقبةِ ما بعد الحرب العالمية الثانية لهذا الحلم القومي بأمريكا المستقبلية حيث تسود الطبقة الوسطى:
إن الحكاية الراسخة لعصر العوالم الثلاثة (١٩٤٥–١٩٨٩) هو أن هناك ثلاث قصص: الازدهار الطويل الذي شهده رأس المال الكينزي في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا، الذي أنتج ثقافة جماهيرية فوردية عالمية قوامها الجنس والمخدرات وموسيقى الروك أند رول؛ والنضال الطويل وغير المتكافئ بين البيروقراطية الستالينية وقوى «معاداة سياسات ستالين» من جانب خروشوف و«الجلاسنوست» في العالمِ الذي يبدو منفصلًا، الخاصِّ بالديمقراطيات الشعبية المخططة مركزيًّا؛ والنهاية السريعة للاستعمار في العالم الثالث وما تلاها من مختلف أشكال التنمية والتحديث الذي تقوده الدول، سواء من خلال الإحلال الرأسمالي للمنتجات المحلية محل الواردات أو التخطيط المركزي على النمط السوفييتي.107
لقد أُسِّست الصفقة الجديدة الأولى بغية إنقاذ الرأسمالية من نفسها ومن التحدي المتمثل فيمن يعارضون ظلمها وتأثيرها، الذي غالبًا ما يكون عنيفًا، على المجتمعات البشرية. أما الصفقة الجديدة التي يدعو كروجمان إلى التوصل إليها (وهو ما يأمله الكثير منا)، أليست مجرد محاولة أخرى لإنقاذ الرأسمالية؟ أليست نظامًا لا يزال غير عادل ونعلم الآن أن آثاره لا تمس المجتمعات البشرية فحسب، ولكن الأرض نفسها كذلك؟ يستحق المستقبل ما هو أفضل من تكرار الحلم بتوفير حياة أفضل من خلال الرأسمالية، مهما كانت ادعاءات أنصاره مقنعة.

لقد قُدِّمت لنا ثلاث نسخ من نفس السرد تقريبًا للحاضر والمستقبل، للعولمة وما يليها. وهذه هي القصة. هناك تغييرات كبيرة (على سبيل المثال، في العمل، في المجتمع والتكنولوجيا، في طبيعة الاقتصاد) علينا (والمرجع هنا كالمعتاد يعود على الأمريكيين) أن ننتبه إليها حتى نضمن حصولنا على ما نريد، وتحسينًا لمجتمعاتنا والفرص المتاحة لنا كأفراد. إن الحاضر يشهد تحولًا، أما المستقبل، فمن المتوقع أن يبدو كثيرًا مثل الحاضر — أو حتى الماضي! — على الرغم من أن هذه الأعمال التوجيهية تخبرنا بأن هناك ما يجب إصلاحه في الوقت الحاضر. تنتج عن العولمة ظروف وسياقات جديدة، تتمثل الاستجابة لها في عدم تحديد الحاضر، وليس في إعادة النظر في النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ثبت أن بها نقصًا أو إشكالية. ما تم تقديمه من إشارات كانت دائمًا براجماتية ووضعية؛ فهكذا يبدو العالم، لذا علينا أن نتعامل معه بعقلانية ودون أمل زائد عن الحد، إلا أن النتائج المتوقعة خيالية: يوتوبيا العمل بوصفه فنًّا ومحض تحقيق للذَّات (فلوريدا)، وظهور فردية حقيقية بمساعدة التكنولوجيا وسرعة العولمة (فريدمان)، ومجتمع رأسمالي ينتج مجتمعًا عادلًا على نطاق عالمي يصبح فيه الجميع من الطبقة الوسطى إذا لم يكونوا أغنياء (كروجمان). التعليم والأخلاق، والأمة، والمستقبل، والتاريخ، وبالتأكيد الرأسمالية: هذه هي الأشياء التي يعتقد هؤلاء المفكرون أنها ستنقذنا.

ما هي الأفكار المتعلقة بالحاضر والمستقبل التي قد نجدها لدى ناقدة أكثر راديكالية، تعارض أيديولوجيات العولمة التي أشرنا إليها، وتركز على حدود حسها العام؟

(٥) عقيدة اللاصدمة: ناعومي كلاين

جاءت كتابات ناعومي كلاين في توقيت دقيق للغاية؛ فقد بدأت البحث من أجل تأليف كتابها الأول «من دون شعار» (٢٠٠٠)، الذي يدور حول التحول في تركيز الشركات من إنتاج السلع إلى إنشاء علامات تجارية عالمية، بعد فترة ليست طويلة من انتفاضة زاباتيستا ضد اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية في عام ١٩٩٤، ونشرته مباشرة عقب ظهور الحركة المناهضة للعولمة في سياتل في عام ١٩٩٩.108 وعلى نحو مماثل، كُتب كتاب كلاين الأكثر بيعًا «عقيدة الصدمة»، الذي كان عن صعودِ ما وصفته برأسمالية الكوارث، قبل الأزمة الاقتصادية الكبرى لعام ٢٠٠٨ بوقت قصير.109

بفصاحة، وفكر ثاقب، وتوازن، ولكن بنقد مستعر كذلك، تتقصى كلاين الفساد في العالم جراء التراكم الرأسمالي وآثاره السياسية المتمثلة في الحرب والتعذيب واستغلال العمالة، والقادة الشديدي الجشع. وفي مقابل كل صالة من صالات كبار الزوار في الفنادق التي زارها توماس فريدمان لِلِقاء النخبة العالمية، زارت كلاين مسارح الجرائم في المصانع المستغِلة للعمال، وأسرَّة ضحايا التعذيب في المستشفيات، وسيارات إيواء الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ في نيو أورليانز التي ينتشر فيها الأسبستوس، وسفن صيد الجمبري المحبطة في خليج المكسيك بعد التسرب النفطي الهائل الناجم عن انفجار جهاز حفار نفطي تابع لشركة بريتيش بتروليوم. ولكن مثل فريدمان، تعتمد كلاين أيضًا على تجاربها الخاصة ومجموعة من الحكايات الشخصية لسرد قصصها لعدد متزايد من القراء، من الفوضويين الشباب الذين يحتاجون إلى سرد واضح لتفسير سخطهم إلى الليبراليين الأكبر سنًّا الذين يحتاجون إلى التحرر من الوهم وهم يواجهون تناقضات الرأسمالية.

فلنأخذ، على سبيل المثال، بداية كتاب «عقيدة الصدمة». تصف كلاين وجودها في نيو أورليانز بعد إعصار كاترينا مباشرةً. لقد استمعت، بالإضافة إلى ضحايا الكارثة، إلى السياسيين وهم يتغنون بالمزايا التي نتجت عن الكارثة رغم كل ما حدث من الدمار، موضحين لجمهورهم كيف استطاع إعصار كاترينا أن يُنتج، بفاعليةٍ، ما عجز عنه العديد من السياسيين والمطورين العقاريين: «بداية جديدة» و«صفحة بيضاء» لإعادة بناء المدينة. شعرت كلاين بالفزع! سمعت كلاين واحدًا من الضحايا يقول: «هذه ليست فرصة. إنها مأساة بائسة، ألا يبصرون؟»110 ويردُّ آخر قائلًا: «بلى، هم يبصرون، لكنهم أشرار. إنهم يبصرون جيدًا.»111

يقدم كتاب «عقيدة الصدمة» تأريخ كلاين لشر هؤلاء: طريقة انتظار شكل معين من التراكم الرأسمالي (الشكل الذي يمنح الحرية شبه الكاملة للشركات ويرفض دولة الرفاهة من خلال رفع القيود والخصخصة وتخفيضات الضرائب) للأحداث الكارثية، أو بالطبع التسبب بها، بغية فرض أسسها السوقية على السكان الضعفاء اجتماعيًّا والمصدومين نفسيًّا؛ فبدءًا من الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق عام ١٩٥٣، والانقلاب الذي تم تحت رعاية وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في جواتيمالا بعد ذلك بعام واحد، إلى تدريب طلاب الجامعات في أمريكا اللاتينية لتثبيت الأفكار الليبرالية الجديدة في جميع أنحاء المخروط الجنوبي في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، مرورًا بحربَي العراق، وإعصار كاترينا، وحتى الأزمة الاقتصادية عام ٢٠٠٨؛ تبدو فكرة كلاين واضحة: الرأسمالية الليبرالية الجديدة تتغذى على الكوارث، وتشحذ هذه الشراهة مجموعة صغيرة من الأفراد الأشرار، بدءًا من ميلتون فريدمان إلى آلان جرينسبان وَدونالد رامسفيلد.

إلا أن التاريخ الوارد في كتاب «عقيدة الصدمة» يختلف عن تاريخ الشر المعروض في كتاب كلاين الأول «من دون شعار»؛ ففي كتابها الأول، لا تبدي كلاين اهتمامًا كبيرًا بالرأسمالية الليبرالية الجديدة وقادتها السياسيين المثيرين للجدل، بل تهتم أكثر بتتبع أماكن الفساد والعدوان على الأفراد من قِبل المديرين التنفيذيين للشركات وأصحاب المصانع. في الواقع، تخفي الأولوية الجديدة الخاصة بإنشاء الشركات للعلامات التجارية للشركات ومراقبة صورتها التي عالجها كتاب «من دون شعار»؛ الممارساتِ الفعليةَ للشركات؛ فبما أن الإعلانات لم تَعُد تشير مباشرة إلى المنتجات نفسها، بل إلى نمط الحياة الخيالي والتأثير المرتبط بهذه المنتجات، فهناك فك ارتباط ليس فقط فيما بين ماهية المنتج (أي استخدامه) وما يدعيه (علامته التجارية)؛ ولكن، وأكثر من ذلك دهاءً، بين ما تقوله الشركة عن نفسها (تمثيلها لنفسها في صورة جيدة) وما هي عليه «بالفعل» (كيف تنتج، ومن تتعاقد معه للإنتاج، والآثار الفعلية لمنتجاتها على المستهلكين). إن هذا الكتاب ما هو إلا قصة بوليسية. في مسرح الجريمة، هناك أحذية نايكي، ولكن للقبض على المذنبين على كلاين أن تجمع القرائن معًا في طريقها لتحديد المجرمين الحقيقيين؛ أولًا الرئيس المحلي للمصانع المستغلة للعمال في الخارج، ثم الرئيس التنفيذي الشرير نفسه.

إن التاريخ الذي تعرضه كلاين في عملها «من دون شعار» هو تاريخ العدوان، تاريخ الفاسدين الذين ضُبطوا متلبسين. وهذا هو بالضبط ما قُدِّم باعتباره القوة الأخلاقية للحركة المناهضة للعولمة في بدايتها. إذا عَرَفَ المستهلكون الشباب من أين جاءت ملابسهم، وإذا كانوا قادرين على رسم خريطة بكل الشبكات المتضمنة في تقديم قهوة ستاربكس التي يحصلون عليها، فسوف يشعرون بالاشمئزاز، وستنتهي رغبتهم في الحصول على السلع، وسيقاومون؛ ومن ثَمَّ سيغيرون العالم بفاعلية. هناك ثلاثة افتراضات رئيسية هنا؛ أولًا: أن معرفة كيفية عمل شيءٍ ما ستغير بالضرورة تصرف المرء إزاءه. ثانيًا: أن تغيير سلوك الفرد سيؤدي بالضرورة إلى إحداث تغيير اجتماعي منهجي. وثالثًا: أن جذور الفساد يمكن العثور عليها في فعل العدوان نفسه. لفهم ما هو على المحك في الكتاب وتسليط الضوء عليه في مقابل ما جاء به كتاب «عقيدة الصدمة»، يجب أن نتناول هذه الافتراضات واحدًا تلو الآخر.

ينص الافتراض الأول على أن معرفة كيفية عمل شيءٍ ما ستغير بالضرورة تصرُّف المرء إزاءه. إذا كان علم النفس قد علَّمنا أي شيء، فهو أن مجرد فهم أعراضنا لا يقاطع بالضرورة رغبتنا القهرية في تكرارها. قد نعلم جيدًا أننا نصبح عدوانيين بنحوٍ غير عقلاني عندما ينتقدنا الآخرون، وقد نعلم جيدًا أن هذه عادةٌ متكررةٌ لدينا منذ الطفولة، إلا أن معرفة هذا التاريخ وفهم المحفزات لا يؤديان بالضرورة إلى إعادة تشكيل سلوكنا. في الواقع، غالبًا ما تكون معرفتنا وفهمنا لمثل هذه الأعراض هي تحديدًا ما يعيد تحفيزها ويبقي عليها. إن الرعب الأكبر ليس في وجود سجون وعمليات تعذيب غير قانونية في سجن جوانتانامو، ولكن أن هذه السجون والممارسات موجودة مع كامل علمنا بها. إن الوعد القائل «فقط إذا علموا، فسوف يغيرون الأمر» لَهُو وعد كاذب؛ «فقط إذا كانوا يعرفون بالانتهاكات في سجن أبو غُريب، وأن صدام حسين لا يمتلك أسلحة دمار شامل، وأن إهمال بريتيش بتروليوم مدبر، وكيف تصنع أحذية التنس التي يرتدونها، وكيف يشنون هجومًا عندما يتعرضون للانتقاد؛ لو كانوا يعرفون حقيقة الوضع، فسوف يغيرون كل هذا.» وقد اتضح أن هذا الوعد كان خاطئًا تمامًا ومضللًا أيديولوجيًّا، وخاصة في المحيط الإعلامي المشبع اليوم؛ حيث يمكن إحراج الساسة باستخدام مقاطع اليوتيوب التي عمل مونتاج لها، التي تعرض تناقضاتهم ونفاقهم. في الواقع، إن الانتشار الكبير لهذه الفضائح لا يضاهيه سوى الانتشار الكبير للتناقضات نفسها. لا يبدو أن هناك من يشعر بالدهشة، كما لا يبدو أن أحدًا يهتم كثيرًا.

يقودنا هذا إلى الافتراض الثاني القائل بأن تغيير سلوك المستهلك سوف يؤدي بالضرورة إلى تغيير اجتماعي منهجي. عند فحص هذا الافتراض، نحن لا نجادل ضد عمليات المقاطعة أو تحركات المستهلكين الجماعية. صحيح أن رأسمالية السلع لا يمكن أن تستمر إذا لم يَعُد هناك شراء للسلع، إلا أن السلع الأكثر ربحية (التي تدفع النظام) هي تلك التي لا يمتلك الكثير من الناس أي خيار إزاء استهلاكها. نحن هنا نشير إلى الأسلحة والدواء والغذاء، هذه الصناعات الثلاث التي يبلغ قدر الإنفاق عليها حوالي ثلاثة تريليونات دولار سنويًّا؛ أي ما يوازي حوالي ٦ في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. هذا يعني أن قدرًا كبيرًا من إنتاج السلع لا يحدث بسبب خيارات المستهلكين الفردية؛ ومن ثم سلوك المستهلك. إذا تغير سلوك المستهلك (أي إن الفرد يصوِّت عن طريق خياراته الاستهلاكية) حتى مع تزايد أعداد الناس الذين لا يمكنهم أحيانًا أن يكونوا في حال يسمح لهم بالاستهلاك (بسبب الفقر والعوز)، ولكن نظام السلع استمر على ما هو عليه؛ إذن فكيف سيغير هذا من الوضع؟ كيف سيصبح الوضع في عالم تستمر فيه الرأسمالية حتى وإن لم يَعُد أحد يستثمر فيها، وهذا النقص في الاستثمار يكون أكثر على المستوى الأيديولوجي وليس على المستوى المالي؟ هناك طريقة أخرى لطرح هذه الأسئلة؛ وهي التأكيد على أن الأيديولوجية الرأسمالية المهيمنة لا تعمل عن طريق توليد نوعٍ من الوعي الزائف تجاه مشاكل الرأسمالية (بحيث يتم خداع الفرد ليعتقد أن الرأسمالية شيء مقدس)، وإنما تعمل تحديدًا من خلال الكشف عن مشاكل الرأسمالية نفسها، ولكن بطريقة تجعل هذه المشاكل تبدو دائمة ولا يمكن حلها.

في الواقع، نميل إلى القول بأن هناك أيديولوجية جديدة مهيمنة (من واقع رأسمالي قديم) قادمة إلى حيز الوجود، هذه الأيديولوجية التي يُفهَم من خلالها العالم ويُمثَّل بطريقة أقرب إلى عمل العالم الفعلي. يبدو أن سكان العالم يعرفون بالضبط طريقة عمل الرأسمالية (من خلال الحصول على فائض القيمة من أولئك الذين يكدحون في الحقول والمصانع وصناعة الخدمات) وآثارها الاجتماعية (الصراع الطبقي، وعدم المساواة بين الجنسين، والعنف الاستعماري، ونزع الملكية الوحشي، وتدمير البيئة، والمعاناة النفسية). لا يعني هذا أننا قد وصلنا إلى نهاية الأيديولوجية، ولكنه يعني فقط أن «الأيديولوجية السائدة اليوم هي حقيقة النظام الرأسمالي نفسه.» ولكن، من جديد، لا تغيِّر معرفةُ نظامٍ ما وتعديلُ السلوك وفق هذه المعرفة بالضرورة النظامَ نفسه، إلا أنها تؤدي إلى نضال سياسي أكثر انفتاحًا وصدقًا (إن لم يكن بالضرورة أكثر عنفًا): فالخط الذي يفصل بين الرابحين والخاسرين، الأقليات والأغلبيات، الأغنياء والفقراء، الرأسماليين والمناهضين للرأسمالية؛ واضح للجميع. هذه الخطوط كانت موجودة بالتأكيد عند كتابة كلاين كتابها «من دون شعار»؛ إلا أنها كانت تظهر بطريقة أقل صراحة ومباشرة: إن المنطق المضطرب لنظرية التحديث («سنرتفع جميعًا … البعض بعد الآخرين بقليل») وأيديولوجيات الحرب الباردة («وجود التقسيمات الاقتصادية تضحية سياسية مؤقتة من أجل الحصول على الحرية») ما زالا هما السائدَين. بعبارة أخرى، في وقت صدور الكتاب كنا لا نزال نشعر بالصدمة لمعرفة أنه قبل وصول الإفطار إلى موائدنا يمر من خلال شبكة منحطة من أعمال السخرة، وبقايا الاستعمار، واستغلال الأيدي العاملة من خلال التقنية العالية. ولكن بحلول وقت صدور كتاب «عقيدة الصدمة»، لم يَعُد هناك أحد متفاجئًا (إلا الذين تَفَاجئوا منذ وقت طويل).

ردًّا على الافتراض الثالث، والمتمثل في أنه يمكن العثور على جذور الفساد في فعل العدوان نفسه، نقول إنه تحدث تجاوزات في الرأسمالية، ليس لأن الرأسمالية قد سارت على الدرب الخاطئ، ولكن لأنها سارت على الدرب الصحيح؛ أي إنها أصبحت تعمل وفق تصميمها. لقد أشرنا إلى هذا من قبل، ولكن من الضروري أن ندرك كيف يحدث هذا. في الواقع، من دون إدراك هذا المنطق الأكبر للرأسمالية (المنطق الذي يعمل في الخفاء ونحن منشغلون بأحدث فضيحة أو حالة فساد)، يتخلى الفرد عمليًّا عن السياسة على ما هي عليه. إن انتقاد الرأسمالية بسبب أعمالها المتجاوزة (على سبيل المثال، احتراق المصانع وعدم تنفيذ بنود العقود وعمالة الأطفال) هو بمنزلة التخلي عن تحليل كيفية إنتاج الرأسمالية لعدم المساواة، حتى عندما تعمل بنحو سليم (على سبيل المثال، عندما تكون المصانع نظيفة، ويتم الالتزام ببنود العقود، وعندما يستطيع العمال أن يضعوا قدراتهم الإبداعية موضع التنفيذ وفق ما يريد ريتشارد فلوريدا). هل يحتاج المرء حقًّا إلى أن يكون ماركسيًّا اليوم ليدرك أن النظام قائم على الهيمنة، ومُنظَّم لإنتاج ثروة كبيرة لأقلية مميزة؟ هل يحتاج المرء حقًّا إلى أن يكون أحد أعضاء ما يسمى بائتلاف الحُمْر والخُضْر ليدرك أن ثقافة السلع تدمر البيئة؟ هل يحتاج المرء حقًّا إلى أن يتعرف على المادية الجدلية ليدرك أن الحرب والسجون ليست صناعات مربحة للغاية فحسب، ولكن أيضًا لا غنى عنها لإعادة إنتاج الرأسمالية؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة هي «لا!» مدوية، كما توضح كلاين في كتابها «عقيدة الصدمة». إذا كان كتاب «من دون شعار» قد لجأ إلى تاريخ العدوان (باحثًا عن لحظات الكشف عن المعتدين)، فإن كتاب «عقيدة الصدمة» يعرض تاريخ الأزمات (حيث يقل اهتمامه بالأفعال الشريرة ويركز أكثر على الخطايا العاملة للرأسمالية الليبرالية الجديدة). في الحقيقة، كان ميلتون فريدمان نفسه هو من قدَّم لكلاين شعار الأزمة خاصتها؛ فتكتب كلاين قائلة: «لقد لاحظ أن «الأزمة فقط، سواء فعلية أو مدركة، يمكن أن تُنتج تغييرًا حقيقيًّا. عندما تَحْدث تلك الأزمة، تعتمد الإجراءات التي يتم اتخاذها على الأفكار المحيطة. إن هذه، على ما أعتقد، هي وظيفتنا الأساسية: تطوير بدائل للسياسات القائمة، وإبقاؤها في حيز الوجود ومتاحةً حتى يصبح المستحيل سياسيًّا لا مفر منه سياسيًّا.»»112 وتضع كلاين في نهاية هذا الاقتباس علامة تعجب: «بعض الناس يخزنون السلع المعلبة والمياه استعدادًا للكوارث الكبرى؛ أما أتباع فريدمان، فيخزنون أفكار السوق الحرة!»113
بالنسبة إلى كلاين، تقوم رأسمالية الكوارث بتثبيت دعائمها الاقتصادية بينما الناس في أضعف حالاتهم. أما الليبراليون الجدد، فيذهبون لأبعد من ذلك؛ فهم يستغلون حاجتهم وضعفهم قبل أن يكونوا في أضعف حالاتهم. فهم يخططون للانقلابات ويمولونها، ويعملون على تفاقم الكوارث الطبيعية، ويسعون لإحداث حالات ركود، حتى يتمكنوا من تحقيق مآربهم بأقل قدر ممكن من المعارضة. ليس من الصعب تأكيد كل هذا من خلال استعراض سجلات التاريخ، (كما فعل فريدمان في الاقتباس أعلاه) مع اعتراف الليبراليين الجدد أنفسهم بأساليبهم دون خجل أو ندم. ولكن الليبراليين الجدد لديهم ردَّانِ بسيطان وقويان، وهما ردَّان عجزت كلاين عن معارضتهما على نحو كافٍ في مناظرة مع آلان جرينسبان. يتمثل الرد الأول في الآتي: «اذكري لي اسم نظام أفضل؛ نظامٍ أنتج المزيد من الثروة لمزيد من الناس أكثر من الرأسمالية»؛ ويكمل جرينسبان بالرد الثاني الذي كان يعتبره الضربة القاضية: «إن الفساد أمر إنساني، ولكن الرأسمالية هي أفضل النظم تحديدًا في طريقة إبقائها الفساد تحت السيطرة النسبية.» ويطرح جرينسبان السؤال التالي: «ما الذي تحاولين قوله … إن السوفييت لم يكونوا فاسدين؟»114
قبل أن تنهي كلامها، تجيب كلاين على السؤال الأول حول النظام البديل بعبارة «الاقتصاد المختلط». وفي كتابها «عقيدة الصدمة»، تستفيض كلاين في شرح هذا الأمر قائلة:
لا أزعم أن جميع أشكال أنظمة السوق عنيفة بطبيعتها؛ فمن الممكن جدًّا أن يكون هناك اقتصاد سوق لا يتطلب مثل هذه الوحشية أو مثل هذا النقاء الأيديولوجي. يمكن للسوق الحرة في مجال المنتجات الاستهلاكية أن توجد مع الرعاية الصحية العامة المجانية، والمدارس الحكومية، وامتلاك الحكومة لشريحة واسعة من الاقتصاد، مثل شركة نفط قومية … لا يتعين على الأسواق أن تكون أصولية.115
بهذه الكلمات، عادت بنا كلاين إلى الجدل الدائر بين كينز وهايك، ووجدنا أنفسنا محاصَرين في نفس الزاوية التي وجدناها مع كروجمان. في نهاية المطاف، ولكن عن غير قصد، تتفق كلاين وكروجمان مع جرينسبان، في الاعتقاد بأن الرأسمالية أفضل من جميع النظم، وعلى الرغم من كل الوحشية التي سُجلت عنها، لا تزال تسبق سائر الأنظمة في الحاضر والمستقبل. وبالطبع، هذا هو سبب عدم تقديم كلاين لإجابة مناسبة عن النقطة الثانية التي أثارها جرينسبان عن الفساد.
إن مشكلة الفساد هذه تحديدًا هي التي تحتاج إلى توضيح. هناك نقطتان رئيسيتان: دائمًا ما يجذب الحديث عن الفساد، إما بطريقة اتهامية واسعة النطاق ضد كل الرأسماليين، وإما بطريقة أكثر انتقائية ضد الليبراليين الجدد؛ الانتباهَ بعيدًا عن النقد المنهجي للأشخاص السيئين الأشرار في النظام. بالطبع، هناك «أناس أشرار»، ويجب أن يحاسبوا، ولكن تفضيلهم عن سائر المناهج النقدية خطأ استراتيجي. في الواقع، نحن ننادي بنهج نقدي يمكن تسميته نقدًا للرأسمالية لا يعتمد على الجانب الأخلاقي، ذلك النقد الذي يهتم بالهياكل والقيود الخاصة بحس الرأسمالية العام، ويركز على نجاح النظام بدلًا من فشله. ولكن ماذا يمكن لمبادئ مثل هذا النقد أن تكون؟116
  • أولًا: «لن يكون الدافع إليه شخصيًّا.» بطبيعة الحال، هناك دافع شخصي وراء كل عمل حيث إنه يصدر من فرد بعينه، كما أنه بالضرورة مشكَّل عن طريق الرغبة الواعية وغير الواعية. في هذه الحالة، يعني النقد غير الشخصي للرأسمالية أن يدرك الشخص أولًا أنه «بالضرورة» جزء من الرأسمالية، ملتحف بالضرورة بأيديولوجياتها، وأنه يتشارك في هذا التواطؤ مع الآخرين، سواء الأصدقاء أو الأعداء. لا يوجد مهرب من الرأسمالية؛ حيث إنها ليست إنتاجًا واستهلاكًا للسلع فحسب، ولكنها وضع له أشكال خاصة من التبادل، وصناعة المعنى، والعلاقات الاجتماعية، والرغبة، والاتصالات، والفكر، تغرس نفسها بالضرورة في ذواتنا لدرجة أن محاولة تجنبها هي أشبه بمحاولة تجنب أعمق عاداتنا. هذه العلاقة التي لا تنفصم مع الرأسمالية (التي تؤثر على طريقة فهمنا وتمثيلنا لها) تؤدي إلى إدراك أن أي نقد للرأسمالية اجتماعي بالضرورة، وبالضرورة جزء من شيء يتجاوز الإنتاج الفردي للنقد.
  • ثانيًا: «هذا النقد غير موجه إلى أشخاص بعينهم.» بدلًا من ذلك، هو موجه إلى هيكل، ونظام، ومنطق الرأسمالية؛ الأمر الذي يتطلب خطابًا أقل تركيزًا على الأفراد، وفهمًا تحليليًّا أكثر لكيفية عمل الرأسمالية. وكما ذكر أعلاه، لا تحدث الأزمة في الرأسمالية لأنها سارت في الدرب الخاطئ، ولكن لأنها سارت على الدرب السليم؛ فقد أدت الدور المطلوب منها. في الواقع، ودون إدراك المنطق الأكبر هذا للرأسمالية، ذلك المنطق الذي يتوارى ويختبئ عندما تستحوذ علينا أحدث فضيحة أو واقعة فساد، يتخلى المرء عمليًّا عن السياسة على ما هي عليه.

يقودنا ذلك إلى المعيار الثالث لهذا النقد للرأسمالية؛ وهو: لأن هناك دائمًا شيئًا داخل النظام يخرج عن المنطق المنهجي ذاته ولا يستطيع أي نقد أن يجسده بالكامل، «يجب على المرء أن يكون منفتحًا إزاء تناقضات الرأسمالية، ويحاول أن يدركها، بدلًا من محاولة إدارتها، أو حلها، أو قمعها على الفور.» يعني هذا أن الرأسمالية يمكن أن تُنتج أشياءَ رائعة، وفي نفس الوقت تتسبب في دمار يَفْطُر القلبَ. إن إدراك هذا ما هو إلا إدراك أيضًا لتاريخ الرأسمالية، وخاصة الآثار التحريرية التي لا مراء فيها، التي يسرتها ثورة تأسيسها. ولكن إدراك ظهور الرأسمالية التاريخي إلى حيز الوجود هو أيضًا إدراك بأنها يمكن أن تخرج من الوجود تاريخيًّا. تعمل هذه الحقيقة البسيطة على دعم النقد الخالي من الجوانب الأخلاقية؛ حيث إنها تغيِّر التصور المأخوذ عن الرأسمالية، وتَفتح الطريق أمام عمل تحليل مقارن لها مع سائر التشكيلات الاجتماعية.

لا يستند هذا التحليل المقارن (الذي يعني أيضًا مقارنة الرأسمالية بسائر أشكال الأنظمة التي لم تظهر بعد) إلى الرغبات والادعاءات الأيديولوجية لمختلف الأنظمة (الديمقراطية والحرية، على سبيل المثال)، ولكن إلى ما يقدمه كل نظام؛ مثل: الرعاية الصحية والبيئة الطبيعية الصحية، وفرص تجربة المتع المتنوعة، والمساواة الاجتماعية والعدالة الفردية، والطعام المغذي، والمأوى الآمن. ومن ثم، «يعطي النقد الخالي عن الجوانب الأخلاقية النتائج الأولوية، ويبقى غير مقتنع بالمبررات والحجج غير الاجتماعية وغير التاريخية؛ مثل الرضا بالتذرع بندرة الموارد الطبيعية، أو الطمع والخير المتأصل في البشر.» ويوحي هذا الدافع المقارن كذلك بالقيام بتجارب رسمية للبدائل، من وضع النماذج الاجتماعية حتى روايات الخيال العلمي. في الواقع، ينبغي عدم اللجوء لتبرير هذه التدريبات نفسها اعتمادًا على أي نقد مستند إلى الجوانب الأخلاقية، وكذا لا ينبغي أن تثبطها قيود العملية أو الاستحالة. قد يكون الإتيان بالمستحيل أمرًا مستحيلًا، إلا أن مجرد تصوره يمكن أن يغير نطاق الاحتمالية.

ويفضي هذا إلى المعيار النهائي لنقد الرأسمالية الخالي من الجوانب الأخلاقية؛ ألا وهو: إذا تحدثنا من منظور الشر أو الخير، فينبغي أن يُنظر إلى هذه الصفات والأفعال بوصفها الأعراض وليست الأسباب التي أدت إلى النظام موضع البحث. لا تسبب الأفعال الشريرة أزمات الرأسمالية ثم تحل هذه الأزمات من خلال تجريد الأفراد من ثرواتهم وكرامتهم. لقد بُنيت هذه العملية من الأزمات وانتزاع الحقوق داخل النظام نفسه، ومثل أي آلة، يمكنها أن تؤدي بعض الأفعال دون غيرها. وبدلًا من إضفاء الصفة البشرية على الرأسمالية مع الادعاءات التمثيلية بمدى شرها أو صلاحها، يراها النقد الخالي من الجوانب الأخلاقية على ما هي عليه؛ آلة بناها الإنسان لتؤدي وظائف مختلفة استنادًا إلى قواعد ومبادئ أساسية معينة. في الواقع، يولد مثل هذا النقد درجة معينة من احترام الرأسمالية على أساس مدى قدرتها على أداء هذه المهام، حتى ولو كانت هذه المهام قاسية مثل تدمير الأعمال التجارية المملوكة لأسرةٍ ما، أو مصادرة الأراضي من أصحابها. وبدلًا من التشكك والغضب الذي يفضي إلى نتائج عكسية، يُنتج هذا النقد صوتًا واضحًا (ولكنه غاضب) واستجابة محددة (سواء كانت موضوعية بشدة أو عقلانية، أو شعرية) لا ترجع للجوانب الأكثر إيلامًا وجمالًا في الحياة اليومية للرأسمالية.

ويعود هذا بنا إلى التمييز بين الصحافة والكتابة الأكاديمية الذي عرضنا له في مناقشتنا لتوماس فريدمان. هل أكبر نقطة قوة تميِّز عمل كلاين — أسلوبها النثري الصحفي الواضح والمقنع — هي أيضًا أكبر نقاط ضعفها؟ كي تحقق أعمالها الأغراض المنشودة بفاعلية، أي لكي تحافظ كلاين على جاذبية عملها وتأثيره على الناس، هل هي مضطرة إلى اللجوء إلى الخطاب الأخلاقي؟ هل يفترض بها أن تقود المتظاهرين في هتافاتهم التي لا مفر منها «اللعنة، اللعنة، اللعنة» على النخبة الحاكمة؟ نحن لا نعتقد ذلك. ولكن ما دامت تركز كلاين جهودها على الأفراد المدانين المشينين الأشرار، فلن يحظى نقدها أبدًا بالقوة الكاملة التي يستحقها. لا تعود هذه المشكلة إلى ميلها الشخصي لتوجيه أصابع الاتهام إلى الآخرين أو حمية المعارضة المميزة للشباب (في الواقع، هذا هو السبب الأقوى لعدم انجذاب البعض لمثال أعمال كلاين وبعض الصحفيين الاستقصائيين الآخرين المؤثرين من جيلها، مثل مات تايبي وَجيريمي سكاهيل، الذي يتكرر من واشنطن وحتى أوتاوا).117 بدلًا من ذلك، ترجع هذه المشكلة إلى نظرية الأزمة التي يعتمد عليها عملها.

تتطلب مقاومة النقد المبني على الجوانب الأخلاقية فهمًا للأزمة بطريقة تبتعد عن الانشغال بالأحداث الفعلية أو الصفقات «المخزية» التي تَوسَّطَ فيها تلاميذ ميلتون فريدمان، فضلًا عن بيل كلينتون (الذي ربما يُعَد أكبر تلاميذ فريدمان على الإطلاق) أو باراك أوباما (الذي أفصح اختياره لورانس سامرز كبيرًا لمستشاريه الاقتصاديين في بداية ولايته الأولى عن مدى قربه من فكر فريدمان). يدرك النقد الخالي من الجوانب الأخلاقية أن الأزمات مبنية في قلب النظام نفسه، وتكشف عن نفسها يوميًّا فيما بين الكوارث الكبيرة والأزمات الكبرى التي تستحوذ بكثافة على اهتمام وسائل الإعلام وكذلك وعي الأفراد. في الواقع، لا تستنفد الأزماتُ الأقل حدة، تلك التي تشكِّل تفاهات حياتنا اليومية (التي لا تبدو حتى مثل الأزمات، ولكنها تحافظ على سير النظام بأَسْره)، حياتَنا الخاصة فحسب، بل وعقلَنا الباطن أيضًا؛ مما يضاعف حجم الكارثة.

ومع ذلك، نحتاج هنا إلى أن نميز بين الكوارث والأزمات؛ فعلى الرغم من أن كلاين تتتبع مجموعة من الكوارث التي تلت الحرب العالمية الثانية وتُرجع أسبابها إلى الرأسمالية الليبرالية الجديدة، فإن تأريخها متأسس حول نظرية الأزمة، وهاتان الفئتان (الكوارث والأزمات) مختلفتان، فالكارثة هي لحظة فشل تكوين العلاقات المستدام؛ أي عندما تنقطع العلاقة بين شيء وآخر.118 في الاقتصاد الرأسمالي، تظهر الكارثة عندما تنقطع الصلة بين البضائع والأسواق، أو بين رأس المال المتعطل والعمالة المتعطلة، أو عندما تظهر فقاعة عملة، مستبدلة بالكثير من المال النقدي الكثير من الهراء. في علم البيئة، تبدأ كارثة الاحترار العالمي عندما يزيد انبعاث ثاني أكسيد الكربون عن القدرة الطبيعية لكوكب الأرض على استيعابه. بالنسبة إلى مرضى فيروس نقص المناعة البشرية أو السرطان، تأتي الكارثة عندما يتكاثر منطق الخلايا بحيث يصبح منفصلًا عن منطق الجسم الحي، أو تظهر الكارثة عندما يُحْرَم المرء من العقاقير المضادة للفيروسات الرجعية أو العلاج الكيميائي بسبب عدم قدرته على دفع ثمنها. في الفلسفة، تُعرَّف الكارثة بأنها تلك اللحظة حين ينفصل التفكير عن التاريخ، بينما يعاني الأفراد من كارثة نفسية عندما لا يعودون قادرين على التواصل مع العالم. أما بالنسبة إلى الكارثة السياسية، فتأتي من العلاقة المقطوعة بين من يرغبون في التمثيل ومن هم منوط بهم مَنْح هذا التمثيل.

هناك شيء واحد نتعلمه دائمًا عند وقوع الكوارث الطبيعية (مثل تسونامي جنوب شرق آسيا أو الزلزال الذي ضرب هايتي)؛ وهو أن مثل هذه الأحداث ليست طبيعية، أو على الأقل أن آثار هذه الأحداث ليست طبيعية؛ فتداعياتها اجتماعية، كما هو واضح تمامًا؛ ولذا فهي نتيجة خيارات الإنسان، والنظم السياسية، وحتى الافتراضات الثقافية. ومع ذلك، فإن توسيع هذا الفهم إلى الحد الأقصى يلغي فئة الكارثة نفسها، ويعود ذلك إلى أنه على الرغم من أن الكارثة طارئة وغير متوقعة، يمكن دائمًا التنبؤ بآثارها التي تكون منطقية إلى حد بعيد. كان معظم من يتبوءون مواقع في السلطة يعرفون على وجه التحديد ماذا سيحدث إذا تحطمت السدود المائية في نيو أورليانز، تمامًا كما يمكن لأي عالم في علم الأوبئة أن يتنبأ بعدد من سيَلْقَون حتفهم إثر إصابتهم بالإيدز إذا تُركوا دون علاج. إلا أن من هم في السلطة يَكْتَفون ببساطة بالتضرع والأمل في أن مثل هذه الأحداث لن تقع. وعند وقوع هذه الحوادث ومواجهة عواقبها المأساوية المترتبة عليها، يَصِفُون إياها بالكوارث تمامًا مثل وصف الرجل المحتضر بأنه مصاب بوسواس المرض.

مهما كان من الممكن التنبؤ بآثار الكوارث، فإن الطبيعة الطارئة للكوارث هي ما تميزها عن الأزمة؛ فعلى عكس الكارثة، هناك شيء ضروري في الأزمة، وهو أمر مرتبط بالشكل المنهجي الأكبر. بعبارة أخرى، تتم هيكلة النظم بحيث تحدث الأزمات، ما من شأنه أن يعزز تلك النظم ذاتها ويعيد إنتاجها. إن دورة ازدهار الرأسمالية وكسادها ما هي إلا أحد الأمثلة الأكثر وضوحًا لهذه الضرورة المنطقية؛ ومن ثم، ترتبط كلٌّ من الكوارث الطارئة والأزمات الضرورية بحيث تُبنى علاقاتها المنقطعة مرة أخرى من خلال مجموعة مختلفة من العلاقات داخل النظام نفسه.

في المقابل، فإن الثورة هي تلك اللحظة حين تتولى مجموعة جديدة من العلاقات زمام الأمور ضمن نظام مختلف. ويفسر على نحو أفضل هذا التمييزُ الصريحُ الاستدعاءَ الجديدَ والكبيرَ لمسألتَي الكوارث والأزمات على مدى السنوات العشرين الماضية، في حين أن الثورة لم يتم استدعاؤها، ليس فقط من خلال الامتناع عن التحدث عنها، ولكن الأهم من خلال عدم التفكير فيها. ويتعلق هذا الاتجاه بشدة بالوضع الاقتصادي والسياسي في حقبةِ ما بعد الحرب الباردة، وهو من أعراض تكويننا التاريخي، الذي يطلق عليه حاليًّا، خيرًا كان ذلك أم شرًّا، اسم العولمة.

لطالما كانت الكوارث والأزمات سريعًا ما تجد نفسها على ألسنة أولئك الذين يرغبون في تبرير الحوادث والمصائب؛ على سبيل المثال، لو لم يقع هذا الزلزال، لَمَا كانت المدينة ستكون على هذا القدر من الخراب؛ لولا المسئولون الفاسدون، أو أتباع رأسمالية المحسوبية، لكان النقل العام أفضل والرعاية الصحية أحسن، ولكان هناك توزيع أفضل للثروة؛ لولا الإرهابيون الجدد، لكُنَّا سنحيا دون قلق، وننام باسترخاء على الوسائد التي اشتريناها بالعوائد التي تحققت بسبب انتشار السلام. إن الأزمات والكوارث هي التبريرات التي نلجأ إليها عندما تفقد كل التفسيرات الأخرى قوتها العملية أو لا يمكن التحدث عنها.

ومع نهاية الحرب الباردة أصبحت الكوارث والأزمات غير المألوفة وغير المنتظمة (أي الأحداث الخارجية، مثل نيزك أو شخص مجنون) أكثر عرضة للاستدعاء لتفسير عدم المساواة والظلم. أثناء الحرب الباردة، على سبيل المثال، كان استخدام لغة الكوارث والأزمات هي استخدام لِلُغة الثورة؛ فيمكن لأحد الخطابين أن يتحول بسهولة إلى الخطاب الآخر. لقد كانت الكوارث والأزمات خطيرة بالفعل. ومع شعار «الدمار المتبادل المؤكد»، كان يمكن للأزمة أن تتراكم وتتحول إلى كثير من الأزمات حتى يتحول الكم إلى كيف وينهار النظام. علينا فقط أن نتذكر أزمة الصواريخ الكوبية أو أزمات النفط في سبعينيات القرن العشرين لنعرف أن الأزمات والكوارث كانت على مرمى حجر من التحول إلى ثورة. ولكن مع تحول الوضع الجيوسياسي بعد الحرب الباردة، حيث أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العظمى الوحيدة وأصبحت «نهاية الأيديولوجية» هي الأيديولوجية الحاكمة؛ أصبح استدعاء الكوارث والأزمات يبدو لا خطر منه (فضلًا عن كونه دون مقابل تمامًا). في تلك اللحظة، أصبحت الأزمات والكوارث بعيدة عن الثورة بقدر بُعد السماء عن الأرض. أما ما يحتاج إلى النظر فيه في المرحلة الحالية لما بعد الحرب الباردة، وهي تلك اللحظة التي تأتي بعد العولمة حيث لا يمكن أن نفكر فيما سيكون فيما بعد، هو إن كان هذا ما زال هو الوضع القائم. هل هناك شيء يتغير بحيث تصبح الأزمات والكوارث خطيرة مرة أخرى، ولم تَعُدْ أوراقًا رابحة في أيدي من يتولون زمام السلطة؟ هل هناك شيء يتغير بحيث يزحف الخطاب الثوري مرة أخرى إلى الوعي اليومي، إلى طريقة فهمنا للتغيير الاجتماعي الجذري، ليس هذا فحسب ولكن للوسائل الأكثر ابتذالًا التي نفهم بها أنفسنا ونفكر في المستقبل من خلالها؟

نحن نعتقد أن شيئًا ما يتغير، إلا أننا لن نفهم ذلك إلا عندما نفهم أن الأزمات والكوارث لا تدعو للاندهاش وأنها من قبيل المعتاد. لا تتعافى الرأسمالية ويُعاد إنتاجها من خلال الكوارث والأزمات، ولكن عن طريق كلِّ ما يحدث في الفترة التي تفصل بين الكوارث والأزمات؛ ولذا، فإن كتاب كلاين سيكون هو الأبرع عندما نعكس شكله الداخلي، ونفهم أن عقيدة الصدمة تتعلق بصعود الرأسمالية غير المعتمدة على الكوارث. ولكن كيف يمكن للمرء تأليف كتاب لا يتحدث عن كوارث؟ عن أزمة منتشرة؟ كيف نكتب كتابًا عنوانه قد يكون شيئًا من قبيل: «الصدمة المعتادة: الرأسمالية بوصفها عقيدة وكارثة؟»

كتب موقع ويكيليكس مثل هذا الكتاب عندما أصدر أكثر من ٢٠٠ ألف صفحة من السجلات العسكرية السرية حول الأحداث اليومية للحرب في أفغانستان من عام ٢٠٠٤ إلى يناير عام ٢٠٠٩.119 كان هذا أكبر تسريب للوثائق في التاريخ العسكري للولايات المتحدة الأمريكية، وهو أرشيف موثَّق باللغة العسكرية المباشرة لآلاف الحالات غير المبلغ عنها لقتل المدنيين، والتعاون المريب بين الجيش الأمريكي وطالبان، وطريقة استهداف العمليات السرية للقوات الخاصة للأعداء بغرض اغتيالهم أو اعتقالهم دون محاكمة. ويُعرِّف ويكيليكس نفسه بأنه «خدمة عامة متعددة الولايات القضائية مصمَّمة لحماية المبلغين عن الأعمال غير القانونية والصحفيين والناشطين الذين لديهم مواد مهمة يرغبون في توصيلها للجماهير.»120 وقد لفتت تسريبات ويكيليكس الكبيرة عن الحرب في أفغانستان الانتباهَ لابتذال هذه الحرب. في الواقع، كانت هذه تحديدًا هي طريقة أصحاب السلطة في التعامل مع أي ضرر قد تتسبب به التسريبات.
أكدت إدارة أوباما أنه ليس هناك أي شيء جديد في هذه الوثائق كلها، ولا توجد أي معلومة لم يعلمها بالفعل كل شخص لديه كمبيوتر أو يملك من المال ما يكفي لشراء صحيفة.121 بالإضافة إلى ذلك، أكد أوباما أن مثل هذه المعلومات التي كشفت عنها ويكيليكس تحديدًا هي التي يضعها في الاعتبار من أجل تغيير استراتيجية الحرب في أفغانستان. وفي كلمته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ في جلسة تأكيد رئاسته للقيادة المركزية الأمريكية، وصف الجنرال جيمس ماتيس عملية التسريب بأنها «غير مسئولة على نحو مروع.»122 وفي الوقت نفسه، أصر قائلًا: «لم تخبرنا هذه التسريبات بأي شيء، حتى الآن، لم نكن على علم به بالفعل. لا أستطيع أن أرى أي كشف كبير. كان أحد عناوين الصحف يقول إن الحرب شيء محموم وخطير. حسنًا، إذا كان هذا هو الخبر، فأنا لا أعرف من يمكن أن يعتبره خبرًا على هذا الكوكب.»123
لقد كان الجنرال محقًّا تمامًا، ويتفق معه مؤسس موقع ويكيليكس، جوليان أسانج. وعندما سُئل عما يرى أنه الكشف الأكثر أهمية في الوثائق البالغ عددها ٩١ ألف، أجاب أسانج:
يطالب الجميع بكشف معين يُعد هو الأهم؛ مثل قتل ٥٠٠ شخص في نقطةٍ ما من الزمان. ولكن، بالنسبة إليَّ، الأمر الأكثر أهمية هو العدد الهائل للانتهاكات التي وقعت خلال السنوات الست الماضية، والقدر الهائل من حالات البؤس والمجازر اليومية التي تخلِّفها الحرب. وإذا ما جمعنا كل ذلك معًا، فسنرى أن معظم الخسائر في الأرواح تَحْدث في الواقع في صفوف المدنيين من خلال حوادث يُسعى فيها لقتل شخص أو اثنين، أو عشرة أو عشرين. كما أن هذه الأمور تأتي عدديًّا في مقدمة قائمة الأحداث؛ ولذا فمن الصعب بالنسبة إلينا أن نتصور ذلك، بطبيعة الحال؛ فالأمر مادي أكثر من اللازم، ولكن هذه هي وسيلة فهم حقيقة هذه الحرب؛ من خلال رؤية أن هناك نوعًا من حالات القتل التي تقع الواحدة تلو الأخرى التي تحدث يوميًّا وباستمرار في جميع أنواع الظروف المختلفة.124
في واقع الأمر، هذا هو ما جعل التسريبات محبطة للغاية بالنسبة إلى القادة السياسيين وكبار الصحفيين؛ فلا يوجد ما يمكن تسليط الضوء عليه إلا الحرب نفسها، ونحن نعرف بالفعل أن الحرب جحيم. من دون سجن أبو غُريب أو جوانتانامو، لا يوجد ما يستدعي الاعتذار عنه أو طلب الصفح منه؛ لا يوجد ما يمكن أن يستحوذ على الاهتمام قبل دفن مثل هذا الحدث المثير في حواشي التاريخ.
في واقع الأمر، إن أرشيف ويكيليكس هو تراكم للحواشي دون نص رئيسي؛ تراكُم هو نفسه النص الرئيسي، بل هو التاريخ نفسه؛ ولذلك، فإن ما انكشف حقًّا هو «منطق» الحرب في أفغانستان، و«الهيكل» الجيوسياسي في جنوب ووسط آسيا، و«نظام» الرأسمالية العالمية. المنطق، والهيكل، والنظام: لا تُعد هذه هي موضوعات التحقيق التي تشجع على بيع الصحف أو الكتب الأدبية غير القصصية الأكثر بيعًا. وعلى رأس هذه المجموعة المملة من التجريدات، تأتي الأحداث الملموسة بالكامل التي تشكل التسريبات، ليس الإقحامات المثيرة الخيالية الفريدة التي تبعدنا عن الواقع القاسي للعالم، بل الواقع القاسي للعالم نفسه، الذي يستخدم الكثير منه في القانون العسكري في العديد من العمليات المجمعة. علاوة على ذلك، فإن الجانب الذي لم تركز عليه وسائل الإعلام في الوثائق (الذي يوثق ما يقرب من ٢٠ ألف حالة وفاة بين المدنيين) هو الذي يزيد من قوة الكشف.125 لم نُضْبَط متلبسين، ولكننا ضُبِطْنا على ما نحن حقًّا عليه. وأعمق من ذلك أننا لا نعرف ما يجب القيام به إزاء هذا الكشف إلا أن نتظاهر بأننا لم نعلم شيئًا جديدًا، ونقمع مرة أخرى صدمة النظر لأنفسنا في المرآة.
إن هذا التحول من الجانب الاجتماعي إلى الجانب الفردي (مِن كشف التجريدات النظرية للمنطق والهيكل والنظام، إلى كشف ذواتنا الخاصة) لا يحدث عن طريق الخطأ، ولكنه انزلاق يجب تفسيره. ويعود بنا هذا إلى ناعومي كلاين؛ حيث إن المبدأ المنظم لكتابها «عقيدة الصدمة» هو تحديدًا المقارنة بين تجارب الصدمة الكهربائية القاسية الشريرة التي يتعرض لها مرضى الأمراض النفسية، وتجارب الصدمة الاقتصادية القاسية الشريرة التي يتعرض لها الشعب بأسره. يبدأ الفصل الأول من الكتاب بزيارة كلاين لجيل كاستنر، الضحية المأساوية للصعق ٦٣ مرة بالكهرباء ضمن عملية سرِّية لوكالة الاستخبارات المركزية في خمسينيات القرن العشرين. وتكتب كلاين قائلة: «على غرار اقتصاديي السوق الحرة المقتنعين بأن حدوث كارثة واسعة النطاق، أيْ تدمير كبير، هو الذي يمكنه فقط أن يمهِّد الطريق لتنفيذ «إصلاحاتهم»؛ يعتقد كاميرون أنه من خلال تعريض الدماغ البشري لمجموعة من الصدمات يمكنه تدمير ومحو العقول الخاطئة، ثم إعادة بناء شخصيات جديدة على هذه الصفحة البيضاء المراوغة.»126

كان إيوان كاميرون هو الطبيب النفسي الذي نفذ الصدمات الكهربائية على كاستنر، وكان العقلَ المدبرَ لنظرية «القيادة النفسية» (أي إن التعذيب يحفز إعادة تشكيل العقل) التي تطبقها كلاين على «العلاج بالصدمة الاقتصادية» الليبرالي الجديد الذي يؤمن به أتباع فريدمان. ما نحصل عليه مع كاميرون هو غسيلُ عقلٍ شيطانيٌّ وتركيز على الجريمة النكراء، كما أن الاستثناء المفجع الذي يمكن أن يتفق حوله الجميع لَهُو أمر حقير تمامًا. من خلال التركيز على كاميرون، تقلل كلاين من أهمية فكرة إمكانية تغيير تشكيل العقل من خلال الثقافة اليومية. إن التشبيه الأكثر إثارة للاهتمام هو ذلك الذي يلفت الانتباه إلى طريقة عمل أيديولوجية الرأسمالية المهيمنة عن طريق كل الأشياء الصغيرة المستخدمة لإنتاج مواطنين متعاونين ومطيعين (من التنظيم المكاني لمنزل الأسرة إلى التنظيم الزمني للمدارس وأماكن العمل)، وطريقة عمل استراتيجيات التراكم الرأسمالي المهيمنة من أجل إنتاج عدم المساواة من خلال إنشاء مجموعة مماثلة من التقنيات التي تبدو محايدة (من تنظيم قوة العمل حتى الإنتاج المتواصل للسلع).

إن التصوُّر الخياليَّ الذي يشير إلى إعطاء الأيديولوجية الرأسمالية في جرعات قاتلة بإبرة حقن تحت الجلد (نموذج «المرشح المنشوري») غيرُ صحيح شأنه شأن التصور الخيالي القائل بأن الاقتصاد الرأسمالي يعاد إنتاجه في مجالس الإدارات من قِبل رأسماليي الكوارث (نموذج «عقيدة الصدمة»). أو ربما ينبغي أن نقول إنه ليس خاطئًا تمامًا، ولكنَّ هناك خطأً تكتيكيًّا في التعامل معه بهذه الطريقة. في الواقع، يعمل النظام الرأسمالي لإنتاج رأسماليين جشعين وفاسدين (الذين يستحقون الإدانة بلا ريب)، إلا أن البدء بانتقادهم له نتائج عكسية، ليس فقط بسبب استناد نظام التمثيل السائد (وسائل الإعلام، والثقافة الجماهيرية، والتربية) إلى دفاع معقد عن هؤلاء الأفراد أنفسهم وممارساتهم (حيث إن الدخول في مشادة كلامية في الوسط الإعلامي المعاصر يمثل مخاطرة تحييد كل النقد)، ولكن لأن ملاحقة الرأسماليين الناجحين يعني تقويض المهارات التحليلية اللازمة لفهم النظام الأكبر. إن الرأسمالية نظام معقد للغاية، الأمر الذي ثبت مرة أخرى خلال الأزمة المالية عام ٢٠٠٨، عندما كانت الخططُ الفرعيةُ التي دفعت بالأمور إلى الحافة معقدةً للغاية؛ بحيث أصبح الأشخاص الوحيدون القادرون على التعامل معها هم نفس الأشخاص الذين وضعوها في المقام الأول. وأخيرًا، إن توجيه النقد للنظام، وليس للأفراد الذين يديرونه ويدافعون عنه، هو إعادة تأكيد الإيمان بالنظام نفسه على ما هو عليه. عندما نحاجج بأن الأزمة تكمن في الرأسمالية، ليس لأنها سارت على نهج خاطئ ولكن لأنها سارت على الدرب الصحيح، فنحن نحاجج بأن هناك منطقًا معينًا يقوم على السبب والنتيجة يمكنه أن يفسر بعض الأحداث مثل الحرب والفقر والفساد. وبطبيعة الحال، هذه الآثار تَنتج كذلك عن الأنظمة الأخرى، إلا أن التكوين المحدد للحرب والفقر والفساد داخل الرأسمالية يختلف نوعيًّا عن هذه التكوينات في إطار نظم أخرى؛ ولهذا السبب فإن ملاحظة جرينسبان عن الفساد السوفييتي بمنزلة ذر الرماد في العيون.

هناك مشكلة أخرى في ربط كلاين بين الجانب الفردي والاجتماعي؛ وهي اختلاف الأفراد عن الكيانات الاجتماعية أو الاقتصادية. ومع ذلك، فإننا كثيرًا ما نرى هذا الربط مُستخدمًا؛ على سبيل المثال، إذا ما تم تشخيص إصابة الأمة بعرض من الأعراض مثل «أزمة الهوية» (مثل فرنسا ردًّا على قضايا الهجرة)، أو القمع وفقدان الذاكرة (مثل اليابان ردًّا على الجرائم التي ارتُكبت خلال الحرب العالمية الثانية). في الواقع، غالبًا ما نتعامل مع الدول وكأنها مرضى مُسْتَلقون على أريكة. وعلى الرغم من ذلك، منذ عمل جيه إيه هوبسون الكلاسيكي الذي صدر عام ١٩٠٢ حول الإمبريالية، علمنا أن الدول لا تنهض أو تنهار بنحو جماعي، إلا أن بعض شرائح السكان على الصعيد القومي تنهض وتنهار بنحو لا يتساوى إطلاقًا مع سائر الشرائح.127 وهو ما يشير إلى أن التحرك بسرعة بالغة من الفرد إلى الأمة يمثل خطر نسيان أن هناك طبقة من رأسماليي الكوارث القوميين (الذين يُعَد الكثير منهم مصدرًا للحكايات لتوماس فريدمان!) الذين يلعبون دورًا أساسيًّا في تثبيت الأسس الاقتصادية التي تتطلبها الرأسمالية العالمية (والاستفادة منها). قد يكون الأفراد مختلفين (لديهم سلسلة من الصفات الشخصية المختلفة وحتى المتناقضة)، ولكن هذا الاختلاف مختلف نوعيًّا عن الاختلافات داخل شرائح سكان الدول.
إن فيلم «المؤسسة» الذي ظهر عام ٢٠٠٣ (الذي أجرت كلاين مقابلة حوله) هو أحد الأمثلة الأكثر إقناعًا حول ربط المخاوف النفسية بكيان اجتماعي، في هذه الحالة هو المؤسسة الرأسمالية. وبعد التطرق إلى ناعوم تشومسكي، الذي يزعم أن المؤسسات هي «أشخاص بلا ضمير أخلاقي»، يكشف الفيلم (المبني على الكتاب الذي كتبه أستاذ القانون جويل باكان، «المؤسسة: السعي المَرَضي وراء الربح والسلطة») عن كيفية إظهار المؤسسات والشركات لنفس أعراض حالة المرضى النفسيين المشخصة سريريًّا، مثل عدم القدرة على إظهار الندم، والقسوة وانعدام التعاطف، وعدم تحمل مسئولية الأفعال الشخصية، والشعور المتكلف بالقيمة الذاتية.128 ولهذا أهمية خاصة حيث تَمَّت شخصنة المؤسسة بعد قرار المحكمة العليا الأمريكية لعام ١٨٨٦ الذي مَنَحَ المؤسسات الحماية بموجب التعديل الرابع عشر للدستور الأمريكي. تلك الشخصنة للمؤسسات قد لا تكون لتقديم المواعظ، ولكنها لتوجيهنا بعيدًا عن المنطق الأساسي للمؤسسة الرأسمالية. من خلال المغالاة في التأكيد على المؤسسة المحمية بنحوٍ غير عادل (وهي الحماية التي تعززها المادة رقم ١١ من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية التي تسمح للمؤسسات والشركات بمقاضاة حكومات المكسيك أو كندا أو الولايات المتحدة الأمريكية إذا كانت الإجراءات التي اتخذتها تلك الحكومات قد أثرت سلبًا على استثماراتها)، يتجاهل فيلم «المؤسسة» تقديم تحليل اقتصادي ويقدم تحليلًا سياسيًّا ضيِّق التكوين (أو ربما ينبغي لنا أن نقول تحليلًا ما بعد سياسي) ينظر إلى المشكلة في المقام الأول من حيث رفع القيود والحماية غير العادلة. هناك افتراض قاتل بأن المؤسسة الرأسمالية تصبح أليفة عندما تخضع للرقابة وتصبح بلا حماية؛ وهو افتراض يمكن أن يكون هناك اتفاق عليه على نطاق أوسع عندما يتخيل المرء أن الرأسمالية الأكثر عطفًا ورحمة يمكن أن تستمر من خلال التدخل المساند من قِبل الدولة.
إن ضعف هذه الحجة لَهو أمر مؤسف، لا سيما بالنظر إلى أن فيلم «المؤسسة» يبدأ بانتقاد دقيق لدفاع «التفاح الفاسد» عن الرأسمالية؛ فمِن فضيحة إنرون وحتى الدمار الشامل للعديد من الاقتصادات القومية (روسيا عام ١٩٩٨، والأرجنتين فيما بين عامَي ١٩٩٩ و٢٠٠٢)، يهاجم هذا الدفاعُ الأفرادَ المتجاوزين، واصفًا إياهم ﺑ «التفاح الفاسد» قبل التضحية بهم، مع عدم المساس في أي وقت من الأوقات بالمؤسسات والمنطق الذي أدى إلى إمكانية وقوع مثل هذا الدمار في المقام الأول. وحتى نَفِي مخرجِي الفيلم حقهم، نشير إلى أنهم رفضوا هذا التصور وهذا التفسير الأعوج؛ مما يؤدي إلى فحص المؤسسة نفسها. ولكن عندما يصل الفيلم إلى «المؤسسة» بوصفها فئة عامة (وليست مجرد حالة خاصة)، فإنه يشرع في فحصها بنفس الخصائص الخاصة بالصحة العقلية التي قدمها «التفاح الفاسد»: فهو ينتقد المؤسسة بوصفها شخصًا مريضًا؛ ما يعود بنا إلى الاستراتيجية الخاطئة التي وعد الفيلم بتجنبها في المقام الأول. وبالمثل، عندما تتناول كلاين الليبراليين الجدد بوصفهم رأسماليي أوقات الكوارث، فهي تقدِّم تحليلها الخاص الفعال إلى فيلم هوليوود المنهك الذي يلوم السيد بوتر على زوال البلدة كلها، فيما يحتفي بجورج بيلي الذي يلعب دوره جيمي ستيوارت بوصفه المنقذ العاطفي والمدير الناجح لأزمةٍ كانت، في الواقع، نتيجةً منطقيةً للرأسمالية.129
بدلًا من معاملة المؤسسة بوصفها فردًا، نقترح معاملة الأفراد باعتبارهم مؤسسة؛ وليست مؤسسةً رأسماليةً لا تستطيع أن تعلق العمل بقاعدتها الأساسية المتمثلة في التوسع وتوليد الأرباح، ولكن مؤسسة غير رأسمالية؛ أي تلك التي تقترب من الجذر اللاتيني corpus للمقابل الإنجليزي لكلمة المؤسسة؛ أي «كيان الشعب». إن هذه المجموعة المكونة من العديد من الأفراد المتَّحدين في كيان واحد الذين يحيون لفترة أطول من أي عضو من أعضائها، والتي ينظمها المنطق والقِيَم والمعتقدات وليس الربح والتوسع؛ ليست وسيلة لإعادة التفكير في مجموع الناس اليوم فحسب، ولكنها أيضًا وسيلة لمقاومة رواية بوتر وبيلي. إذا كان لا يمكن للرأسمالية أن تستمر إذا ما سادت مثل هذه المؤسسات غير الرأسمالية، فتلك حقيقة مُرة تستحق النظر فيها بجدية. وبدلًا من أن نسمح لهذه الحقيقة بأن تَحُدَّ من آمالنا ورغباتنا بحدودِ ما هو ممكن فقط، نعتقد أن التفكير في المستحيل (أي أن نفكر في المؤسسات غير الرأسمالية والأفراد غير الرأسماليين في إطار الرأسمالية) هو جوهر السياسة. وبدلًا من العودة إلى اقتصاد مختلط للمؤسسات الرأسمالية المنظمة تنظيمًا سليمًا (تلك التي يديرها مديرون عادلون وعلى خلق مثل هؤلاء الذين تحتفي بهم كلاين، ويشرف عليها ساسة عادلون وعلى خلق وضمائرهم يقظة مثل من يَنْشُدهم كروجمان)، نحن نفضل أن نترك مساحة لتشكيل اجتماعي بديل لا يعتمد على منطق رأسمالي. ربما يتناول كلُّ هذا كيفيةَ تحوُّل المستحيل (الآخر الراديكالي) إلى الممكن؛ أو، كيف يشكِّل المستحيلُ (بوصفه مستحيلًا) احتمالاتِ الحاضر. ومع ذلك، فإننا عندما ننظم تحليلاتنا النقدية حول فساد اللاعبين الرئيسيين في المشهد، فإننا بذلك نكون قد تخلينا عن المشروع الراديكالي لمحاولة تحقيق المستحيل؛ أي تجاوُز الحس العام (على سبيل المثال، أن نعتقد أن الليبرالية هي أفضلُ ما يمكن أن نطمح إليه) إلى حسٍّ عامٍّ جديدٍ. ولا غنى عن وجود صوت قوي وواضح مثل ناعومي كلاين لمثل هذا المشروع، على الرغم من أن أعمالها في كثير من الأحيان تميل إلى تقديم تنازلات. إن فكرة اختلاف كلاين عن كُتاب مثل فلوريدا، وفريدمان، وحتى كروجمان في القوى الراديكالية لانتقاداتها للعولمة وحدود النظم السياسية والاقتصادية الحالية، يحدها الميل المؤسف للسماح للنظام ككل بالاستمرار. بالنسبة إليها، لا يوجد ما هو «بعد» العولمة، فلا يوجد شيء يليها. إن طريقة التعامل مع الأنظمة السيئة ليست من خلال مَلئها بالأخيار، ولكن بالأحرى عن طريق وضع نظم جديدة. للأسف، قد لا يكون من المحتمل أن تتفق مع أطروحاتنا، مثلها مثل الآخرين الذين عرضنا أفكارهم هنا.

(٦) حدود هوليوود: فيلم «مايكل كلايتون»

أصبح إحراج مشاهير هوليوود لسذاجتهم السياسية ممارسة ممتعة. عندما يتحدث أحد نجوم هوليوود الشديدي الثراء بِاسم العدالة والمحرومين اليوم، فلا يمكن أن ينظر إلى ذلك إلا بوصفه نوعًا من النفاق، إن لم يكن عملًا غير أخلاقي إلى حدٍّ ما. يهدد النفاق الواضح ملايين الدولارات التي يجمعها هؤلاء والوعي الاجتماعي الذي ينتجونه. وحتى الأعمال التي تبدو بطولية، مثل إنقاذ شون بن للأطفال من مياه الفيضانات التي نتجت عن إعصار كاترينا، أو نقل جون ترافولتا إمدادات الإغاثة إلى مدينة بورت أو برنس بطائرته طراز بوينج ٧٠٧؛ من السهل أن تكون عرضةً للسخرية وعدم الاهتمام. ولكن لماذا؟ هل لأن هؤلاء النجوم يجهلون السياقات المعقدة والتاريخ الخلافي للقضايا التي يدافعون عنها؟ هل لأن هذا السلوك الخيري يتحول إلى مجرد وسيلة من وسائل الدعاية؟ ليس بالضرورة. إن ما يثير استياء اليسار واليمين على حدٍّ سواء هو أن مِثل هذه الأفعال التي يقوم بها المشاهير تبدو مملوءة بالنفاق. يدفع ذلك الساخطين إلى أحد أعمق الفخاخ الأيديولوجية في المجتمع المعاصر؛ وهي: فخ النقاء، أو الاعتقاد بأن الأفعال الصالحة (الخيرية أو النقدية) هي تلك التي يقوم بها الأفراد الذين يتمتعون بالصلاح. يقول منطق هؤلاء: إذا كان شخصٌ ما غيرَ صالح، فإنَّ فعله لا يزيد عن كونه ببساطةٍ تعويضًا عن إيمانه الضعيف، إن لم يكن تنصلًا منه. وعلى الرغم من ذلك، في ثقافة لا يمكن للمرء فيها إلا أن يكون غير صالح — أي أنْ يتشبع بمنطق عدم المساواة الرأسمالية — تصبح حجة النقاء تلك منجم ذهب رجعيًّا، فضلًا عن إضعافها لأي نوع من أنواع النضال الديمقراطي، الذي سيحتاج بالضرورة لمواجهة تناقضاته. وحتى إذا كان الشخص ناجحًا نسبيًّا في التهرب من المنطق الدنس للاقتصاد الرأسمالي (إما عن طريق تجنُّب وسواسه القهري وإما عن طريق اللجوء لمعارضته)، فهناك القوة النفسية للرأسمالية التي يتعيَّن عليه أن يتعامل معها، التي يمكن أن تجعل المرء يشعر بعدم الصلاح على الرغم من كونه صالحًا (مثلما يصبح الشخص البريء عصبيًّا دون مبرر عندما يستجوبه ضابط شرطة). في الواقع، إن أيديولوجية النقاء تلك هي محور أطروحاتنا السبع. هذا الإصرار على النقاء يعمل إما لتأكيد الحس العام وإما لتعطيل النقد، وهما نفس الشيء في نهاية المطاف. لقد تَسبَّبَ اختبارٌ للنقاء في سوداوية اليسار التي تَحدَّث عنها جاك رانسيير وغيره: الاعتراف بأن «جميع رغباتنا للهدم ما زالت تطيع قانون السوق، وأننا ببساطةٍ مشتركون في اللعبة الجديدة للسوق العالمية، والمتعلقة بالتجريب دون حدودٍ حتى فيما يتعلق بحياتنا ذاتها.»130
يشير هذا أيضًا إلى أن النقد السهل لنخبة هوليوود يبدو أكثر خبثًا من أكثر أفعال هذه النخبة نفسها خداعًا. ونستدعي هنا نظرية مناهضة معاداة الشيوعية لِجان بول سارتر؛ حيث يرى المرء، على الرغم من أنه قد يكون له مآخذ شديدة على الشيوعيين، أن مُعَادِي الشيوعية الانتهازيين هم من يستحقون إدانتنا الشديدة.131 وبالمثل، بدلًا من انتقاد الأفلام المعيبة لِسبيلبرج وَساراندون، فإن المتفاخرين بمهاجمتهم لنخبة هوليوود هم من ينبغي أن نضعهم نُصب أعيننا. أو يمكن أن نصل إلى هذه النقطة من الاتجاه الآخر: إذا كانت ملاحقة نخبة هوليوود لِنِفاقهم رخيصةً وتأتي بنتائج عكسية، ينبغي علينا أن نوجه تحليلنا إلى الحدود الهيكلية لهوليوود، تلك التي لا تتعلق بالأخطاء الشخصية للَّاعبين الرئيسيين فيها (الممثلين والمخرجين والكتَّاب والمنتجين) بقدرِ ما تتعلق بالوضع الاجتماعي الأوسع. وكما هو الحال فيما يتعلق بتناولنا لأعمال فلوريدا، وَفريدمان، وَكروجمان، وَكلاين؛ فنحن لا نهتم بمهاجمة ليبراليي هوليوود بقدرِ ما نهتم بالكشف عن طريقة عمل سياساتهم داخل حدود خطاب العولمة، فضلًا عن طريقة عمل سياساتهم في إعادة إنتاج وتعزيز خطاب العولمة ذاته، الذي يَحُدُّ من تلك السياسات في المقام الأول؛ ومن ثم، يجب ألا نتفاجأ أنه في قلب هذا الحد الخطابي تأتي الافتراضات السبعة التي تعوق التفكير في «ما بعد» العولمة. إن أفضل مكان لدراسة هذا في هوليوود، على ما أظن، هو أن نتحول إلى الأفلام ذاتها. ولخدمة أهدافنا وربط الموضوعات التي برزت في هذا الفصل معًا، نفضل أن نتوجه مباشرة إلى ما يجب أن يُعد أحد أهم الأفلام السياسية التي خرجت من هوليوود على مدى السنوات العشر الماضية؛ وهو: «مايكل كلايتون»، من بطولة جورج كلوني.

على الرغم من أن فيلم «مايكل كلايتون» (٢٠٠٧) هو الإخراج الأول لتوني جيلروي، فقد شارك في تقديمه نخبة من نجوم هوليوود؛ فقد كان ستيفن سودربرج وَأنطوني مينجيلا، المنتجَين المنفذَين له، في حين أنتجه سيدني بولاك وكان أحد شخصيات الفيلم الرئيسية، كما كان روبرت إلسويت مدير التصوير. عمل كلٌّ من كلوني وَسودربرج وَإلسويت معًا في فيلمَي «ليلة سعيدة، وحظًا سعيدًا» (٢٠٠٥) و«سريانا» (٢٠٠٥)، وهما اثنان من الأفلام التي أشاد بها النقاد، والتي وجهت انتقادات لاذعة لأمريكا في عهد جورج دبليو بوش عن طريق تناول مكارثية خمسينيات القرن العشرين وعمليات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في إيران، على التوالي. ومع ذلك، يُعد فيلم «مايكل كلايتون» فيلمًا سياسيًّا أكثر منه فيلمًا عن السياسة (على الرغم من أنه لا يصل إلى الفئة العظيمة ﻟ «الفيلم المسيس» إذا كنا ما زلنا نستطيع أن نلمح إلى هذا التمييز الذي أشار إليه لأول مرة جان لوك جودار).

يعمل كلايتون محاميًا في شركة قانونية كبيرة في نيويورك تدافِع عن شركة كيماويات زراعية عالمية (يو-نورث، والتي يقصد بها صناع الفيلم شركة مونسانتو) ضد دعوى جماعية قد تكلفها مليارات الدولارات. وُجِّهت إلى الشركة تهمة تلويث المياه الجوفية في بلدة بويسكونسن؛ مما يؤدي إلى إصابة المئات من سكانها بمرض خطير. وتَرأَّسَت القسم القانوني لشركة يو-نورث كارين كراودر، التي لعبت دورها باحتراف تيلدا سوينتون، بأدائها اللافت لدور سيدة تبذل جهدًا مضنيًا لتحقيق النجاح في ثقافة الشركات التي يهيمن عليها الفكر الذكوري. يسند القسم القانوني بالشركة الدعوى الجماعية المرفوعة ضدها إلى شركة محاماة كلوني؛ حيث يعمل آرثر إدنس (الذي يلعب دوره توم ويلكنسون) مقيم الدعوى القضائية البارع الذي ظل يعمل دون كلل أو ملل على القضية على مدى السنوات الست الماضية. إلا أن آرثر كان يتهاوى، ليس فقط لتوقفه عن تناول أدويته، ولكن أيضًا لأنه وجد أنه من المستحيل أن يواصل النضال من أجل هذا العميل المثير للاشمئزاز. في الواقع، كان آرثر يعمل سرًّا لصالح المدَّعين وكان يحتفظ بوثائق إدانة بحوزته يمكنها أن تهدم القضية بكل تأكيد. كلايتون، الذي يقوم بدوره كلوني، لم يكن مقيمًا للدعوى القضائية، ولكنه كان مصلحًا؛ أي شخصًا لديه مهارة فريدة من نوعها في إنهاء أي نوع من أنواع الفوضى؛ بدءًا من جرائم القيادة في حالة سكر، مرورًا بقضايا الطلاق الصعبة، وحتى الفوضى الأخيرة التي حدثت بين آرثر وشركة يو-نورث.

تتميز شخصية المصلح بأنها غنية سينمائيًّا؛ فمن هارفي كيتل في فيلم «خيال رخيص»، حتى جان رينو في فيلم «نيكيتا»، هذا هو الشخص الذي تريده إلى جانبك في خضم أي أزمة، الشخص الذين تستسلم له بكل سرور إذا كنتَ ترى أنك إذا خطوت خطوة خاطئة فيمكنها أن تكلفك حياتك أو، على الأقل، بضع سنوات في السجن. ويناسب مايكل القيام بهذا الدور بنحو خاص؛ فهو هادئ وواثق من نفسه، ويعرف كيف يواجهك ويحافظ على ثباته بينما تفقد أنت أعصابك، وهو يعلم الشخص المناسب لإنجاز كل مهمة من المهام. وحتى يكرِّس شخصٌ نفسَه لمثل هذا العمل المشابه لأعمال الحراسة (والذي عادة ما يتطلب العمل ليلًا وخلال عطلات نهاية الأسبوع)، يجب أن يكون قد مر بعدد من الأزمات وانخرط فيها بنفسه ويحيا الآن حياة منعزلة. في الواقع، إن قدرات المصلح هي التي تبدو جذابة للغاية؛ فهي تتعامل مع الجوانب السياسية والاجتماعية والقانونية والعاطفية والنفسية للأزمة بدقة، وحتى مع مرور الوقت. يبدو مايكل مثل أحد المحققين المخضرمين في رواية لِرايموند تشاندلر، الذين ينتقلون دون جهد من حفل عشاء فاخر إلى بارٍ رثٍّ ثم إلى غرفة نوم سيدة. هذا التحرك الحر من أعلى السلم الطبقي إلى أسفله هو تحديدًا سبب أن المحقق يبدو كشخصية يوتوبية في الأدب الحديث؛ إذ يتم توظيف المحقق لإثارة رغبة القارئ في تجاوز البنية الثابتة للطبقات الاجتماعية، وفي نفس الوقت، التلويح بالوعد الكاذب بإمكانية حدوث هذا التجاوز.

إلا أن مايكل ليس الشخصية الوحيدة القديرة في الفيلم. يلعب سيدني بولاك دور مارتي باخ، أحد كبار الشركاء في شركة المحاماة، الذي يشرف على عملية اندماج ضخمة على وشك الانهيار بالإضافة إلى كارثة يو-نورث من خلال نبرة صوته العالية الواثقة والمتسلطة. يحقن القتلة آرثر بحرفية شديدة بسمٍّ بين أصابع قدميه بحيث يبدو الأمر وكأنه انتحار. وتُدار لعبة البوكر الموجودة في مكان خلفي، والتي يعود إليها مايكل بعد عام على ترك القمار، بنظام تشغيل دقيق مثل الباليه، وعبر الصمت السلس بين التجار الصينيين، ومشغلي المصاعد، ونقاط المراقبة. وحتى كارين، التي تقوم ببعض التحركات الخاطئة، محامية على درجة عالية من الكفاءة، والتي تتمرن على خطاباتها بنفس الاهتمام بأدق التفاصيل الذي كانت ترتدي به جوربها الطويل قبل جلسة حاسمة للمساهمين الرئيسيين في يو-نورث. وعندما تضطر إلى «إصلاح» تغير موقف آرثر المدمر لحياته، تلتقي في أحد الشوارع بأحد القتلة الذين من المفترض أن يقتلوا آرثر. لا تعرف كارين كيف تعطي الأمر بقتل آرثر، فتستمع إلى القاتل (السيد فيرن) إذ يشرح أن لديه بعض «الأفكار الجيدة» للتعامل مع الأمر. تجيب كارين: «حسنا»، فيسألها السيد فيرن: «هل «حسنًا» هذه تعني أنك تفهمين ما أقول أم أنكِ توافقين على بدء تنفيذه؟» مرة أخرى، يلفت هذا الاهتمام بالتفاصيل النظر ويبدو جذابًا للغاية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن فيلم «مايكل كلايتون» قدير بدوره؛ فبدءًا من التمثيل (الجهد الكبير المبذول في تمثيل شخصية آرثر وغير الكافي في حالة شخصية مايكل)، إلى التصوير السينمائي (حيث تم تصوير الفيلم تقريبًا بالكامل بخلفيات من اللونين الأزرق الفولاذي والرمادي) والمونتاج (الذي يرسم تقاطعًا بين الشخصيات بحيث يكمل كلٌّ منها الآخر بطريقة تصل إلى الشيء الذي يتجاوز الشخصيات نفسها، وهو النظام)، يرتفع الفيلم إلى قمة هذا النوع من الأفلام، ولا نعني بالنوع هنا أفلام جرائم الشركات بقدرِ ما نعني أفلام هوليوود نفسها. ومن المناسب أن نقيِّم حدود هوليوود بنحوٍ أفضل من هذه القمة، وبالتبعية، حدود الرأسمالية العالمية؛ ويعني هذا أن سبب نجاح هذا الفيلم يتمثل تحديدًا في فشله في التغلب على حدوده الهيكلية.

الحد الأول هو حد الكفاءة. يتمتع المصلح بالجاذبية لأنه يثير الوهم القائل بأن الرأسمالية يمكن أن يتم التحكم بها؛ أي من خلال المجموعة المناسبة من المهارات والإعداد والاتصالات، يمكنها أن تتجنب أي أزمة. من البذور المعدلة وراثيًّا التي يمكنها التغلب على الجفاف قبل أن يحدث، إلى العلاج بالعقاقير التي تحوِّل الأمراض التي كانت أمراضًا قاتلة في وقت سابق (مثل السرطان وفيروس نقص المناعة البشرية) إلى أمراض مزمنة، هناك كم هائل من الرغبة المستثمرة في احتمالات التحكم، إن لم يكن التحكم الكامل. إلا أن الرأسمالية الحقيقية لا يمكن أن يتم التحكم بها، وهذه الضرورة الجذرية على وجه التحديد لمنطقها الثائر، هي الأكثر رعبًا وجمالًا. سينمائيًّا، لا يستطيع هذا الفيلم أن يعلق اعتماده الخاص على الكفاءة الشكلية. إذا فعل ذلك، أي إذا خرج خطه السردي عن مساره أو كان الممثلون أقل كفاءة، فلن يكون هذا أحد أفلام هوليوود. وبالمثل، لا تستطيع الرأسمالية أن توقف اعتمادها على الفئات الشكلية التي تحدد منطقها، مثل التوسع في السلع ومنطق الربح، الذي هو في حد ذاته نوع من أنواع الكفاءة السياسية والاقتصادية. إذا حدث ذلك، أي إذا لم تقم شركاتها بإجراء تحليلات موسعة عن التكاليف والفوائد عند اتخاذ قرار بشأنِ إن كان ينبغي أن تسحب منتجًا به عيوب وببساطة «تقوم بالشيء الصحيح»، فلن تكون هي الرأسمالية.

أما الحد الهيكلي الثاني للفيلم والرأسمالية فهو الذاتية. يلمح الفيلم إلى الصحة النفسية في مواضع مختلفة، أكثرها مباشرة هي «النوبات» التي يتعرض لها آرثر. عندما أُرسل مايكل إلى ولاية ويسكونسن لإحضار آرثر، فقد أثره بعد هروب آرثر من غرفة الفندق حيث كانا يقضيان ليلتهما. على جدار حمام الغرفة، كتب آرثر ملاحظة لمايكل بخط مضطرب: «لا تعتقد أنني مصاب بالجنون.» وعندما يدرك مايكل آرثر في نيويورك، يحاول استمالته من خلال المونولوج التالي:

إذا كنتَ ترغب في هذا [ادِّعاء أن هناك شيئًا كيميائيًّا يحدث لك]، فأنا على استعداد لمقابلتك في منتصف الطريق، وأن أقول لك: «نعم، هذا الوضع مُزْرٍ، ويو-نورث مزرية.» يمكننا أن نبدأ من هنا. أنا أقول لك إنك مجنون، وإن سلوكك خارج عن السيطرة، ولكنني أقول لك إنك على حق. ما قلته صحيح، نحن حراس عقارات. لقد فهمتُ الآن. ولكننا نحن من أوصلْنا أنفسنا إلى هذا، يا آرثر، نحن من اتخذ هذا القرار، ولم يحدث هذا بين ليلة وضحاها. لا يمكنك أن تتخلى عن الأمر بكل بساطة. لتَقُلْ إن اللعبة قد انتهت، وأنا أُومِنُ بالمعجزات. هيا يا آرثر.

هل كان آرثر «على حق» فيما يتصل بيو-نورث والنظام المتشابك لسلطة الشركات بسبب مرضه العقلي أم على الرغم منه؟ هل هناك شيء في الذاتية الرأسمالية المتأخرة يتطلب وجود بعض البقع العمياء لتكون فعالة؟ وإذا كان الشخص يرى بوضوح، فهل ستكون الحقيقة قاسية جدًّا بحيث لا يمكن احتمالها، بحيث تجعله يمرض بالفعل؟ مرة أخرى، هناك قياس على هوليوود. إذا كان لفيلم «مايكل كلايتون» أن يكشف عن نفسه تمامًا حتى يتسنى لجميع مكوناته الشكلية أن تظهر للجميع، فلن نكون في هوليوود؛ فحتى ينجح فيلم هوليوود، يجب ألا يرى المشاهد أجزاءه وهي تعمل بوضوح شديد، وإلا فسيكون من المستحيل الانغماس في الفيلم بما فيه الكفاية ليتمكن من تحريك مشاعرنا. بالطبع، هناك العديد من أفلام هوليوود التي تدفع هذا الحد إلى آخر حد، ولكن في نهاية المطاف، هذه الأفلام، من خلال براعتها الشديدة وتمكُّنها الفني، تعيد إنتاج نظام هوليوود نفسه. وبالمثل، تتطلب الرأسمالية ضرورة مماثلة من التقييد: ضرورة إعادة إنتاج الأعراض الأيديولوجية التي لا يمكن «علاجها»؛ لأنها إذا عُولجت، فسيختلف الفرد اختلافًا جذريًّا حتى إنه لن يستطيع البقاء على قيد الحياة، أو للتحول إلى نطاق سياسي أكبر، يمكن أن نقول: لا يستطيع الثوري أن يتغلب تمامًا على النظام الأيديولوجي القائم، وإلا فسيفقد الاتصال المطلوب بغالبية الآخرين، الاتصال ذاته (ومن ثم المجموع) الذي تعتمد عليه أي ثورة. ويعود بنا هذا إلى النقاء، والأطروحات السبع، والعولمة.

يعرض كلٌّ من كروجمان وَفريدمان وَفلوريدا وَكلاين عيوب الرأسمالية العالمية المعاصرة؛ فهناك ما يحتاج إلى التغيير في هذا النظام ليعمل على نحو أكثر فاعلية. وبغض النظر عن الجدل بشأن ضرورة زيادة التنظيم أو تقليله، وزيادة الهيمنة الأمريكية على العالم أو تقليلها، وزيادة التجارة أو تقليلها؛ هناك افتراض يقول بأنه مع مزيد من الحس العام والتعليم يمكننا تنقيح الرأسمالية بطريقة تسمح باستمرار التاريخ، وحماية المستقبل، وسيادة الأمم، وانتصار الأخيار بفعل الأشياء الصحيحة. هذا الافتراض، الذي يشكل الجوهر الإيجابي للأطروحات السبع، يجبر الرغبة السياسية على اللجوء إلى زاوية تحد الخيال بفاعلية. إلا أن التحرك في الاتجاه المقابل يؤدي بنا للوقوع في فخ النقاء، إلى اتهام الشخص بأنه منافق وكاذب، إلى الحلول المتفق عليها التي يقال لنا حاليًّا إنها المهرب الوحيد من الواقع الصارخ للعالم. نحن نجادل بخلاف ذلك، ونبحث عن مسار مختلف تمامًا. فقط من خلال العمل في ضوء هذه الأطروحات السبع، وليس عن طريق الخضوع للآمال الحالية المعقودة على التعليم، والأمة، وما إلى ذلك، من الممكن لنا أن نقترب من هذا الواقع. ويبدأ هذا المسار الغريب من خلال تخيُّل ما يأتي بعد العولمة. في الفصل التالي، لم يهتم الطلاب الذين أجرينا معهم المقابلات كثيرًا بالأطروحات السبع. ولكن يبدو أنهم كانوا غير مهتمين كذلك بتخيل ما سيأتي بعد العولمة. إن كيفية تخيل ما سيأتي بعد العولمة دون أن نحتاج إلى اعتناق الأطروحات السبع هذه هو حبل البهلوان المشدود الذين أصبحنا مجبرين على السير عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤