الفصل الثالث

الجيل العالمي

(١) الجيل القادم

على الأرجح، نحن لا نحتاج إلى ذكر ما هو واضح بالفعل: هناك كمٌّ هائل من الكتب والأبحاث وما شابه، التي كُتبت عن العولمة خلال العقدين الماضيين. يشتمل الكثير منها على مناقشات بين الأكاديميين حول عناصر العولمة؛ فيما كان الباقي محاولة يقوم بها السياسيون وصانعو السياسات والنخب السياسية والاقتصادية لاستغلال مفهوم العولمة بما يخدم أغراضهم الخاصة. من المهم رؤية العولمة بوصفها مشروعًا أيديولوجيًّا ونظامَ اعتقادٍ يَزعم، كما قلنا من قبل، حتميةَ الحاضرِ، وعلى النحو ذاته، أيضًا حتمية المستقبل. هناك نقطة بسيطة نحتاج إلى طرحها، وهي إن كان لنظام الاعتقاد هذا تأثيره المقصود، بما يشكل الأساليب التي نفكر بها في اليوم والغد؛ أي إن كان في مقدوره إقناعنا بأن مشاكل الحاضر يمكن حلها باستخدام حلول الماضي؛ أو أن ما بعد العولمة جاء … في شكل مزيد من العولمة، سواء تصورناها في شكل نظام، أو قدر، أو أيديولوجية.

حتى نفهم بوضوح كيف وإلى أي درجة وَجَدَت الأفكارُ والمُثلُ المرتبطةُ بالعولمة طريقَها إلى الخطاب المعاصر، قمنا بإجراء سلسلة من المقابلات مع طلاب الجامعات في جميع أنحاء العالم. لقد عقدنا ٦٠ مقابلة في ستة بلدان؛ هي: كولومبيا، وكرواتيا، وألمانيا، والمجر، وروسيا، وتايوان. وكان هدفنا هو أن نرى ما تعنيه العولمة بالنسبة إلى من بلغوا سن الرشد في حقبة العولمة: أولئك الذين لم يشهدوا سوى فترة ما بعد الحرب الباردة، الفترة التي هيمنت الولايات المتحدة الأمريكية عليها سياسيًّا، وتسودها الرأسمالية اقتصاديًّا دون منازع.

لماذا وقع اختيارنا على طلاب؟ ولماذا اخترنا هذه البلدان؟ إن طلاب الجامعات هم الأكثر عرضة للاحتكاك بخطاب العولمة، كما أنهم يشكلون قطاعًا من أكبر القطاعات بين سكان الدول؛ حيث يرسمون إحداثيات العالم الذي يعيشون فيه ويحددون مدى قدرتهم على التحرك داخله. وفي الدول التي أجرينا بها مقابلاتنا، وكذا في معظم بلدان العالم بلا شك، ما زال يَتصور المجتمع أن التعليم الجامعي وسيلة للتقدم الطبقي. وسواء يقبل طلاب الجيل العالمي دون مناقشةٍ أيديولوجية العولمة بالكامل، أم يتحدون ألغازها الاقتصادية والسياسية، يجب عليهم أن يفكروا في الآثار المترتبة على خطابات العولمة. وينطبق هذا على الطلاب الذين يدرسون مجموعة واسعة من التخصصات في العلوم الإنسانية؛ من اللغات إلى علم الاجتماع، ومن العلوم السياسية إلى إدارة الأعمال. وعلى الرغم من أننا وجدنا درجات متفاوتة من الاهتمام ببعض الأسئلة التي طرحناها، فإن كل طالب كان له رأي حول العولمة؛ حول ما تعنيه وأهميتها بالنسبة إليهم وإلى بلدانهم.

أما بالنسبة إلى الدول، فبمجرد أن يتقدم المرء، ليس فقط لإجراء مسح حول العولمة، بل والقيام به من منظور عالمي مقارن، تظهر على الفور مسألة أي البلدان نختار؛ أي لماذا نختار بعضها دون البعض الآخر. إذا كان هدفنا هو التعرف على أفكار الناس حول العولمة عبر العالم، فلماذا لا نستفيد بأداة مثل مسح بيو لدراسة المواقف العالمية؛ وهو المسح الذي طالما أشارت إليه وسائل الإعلام في السنوات التي تلت أحداث ١١ / ٩ لقياس التحولات في الآراء حول الولايات المتحدة الأمريكية وتصرفاتها في العالم؟ لماذا لا نجري دراسة تتناول أكثر من ست دول، أو نجري مقابلات في البلدان التي يُعتقد أن تكون قد تأثرت بالعولمة بنحو مباشر أكثر، مثل البرازيل والهند والصين ودول الشرق الأوسط وأفريقيا، أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها؟ هذه أسئلة مشروعة. لقد أردنا أن نتجنب البدء من افتراضات حول أكثر البلدان تأثرًا بالعولمة بنحو مباشر لتكون دليلًا لنا لتحديد الدول التي سنجري فيها مقابلاتنا. في النهاية، يقول أحد الافتراضات المسبقة لخطاب العولمة بأنه بمجرد أن تبدأ حقبة العولمة، سينتمي «جميع الناس في كل مكان» إليها؛ إذ ستختفي جميع الأفكار القديمة حول البلدان المتطورة والمتأخرة، المتقدمة والمتخلفة. وتشمل البلدان التي اخترناها لإجراء المقابلات فيها دولًا صديقة للولايات المتحدة الأمريكية (كولومبيا)، وقوة عظمى سابقة، وقوة عظمى ناشئة مرة أخرى (روسيا)، وقوة متوسطة لها احترامها في وسط الحرب الباردة (ألمانيا)، وعددًا من البلدان الأصغر التي تكافح من أجل تحديد هويتها القومية، وبناء اقتصاداتها، مع تحول التكافؤ الجيوسياسي للعالم من حولها (المجر، وكرواتيا، وتايوان). نحن لا ندعي الشمولية، أو وجود نظرة كاملة على الكوكب؛ وفي الوقت ذاته، فإن إجراء مقابلات عميقة في هذه الأماكن يفتح الطريق أمام وجهات نظرٍ نحن في أمسِّ الحاجة إليها حول العولمة باعتبارها أيديولوجية وواقعًا لم يتناوله معظمُ ما كتب حول هذا الموضوع.

(٢) من معاداة أمريكا إلى العولمة

أُجريت المقابلات فيما بين عامَي ٢٠٠٦ و٢٠٠٨، وكان متوسط مدة كل مقابلة ساعة واحدة. وقد استخدمنا مجموعة محددة من الأسئلة في كل مقابلة، بالرغم من أننا استطردنا في تناول القضايا التي برزت خلال سير مناقشاتنا وانحرفنا عن النظام الموضوع للأسئلة حسب ما تقتضي الضرورة. ولم تركز مقابلاتنا مباشرةً على العولمة بوصفها موضوعًا للنقاش، وإنما وضعنا إطارًا لعملنا ليكون دراسة حول معاداة أمريكا المعاصرة، وكذلك عددًا من القضايا المتعلقة باللحظة الراهنة: العولمة، والرأسمالية، والثقافة المعاصرة، ومشكلات وآفاق البلدان التي كنا نُجري فيها مقابلاتنا، هذا بالإضافة إلى توقعات كل طالب من الطلاب حول فرصهم المستقبلية.

وعلى الرغم من الدور الفعال الذي لعبَتْه هذه المقابلات في تشكيل هذا الكتاب، فإننا لا نعتبرها مادة غير قابلة للنقاش. وعلى الرغم من أننا بدأنا بمجموعة صارمة من الأمور المنهجية (المتعلقة بالسرِّية، واختيار الطلاب، والتوثيق)، فإننا ما نزال نتعامل مع المقابلات باعتبارها نصوصًا «أدبية» أكثر من كونها نصوصًا إثنوجرافية. ويعني هذا أن تعليقات الطلاب (مثل الأرقام الواردة في الفصل السابق وعرضنا الخاص) هي أعراض للعولمة، تعبِّر بسبل واعية وغير واعية (في الشكل والمحتوى على حدٍّ سواء) عن طرق متنوعة للتعايش مع العالم. ولا نقصد بكلمة «أدبية» أنْ نَصِفَ هذه المقابلات بأنها تنضم تحت لواء الأدب القصصي، أو أن نلطف من استجابات كل طالب لخدمة التحليل البنيوي للعديد من الأنواع والشخصيات. بدلًا من ذلك، نحن نقصد أن أشكال عملية السرد، واستخدام اللغة، والاهتمام بالزمان (الجوانب الزمنية وغير الزمنية لتمثيل الماضي والحاضر والمستقبل، على سبيل المثال) لها أهمية في تصويرهم للعالم تُماثِل أهمية حججهم الأكثر واقعية حول العالم.

لقد بدأنا مقابلاتنا في وقت كانت فيه المشاعر المعادية لأمريكا منتشرة على نحو كبير؛ وبحلول وقت إجرائنا لآخر المقابلات، في فبراير عام ٢٠٠٩، بدت هذه المشاعر كما لو كانت قد اختفت تمامًا. وقد كان السبب واضحًا: انتخاب باراك أوباما في نوفمبر عام ٢٠٠٨، والذي تَوقَّعَه الطلاب في عام ٢٠٠٨، وذكروه مباشرة في المقابلات التي أجريت في كولومبيا في عام ٢٠٠٩. وهذا التغير مثير للقلق، على الأقل من ناحية السرعة التي يمكن أن تغيِّر بها مجموعةٌ من الميول العاطفية والإدراكية رؤيةَ الطلاب من الجانب السلبي إلى الجانب الإيجابي، دون دليل على أي تغيير مؤسسي موضوعي سوى تبديل المقاعد (أي تغيير المسئولين المنتخبين) داخل هيكل سياسي قائم. خلال فترة الولاية الثانية للرئيس جورج بوش (٢٠٠٥–٢٠٠٨)، بدا أن الولايات المتحدة الأمريكية يزداد ارتباطها بممارسات وسياسات العولمة — توسيع نطاق السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية تحت غطاء قوة تاريخية — إلى درجة أن المشاعر المعادية للعولمة كانت تختلط بالمشاعر المعادية لأمريكا؛ لذلك كنا نريد الدخول إلى مناقشات العولمة من خلال اقتراح التحدث أولًا عن معاداة أمريكا، من أجل معرفةِ إن كان الربط بين الاثنين قويًّا كما استشعرناه.

هناك كم هائل من الأعمال التي كُتبت عن معاداة أمريكا، كتبها في الأساس كُتَّاب في تخصصات التاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية.1 وكان الاتجاه نحو الدراسات التي تتناول معاداة أمريكا (أو على نطاق أوسع، المواقفَ تجاه الولايات المتحدة الأمريكية) من وجهة نظر أمة واحدة؛ فكانت الدراسات الفرنسية والكندية عن معاداة أمريكا، والتغير في المواقف تجاه أمريكا سواء داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو في الوطن شائعة بنحو خاص، مع ظهور عدد من الأعمال الجديدة في أعقاب تحول المواقف تجاه الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث ١١ / ٩.2 وعلى خلفية العولمة، ظهرت أعمال جديدة تركز على معاداة أمريكا من منظور مقارن، عادة في صورة مجموعة من المقالات تتعامل مع مناطق وأمم مختلفة.3 وقد قدم هذا التركيز على معاداة أمريكا عبر الأمم عمقًا جديدًا للظاهرة. ومع ذلك، فإن الرؤى الفعلية التي قُدمت حول هذه المشاعر تبدو وكأنها بقيت كما هي إلى حدٍّ كبير. هناك دراسات تحاول أن تشرح معاداة أمريكا وتبررها، ودراسات تعترف بوجودها، حتى لو كانت تعتقد أنها مشاعر في غير محلها أو مضللة، وتقدم طرقًا للتعامل معها لأغراض جيوسياسية. وقَدَّمَت دراساتٌ أخرى تقاريرَ حول التحولات في طبيعتها وتطورها عبر الزمن — وهي تقارير تكشف التغييرات المثيرة للاهتمام في طبيعة القوة الأمريكية في العالم — أو تصنيفًا لمستويات عمل معاداة أمريكا (المواقف تجاه الحكومة الأمريكية، والثقافة الجماهيرية الأمريكية، وما إلى ذلك). لا تبدو مشاعر المعارضة للقوة المهيمنة عالميًّا، مهما كانت طبيعتها، مفاجِئةً بنحو خاص؛ إن ما لم تعرضه كل هذه الدراسات هو جانب آخر من جوانب معاداة أمريكا أردنا أن نستكشفه وأن نفهمه؛ وهو الطريقة التي يمكن بها فهم معاداة أمريكا (وعدم وجود معاداة لأمريكا) بوصفها اشتباكًا (مهما يكن بنحوٍ غير واعٍ) مع الحدود الأيديولوجية للعولمة. بعبارة أخرى، إننا إنْ وضعنا في الاعتبار «الحد الزمني» للعولمة، فسوف نفهم معاداة أمريكا بوصفها بديلًا، أو عَرَضًا من أعراض التفكير في «ما بعد» العولمة حين كان هذا التفكير تحديدًا ممنوعًا، إن لم يكن خارج نطاق التصور.

على الأقل منذ حرب فيتنام، وبالتأكيد في أعقاب حروبِ ما بعد أحداث ١١ / ٩ في أفغانستان والعراق، أصبحت معاداة أمريكا شكلًا من أشكال الانتماء «السلبي»؛ صحيح أنه شكل ضعيف، ولكنه مع ذلك، وسيلة تؤكد مكان المرء في العالم عن طريق تحديدِ ما لا ينتمي إليه. نحن نعلم جيدًا كيف يكون تأكيد الهوية، وكيف تكون النتائج السلبية (الإقصاء والسلطة الأبوية) والإيجابية (مشاعر الارتباط والانتماء) المترتبة على مثل هذا التأكيد. لكن ماذا يعني «إنكار» مثل هذه الهوية؟ وما هو شكل ومضمون هذا الإنكار؟ هل يستطيع المرء، على سبيل المثال، أن يكون معاديًا لأمريكا دون أن يؤكد بهذا انتماءه القومي؟ (أو، فيما يتعلق بهذا الأمر، هل يستطيع المرء أن يكون أمريكيًّا ومعاديًا لأمريكا دون أن يكره ذاته؟) عندما طلبنا من المشاركين في المقابلات أن يتحدثوا عن معاداة أمريكا، كنا نحقق جزئيًّا في أنواع مشاعر الانتماء والارتباط التي كانوا يشعرون بها في هذا الوقت. وإن كنا سألنا فقط عن العولمة بنحو مباشر، وهو مفهوم ينطوي بالفعل بالنسبة إلى الكثيرين على نهاية لمثل هذه الانتماءات في مقابل بعض الأفكار العالمية المجردة، سواء كانت مرغوبًا فيها أو غير مطلوبة، كان من الممكن ألا تظهر هذه الأفكار والمُثُل.

تشكل معاداة أمريكا كذلك «خريطة» للأحوال السياسية الكبرى. في معظم الحالات، يكون مضمون معاداة أمريكا أقل أهمية بكثير من شكلها. عندما يُذكر شكل من أشكال التعبير عن معاداة أمريكا في شوارع مدينة أجنبية (أي غير أمريكية) في مقطع تبثُّه شبكة إخبارية تليفزيونية، يمكن أن يبدو غير منطقي، ومليئًا بالكراهية تجاه كيان موجود فقط بوصفه فكرة تجريدية: وهو أمريكا، وهي شيء آخر يخالف (ولكنه يشمل) حكومة الولايات المتحدة، وقادتها، ومواطنيها، وسياستها الخارجية، ومؤسساتها، وثقافتها، وحتى (ما بعد) الحداثة التي صارت مرتبطة بها مجازيًّا. لكن يمكن للمرء أن يرى الكثير من المعاني في مقطع إخباري، وبالتأكيد قد يراه بنحو غير صحيح. وكما تُظهر ردود الطلاب في دراستنا، كان من النادر الشعور بمعاداة أمريكا بهذا الشكل العشوائي وغير المبرر (تلك المعارضة لأي شيء وكل شيء أمريكي). عوضًا عن ذلك، من الواضح أن معاداة أمريكا تشكِّل خريطة جاهزة للقوة في العالم المعاصر؛ أي تفسيرًا من الدرجة الأولى لشبكات القوة والنفوذ السياسيَّين. إنها خريطة تربط القوة المادية والاقتصادية بالقوى الثقافية. وتقدم العولمةُ الآن خريطة من نفس النوع: لقد صارت مصطلحًا مختصرًا للوضع الذي أصبح عليه العالم الآن، وكيف سيكون حاله على الأرجح في المستقبل القريب على الأقل. وعلى الرغم من ذلك، فإن عمليات العولمة لديها ميل نحو تحويل القوى السياسية إلى قوة تاريخية، أو حتى قوة طبيعة؛ فليس هناك فاعلون مهيمنون في العولمة؛ فلا تقودها أو تشكلها أي مجموعة أو دولة؛ إنها ببساطة تظهر هكذا. وهذا جزء من قوتها الأيديولوجية. قد تبدو معاداة أمريكا غير مسايرة إلى حد كبير للتحليلات اللاهثة للحاضر والمستقبل السياسيَّين التي تدفقت في السنوات الأخيرة، وهي سياسة شكَّلَتها المفاهيم والنظريات التي تصرُّ على ظهور نظام جديد. إنها تبدو قديمة مقارنة بما يرتبط بكل ما هو عالمي، وهو مصطلح ومشاعر تتصل بلحظة سابقة من القومية الثقافية والاقتصادية، والمسرحيات المالية التي تتناول التنمية من خلال إحلال المنتجات المحلية محل الواردات، وما إلى ذلك. وعلى الرغم من ذلك، إذا كان هناك من يريد أن يستوعب كيفية فهم السلطة، تساعد دراسة معاداة أمريكا على كشف تنظيم العالم خلال حقبة العولمة بطريقة لا يمكن أن يقدمها تناول موضوع العولمة مباشرة. على الأقل، تمنح معادة أمريكا العولمة توضيحًا جديدًا، ليس بمجرد تسليط الضوء على الوظيفة الأيديولوجية للعولمة، بل لدفعها الأفراد إلى تدبرِ ما تغير بالضبط (إن كان هناك شيء قد تغير) عن كثب في عام ١٩٨٩.

لنكن واضحين: من خلال دراسة العولمة عن طريق تحليل جوانب معاداة أمريكا، لم تكن نِيَّتنا الحكم المسبق على طرق فهم المشتركين في المقابلات للعولمة؛ لوصفها مقدمًا، بعبارة أخرى، بأنها حيلة من حيل القوة السياسية. عوضًا عن ذلك، كنا نريد أن نحثَّ الطلاب على إخبارنا بكيفية عمل العالم من وجهة نظرهم، وكيفية انسجام أفكار العولمة مع عمل الكوكب، وما يعنيه ذلك بالنسبة إلى مستقبل الكوكب ومستقبلهم الشخصي على حدٍّ سواء. وكما ناقشنا في الفصل الأول، أصبحت معاداة أمريكا في السنوات الأخيرة من إدارة بوش جزءًا من مناقشة العولمة بأساليب شَعَرْنا بأننا لا يمكننا أن نتجنبها. لم نكن نتوقع من الطلاب صدًى للتعليقات القاسية للكاتب المسرحي هارولد بينتر عن الولايات المتحدة في خطاب قبوله جائزة نوبل في عام ٢٠٠٥، ولم نجد أي صدًى لها؛ حيث وصفها بأنها (ضمن أمور أخرى) «همجية، وأنانية، ومتكبرة، وقاسية … وأيضًا ذكية جدًّا.»4 كان اهتمامنا منصبًّا أكثر على فحص وجهات النظر — ما وصفناه بأنه نوع من «الحس العام» المهيمن — التي تدعم مقال جيمس تروب، الكاتب بمجلة «ذا نيويورك تايمز»، الذي «تَوقَّعَ» فيه تعليقات بينتر.5 فتَحْتَ عنوان «كراهيتهم المترفعة لنا»، يصف المقالُ الرؤيةَ السياسيةَ لبينتر بأنها «متطرفة لدرجة أنه من المستحيل تقريبًا كتابة محاكاة ساخرة لها.»6 يتخيل بينتر أن حرب العراق هدفها السيطرة على الموارد، وهو أحدث بند في قائمة طويلة من المغامرات (المصائب) الأجنبية الناجمة عن نزعات الهيمنة الأمريكية، ويصف القصف الأمريكي لكوسوفو بوصفه «عملًا إجراميًّا.» يقول تروب:

هذه الآراء مألوفة في الولايات المتحدة؛ يمكنك سماعها في أي حرم جامعي كبير. ومع ذلك، فمِن بين المفكرين أو الأدباء المشهورين، من الصعب التفكير في أي شخص، سوى ناعوم تشومسكي وَجور فيدال، لن يصيبه الغثيان بسبب آراء بينتر. ولكن الوضع مختلف تمامًا في جميع أنحاء أوروبا؛ حيث اليسار المُعادي لأمريكا أكثر احترامًا بكثير على المستوى الفكري.

ويتابع قائلًا:

إن كل هذا الحديث عن «المقاومة» و«معاداة الفاشية» يكشف أصول هذه السلالة الخبيثة من معاداة أمريكا: دعم نضالات «الحرية» في الصين وكوبا وفيتنام وزيمبابوي وأماكن أخرى. العراق، بعبارة أخرى، يُفرض على الشبكة القديمة «المعادية للإمبريالية» مع لعب البعثيين الساخطين دور الفيت كونج. قد يتبادر إلى ذهنك أن نهاية الحرب الباردة قد أنهت هذا الصراع المانوي، إلا أن أقصى اليسار لم يكن مستعدًّا للتخلي عن الوضوح الأخلاقي المبهج لتلك الحقبة.

يدرك تروب أنه «لا يمكن تقبُّل دولة مهيمنة مثل أمريكا الآن بوصفها فاعل خير؛ في الواقع، لا تستطيع دولة تضع مصالحها قبل كل شيء أن تعمل من منطلق الإحسان معظم الوقت.» وفي الواقع، يعترف تروب بأن الولايات المتحدة يمكن أن تحسِّن من صورتها بالالتزام بالقواعد الدولية والأسس التي وضعتها المؤسسات الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، والتي صدقت عليها معظم بلدان العالم واعتبرتها ملزمة لها. وفي نفس الوقت، يشير تروب إلى أن هناك بعض المميزات للمشاعر المعادية للولايات المتحدة، ولكنه يحاول أيضًا بكل جهده أن يوضح أن وجهات نظر بينتر وَناعوم تشومسكي وَجور فيدال وآخرين، ليست فقط خاطئة، ولكن غير منطقية كذلك؛ مجرد مزحة؛ وجهات نظر يسارية مضلَّلة وغير واقعية يتوقع المرء أن يجدها في الجامعات، وجهات نظر استطاع الطلاب الذين تفهموا السياسة الواقعية العالمية أن يتغلبوا عليها، حتى وإن كان أساتذتهم يبدون غير قادرين على ذلك.

أفضل طريقة يمكن من خلالها للولايات المتحدة أن تواجه مثل هذه المشاعر، وفقًا لوجهة النظر هذه، هي أن تتصرف على نحو أفضل في العالم. مَن يمكن أن يختلف مع هذا؟ إن المشكلة الحقيقية هي، بطبيعة الحال، لماذا لا تفعل الولايات المتحدة ذلك؛ فهناك سبب لعدم حضور الأشخاص المهيمنين دورات في الأخلاق، ولكن يبدو أن تروب لم يكن يعرف هذا على الإطلاق. إن الأخلاق ليست بديلًا عن التحليل البنيوي، إلا أن هذا يُحجب دائمًا بما يقدمه الحس العام عن العالم كمكان مكون من فاعلين أخيار وأشرار، يمكن فهم دوافعهم ونجاحاتهم، وأخطائهم المؤسفة بسهولة. إن معاداة أمريكا أمر غير شرعي، كما يرى تروب، ثم يقول إنه أمر مشروع تمامًا، وهذا هو سبب احتياجنا إلى اتخاذ إجراءات للتصدي له. وفي قلب هذه التناقضات، نجد خريطة العالم التي نراها متكررة في الخطابات الرسمية للنخبة السياسة: إن العالم في أمسِّ الحاجة إلى تغيير، ولكن فقط بأن يصبح أكثر شبهًا بما هو عليه بالفعل، أو ما «يمكن» أن يكون عليه، إذا كان في وسعه الاقتراب من حالة من الكمال (فلنفكرْ هنا في رأسماليةِ ما بعد أمريكا لِزكريا، أو الرأسمالية الليبرالية لِكروجمان، أو الرأسمالية الخضراء لِفريدمان، أو الرأسمالية الشعبية لِفلوريدا، أو الرأسمالية المختلطة لِكلاين).

هل يرى الجيل القادم العالَمَ على هذا النحو كذلك، مع بقاء العالم أسيرًا لهذه التناقضات؛ التناقضات التي تجعل المنطق والتحليل النقدي أمرين سيئين أو نوعًا من التطرف اليساري، والتي يمكن رفضها لعدم تقيدها بقواعد الحس العام؟

(٣) وضع خريطة للعالم

أي دراسة تنظر إلى بلدان يفصل بينها التاريخ والجغرافيا والظروف الاقتصادية (وما هذه إلا البداية فقط) تُظهر اختلافات لا يمكن التغاضي عنها. كان انتباه الطلاب الذين أجرينا مقابلات معهم في تايوان محولًا إلى الصين في الشمال؛ ليس بوصفها مكانًا يشهد توترًا جيوسياسيًّا، ولكن لأنها مكان قد يوفر لهم فرصة عمل بعد الانتهاء من دراستهم. ويرى الألمان أوروبا من وجهة نظر اللاقوميين الذين لديهم كامل مساحة القارة للتحرك خلاله؛ بالنسبة إليهم، تضاءلت الانتماءات القومية في كل مكان حتى أصبحت أوروبا أهم من البيت والوطن. بالنسبة إلى طلاب المجر وكرواتيا، توفر فكرة أوروبا فرصًا جديدة، على الرغم من أنها بالنسبة إليهم هي فرصة الأمن المالي والاستقرار، إذا كانوا محظوظين بما فيه الكفاية لمغادرة بلدانهم والذهاب إلى مكان ذي مناخ اقتصادي أفضل. ولا يثير دهشتنا أن طلاب كولومبيا وروسيا ما زالوا ينظرون إلى العالم من وجهة نظر أخرى حتى الآن. مثل هذه الاختلافات متوقعة.

ولعل ما يثير الدهشة أكثر هو «أوجه التشابه» التي وجدناها بين جميع الدول الست؛ فعبر الأنواع المختلفة من الجامعات (العامة والخاصة)، وحقول الدراسة المتمايزة (إدارة الأعمال، والفلسفة، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، وما إلى ذلك)، والفئات العمرية (١٨–٣٠)، والحالة الاجتماعية والاقتصادية (من الطبقات الدنيا إلى الطبقات المتوسطة العليا)؛ ما أثار دهشتنا على نحو متكررٍ الاهتماماتُ المشتركة للطلاب ونظرتهم للعالم الذي كانوا على وشك أن يخرجوا إليه بوصفهم أعضاءً مشاركين فيه وصناعًا للقرار. إن أوجه التشابه ليست أكثر أهمية من الاختلافات، ولكننا اخترنا أن نركز على أوجه التشابه وننظم رؤيتنا حولها. تتطلب هذه الاستراتيجية بعض المقاومة لما يمكن أن يسمى بأسلوب دراسات المناطق أو الأسلوب الثقافي، الذي يكشف اهتمام الباحثين بالتفاصيل التاريخية كيف تتصل وجهات النظر القادمة من مكان معين بالماضي الفريد لهذا المكان أكثر من اتصالها بأي قوًى مشتركة أعم. بعبارة أخرى، إن التركيز على الاختلاف عادة ما يؤدي إلى دراسة رأسية تكشف في النهاية عن سبب الخطأ في تحديد مثل هذه التشابهات التي تبدو واضحة بين الظواهر المعاصرة. ومن ناحية أخرى، غالبًا ما يفضي التركيز على التشابه إلى دراسة أفقية تكشف في نهاية المطاف عن سبب الخطأ في تحديد مثل هذه الاختلافات التي تبدو بديهية. ليس من الصعب أن نتصور إلى أين يقودنا هذا: لكل دراسة للتشابهات العالمية، يقف المؤرخ التقليدي ليثبت خطأها، ولإظهار سبب أن عدم وجود أي اهتمام بالتاريخ العميق من شأنه أن يهدد مثل هذه الدراسة الأفقية. وبالمثل، لكل دراسة عن الاختلافات، يقف عالم الاجتماع التقليدي ليثبت خطأها، وإظهار سبب أن خصوصية الحاضر تهدد هذه الدراسة العمودية.

نحن لا نرى أن أحد الأسلوبين أفضل بالضرورة من الآخر؛ فنحن نعترف بأن لكلٍّ من الأسلوبين مزاياه وعيوبه، فضلًا عن أن كل أسلوب متداخل مع الآخر، وأن ثنائية التحليلات الرأسية والأفقية نفسها غير مستقرة. ومع ذلك، في هذه المرحلة من خطاب العولمة، نجد أن الأكثر فاعلية على المستوى الفكري والسياسي استخدام الأسلوب الأفقي؛ ويعني هذا أن التركيز على التشابه أو الاختلاف هو في حد ذاته جدلي ويتوقف على الضرورات التاريخية المحددة التي يتم خلالها التركيز. لقد كانت هناك أسباب سياسية قوية للتركيز على الاختلاف في لحظات سابقة. لنأخذْ مثالًا واحدًا فقط: في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، بدأ بعض الباحثين الأدبيين في التركيز على الاختلاف باعتباره عملًا سياسيًّا استراتيجيًّا.7 عند الجدل بأن السرد النثري غير الغربي لا ينبغي أن يرتبط بسرعة بالرواية الغربية (كما كان يحدث كثيرًا في الدراسات الآسيوية والأفريقية، وكما يتضح من النُّبذات المفروضة الموضوعة على ظهر الكثير من الكتب المترجمة غير الغربية؛ مثل «تمامًا مثل ديستويفسكي»، و«فوكنر القادم»)، ظهر أن دعوات العالمية ليست أكثر من مساعٍ مستترة للهيمنة؛ ومن ثم، داخل دراسات المناطق والدراسات الأدبية في ذلك الوقت، كان فصل الاختلافات والتركيز عليها أحد طرق فضح العنف المتضمن في نظرية التحديث. ومع ذلك، بحلول تسعينيات القرن العشرين، فَقَدَ التركيز على الاختلاف ميزته التقدمية، وتَحوَّلَ إلى شكل رجعي من الانتقادات القائمة على العلوم الإنسانية، وهو شكل يسعى وراء التفرد والاختلاف الجذري بطريقة تتشابه ليس مع تلك الخاصة بالأشكال الليبرالية الجديدة للتعددية الثقافية فحسب، بل ومع الخطابات الأكثر خبثًا لإحياء الثقافة القومية الجديدة أيضًا. أصبحت المشكلة الآن هي كيفية تناول نقاط التشابه دون أن ننسى التاريخ القذر لقسم كبير من الرغبة المتعلقة بالاتجاه العالمي.

في الواقع، كان التشابه الأعمق بين الطلاب الذين قابلناهم هو غياب التأثر عند تعبيرهم عن حالة الشلل التي يعانون منها على المستوى الفردي والقومي. كانوا، بكل بساطة، «هادئين» عندما تحدثوا عن الوضع العالمي وكيف كان يبدو معطوبًا. إلا أن هذا الهدوء لم تكن تغذِّيه السخرية أو التهكم، ولا يعني هذا أنهم كانوا سعداء أو راضين، ولكنهم فقط كانوا يفتقرون إلى التصنع الذي لاحظناه في النقاد الذين تم تحليلهم في الفصل الثاني. وبدلًا من تجاهل هذا التأثر الضعيف وإرجاعه في جانب كبير منه إلى اللامبالاة وآثار نزع الصفة السياسية عن الرأسمالية العالمية، لا يسعنا إلا أن نتساءل إن لم يكن هناك شيء راديكالي فيه؛ شيء ينبهنا ليس فقط إلى عيوبنا، ولكنه يحتوي أيضًا على بذور ذاتية راديكالية أكثر.

وأسفرت الأسئلة التي طرحناها على الطلاب عن مجموعة واسعة من الإجابات، كانت غنية وواسعة النطاق بحيث لا يمكن أن نلخصها بأي وسيلة سهلة، والتي كانت تستحق بالتأكيد التحليلَ المقارنَ الأوسعَ نطاقًا الذي نقدمه هنا. وقبل أن نمرَّ على مناقشة لبعض النقاط الرئيسية التي أثيرت في المقابلات، تجدر الإشارة إلى ثلاثة محاور رئيسية ظهرت من خلال هذه المناقشات الستين التي تتعلق على نحو مباشر بالقضايا التي نناقشها في هذا الكتاب؛ وهي:
  • (١)

    «الطريقة التي تبدو بها الأمور»: يبدو أن الطلاب لديهم القليل من الاهتمام «الصريح» بخطابات الرأسمالية الليبرالية التي ناقشناها وحللناها في الفصل الثاني من الكتاب. وعندما يُبدون بعض الاهتمام أو يعبِّرون عن معرفتهم بهذه الخطابات، يرون أنها خطابات نُخَب لا تعني لهم الكثير. كان جميع الطلاب الذين قابلناهم تقريبًا يجيدون مهارات اللغة الإنجليزية وكانوا يدرسون في المستوى الجامعي (بعضهم في الجامعات التي تُخرِّج عادةً الطبقة السياسية القومية، مثل جامعة تايوان القومية وجامعة لوس آنديز في كولومبيا). في الواقع، كنا على استعداد للتحدث إلى الطلاب بلغات غير الإنجليزية (مع وجود مترجم أو باستخدام مهاراتنا اللغوية ذات الصلة)، إلا أن هذا لم يكن في بعض الأحيان مطلوبًا؛ مما أثار خيبة أملنا، وهو ما يعد دون شك عَرضًا واضحًا من أعراض العولمة. لكن بدا أنه لم تكن لديهم معرفة كبيرة بأعمال توماس فريدمان أو بول كروجمان، التي كنا نتوقع أنهم مروا بها في مرحلةٍ ما أثناء دراساتهم، سواء بِلُغتها الأصلية أو مترجمة.

    لكن هذا لا يعني أن الطلاب لا يجسِّدون الأيديولوجية المُعْرَب عنها في هذه الأعمال. كانت وجهات النظر القائمة على «الحس العام» الخاصة بالعالم، التي تشكل رؤى هؤلاء الطلاب وفهمهم وتوقعاتهم للعالم في واقع الأمر، إلى حد كبير، تلك التي نراها واضحة ومُعبَّرًا عنها في الخطاب الليبرالي الأمريكي. فبوصفهم مواطنين في عالمِ ما بعد الشيوعية، هم يعيشون في حقبةِ ما بعد الأيديولوجية. لم تكن قناعتهم بالطريقة المسيطرة على سير الأمور أمرًا مهمًّا؛ لأنه ليس هناك سوى الحاضر؛ فالاشتراكية بالنسبة إليهم فكرة غريبة بقدرِ غرابة عهد الملوك والملكات. وليست القضية هي الحاجة إلى إقناعهم بأن الرأسمالية هي أفضل شكل من أشكال التنظيم الاقتصادي؛ فهي ببساطة على ما هي عليه. مع الأسف، يدرك الطلاب أن الرأسمالية تؤدي إلى الظلم حتمًا، ويرون من وجهة نظرهم أنه على الدول أن تعالج جوانب الظلم هذه من خلال البرامج الاجتماعية، وهو أمر «أخلاقي» أكثر منه سياسي، وهو أمل أكثر منه توقع بأن حكوماتهم ستعمل بالطريقة الملائمة، سواء كان ذلك بسبب الفساد وعدم كفاءة القادة، أو بسبب القيود والحدود — خاصةً المالية منها — التي وضعت على عاتق عملية صناعة القرار القومي بسبب الانتماء لنظام عالمي. وباستثناء الطلاب الذين تم إجراء مقابلات معهم في ألمانيا، يَعرف هؤلاء الطلاب أن هناك شيئًا ما خاطئًا في هذا الحس العام. وبما أنهم يعيشون في بلدان لا تمتلك أنظمة رعاية اجتماعية قوية، أو تمتلك نظمًا اجتماعية واقعة تحت التهديد نتيجة الضغوط الاقتصادية والتنافسية (التي تنادي بتخفيض الضرائب على الأغنياء)، فيبدو العالم مكانًا يسوده عدم اليقين والتهديد. يؤمن الطلاب بوهم النظام الرأسمالي الليبرالي الذي يمكن أن يفيد الجميع إذا تم تطبيقه بطريقة سليمة، ولا يؤمنون به على الإطلاق؛ فمع عدم وجود روايات بديلة، يبدو التكوين الجيوسياسي الحالي لهم كأنه التكوين الطبيعي للأمور.

  • (٢)

    «الطريقة التي تسير بها الأمور»: عندما طُلب من الطلاب وضع الخطوط العريضة لطريقة تنظيم العالم — أي تحديد من يمتلك السلطة والنفوذ اللازمَين لتوجيه التطورات وتشكيلها، ليس في بلدانهم فحسب، ولكن على نطاق عالمي — قدموا عمومًا صورة متبصرة للعالم. في كل حالة تقريبًا، رَفَضَ الطلاب تقبُّل معاداة أمريكا أو العولمة ببساطة بوصفها أسماءً دالة على النظام الحالي لسير الأمور. كانت معاداة أمريكا تنقسم إلى آراء حول السياسة الخارجية الأمريكية، والقيم الأمريكية والمجتمع الأمريكي، والمنتجات الثقافية الأمريكية، وما إلى ذلك. يبدو أن خيبة الأمل أو الاستياء من السياسة الخارجية الأمريكية، وهو موقف يبدو عالميًّا، لا يمتلك أي علاقة أو ارتباط بسائر طرق تصوُّر تشكيل الولايات المتحدة الأمريكية للعالم وتأثيرها فيه. كما أن القلق إزاء الإمبريالية الثقافية عبر انتشار الأعمال السينمائية، أو التليفزيونية، أو الموسيقية الأمريكية — الذي كان شعورًا قويًّا بين الأجيال السابقة من الطلاب — اختفى نسبيًّا، إن لم يختفِ تمامًا. يمكن فهم فكرة أن الثقافة يمكن أن تتحول إلى سياسة بوسائل أخرى، إلا أنها لم تؤخذ حقًّا على محمل الجد.

    وماذا عن العولمة؟ لقد فوجئنا بربطها بالاقتصاد بنحو ضئيل؛ بمعنى أنها تدل على أن العالم تم دمجه الآن في نظام اقتصادي واحد. هذا ما عبَّر عنه الجميع وتقبلوه دون مناقشة بوصفه الكيفية الحالية لسير الأمور. كانت الإجابات المتعلقة بالعولمة من نوعِ تلك التي وردت ردًّا على أسئلتنا حول المفاهيم الأخرى الخاصة بالنظم الكبيرة، مثل الرأسمالية والديمقراطية ومعاداة أمريكا. كان الطلاب حريصين على إظهار أنهم عقلانيون، ولم يعبِّروا عن رؤًى حادة، ولكنهم لَجَئُوا لسرد الإيجابيات والسلبيات. تَجْمع العولمة العالم معًا، ما يعني تقليل سيطرة دولهم على عملية صنع السياسات؛ ومن ناحية أخرى، فإن حقيقة كون العالم أصغر تعني أنه توجد احتمالية لاستغلال الفرص المتاحة في الخارج. وتعني العولمة أن هناك منافسة أكثر من أي وقت مضى؛ ومن ناحية أخرى، يعني ذلك أيضًا أننا نستطيع أن نرى المزيد، ونقرأ المزيد، ونجرب المزيد من أجزاء أخرى من العالم أكثر من أي وقت مضى. لم يكن هناك مؤيدون لأيديولوجية معينة في المجموعة المكونة من اﻟ ٦٠ طالبًا الذين أجرينا معهم المقابلات. ولكن هذا التوازن الدقيق بين الإيجابيات والسلبيات يعني أيضًا أنه لم تكن هناك أي آراء يعتنقونها بقوة. ومجددًا، كان لدينا شعور بأننا نتحدث مع طلاب أذكياء وأصحاب فكر ثاقب، كانوا حذرين إزاء اتخاذ موقف غير الذي يؤكده الحاضر وعملياته، حتى وإن كان ذلك يتم بطريقة نقدية بعض الشيء.

  • (٣)

    «الخطوات التي يمكن اتخاذها»: على الرغم من أن الطلاب استطاعوا تقديم لمحة عامة عن السلطة العالمية، وعلى الرغم من مواقفهم الخاصة بوصفهم النخب الوليدة، يبدو أنهم كانوا ينظرون إلى العالم كما لو كانوا خارجه؛ بوصفهم مراقبين أكثر منهم مشاركين نشطين. وكان الموقف العام الذي أعرب عنه معظمهم، إن لم يكن كلهم، هو أن النُّظُم التي يتم من خلالها إنتاج نشاط الحياة على كوكب الأرض أكبر كثيرًا من أن يكون لهم أي تأثير عليها. ومن المثير للدهشة أن الآراء السياسية لم يتم التعبير عنها؛ إذ كان ينظر إلى الطبقة السياسية على أنها تتألف من مجموعة منفصلة من الفاعلين الذين كانوا هناك في الأساس لمصلحتهم الخاصة. هذا أمر مؤسف، إلا أنه ما يمكن أن يتوقعه المرء من السياسة الرسمية، وهو جزء من سبب تجنب الطلاب للتعبير عن الآراء السياسية. ماذا عن المستقبل؟ بما أن الطلاب لا يعتقدون بأن هناك الكثير مما يمكن لأي شخص أن يقوم به لتعديل أو تحسين سير الأمور، فقد شعروا أن المستقبل سيكون مثل الحاضر من نواحٍ كثيرة، أو ربما أسوأ بعض الشيء. وفي ظل هذه الظروف، ما يمكن القيام به هو أن يحاول كل واحد منهم تحسين ظروفه الخاصة (وربما وضع أسرته) بأي درجة ممكنة. كان التعليم يُنظر إليه بوصفه وسيلة لتحقيق هذه الغاية، على الرغم من أنه لا يضمن تحقيق نتائج إيجابية في عالم يُتصور أنه قد قدَّم من قَبل مسارات محددة ومستقرة أكثر في الحياة الاجتماعية.

نحن ندرك أن سياق المقابلة واتجاه أسئلتنا قد يكون قد ولَّد بعض الردود التي تلقيناها. وكنا حريصين على عدم إصدار تعميمات حول الاختلافات بين الأجيال، وخاصة تلك التي قد ترى أن الجيل الأصغر سنًّا يفتقر إلى بعض الصفات الأساسية التي (يفترض أن) تمتلكها الأجيال السابقة عليه؛ فمن الخطأ تحليليًّا توجيه الاتهام لجيل من الطلاب على أساس غياب بعض الجوانب لديهم، خاصة الأخلاقية أو السياسية منها. على الأقل، يمكن للمرء أن يطالب بتفسير وتعريف للأساس الذي يتم بمقتضاه تحديد هذا النقص أو الغياب، وهو ما سيؤكد على المطالبة بأن يكون البحث معياريًّا أكثر منه تحليليًّا.

بعد ذكر هذا كله، كيف بدا لنا الجيل العالمي؟ كان جيلًا ذكيًّا يفتقر إلى السوداوية، وعلى علم بمشاكل العالم، ولكن دون أن يمتلك أي رؤية لكيفية حلها، ولديه عدم يقين بشأن مستقبله؛ ومن ثَمَّ يعتمد على أيديولوجية الحس العام للِّيبرالية التي تقوم عليها العولمة لترسمه له. كما أنه مرتبط جدًّا بالحاضر، لدرجة أنه لا يستطيع حتى أن يتخيل أي مستقبل يحدده «ما بعد» الحاضر.

ومن أجل التعرف أكثر على شكل وهيكل وجْهات نظرهم، وخلافًا لموضوعات الشباب التي يتصورها فريدمان، أو فلوريدا، أو كروجمان، أو كلاين؛ نقدم هنا نقطتين كمدخل للمقابلات التي أجريناها؛ أولًا: نقدم بعض الأمثلة على الردود التي تلقيناها من الطلاب في بعض المجالات الرئيسية موضع الاهتمام من جانبنا؛ وهي: القومية، ومعاداة أمريكا، والجيوسياسة، والعولمة، والسياسة الثقافية المعاصرة، والرأسمالية، والمستقبل. ومن خلال هذه الأمثلة، نأمل أن نستطيع أن نصل إلى المشاعر العامة التي أعرب عنها الطلاب كمجموعة والسماح لبعض الاختلافات التي سمعناها بالظهور. ثانيًا: نقدم دراسات حالة «جغرافية حيوية» من مقابلات الطلاب الفردية؛ ثلاثة مواقف مختلفة للعالم تعطي مزيدًا من الشكل والمضمون للمزاعم التي نقدمها والنتائج التي عرضناها أعلاه.

(٣-١) المشاعر القومية

من المعروف أن العولمة تمثل نهاية الأمة، وربما هذا هو الحال إذا كان المرء يتصور أن الأمة هي السياق الوحيد الذي تُدرَّس وتُقدَّم القراراتُ السياسية والاقتصادية من خلاله. وفي إطار الانتماء الشخصي الذاتي لجماعةٍ ما، تظل الأمة، بالنسبة إلى الطلاب الذين أجرينا معهم المقابلات، هي المساحة التي ينتمي إليها الشخص وتعمل في إطارها حياته وتوقعاته. إن الجيل العالمي جيل قومي كذلك. إن تاريخ الأمة هو شكل سياسي قوي بنحو خاص لتحديد الهوية والانتماء؛ فبعد الأسرة، تبقى هي الطريقة الرئيسية التي نتصور من خلالها الانتماء الجماعي. إذا كانت الأمة هي «الجماعة المتصوَّرة» (كما يقول بنديكت أندرسون في تعبيره الشهير)،8 فهي تلك التي حصلت على قوة لا يمكن إنكارها من خلال المؤسسات والهياكل التي تعطيها شكلًا؛ وهي: المواطنة، والتعليم (من الترديد اليومي للنشيد القومي حتى التاريخ القومي في الكتب المدرسية)، ونظم الاستيراد/التصدير، ونظم الاتصالات (روايات أندرسون والصحف، بالإضافة إلى التليفزيون والإنترنت)، والأطر السياسية والقانونية، وجميع أنواع الممارسات اليومية المعتادة. (لا يجب أن نتفاجأ أن هذه القائمة تتشابه في بعض النقاط مع أجهزة الدولة الأيديولوجية لألتوسير.)9 يقرأ الطلاب حياتهم داخل الأمة؛ ومن ثم فهُم يهتمون بمصير أمتهم أكثر من وضع العالم أو تصرفات الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، فإن التمييز بين ما هو قومي وعالمي ليس محددًا تمامًا بالنسبة إلى الطلاب. في الواقع، إن صلابة الجانب القومي بالإضافة إلى القوة الراسخة للجانب العالمي فيما يتعلق بتشكيل الهوية هي تحديدًا ما نجد أنها مميزة بنحو خاص في اللحظة الراهنة. ويمثل هذا تناقضًا فقط في حالة توقع انخفاض قوة الجانب القومي في مقابل صعود قوة الجانب العالمي. ولكن تغيير «العلاقة نفسها» بين القومي والعالمي (وليس القوة النسبية لأحدهما في مقابل الآخر) هي الأهم. وفي هذه النقطة تحديدًا من هذه العلاقة المتغيرة يجد الطلاب أنفسهم، وقد تم التعبير عن ذلك بأكثر شكل معبر في ردودهم المختلفة.
مع وضع هذا في الاعتبار، ماذا عن شعورهم حيال أممهم؟ على الرغم من أن كلًّا منهم لديه أفكار مختلفة حول ما تعانيه أمته، فإن هذه الأفكار تندرج جميعًا ضمن مجموعة من النقاط المتصلة؛ عدم المساواة الاجتماعية، والفجوة بين الأغنياء والفقراء، وعدم وجود فرص محددة أمام الطلاب، وإساءة استخدام السلطة من قِبل السياسيين. ويُنظر إلى الأنظمة الرسمية بجميع أنواعها بأنها ترغب في الإصلاح وتحتاج إليه. وتقع بعض هذه المشكلات بسبب العلاقات الخارجية، ولكن بنحو عام، يرى الطلاب أن أممهم في حاجة إلى تحسين قومي (وليس عالميًّا، أو دوليًّا). يبدو أن أحد التنظيمات الاجتماعية الجديدة له قوة ومعنًى حقيقيان: أوروبا، وخاصة عندما يُنظر إليها بوصفها نمطًا جديدًا من التنظيم الاجتماعي يتنافس مع النموذج الذي صدرته الولايات المتحدة إلى العالم.10 وفيما يلي مقتطفات مما قاله بعض الطلاب في هذا الشأن:

أولًا كلنا مجريون. جميعنا مجريون أولًا ثم أوروبيون. لا تساعد وسائلُ الإعلام في هذا الصدد؛ لأنه في كثير من الأحيان نرى أن العناوين الرئيسية، وخاصة في الصحف الشعبية، تفصل المجر عن أوروبا. أعتقد أن هذا سيئ للغاية؛ فالهدف منه ليس تثقيف المجريين على الإطلاق؛ فنحن نرى جملًا من قبيل: «تتقدم أوروبا، ولكن هذا ليس حال المجر» (طالب مجري).

في الوقت الحاضر، من المعتاد التظاهر بأنه لا توجد مشاكل اجتماعية وسياسية ضاغطة تواجه بلادنا. بدلًا من ذلك، من المعتاد أن نقول إننا قد وصلنا إلى مستوًى معين من الاستقرار؛ ومن ثم، فإن استخراج أي معلومات عن المشكلات الفعلية مما يُصرح به رسميًّا صعب جدًّا؛ وإن كان على المستوى اليومي الشخصي والعملي لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن هذه المشكلات موجودة بالفعل. وقد يفاجأ المرء كذلك بحقيقة أن هذه المشكلات لا تتم معالجتها.

ولإعطاء بعض الأمثلة على ذلك، يمكنني أن أذكر قضايا لديَّ احتكاك بها: قضايا متصلة ببرامج الإعانة والضمان الاجتماعية. بادئ ذي بدء، إن مجرد وجود مجموعات غير محمية اجتماعيًّا لَهُو في حد ذاته مشكلة. ثانيًا، إن هيكل خدمات الإعانة الاجتماعية معيب؛ ففي كثير من الأحيان يجد المرء أن هذه الخدمات، في الواقع، لا تساعد الناس، بل تفاقم أوضاعهم، وهذا دون الخوض في كثير من التفاصيل (طالب روسي).

في المجتمع التايواني، لا تزال بعض الأماكن تقليدية جدًّا. إذا أصبحتَ ناشطًا مجتمعيًّا، فسيلقي مَن حولك باللائمة عليك لأنهم يعتقدون أنك تتسبب في حالة من الفوضى. إنهم لا يريدون الاحتجاج، وفي بعض الأحيان يرون أن ذلك ليس ما ينبغي عليهم القيام به؛ إن ذلك عمل أشخاص آخرين (طالب تايواني).

أعتقد أن أكبر مشكلة هي البطالة وهبوط مستوى المعيشة بسرعة كبيرة في السنوات العشر الأخيرة، أعتقد أن هذه هي أكبر مشكلة. هناك عدد قليل من الأغنياء، والطبقة الوسطى تختفي ببطء، وأعتقد أن قضية البطالة هي أكبر مشكلة. وهناك أيضًا مشكلات مثل الفساد المستشري في أرجاء النظام القضائي، والمستشفيات، وكل شيء؛ لذا أعتقد أن هاتين هما أكبر مشكلتين (طالب كرواتي).

أعتقد أنه من الصعب أو العسير علاج المشكلة؛ لأننا نعيش فعليًّا في مجتمع متطرف، فالأغنياء شديدو الثراء حتى إنك تستطيع أن ترى العديد من سيارات المرسيدس في الشوارع، ولكن الفقراء في الواقع شديدو الفقر. في ظل هذه الظروف، من الصعب حقًّا علاج هذه المشكلة، وخاصة في المجتمع التايواني. أعتقد أن معظم الناس يطمحون إلى الاستقرار؛ لأن تاريخ تايوان معقد للغاية. احتلت اليابان تايوان، وبعد الحرب العالمية الثانية جاءت حكومة الحزب القومي الصيني في الصين وتايوان، وخضعنا للاستعمار؛ لذلك أعتقد أن هذا هو أحد الأسباب التي تجعل الجميع يتوقون إلى الاستقرار، ولا يرغبون في التغيير أو إصلاح المشكلة (طالب تايواني).

بادئ ذي بدء، أعتقد أن هذه الحرب هراء. جماعات حرب العصابات في الوقت الحاضر ليست لديهم أيديولوجية؛ فهُم لا يبحثون عن عدالة أو سلام اجتماعي، بل يسعون فقط وراء المال. أعتقد أن أسلوب حرب العصابات هذا أصبح مجرد وسيلة لكسب العيش الآن: إنه مجرد عمل. أما عن الحرب، فأعتقد أنها ليست حقيقية كما قد تبدو؛ وأعني بذلك أن وسائل الإعلام، والرئيس، والأحزاب السياسية، والبيئة السياسية صنعوا منها شيئًا أكبر، فيربط الجميع نفسه بهذه الحرب حتى يستطيع استغلالها لمصلحته. يصنف الرئيس ووسائل الإعلام الناسَ إلى فئات: الأخيار والأشرار، الوطنيين وغير الوطنيين … أظن أن الرئيس يقدم لنا معضلة أمنية، إنه يقول لنا إننا نتعرض للهجوم والتهديد، في حين أن الأمر ليس بهذا السوء. لا يزال بوسعنا أن نذهب إلى الشواطئ، وقيادة سياراتنا، ولا يبدو أن تلك الجماعات منتشرة في جميع أنحاء البلاد. وتتفق وسائل الإعلام مع الرئيس؛ تقول لنا إن علينا أن ندعمه، ويجب أن نكره هذه الجماعات. لا توجد وسيلة أخرى لإنهاء الحرب إلا من خلال محاربتها. وأعتقد أن كلا الجانبين يعقدان صفقات فيما بينهما. لا أعتقد أنهما عندما يفكران فيما يدور بينهما يقولان: «مهلًا، هل نسميه سلامًا، أم نسميه حربًا؟» لا، أعتقد أنهم يهدفان إلى الاستفادة مما نواجهه الآن (طالب كولومبي).

أظن أن هناك فجوة كبيرة جدًّا بين الطبقة العليا في المجتمع والطبقة الوسطى، التي أعتقد أنها في طريقها للاختفاء في المجر. لا يوجد من يحصلون على رواتب متوسطة، والتي يمكن أن تكون متوسطة حقًّا بين أعلى راتب وأقل راتب؛ لذلك أنا أعتقد أن هذه مشكلة كبيرة (طالب مجري).

أعتقد أن المشكلة لا تزال مشكلةَ بِطَالة، هذا أكثر ما نشعر إزاءه بالقلق في السنوات الأخيرة، على الرغم من أن الوضع يتحسن. الآن نحن متفائلون جدًّا؛ فالسوق جيدة جدًّا الآن، بحسب اعتقادي. ثانيًا، بالنسبة إلينا جميعًا كل ما يهمنا هو كيفية العثور على وظيفة، حتى مع حصولنا على درجة جامعية. ولن يكون هذا سهلًا، خاصةً مع ما يتوقع منك من انتقال إلى الخارج أو إلى جزء مختلف تمامًا من ألمانيا. على الأقل هذا مصدر قلق بالنسبة إليَّ. أنا لست متأكدًا تمامًا مما ستكون عليه الأمور فيما بعد (طالب ألماني).

(٣-٢) معاداة أمريكا والجيوسياسة

كيف يفهم الطلاب دور الولايات المتحدة في العالم؟ وكيف يرون طبيعة الجيوسياسة؟ من جهة، يتشكل الجيل العالمي من خلال سياسة واقعية خاصة بطبيعة القوة العالمية. تسعى الدول القوية إلى تحقيق مصالحها الخاصة (وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بالحصول على موارد الطاقة)، كما هو متوقع، على الرغم من كل المبررات التي قد ينهالون بها علينا ليثبتوا عكس ذلك. إن الولايات المتحدة هي الدولة الأقوى في العالم؛ ولهذا فهي تعمل بما يخدم مصلحتها، وتتطلب فظاظة هذه الحقيقة مجموعةً من الدروع أو السُّتر الأيديولوجية التي تجعل السياسة الخارجية الأمريكية أقل عرضة للاعتراض عليها؛ أيْ مجموعةً من الإجراءات التي تقودها الأخلاق وليس تحقيق الأرباح والجشع والنظر إلى العالم بوصفه لعبة ذات مجموع صفري.

يعترض الطلاب على تصرفات الولايات المتحدة في العالم وتأثير هذه التصرفات على البلدان التي يعيشون فيها. أما بالنسبة إلى الأمريكيين «أنفسهم»؛ الشعب الأمريكي وليس الساسة، فهي جيدة في الأساس. يستطيع الطلاب الذين أجرينا معهم المقابلات أن يحللوا مشكلاتِ وحدودَ وأسبابَ المشاعر المعادية للولايات المتحدة في بلدانهم، التي تنشأ بنحو رئيسي بسبب الخلط بين السياسة الخارجية الأمريكية وأي شيء آخر قد يحمل الصفة «الأمريكية»؛ ومن ثم، فإن الولايات المتحدة أمة تعاني من انفصام في الشخصية — دولة شريرة وشعب طيب — بنفس الطريقة التي يرى بها معظم الطلاب حكومات بلادهم. «حكم الشعب، من جانب الشعب، ومن أجل الشعب» هو شيء يجب أن يحدث للشعب نتيجة للمرور بهذا الوضع. إن الأسس الفضلى التي تتوافق مع الفطرة التي قامت عليها الولايات المتحدة (العدالة والحرية للجميع) تضل طريقها بالمثل كلما تحركت الولايات المتحدة خارج حدودها الأساسية. لا يبدو الطلاب قلقين إزاء هذه الألغاز؛ حيث يرونها أوضح من أن تُذكر: هناك دائمًا شعوب طيبة وحكومات سيئة، وسلوك حسن داخل الوطن وسلوك سيئ في أماكن أخرى. فيما يلي بعض المقتطفات من آراء الطلاب حول هذه النقطة:

لكنَّ كلَّ مَن قابلتهم من الأمريكيين كانوا حقًّا أشخاصًا رائعين. لقد سمعت عن الرأي المتحيز القائل بأن جميع الأمريكيين أغبياء وغير مثقفين، ولكنني لم أرَ ذلك من خلال تجربتي معهم … ما الذي تمثله أمريكا؟ القوة، ونوعًا من الديكتاتورية حيال بقية العالم، وكونها شرطي العالم؛ هي ليست حتى شُرطيًّا؛ لأنه يفترض في الشرطي أن يكون عادلًا وخيِّرًا وما إلى ذلك، ولكنها مجرد ديكتاتور عالمي. هذه هي رؤيتي للأمر كله (طالب كرواتي).

أولًا، لا بد أن أقول إنني عشت في الولايات المتحدة لبضع سنوات، وقد وقعت في حبها لأنني عشت في الجنوب. إنها لا تشبه كولومبيا. أرى جدلية الجنوب والشمال وأرى انعكاسها في العلاقة بين أمريكا الجنوبية والولايات المتحدة. أشعر بالتعاطف مع الأمريكيين، ولكن ليس مع ما يفعلونه في النظام الدولي. لا بد لي أن أقول إنه عندما يتعلق الأمر بالسياسة، فإن الأمريكيين محترمون. إذا كنت في موقفهم، لكنت تصرفت بنفس الطريقة. ما فائدة السلطة إذا كنتَ لا تمارسها؟ كيف يمكنك ممارستها إلا عن طريق إخضاع الناس تحت إمرتك؟ أعتقد أنه عندما يتعلق الأمر بمجالات أخرى، يكون الأمريكيون لُطَفاء؛ فهم لديهم عقول متفتحة لفهم أن البلدان الأخرى ليست أمريكية ولديها طريقتها في التعامل مع الأمور. ولكن هناك شعورًا مستمرًّا بأن الأمريكيين يتعاملون مع الأمور على نحو أفضل (طالب كولومبي).

أقصد أن هناك بحسب اعتقادي رؤيتين أساسيتين في هذا الشأن؛ الأولى هي رؤية إيجابية للكونية والفردية والإنجاز الفردي. بالطبع، على الجانب الآخر، هناك الرؤية التي ترى أن الولايات المتحدة هي على الأقل نموذج الرأسمالية، وأنها القوة الإمبريالية الجديدة وما إلى ذلك. أعتقد أن الرؤية الثانية هي الأقوى في الوقت الراهن، وترتبط بالطبع بحكومة بوش. ولكنها كانت دائمًا موجودة، بحسب اعتقادي. وربما يعود هذا إلى بداية القرن العشرين على الأقل (طالب ألماني).

إنه أمر معقد. في تايوان نظن أن أمريكا صديقة لنا. في الواقع، قبل دخولي الجامعة، كنت أعتقد دائمًا أن أمريكا أمة جيدة، وأن الشعب الأمريكي يرغب في مساعدة تايوان على التطور، أو أي شيء آخر. ولكن في الآونة الأخيرة، غيرت رأيي لأنه كان رأيًا خاطئًا. كل ما تفعله أمريكا لتايوان يهدف إلى الربح. لا يمكننا أن نلقي باللوم على أمريكا لهذا السبب؛ فنحن من أسأنا الفهم. ولكن أعتقد أننا إذا استطعنا أن نتعاون مع أمريكا، فلن يكون ذلك سيئًا؛ حيث إن الوضع الاقتصادي في أمريكا أفضل منه في تايوان. إن تايوان جزيرة صغيرة، ولا يمكننا أن نتطور بأنفسنا. علينا أن نتعاون مع الدول الكبرى (طالب تايواني).

إنهم يريدون السيطرة السياسية لتكون وسيلتهم للوصول إلى السيطرة الاقتصادية؛ فهُم يريدون الموارد. إن قضية الموارد ستتزايد حدتها بمرور الوقت. وهم يحاولون أن يتستروا على سعيهم للسيطرة على الموارد عن طريق بعض الهراء الأحمق الذي، بالمناسبة، يبدو أنه مقبول على نحو كبير داخل الولايات المتحدة نفسها. يبدو أن الشعب الأمريكي غير قادر على تحليلِ ما يجري (طالب روسي).

الأخ الأكبر. أو يمكن أن أقولها باللغة المجرية؛ لا أعرف معناها باللغة الإنجليزية — [يقول عبارة باللغة المجرية] — ولذلك أظن أن أمريكا هي الدولة التي تريد أن تؤثر في كل شيء، ليس بنحو مباشر ولكن بصورة أساسية باستخدام قوتها الاقتصادية، ويمكنها أن تفعل ذلك، ولكنني لست متأكدًا من أن الولايات المتحدة تقوم بذلك بطريقة جيدة. وأعتقد أن الأسباب الرئيسية لتأثير الولايات المتحدة في العالم ورغبتها في التأثير على سائر الدول هي نموها الاقتصادي وثروتها الكبيرة (طالب مجري).

أما بالنسبة إلى الوضع العالمي، فأعتقد أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء موجودة كذلك. توجد دول فقيرة ودول غنية، والدول القوية تصبح أقوى وأقوى مثل الولايات المتحدة أو القوة الكبرى الناشئة المتمثلة في الصين. في الواقع، تمثل هذه الدول بالنسبة إليَّ مصدر تهديد أو تخويف. وأنا لا أُومِنُ بما يسمى السلام العالمي (طالب تايواني).

لم أذهب إلى الولايات المتحدة قط، ولكنني أود أن أزورها. بوصفي طالب إعلام، كان عليَّ أن أتعامل مع العديد من الأحداث الإعلامية التي جرت في الولايات المتحدة، وكان رائعا حقًّا بالنسبة إليَّ باعتباري طالبًا أن أرى كيف تعمل الديمقراطية والحرية وحرية التعبير هناك. في البداية، اعتقدت أنها رائعة وأنني أود أن أعمل هناك، وأعتقد أن هناك اعتقادًا مبتذلًا وقديمًا يقول بأن الولايات المتحدة هي أرض الفرص للجميع. أعتقد أن هذا ليس صحيحًا في الوقت الحاضر (طالب مجري).

عندما كنتُ صغيرًا، كان عندي بعض الأفكار الخيالية عن أمريكا؛ ولهذا السبب، ضمن أسباب أخرى، اخترت دراسة اللغة الإنجليزية. اللغة الإنجليزية هي رمز الطبقة الاجتماعية. عندما التحقتُ بقسم اللغة الإنجليزية، أدركت أنني أنأى بنفسي عن أمريكا. وفي الوقت الراهن، أنا أعارضها. أشعر بالتناقض. قبل ذلك، كانت أمريكا إسقاطًا مهمًّا لرغبتي، والآن، أجد نفسي بمنأًى عنها؛ على سبيل المثال، عند السفر إلى الخارج، أشعر بأن هناك تمييزًا عنصريًّا ضدي؛ حيث أُصنف عنصريًّا بأنني آسيوي. في أقسام اللغة الإنجليزية، تكون هناك مسافة بين الطلاب الذين يتخصصون في اللغة الإنجليزية وسائر الطلاب، وخاصة أولئك الذين لا يتحدثون اللغة الإنجليزية، أو الذين ينتمون إلى الطبقة العاملة. فهم يشعرون بأنهم في مكانة أعلى، وأنا لا أحب هذا، هذا التفاوت الاجتماعي.

عندما قرأت عن تاريخ تايوان والعلاقة بين أمريكا وتايوان والصين واليابان، أدركت أن الأمر ليس بسيطًا كما يبدو. لديَّ بعض الاعتراضات، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بقضايا التجنيد العسكري التي تُثار في تايوان. لماذا ينبغي علينا أن ننفق دائمًا الكثير من الأموال لشراء أشياء لا نحتاج إليها؟ لقد قيل لنا إننا نحتاج إلى ذلك لحماية أنفسنا من الصين. ولكننا وجدنا أن هذا ليس صحيحًا، الحقيقة ليست كما يقولون؛ فالوضع صعب جدًّا بين هذين البلدين. عندما قطعت أمريكا العلاقات مع تايوان، وأصبحت الآن لديها علاقات جيدة مع الصين، قد تظن أن الأمور ليست بهذه البساطة، فهناك مسافة منها. أعتقد أن الناس في مجتمعنا لا يزالون، باستثناء بعض المنظمات المناهضة للإمبريالية، يصدقون كل ما تقوله لهم أمريكا. ثقافيًّا وسياسيًّا، لا يزال معظم الناس مرتبطين بعلاقات قوية مع أمريكا ويعتقدون أن أمريكا سوف تحمينا من الصين. ثقافيًّا، نرى أن المزيد والمزيد من الناس في تايوان يتعلمون اللغة الإنجليزية، وهم يعتبرون الثقافات الأمريكية أمرًا مسلمًا به؛ فهي تسيطر على صناعة الثقافة عندنا (طالب تايواني).

لا أعتقد أنها سيئة أو جيدة، إنها لديها منطقها الخاص، وهي تعمل على تحقيق مصالحها، وفي بعض الأحيان تحاول إدخال الديمقراطية إلى العالم، ولكن دائمًا بما يخدم مصلحتها. يمكن أن يفعلوا ما يريدون؛ فهم يوقعون اتفاقات مع المكسيك والعراق، وآخرين لا أعرفهم، ولكن كل هذا يخدم مصالحهم الخاصة؛ مصالح الشعب الأمريكي. نحن جميعًا أمريكيون. أنا لا أحب أن أحكم عليهم، بل أفضِّل أن أحكم على موقفهم من أمريكا اللاتينية، والمملكة العربية السعودية. نحن لدينا مشكلة، أما هم، فلا (طالب كولومبي).

هل تختلف هذه الأفكار حول الولايات المتحدة اعتمادًا على وضع صاحبها في المجتمع؟ كان معظم الطلاب يرون ذلك، معتبرين أن الطبقات الدنيا وأولئك الذين يعيشون خارج المدن أظهروا أكبر قدر من العداء للولايات المتحدة، في حين توافقت مصالح النخب مع الأفكار والقيم الأمريكية. فيما يلي بعض الأمثلة:

يمكن للمرء، بالطبع، أن يفترض أن معاداة أمريكا في المناطق النائية أقوى، بينما تضعف في المدن الكبيرة، ولكن من الصعب التحقق من هذا. وبقدرٍ ما تسير بنا العلاقة بين معاداة أمريكا والطبقة الاجتماعية … إذا نظرنا للطبقة ذات الدخل المنخفض من السكان، فسنجد أن عداءهم لأمريكا قوي، وكذلك كراهيتهم لكل ما هو أجنبي. وفيما يتعلق بالطبقة الوسطى، إذا كان لها وجود، وهو أمر محل جدل، فيبدو لي أن موقفهم أكثر عقلانية: صحيح أنه موقف حرج، ولكن من دون اتهامات نمطية تعميمية. أما بالنسبة إلى النخبة، فمن الصعب بالنسبة إليَّ أن أحكم على مواقف مجموعة لم يسبق لي أن أنتمي إليها، ولا أملك حتى رفاهية الأمل في الانتماء إليها في أي وقت [يضحك]. أعتقد أن موقفهم متسامح، وكأنهم شركاء لهم (طالب روسي).

الجميع متأمركون! أعتقد أن من ينتمون إلى الطبقات المتوسطة والطبقات العليا خاصةً أكثر تأمركًا. في الواقع، نعرف كيفية تصنيف الناس لا شعوريًّا؛ كلما زادت الأمركة، زاد المستوى الاجتماعي، لا سيما بين طبقات الشباب (طالب كولومبي).

هل هناك أي إمكانية لحدوث تغيرات في الولايات المتحدة يمكنها أن ترأب الصدع بين الشعب الطيب والسياسة الخارجية السيئة لحكومتهم؟ هناك بعض الخلاف حول هذه النقطة. يبدو أن القليل من الناس (انظر قسم «المستقبل» أدناه) يعتقدون أن فوز مرشح ديمقراطي في انتخابات عام ٢٠٠٨ و/أو انتخاب باراك أوباما تحديدًا من شأنه أن يؤدي إلى حدوث تغييرات. ولم يكن البعض الآخر على يقين من ذلك. على أي حال، فإن رياح التاريخ والتغيرات التي أتى بها القرن الحادي والعشرون جاءت بتحديات جديدة تنتظر الولايات المتحدة، وكذا تحول في طبيعة القوة الجيوسياسية. فيما يلي بعض رؤى الطلاب حول هذه النقطة:

لقد أصبحتُ أتوقع نفس الشيء، حتى لو تغير من يرأس الحكومة. بالإضافة إلى ذلك، هذه الحكومة ليست حكومة الرجل الواحد، ولكنها أكبر من ذلك. حتى لو كانت هناك أفكار جديدة من المنتظر أن يأتي بها أوباما، فإن الهيكل المحيط سيحاول أن يمنع تلك الأشياء الجديدة من العمل. تلك الأشياء الجديدة التي من الممكن أن ينفذها في سياقات أخرى، لن تسمح بها الحكومة. لا أعتقد أن هذا سيغير العلاقات بين الولايات المتحدة وكولومبيا. أعتقد، أن التغيير إذا حدث، فإنه سيكون في القضايا الاقتصادية بدرجة أكبر (طالب كولومبي).

أعتقد أنهم قد شعروا بأن اقتصادهم عرضة في أي وقت للانهيار؛ علاوة على ذلك، ومثل أي بلد آخر، فبلدهم عرضة لنضوب موارده؛ لذا فقد استشعروا نوعًا من عدم اليقين، وعدم الاستقرار، وهو أمر لم يعتادوه. كان هناك عدم استقرار في النصف الأول من القرن العشرين، لكنهم تعاملوا معه، ويبدو أنهم ظنوا أنهم قد تعاملوا معه للأبد. ولكن الحياة أظهرت أنه ليس هناك شيء دائم. وعلى الرغم من قدرتهم في الماضي على سحب الموارد من روسيا وغيرها من البلدان دون حسيب أو رقيب تقريبًا، فقد بدأت هذه الدول في الوقت الراهن في وضع شروطها الخاصة، والحد من هذه الصادرات. لا يرغب الأمريكيون في ذلك؛ لأنهم حسبوا مقدار ما يحتاجون إليه، وهم حاليًّا لا يحصلون على ما يكفي؛ ولذا فما لم يُقدَّم لهم طواعية، سيحصلون عليه بالقوة (طالب روسي).

ما الذي تمثله أمريكا في عالم اليوم؟ سياسيًّا، أعتقد أنها القوة العظمى الوحيدة الباقية، ولكنها ليست القوة الوحيدة الباقية؛ لذلك، أظن أنها في مرحلة انتقالية جديدة. بعد الحرب الباردة، كان من الواضح أن أمريكا منتصرة نظامًا وروايةً، ولكن أصبحت على الفور تحت ضغوط روايات وقوًى مختلفة، وأصبح عليها أن تلجأ إلى نوع من أنواع التلاعب. ما الذي سيأتي في المائة سنة القادمة؟ أعتقد أن هناك قوًى جديدة ستنشأ مثل الصين، وستظهر روايات جديدة مثل أوروبا، وسوف يتعين على الولايات المتحدة — أعني الشعب الأمريكي والثقافة الأمريكية والسياسة الأمريكية — الاختيار بين عزلة جديدة وحل وسط جديد؛ إلى أي مدًى سيشتركون في الروايات الأخرى ويتعاونون مع القوى الأخرى، وإلى أي مدًى سينسحبون من المجال السياسي لأنه ليست جميع المشاركات جيدة (طالب ألماني).

(٣-٣) العولمة

يشغل مصطلح العولمة عقولنا (بقدرِ ما نرغب في التخلص منه)، وهو مصطلح منتشر في كل مكان في الحياة الأكاديمية، وأيضًا، حتى لو بدرجة أقل، في وسائل الإعلام المطبوعة. لقد وجدنا اهتمامًا أقل بالعولمة في مقابلات طلابنا، سواء بوصفها عملية أو نظامًا أو أيديولوجية. وباعتبار هؤلاء الطلاب جزءًا من النخبة الناشئة، وبوصفهم مشاركين في المجتمعات الجامعية التي تضع هيكل الأجندة الأيديولوجية وتشارك به في كل منطقة وبلد، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية والفهم المحلي للشئون الدولية، كنا نتوقع أن يبدو مصطلح العولمة مألوفًا لهم بنحو أو بآخر. ولكن ردود أفعالهم تجاهه كانت ضعيفة، فوجدنا أنفسنا فجأة نوقف المقابلات، ونبدأ مسابقة تطلب منهم وضع تعاريف دقيقة للمصطلح.

أشارت سلسلة الترابطات التي وجدت في هذه التدريبات التعريفية إلى أن العولمة هي عملية واحدة حتمية مُعَرِّفة لحقبةٍ ما. إنها تمحو الحدود، وتوحدها، وتبسطها، وتقضي عليها، وتولد خسارة: إنها تؤدي إلى شيء واحد مما كان ذات يوم أشياء متعددة. كيف ذلك؟ التكنولوجيا والاستهلاك والأسواق. إن العولمة هي الشيء الذي يتطلب تقييمًا معياريًّا: هل هي شيء جيد؟ أم سيئ؟ وعلى الرغم من ذلك، فهي في النهاية تدريب لا طائل منه: إنها تحدث سواء تَحرَّك أي شخص لفعل شيء حيالها أم لا. إنها ظاهرة خلفية ضبابية، الأساس الذي يقف كل شيء حياله كرقم، وهي تختلف عن الجيوسياسة، التي تُعَد الساحة التي تقع أحداثها عليها. يَعتبر هؤلاء الطلاب مفهوم العولمة بوصفه تدريبًا أكاديميًّا يُنظر إليه قليلًا بعين الارتياب. إذا كان هناك من يريد أن يفهم العالم، فعليه أن ينظر في لعبة السياسة بين القوى العظمى، والتي تعني للجيل العالمي أن الولايات المتحدة هي المسئولة عن الإدارة حتى يتمكن آخرون من اللحاق بها (الصين تلوح في الأفق). أما ما لا يلاحظونه دائمًا، أو على الأقل ما يبدو أنهم يتقبلونه، هو أن هذه اللعبة تُلعب الآن بنفس القواعد، في كل مكان وبجميع الأطراف المشاركة. فيما يلي بعض رؤى الطلاب حول هذا:

إنها عملية عالمية لمحو الحدود الثقافية. إنها عملية تشكيل مجتمع مشترك موحد؛ على سبيل المثال، مثلما يحدث في الاتحاد الأوروبي. بقدرِ ما أفهم، لديهم معايير اقتصادية وقانونية مشتركة؛ وهناك اختلافات طفيفة، ولكنهم بنحو عام يحاولون توحيد هذه المعايير، ولا سيما الاقتصادية منها، بحيث تصبح الحياة أبسط: توحيد تأشيرات الدخول والرسوم الجمركية وغيرها من الأمور المماثلة من أجل إزالة الحدود التي تعوق النشاط والتبادل (طالب روسي).

إن العولمة هي عملية توحيد تؤدي إلى فقدان التنوع الثقافي. وغالبًا ما يتم تناول العولمة بنحو إيجابي، وأنا أعتقد أنها ظاهرة سلبية؛ لأنها تقضى على تفرد الثقافات والبلدان والعقليات. وهي تشكل ثقافة ومجتمعًا متوسطَين، لا طابع مميز لهما، ورماديَّين (طالب روسي).

هذه هي المشكلة. أعتقد أن الولايات المتحدة موجودة هنا في كولومبيا. مع العولمة، يريد الجميع المزيد والمزيد من التكنولوجيا والاستهلاك. أعتقد أن الناس لا تعي ذلك جيدًا. لقد عشت في لندن، ورأيت أن الناس ليس لديهم أي أشياء طبيعية، فهم لا يهتمون كثيرًا بالنظام البيئي. هنا، لدينا كل شيء، ولكن لا أحد يهتم بذلك. في بلدان أخرى، ليس لديهم ذلك؛ ولذا فهم يهتمون كثيرًا بذلك. هذه المنظمات هي أفراد من الخارج يحاولون حماية هذا الأمر (طالب كولومبي).

نحن نتعلم تعريفات العولمة في دورات التسويق؛ لأنها تتناول … منتجات عالمية، وشركات عالمية مهمة؛ على سبيل المثال، تبيع محالُّ ماكدونالدز الأسماك في فنلندا، ولا تقدم لحوم البقر في الهند (طالب مجري).

إنها عملية توحيد للثقافات والدول واختراق متبادل بينها، وإنشاء لحقل ثقافي واقتصادي وسياسي واحد، ما هي؟ (طالب روسي).

أعتقد أنها جزء من النظام الجديد هذا، إنها — لا أعرف — رابطة عالمية. أنا لا أعرف كيف أسميها. بها أجزاء جيدة وأجزاء سيئة. أعتقد أن الناس يخشون أنهم سيخسرون أنفسهم في هذا النهر الكبير من الناس، وأنا أعتقد أن هذا مصدر الخوف من العولمة. نحن الآن جميعًا مرتبطون بعضنا ببعض بالفعل، ويمكن أن نتصل بأي شخص في ثانية واحدة (طالب كرواتي).

أعتقد أن هذا المفهوم غامض في جوهره وغير محدد، ويستخدمه علماء الاجتماع والاقتصاد في وصف الأحداث الجارية. بعض العمليات، عمليات الدمج أو التمييز، تتم، وقد كانت موجودة من قبل. ولكن حتى يكونوا قادرين على التحدث عن هذه العمليات، وتعقبها ودراستها، وافقوا على استخدام مصطلح «العولمة».

يمكن أن يندرج أي شيء تقريبًا هنا: دمج الانتماءات العرقية المختلفة، ودمج الجماعات العرقية المختلفة في الدول المتعددة الأعراق (أي الدول التي تحتوي على عشرات الجماعات العرقية المختلفة)؛ وهي العملية التي تتم حاليًّا في الثقافة بنحوٍ عامٍّ وفي الثقافة الفنية على وجه الخصوص؛ أي اختلاط الثقافات الروسية والأوروبية والأمريكية، اختلاط التقاليد. يبدو لي أن هذه العمليات لم يتم استكشافها ودراستها بنحو جيد. وإذا استمر هذا الوضع، فإن مفهوم العولمة سيشوه سمعته بنفسه (طالب روسي).

نعتقد أن هذا الطالب ربما يكون على صواب.

(٣-٤) السياسة الثقافية المعاصرة

أشار أحد الطلاب المذكورين أعلاه إلى أن العولمة تؤدي إلى «ثقافة ومجتمع متوسطَين، لا طابع مميز لهما، ورماديَّين.» المعنى واضح: فالثقافة تصبح أقل إثارة للاهتمام بسبب العولمة. هل تقدم العولمة مفردات جديدة للمخاوف القديمة بشأن الإمبريالية الثقافية؛ إعادة تشكيل الثقافة باستخدام ثقافة أخرى، أكثر قوة، تكون على اتصال بها؟ هل الثقافة هي المكان الذي يكون الوجود الأمريكي فيه في أقوى صوره؟

عندما يتعلق الأمر بوصف الثقافة الجماهيرية ومنتجاتها والممارسات التي تولدها بأنها «أمريكية» تحديدًا، يمكن لهذا الخلط التحليلي أن يبدأ في الانتشار. صحيح أن الأفلام التي يتم إنتاجها في الولايات المتحدة تعد منتجًا تصديريًّا ثقافيًّا كبيرًا، ولكن ربما يكون من الخطأ وصف النزعة الاستهلاكية إجمالًا بأنها أمريكية بالكامل وبنحو نهائي. لقد بدا أن عددًا قليلًا فقط من الطلاب يشعرون بالقلق إزاء وجود منتجات أمريكية في دور السينما أو المحطات الإذاعية في دولهم، على الأقل عندما يتعلق الأمر بأي تأثير اجتماعي واسع النطاق قد يكون لهذه المنتجات. يعترف الجميع بوجود مستويات عالية من استهلاك المنتجات الثقافية الأمريكية؛ يرغب معظمهم في فصلِ مثل هذا الاستهلاك عن السياسة، تمامًا مثلما يريدون إصدار حكم حول قيمة هذه المنتجات، والمنتجات الثقافية الجماعية بنحو عامٍّ أكثر. لقد استمعنا إلى مخاوف بشأن الهيمنة المستمرة للولايات المتحدة على الثقافة؛ تمامًا كما سمعنا كثيرًا أن هناك الكثير من الروايات الثقافية المحلية التي يمكن أن نعرف عنها ونستهلكها، حتى لو كان هذا الاحتمال يعوقه أحيانًا (على سبيل المثال) ضيق الوقت الممنوح لعرض الأفلام القومية على الشاشة أو اهتمام وسائل الإعلام بالفِرَق الموسيقية المحلية. فيما يلي نماذج من آراء الطلاب حول هذا:

يُنظر إلى أمريكا ببساطة بوصفها المصدر الرئيسي للروايات الثقافية؛ هذا ما نعتقده، وهذا ما نعيش في إطاره، فنحن نشاهد قناة إم تي في وبرامج الواقع، ولكن لا يوجد علاقة لذلك بالسياسة، لأننا لا نرى في ذلك شيئًا سياسيًّا (طالب ألماني).

كل شيء مرتبط بوسائل الاتصال ووسائل الإعلام التليفزيونية الضخمة. استهلك، واستهلك، وَزِدْ من استهلاكك. إن موسيقى البوب فقيرة للغاية. يمكنك أن تستمع إلى موسيقى باسيفيك وما لها من معنًى حقيقي. الآن يؤلف الجميع الموسيقى لكسب الأموال. أنا أكره البرامج التليفزيونية الأمريكية، فهي غبية للغاية. ليس عليك القيام بذلك؛ على سبيل المثال، مع الأفلام الفنية، عليك أن تتفكر في الفيلم وتُنعم الفكر فيه؛ أما بالنسبة إلى الأفلام الأمريكية، فليس عليك أن تفكر، كل ما عليك فعله هو أن تضحك على الأشياء الغبية. هذه هي الثقافة التي يريدونها، أن يبقى الناس أغبياء ليبقوا عليهم تحت السيطرة (طالب كولومبي).

أعتقد أنها مختلفة. يمكننا أن نضحك أو نبكي عندما نشاهد الأفلام الأمريكية، ولكن هناك شيئًا ما في الأفلام المجرية يشير إلينا، ونحن نفهمه. هناك فيلم عن رجلين كبيرين في السن يصاب أحدهما بالجنون لأنه لا يستطيع أن يدفع فواتيره ويفلس. رجلان من كبار السن، ويقومان بسرقة البنوك. هذا نموذج للواقع المجري، وهذا ما نحن عليه. لا يكفي المعاش نفقات الحياة (طالب مجري).

نحن لا نصدق أي سياسي في تايوان؛ لذلك فنحن نشاهد برامج التليفزيون، خاصة البرامج الحوارية. وهناك العديد من البرامج الحوارية السياسية في تايوان؛ ولذا لا نهتم بذلك الآن كثيرًا (طالب تايواني).

إذا كنت تقرأ الصحف اليومية هنا في كرواتيا، فستجد أخبارًا عن باريس هيلتون أكثر من أخبار الفنانين الكروات الذين يمتلكون شهرة عالمية، وهذا ما يجعلني غاضبًا حقًّا، ولكن كما قلت لك ليس لديك خيار، وأعتقد أن الأمور تقريبًا متشابهة في سائر دول العالم، أو في أوروبا على الأقل (طالب كرواتي).

إنها تلعب دورًا ملموسًا إلى حد كبير، تخترق الثقافة الأمريكية على نحو نشط الثقافة الروسية، وتأثيرها واضح؛ المفاهيم والنماذج الأمريكية للتجارة والغذاء والأزياء والترفيه (معظم الأفلام المعروضة في دور السينما أمريكية). نحن مدعوون للذهاب للعمل في أمريكا، والذهاب لقضاء الإجازة في أمريكا، والانتقال للتعلم في أمريكا (طالب روسي).

لا أظن ذلك. إنها قَطعًا ليست مصدرًا للقلق. إنها مجرد ثقافة شعبية، كما تعلم. هناك بعض العناصر هنا، ربما يحاول الكثير من التقليديين صنع مثل هذه الروابط، وربما يهاجمونها. ولكن مرة أخرى، من وجهة النظر المناهضة للنزعة الاستهلاكية، هناك هذا الربط، وربما يشير إليه أحد الأشخاص في بعض الأحيان، ولكن لا أعتقد أن هذه قضية مهمة على النطاق الاجتماعي الأكبر؛ إنها ليست قضية (طالب كرواتي).

يريد الجميع أن يشتري أشياءَ جديدة، أشياءَ تتعلق بالموضة. كما هو الحال في الولايات المتحدة، تزداد شهرة بطاقات الائتمان. نحن لدينا أمريكان إكسبريس هنا أيضًا؛ لذا يمكننا أن ننفق المال بسهولة، ثم نفكر في الشهر التالي في كيفية دفعها. هذا هو تأثير العولمة، ولكنني لن أقول إنه تأثير الولايات المتحدة. يحدث هذا في كل مكان من اليابان إلى الولايات المتحدة. يريد الجميع أن يشتري أكثر وأكثر؛ لأن هناك خيارات أكثر عامًا بعد عام؛ فنحن نطور الكثير من الأشياء الجديدة عامًا بعد عام مثل أجهزة الكمبيوتر. وفي العام التالي تصبح هذه السلع لا تساوي شيئًا؛ لذا لدينا مشكلات مع النزعة الاستهلاكية (طالب مجري).

(٣-٥) الرأسمالية

على مدى السنوات الثلاث التي استغرقها هذا المشروع، في مختلف البلدان التي لها ماضٍ من الشيوعية (كرواتيا، والمجر، وروسيا)، وتلك التي شهدت نموًّا رأسماليًّا شديدًا (ألمانيا خلال خمسينيات القرن العشرين التي شهدت المعجزة الاقتصادية الألمانية، وتايوان النمر الآسيوي الكبير)، لم نسمع رؤية واحدة من دون تحفظ للرأسمالية بوصفها نظامًا اقتصاديًّا. أعرب الطلاب عن مشاعر عدم الارتياح تجاه الرأسمالية والرغبة في إقامة نظام اقتصادي (واجتماعي) مختلف، أو أعربوا عن ارتياحهم إزاء الفردية والمنافسة الناتجتين عن الرأسمالية، ولكن فقط مع اتباع آليات السياسات المناسبة لتعويض تأثيرها الذي يكون قاسيًا في بعض الأحيان على الأفراد والمجتمعات. كان يُنظر للرأسمالية بوصفها نظامًا عالميًّا، ولكنه نظام تختلف خصائصه من بلد إلى بلد، هذه الخصوصية التي تقاس بمقياس متدرج من «الرأسمالية الخالصة» إلى الرأسمالية الاسكندنافية. كانت الاشتراكية أو الشيوعية خارج هذا النطاق الخاص؛ فهي مصدر للأفكار السياسية، الأنظمة السابقة التي يمكن للمرء أن يقترض منها المكونات، ولكنها ليست الشيء الذي قد يختار المرء أن يعيد تطبيقه بالكامل. وكان هناك تصور أن الولايات المتحدة أقرب إلى تطبيق الرأسمالية الخالصة؛ حيث أراد جميع الطلاب الذين قابلناهم أن يكونوا مع السويديين والفنلنديين.

لم يكن واقع الرأسمالية العالمية محل شك من قِبل أي أحد. وأصبح السؤال هو: هل هي واقع علينا أن نناضل ضده أم نستوعبه؟ كان بعض الطلاب راغبين في القتال، وإن كانوا متشائمين حول النتيجة المحتملة؛ إذ كانت الأغلبية ترى أن مهمتها ومهمة الأمم هي التعامل مع الواقع الحالي ومعرفة كيفية الحصول على أكبر استفادة من النظام الاقتصادي الوحيد المتاح لهم. «شئنا أم أبينا، علينا أن نوافق عليه لعدم وجود خيار آخر.»11 ليس هذا كلام أحد طلابنا، ولكنه تقييم آلان باديو لكيفية فهمنا للرأسمالية في أعقاب «فشل» الاشتراكية، وهي عبارة تشير على نحو موجز لوجهة النظر فيما يتعلق بالرأسمالية التي سمعناها في أماكن مختلفة من العالم:

ما لا أحبه في الرأسمالية القادمة إلى هنا هو رؤية الشباب الذين يعيشون تحت كم هائل من الضغط، ويضطرون إلى العمل لفترات طويلة جدًّا من أجل الحصول على المال. هناك أشخاص يتقاضون رواتب جيدة، مثل مديري الشركات الكبيرة، ولا يملكون الوقت الكافي لإنفاق أموالهم. أعتقد أن الأمر هنا أيضًا صار يشبه سباق الجرذان بدرجة متزايدة. حتى الشباب ليسوا مستعدين لذلك، ويبدو هذا نظامًا غير عادل تمامًا بالنسبة إليَّ. لقد أصبحت الحياة مجرد عمل، وعمل، وعمل، دون أي متعة، فيما تشاهد صورًا تأتي لنا من الغرب، تطالب بذهابنا لعطلة في كوبا أو في أي مكان آخر. القضية أنك لا تمتلك الوقت الكافي للقيام بذلك، بغض النظر عن حجم ما تكسبه؛ لذلك فقد أصبحت الأمور سلبية للغاية. كلما تحدثت إلى أصدقائي، نتطلع دائمًا لمجتمع يكون اشتراكيًّا أكثر. لقد كانت بعض الأشياء في الشيوعية جيدة حقًّا. أعتقد أننا يجب علينا أن نعيدها من جديد، ولم يكن من المفترض أن نتخلص منها بسهولة كما فعلنا (طالب كرواتي).

أنا لا أريد تطبيق هذه الشيوعية — أبدًا، إطلاقًا — وعليه، أعتقد أن الرأسمالية هي النظام الطبيعي الذي لدينا ويبدو أنه يتماشى جيدًا مع الديمقراطية؛ لذلك علينا أن نعمل على تطبيقه (طالب ألماني).

ستكون عملية طويلة، ولكن بطريقةٍ ما، في يوم من الأيام، سيكون من الواجب تغيير الهياكل. الآن، في ظل الأزمة الاقتصادية، جوهر الرأسمالية أصبح محل شك. أعتقد أن الهيكل راسخ تمامًا بطريقة تمنع أي تغيير، على الأقل في المستقبل القريب (طالب كولومبي).

قد لا تكون الرأسمالية هي الشيء المثالي، ولكنها أفضل ما لدينا؛ يمكننا قول هذا مستخدمين كلمات تشرشل، على ما أعتقد. تستند الرأسمالية إلى رغبة الناس في تحقيق أهدافهم، والتنافس مع الآخرين. الرأسمالية الخالصة، بالطبع، ليست جذابة جدًّا؛ فلا توجد رعاية لكبار السن، أو أي استثمار في تطوير الرياضة، وما إلى ذلك، ولا أي برامج اجتماعية؛ لذا فالرأسمالية الخالصة شيء خطير: الفقير سيبقى دائمًا فقيرًا، والغني سيظل غنيًّا، وستظل هذه الفجوة قائمة، وسيظل عدد الأغنياء دائمًا منخفضًا. هناك قانون باريتو، كما أعتقد، الذي يقسم المجتمع إلى ٥ مقابل ٩٥ في المائة؛ لذلك، على سبيل المثال، في روسيا يمتلك ٥ في المائة من السكان ٩٥ في المائة من رأس المال، ويحصل باقي السكان على أموال تكفي معيشتهم بشق الأنفس. وهذا أمر خطير جدًّا. إذا نظرتم إلى البرازيل، على سبيل المثال، لنرى إلام يمكن أن يؤدي ذلك: مناطق بأكملها لا يمكن أن تترك فيها السيارة لحظة واحدة وإلا تعرضت للسرقة. يبدو أننا نسير في هذا الاتجاه، وسيكون هذا خطيرًا جدًّا (طالب روسي).

بطبيعة الحال نحن بلد رأسمالي أيضًا، ولكن يجب أن تسير الرأسمالية جنبًا إلى جنب مع هياكل اجتماعية معينة ومزايا اجتماعية للأفراد الخاسرين في أي نظام رأسمالي. هناك دائمًا رابحون وخاسرون، ولكنني أظن أن عليك أن تساعد الخاسرين بنحوٍ ما (طالب ألماني).

أعتقد أن الرأسمالية والشركات والعلامات التجارية ضرورة — عرض من أعراض عصرنا — وأنا حريص حقًّا على النظر في كيفية عملها. الآن أنا أتقدم بطلب للحصول على وظيفة وأحاول أن أتعلم قدرَ ما أستطيع عن طريقة عمل شركات الإعلام في المجر، على سبيل المثال، وهذا أمر مثير للاهتمام حقًّا بالنسبة إليَّ. علينا أن نبيع أكبر قدر ممكن من الإعلانات؛ ومن ثَمَّ علينا أن نجد أفضل الطرق للقيام بذلك. هذه هي طريقة سير الأمور. يستند عالمنا إلى الأوهام؛ ومن ثَمَّ سيكون من الصعب عليك العيش في القرن العشرين لو كانت رؤيتك هي أن الإعلام والمال ليس لهما دور في كل شيء (طالب مجري).

يُلقى باللائمة فيما يتعلق بجميع الجوانب السلبية للرأسمالية على الولايات المتحدة، وإحدى تبعات ذلك أن الرأسماليين الأمريكيين سيئون، وأن الرأسماليين الألمان يعملون من أجل الصالح العام، ويتم هذا بطريقة مجردة … أعتقد أنه من الخطورة أن نسلك هذا الطريق (طالب ألماني).

أعتقد أن المجر لا تحاول أن تصبح رأسمالية، ولكن الساسة يحاولون بناء اقتصاد سوق اجتماعي ملائم. ولكن بسبب عدم وجود تشريعات، بل فقط سيطرة فعالة على التعاملات غير المشروعة وغير القانونية تقريبًا، تتحول سوقنا إلى سوق أكثر عنفًا من اقتصادات السوق الاجتماعية العامة. هناك الكثير — ما لا يقل عن ٥٠ في المائة من الناخبين — ممن يعتقدون أنه لا يجب علينا أن نكون رأسماليين لننجح. إن السويد وفنلندا وأيرلندا، أمثلة جيدة يجدر بنا أن نحذو حذوها؛ فهي رأسمالية، ولكن ليست بقدر الولايات المتحدة. هذا هو ما يظن الموضوعيون أنه الطريق الصحيح لحل المشكلات الاجتماعية، فضلًا عن المشكلات الاقتصادية هنا (طالب مجري).

(٣-٦) المستقبل

هل هناك تلميح بوجود احتمالات جديدة؟ فرصة للتغيير؟ ماذا يحمل المستقبل لمن أجرينا معهم المقابلات؟ كما ذكرنا قبل ذلك، فإن رد الفعل العام كان هو التشاؤم. إذا كان الطلاب يأملون في «حل» ديمقراطي اجتماعي، على غرار الحل الاسكندنافي للرأسمالية العالمية، فلا يبدو أنهم يشعرون أنه من المرجح أن يتاح في المستقبل القريب؛ لذا، أصبح حتمًا عليهم أن يتحملوا المشكلات التي حَدَّدوها في بلدانهم (تزايد التفاوت بين الدخول، وعدم وجود حكومات فعالة، وندرة البرامج الاجتماعية) والحقائق القاسية للجيوسياسة؛ الأغنياء يزدادون ثراءً، وأصحاب السلطة يعملون على أن تسير الأمور وفق هواهم. إن وجود مثل هذه الروح النشطة من صفات الشباب، كما يؤكدون، والتي من المرجح أن تختفي مع النضج والحاجة إلى التعامل مع واقع الحياة (رعاية أسرة، ومواجهة متطلبات الحياة العملية). ظهرت كلمة «التشاؤم» مرارًا وتكرارًا في مقابلاتنا مع هؤلاء الطلاب.

إن المستقبل ليس مشرقًا للغاية بالنسبة إلى هؤلاء الطلاب. ما يحتاجونه هو مصباح يدوي سياسي نقدي لإنارة الظلام الذي يواجهونه. لا يعني هذا أن ما ينتظرهم مستقبل رهيب؛ الأمر أنه ليس من الملهم أن نتصور مستقبلًا يشبه الحاضر، بل وأسوأ قليلًا. وفيما يلي بعض الأمثلة:

أعتقد أنها تنتج وعيًا بتلك الأشياء، ولكن لا أعتقد أنها تدفع الطلاب للتصرف فقط لأنهم عاجزون عن فعل شيء. فعليهم أن يسعوا للحصول على قوت يومهم. أعتقد أنهم مدركون، ومستعدون لمشاهدة أفلام وثائقية حولها والقراءة عنها، ولكن دون أن يفعلوا شيئًا في الواقع، لأنك ترى كلَّ من حولك، من حاولوا أن يفعلوا شيئًا لكنهم فشلوا، لذلك فأنت تقول في نفسك: لِمَ أكبِّد نفسي عناء المحاولة؟ أنا أتحدث عن كلية واحدة، طلاب كلية الفلسفة المعروفين بأن تفكيرهم متفتح للغاية. إذن تحاول مجموعة صغيرة جدًّا من الناس أن يتثقفوا في هذه المنطقة (طالب كرواتي).

يعتقد الكثيرون أن مستقبل تايوان لن يكون جيدًا؛ فهو لا يمكنه أن يتطور بحيث يصل إلى ما وصل إليه في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته. كثير من الأشخاص في مثل عمري، عندما كُنَّا أطفالًا صغارًا، اعتقدوا أننا إذا اجتهدنا في الدراسة ودخلنا الجامعة، فسنجد بعد التخرج وظيفة جيدة ونكسب الكثير من المال. ولكن بعد أن تخرجنا، يبدو كل شيء ميئوسًا منه. يظن الكثير من الشباب أنه ربما في يوم من الأيام علينا أن نعمل في الصين وليس في تايوان؛ لأن تايوان لا تمتلك فرصًا للتطور. لكننا نعتقد أننا لا نستطيع أن نتنافس مع الشباب في الصين. هناك العديد من الأسباب. الشباب في الصين أكثر اجتهادًا من الشباب في تايوان. في تايوان نعتقد أن وضعنا سيزداد خطورة بعد ١٠ أعوام … بالنسبة إليَّ، لا أعرف ما يمكنني القيام به في المستقبل. عليَّ أن أتخيل حياتي بعد عشر سنوات، لأن كل شيء سيتغير. ولكن بعض الناس يقولون إنه في الفترة بين عامَي ٢٠٠٨ و٢٠١٢، ستكون الحالة الاقتصادية في تايوان أفضل، ولكن بعد عام ٢٠١٢، سيواجه الوضع الاقتصادي تغيرًا كبيرًا. لست متأكدًا مما تقوله المجلات أو الصحف عن هذا الموضوع، ولكن الكثير من الناس يعتقدون ذلك (طالب تايواني).

حسنًا، أظن أن هناك مجموعة صغيرة من الناس في المجر لديها أموال كثيرة، وأنه من الصعب جدًّا الانضمام لتلك المجموعة. لا أعتقد حقًّا أن هذا مصدر تهديد لأنني أعرف أن هناك مثل هذه المجموعة التي تمتلك الحصة الأكبر من الأموال في جميع البلدان. ولكنني أعتقد أنه ليس من المستحب ألا تتسع هذه المجموعة. أنا شخصيًّا لا أشعر بالخوف على مستقبلي؛ فالصفة الجيدة في المجر هي أن أصحاب المهارات ومن يستطيعون توظيف قدراتهم يستطيعون أن يؤسسوا مشروعاتهم الخاصة. أعتقد أنه من الممكن أن أبني حياة طبيعية في المجر. بالطبع يتعين على المرء أن يعمل كثيرًا، وأعتقد أنه على المدى القصير لن يكون لدى الناس إمكانية الرفع من شأنهم، ولكن على المدى الطويل ومع الكثير من العمل سيصبح هذا في وسعهم. ما أجده ظلمًا هو، على سبيل المثال، أن يعمل الشخص لمدة سنتين أو ٣ سنوات ولا يصبح قادرًا على أن يشتري ولو شقة صغيرة جدًّا؛ لذا أشعر بالتفاؤل فقط على المدى الطويل جدًّا، وذلك بعد ١٠ أو ١٥ عامًا (طالب مجري).

في واقع الأمر، أشعر ببعض التشاؤم بالنسبة إلى تايوان وسائر دول العالم؛ لأنه يبدو أن الأسعار في ارتفاع كبير في الوقت الحاضر في تايوان. وأنا أعلم أن ارتفاع الأسعار يمثل مشكلة كذلك في جميع أنحاء العالم بسبب ارتفاع أسعار النفط؛ لأننا نعتمد كثيرًا عليه. لا يمكننا أن نحيا من دون النفط؛ ولذلك أشعر بأنني متشائم قليلًا فيما يتعلق بالمستقبل في خلال العشرة أو العشرين عامًا القادمة (طالب تايواني).

لا أعرف. آمل، ولكنني حقًّا لست متفائلًا. أنا حقًّا لا أعرف. في الواقع، أحاول أن أتجنب التفكير في ذلك. أحب أن أعيش هنا في الواقع، ولكنني أعتقد أنني أحب العيش هنا لأنني أيضًا لم أَعِشْ في أي مكان آخر. ولكنني لا أعرف. ربما في يوم من الأيام عندما يكون كل هذا … لكنني لا أعرف، الوضع السياسي الموجود الآن هو كما كان من مائة سنة مضت، هناك أشياء متشابهة جدًّا؛ إذن فالأمر يتعلق بعقليتنا. لا يجيد الشعب الكرواتي تصور الصورة الأكبر؛ فنحن نرى فقط ما هو ماثل أمامنا، وهذه هي مشكلة السياسيين الكروات. إن نواياهم حسنة، ولكن بعضهم يقاتلون فقط من أجل أشياء غبية صغيرة ولكن لا يمكنهم رؤية الصورة الكبيرة. أنا لا أعرف ما سيأتي بعد ذلك. لا أعرف. أعتقد أن الجميع يسعى إلى تحويل عالمهم الصغير إلى عالم أفضل، وأنا أحاول أن أفعل ذلك. أحاول أن أفعل شيئًا يمكنني التمتع به أو شيء من هذا القبيل، ولكنني لا أتصور الصورة العامة المقبلة في عشر سنوات؛ ولذا فسوف نرى ذلك معًا، لا أعرف (طالب كرواتي).

يتوقع البعض أن أكبر نظامين من أنظمة القوة في العقد المقبل سيكونان الصين وأمريكا. هناك بعض الحركات المعادية للولايات المتحدة وبعض الحركات المناهضة للصين. ومع ذلك، تعتمد تايوان كثيرًا على هذين النظامين القويين. منذ عام ١٩٥٠ وحتى الآن، حقق اقتصاد تايوان بعض النتائج الجيدة. لقد حان وقت تفكير الشعب التايواني في بعض الطرق المستدامة أو البديلة للاستمرار في التقدم. ومع ذلك، حيث إن الصين انفتحت الآن، فلا تفكر تايوان في كيفية التحديث للحفاظ على اقتصادها أو بيئتها، بل تكتفي بالتحول نحو الصين فقط لأن لديها الأيدي العاملة الرخيصة؛ لذلك ليس عليهم التفكير في هذه المشكلة (طالب تايواني).

لن يكون جيلي قادرًا على إحداث أي تغيير يُذكر. لن تبقى ظروفنا الاجتماعية كما هي بالنسبة إليَّ بعد مرور عشرين عامًا. إذا كان لديَّ صديق غني، فسيزداد ثراءً بعد عشرين عامًا، وإذا كنت أنا فقيرًا، فسأكون أكثر فقرًا بعد مرور عشرين عامًا. سيُمنع عني الكثير من الأشياء التي أريد فعلها خلال العشرين عامًا، سواء كان ذلك جيدًا أو سيئًا. لن يكون الوضع أسوأ فحسب، بل أعتقد كذلك أنه سيكون تحت سيطرة عدد أقل. لست متفائلًا، ولكنني أعتقد أنه من الأفضل أن نفكر بهذه الطريقة، حتى لا نشعر بخيبة أمل عندما نضطر إلى مواجهة الأمر، بسبب اعتقادنا بأن المستقبل سيكون أفضل (طالب كولومبي).

ليس لديَّ أفكار إيجابية حول المستقبل، وخصوصًا عندما نواجه صعود الصين ووضع أمريكا، وعلاقة تايوان وأمريكا. الشيء الأكثر أهمية هو الانقسام السياسي، والفارق الكبير بين الكتلتين السياسيتين الكبيرتين. يميل الناس إلى أحد طرفي النقيض، إما إلى الاستقلال، وإما إلى الانضمام إلى الصين … بالنسبة إلى عامة الناس، ليس لديهم فرصة كبيرة أو خبرة كافية لفهمٍ أفضل للأمور (طالب تايواني).

في كولومبيا، أعتقد أن الأمور ستبقى على ما هي عليه. لا أعتقد أنها سوف تزداد سوءًا، وآمل ألا تزداد سوءًا. ولكنني لا أعتقد بالضرورة أن هناك أي اهتمام بالأمر؛ لأنني أظن أننا وصلنا إلى النقطة حيث يركز الناس اهتمامهم فقط على هذه القضية وحدها؛ ولذا فما هو ظاهر أمام عيون معظم الناس هو أن هناك تطورًا في هذا الجانب، في القضاء على جماعات حرب العصابات هذه. ولكن كما قلت، لا يتم التطرق إلى القضايا الاجتماعية. بهذا المعنى، أشعر أننا سنظل كما نحن. ربما لن يُعاد انتخاب هذا الرئيس، ولكن شخصًا مثله سيُنتخب؛ لأن الناس يحبون حقًّا ما يفعلونه. أشعر أننا سنبقى في نفس المنطقة؛ فالناس تركز اهتمامها على قضية واحدة، وينسون أن المجتمع ليس مجرد هذه القضية الواحدة. إن مصدر المشكلات في البلاد هو الهيكل الاجتماعي؛ فالأمور لا تنجح بسبب وجود الكثير من التمييز. هناك من يعملون باجتهاد حقيقي ولا يحصلون على أي شيء. يجب تغيير الهيكل الاجتماعي تغييرًا كبيرًا حقًّا ليكون بالإمكان أن نُحْدث حتى ولو تغييرًا بسيطًا (طالب كولومبي).

من خلال استطلاع آراء من يحيطون بي، أعتقد أننا متفائلون إلى حدٍّ ما. لا يعرف الجميع حتى الآن ما سيفعلونه بعد ذلك، ولكننا متأكدون من أننا سنعمل على شيءٍ ما (طالب ألماني).

أنا لا أعرف الجيل على نطاق واسع، بل أعرف فقط مَن هم على علاقة بي، وغالبيتهم لا يمتلكون رؤية متفائلة حول المستقبل. ولكن على الرغم من ذلك فهم لا يهتمون حقًّا بالمشكلات التي ستحدث خلال عشر سنوات أو شيء من هذا القبيل. حسنًا، يتساءل العديد من أصدقائي كيف سيمكنني شراء شقة؟ أو كيف أكوِّن أُسرة وأوفِّر لهم ما يكفيهم؟ ولكن في الحياة اليومية لا أرى هذا التشاؤم، فقط عند التحدث عن بعض الأمور أرى أننا لسنا متفائلين جدًّا، لكن في الحياة اليومية لا يظهر ذلك (طالب مجري).

من ناحية، هناك بالتأكيد هذه الفكرة المتشائمة بأننا لا نملك أن نفعل الكثير. الفكرة التي تقول بأن الازدهار الاجتماعي الذي ميز الخمسينيات والستينيات حتى الثمانينيات من القرن العشرين لا يستطيع الاستمرار لفترة طويلة، وأنه كان يقوم في الواقع على استغلال البلدان الأخرى اقتصاديًّا، وأن كل هذا لم يَعُد من الممكن أن يستمر في مرحلةٍ ما (طالب ألماني).

هناك أناس [نشطاء] يكتبون كتيبات صغيرة. هناك مجموعة صغيرة جدًّا من الناس الذين يقرءون ما ينشره هؤلاء. إنها نفس المجموعة من الناس. لا أعتقد أن هناك آخرين يحاول هؤلاء النشطاء الوصول إليهم؛ ولذا فهم مجرد مجموعة مغلقة من الناس. ربما يزداد العدد سنويًّا؛ لأن هناك أناسًا في الجامعة، على سبيل المثال طلاب قسم علم الاجتماع الذين هم الأكثر وعيًا بأشياء من هذا القبيل ويحصلون على مثل هذه الكتيبات أو المطبوعات أو الصحف أو المجلات، ولكن أعتقد أن عدد الأشخاص الذين يقلعون عن قراءة هذه المطبوعات يتساوى مع عدد هؤلاء الذين ينضمون لقراءتها؛ لأنهم يرون أن كل شيء على ما يرام، وأنه لا توجد فائدة، وأن عليهم أن يسعوا فقط لكسب رزقهم، وعليهم فقط أن يتوافقوا مع الأمر الواقع، حسب ما أعتقد (طالب كرواتي).

لست متفائلًا في واقع الأمر. هناك شعور بخيبة أمل، هذا ما كنت أتحدث عنه، وهو أمر مخيف بعض الشيء بالنسبة إليَّ. إلى ماذا وأين سيفضي ذلك؟ هناك عدة احتمالات لما يمكن أن يحدث. أنا لست متفائلًا. عندما أنظر حولي، أرى أُناسًا مدمرون بالفعل. لم يَعُد لديهم ما يكفي من المال للعيش، وليست لديهم خطط مستقبلية مقنعة بالنسبة إليهم؛ ومن ثَمَّ أعتقد أنه خلال خمس سنوات سوف يؤدي هذا إلى حدوث شيء جذري …

هناك قوًى متوارثة أساسًا من الاشتراكية؛ إذن فخيبة الأمل هذه ليست ناتجة عن الرأسمالية وحدها، أو الصورة المجرية منها، ولكن خيبة الأمل المتعلقة بكيفية رؤية المجريين لأنفسهم؛ كيفية عمل النظام الجديد، وكيفية افتقاره إلى العمل كذلك؛ لذلك أعتقد أنه في المجر هناك العديد من الخطوات التي يتعين اتخاذها لتصبح ما يسمى بالدولة الغربية. ولكن لا أستطيع أن أكون متفائلًا، هناك جروح عميقة في الداخل وليس من السهل تجاوزها، ربما يحدث في جيل آخر، ربما في جيلي أو الجيل التالي؛ لذلك أعتقد أننا يمكننا أن نصنع بلدًا جديدًا، ولكنني أعتقد أن جميع الشباب يقولون إنهم يودون ذلك. ولكن أنا مقتنع بأن جيلنا مختلف؛ ولذا فأنا متفائل. ولكن فيما يتعلق بالنظام الحالي، هذا النظام، فأنا لا أشعر بالتفاؤل تجاهه (طالب مجري).

في توقعاتي الأقل تشاؤمًا ما زلت أقول إن مثل هذه الدولة الشمولية والنظام الشمولي سيبقيان، وكذلك التسلط، وحتى لو كان تأثير شكل الديمقراطية الخاص بأمريكا سيسود، فلا يمكننا أن نعرف نتيجة ذلك في بلادنا. قد يتسبب هذا في مشكلة كبيرة، ولا أحد يعرف ما هي الآثار التي ستترتب على ذلك (طالب روسي).

كيف ترون المستقبل في روسيا؟
«مرة أخرى، ليس لدي أي فكرة. أفضِّل عدم التفكير في الأمر.»
لماذا؟
«لأن هذا النوع من الأفكار يمكن أن يكون مزعجًا، وأساسًا لا أرى أي فائدة منه. لا يمكننا التنبؤ بالمستقبل. ما من شأنه أن يحدث سيحدث. قد تعتقد أنني روسي قدري نموذجي في هذا الصدد! [يضحك] (طالب روسي).»

(٤) دراسات حالة جغرافية حيوية

قد يبدو ما عرضناه أعلاه من أفكار وآراء ومزاعم حول العالم تعسفيًّا ودون هدف. ماذا عن مزاعم من لم نَذْكرهم هنا؟ أهم من ذلك، هل استطاع أي رأي مما تم التعبير عنه حول أيٍّ مِن هذه النقاط من جانب أيٍّ مِن الستين طالبًا أن يعبِّر بحق عن وجهة نظر الجيل العالمي ككل إزاء العالم؟

تتمثل قيمة المقابلات النوعية المطولة في أنها تدخل الرواية في القضايا قيد المناقشة. لقد علمنا من النظر في المقابلات الفردية ككلٍّ الكثيرَ عن وجهات نظر هؤلاء الطلاب والوضع الاجتماعي والسياسي للدول التي يعيشون فيها. هذه الروايات الفردية سمحت لنا أن نرى طرق الجمع بين الخطاب والأيديولوجية لتشكيل تصورات التحولات والتغيرات الاجتماعية الأكبر. لقد تحدثنا أعلاه عن التعامل مع هذه المقابلات بوصفها نصوصًا أدبية؛ شكلًا من أشكال النظر للعالم الذي يلفت الانتباه إلى تمثيل استجابات الطلاب بالإضافة إلى محتواها. وبغية تقديم المزيد من التفاصيل حول الجيل الذي التقيناه، نود أن ننهي هذا العرض بثلاث دراسات حالة جغرافية حيوية، وهي روايات للذات والمكان، والتي سوف تساعد على تحديد سياق التعليقات المعروضة أعلاه وإطارها. وعلى النقيض من سلسلة وجهات النظر المتشائمة المعروضة أعلاه، نقدم ثلاث وجهات نظر أقل سلبية صادفناها، وسردًا لردودها على القضايا التي أثارتها أسئلتنا. (لقد اختلقنا أسماء الطلاب المذكورة هنا.)

(٤-١) الطالبة الديمقراطية الاجتماعية: كرواتيا/بترا

بترا طالبة تبلغ من العمر ٢٥ عامًا وحاصلة على درجة علمية في علم الاجتماع. وبوصفها أكاديمية طموحة، قدمت بترا ردودًا دقيقة وحذرة على الأسئلة التي طرحناها. إنها ديمقراطية اجتماعية تقليدية. وعندما طُلب منها وصف بعض المشكلات التي تواجه كرواتيا، أشارت إلى الاقتصاد، وتحديدًا عدم وجود فرص عمل وانعدام الأمن المالي الذي يشعر به الناس نتيجة لذلك. ومع ذلك، قالت كذلك إن هناك مشكلة أكثر تجريدًا؛ وهي: «تطوير ثقافة مدنية، حتى يشعر الناس حقًّا بأنهم جزء من مجتمع ديمقراطي، وليسوا جزءًا من الدولة فحسب.» تستطيع بترا التحدث بلغة الناتج المحلي الإجمالي، وصندوق النقد الدولي، والاستثمارات المالية، وأسعار الأسهم، لكنها عادت مرة تلو الأخرى أثناء مناقشتنا إلى ضرورة وجود ضمان اجتماعي وحقوق اجتماعية، بما في ذلك زيادة فرص الحصول على التعليم، والرعاية الصحية، والخدمات العامة الأخرى. تقول: «إن السياسة بالنسبة إليَّ تعني أن جميع الأطراف يتشاركون في وضع أفضل السياسات الممكنة للمواطنين في البلاد. إلا أن الأحزاب السياسية لا تزال تقود معظم الأمور، والقطاع غير الحكومي وقطاع التعليم والعلم لا يزالان غير مشاركَين في وضع السياسات والسياسة بالنسبة إلى البلد ككلٍّ.»

وكما كان الحال بالنسبة إلى العديد ممن قابلناهم من البلاد التي تمرُّ بمرحلةِ ما بعد الشيوعية (كرواتيا والمجر وروسيا)، امتد هذا الإحباط للحدود السياسية لعالمِ ما بعد عام ١٩٨٩ ليشمل النظام الاقتصادي كذلك. ترى بترا أن ظهور الرأسمالية في كرواتيا ليس أكثر من «ذريعة للسرقة». كانت فترة إعادة توزيع الأصول المملوكة للدولة خلال التحول من الشيوعية إلى الرأسمالية فرصة للنخب السياسية للتأكد من أن أصدقاءهم وزملاءهم سيخرجون من المرحلة الانتقالية هذه وهم غير خاسرين. بالنسبة إليها، كان غياب مجتمع مدني فاعل في كرواتيا في الوقت الحالي وعدم وجود نظام اقتصادي يعمل لصالح الناس ككل لا يعدان مبررًا لاتهام الرأسمالية الديمقراطية في حد ذاتها. أما أملها بالنسبة إلى كرواتيا فهو أن تطوِّر نظامًا «رأسماليًّا أفضل»، كما هو الحال في الدول الاسكندنافية.

إن الشكل النموذجي لرؤية الطلاب لأمريكا — وصف السلوك الأمريكي على مستويات متعددة، وتقييم آثاره، وتقييم ردود فعل الناس في جميع أنحاء العالم — كان متمثلًا في ردود بترا. قالت بترا إن معظم الكروات يظنون أن «الأمريكيين أغبياء» (وهي العبارة والشعور اللذين سمعناهما كثيرًا في المقابلات التي أجريناها في كرواتيا). وتقول بترا إنها سمعت هذا من أساتذتها كذلك: «بنحو أساسي، كانوا يقولون إن الأمريكيين أغبياء؛ فهم بدائيون، وعدوانيون، ولديهم طموحات إمبريالية.» وقالت إنها ترى في ذلك خطأ: «فكرة الناس عن الولايات المتحدة خاطئة تمامًا. يرى الناس الولايات المتحدة بنحو أساسي من خلال منظور السياسة الخارجية الأمريكية، لسوء الحظ، وفي كثير من الأحيان، الثقافة الشعبية الأمريكية — المغنية بريتني سبيرز وما شابه — وهذا المنظور سطحي جدًّا. أنا لا أعتقد أن هذا يمثل أمريكا.»

أرادت بترا أن تضيف المزيد من الحيوية قدر الإمكان إلى هذه الصورة الأولى، الأبيض والأسود، للولايات المتحدة. تقول: «من الصعب حقًّا أن نتحدث عن أمريكا بوصفها كيانًا واحدًا.» وأعربت بترا عن رفضها لما تظنه تجاوزًا في رؤية الولايات المتحدة «الأخلاقية» لنفسها؛ حيث ترى أمريكا أنها أفضل مكان ممكن على هذا الكوكب؛ ومن ثَمَّ فهي مكلفة بمهمة توجيهية عالمية لنشر أنظمة الحياة خاصتها في جميع أنحاء العالم، من خلال أي وسائل تقتضيها الضرورة: تقديم منح دراسية للدراسة في الولايات المتحدة، وإرسال بعثات تبشيرية دينية لإضافة من يغيرون دينهم إلى رعاياها، واستخدام قوتها العسكرية ونفوذها السياسي، وما إلى ذلك. في الوقت نفسه، أعربت عن امتنانها لما فعلته الولايات المتحدة لكرواتيا في أعقاب حرب البلقان (على سبيل المثال، تقديم المعونات والمساعدات الإنمائية فيما يتعلق بإعادة بناء البنية التحتية). وهي معجبة بعمق وقوة المجتمع المدني في الولايات المتحدة، والذي تجد أنه ينقص كرواتيا: «هناك الكثير من المنظمات الشعبية في الولايات المتحدة، والكثير من المؤتمرات والكثير من المظاهرات، والكثير من النشاط.» وتمتلك بترا طموحات أكاديمية تعتقد أنها يمكن أن تحققها على أفضل نحو في الولايات المتحدة. وقد عادت إلى مناقشة مميزات النظام الجماعي الأمريكي مرارًا وتكرارًا — من صرامة، ومعايير عالية، وروح جدارة — على النقيض من النظام الجامعي في وطنها، الذي وصفته بأنه رسمي أكثر من اللازم، ومنغلق، ويخاف من العالم الخارجي.

كانت بترا تشعر بالقلق حيال تدخل الولايات المتحدة في العالم اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا. ولكن التأثير الثقافي للولايات المتحدة لم يبدُ لها على هذا القدر من الأهمية، سواء في كرواتيا أو في أوروبا. تتشكل التفضيلات الثقافية «للناس العاديين» من خلال أفلام ومسلسلات الولايات المتحدة. ومع ذلك، أشارت إلى العديد من الخيارات الثقافية الأخرى للكروات المستقاة من كلٍّ من أرشيفهم الناشئ الخاص بالكتب والأفلام والبرامج التليفزيونية، وأيضًا من المدخلات الثقافية من أوروبا. وأعربت عن اعتقادها بأن التعبير الثقافي في الولايات المتحدة كان صادقًا أكثر من اللازم، في حين وضعت الثقافة الأوروبية مسافة تولِّد طرقًا مختلفة للوجود والتصرف:

لا تقف الثقافة الشعبية الأمريكية على مسافة ساخرة من نفسها، الأمر الذي تتصف به ثقافة الشعبية الأوروبية على ما أعتقد. لا توجد مفارقات في الولايات المتحدة؛ فهُم يتصفون بالنقاء والسذاجة الشديدين في كلِّ ما يفعلونه، وما يصورونه، وما يغنونه. إن هذا، بطريقةٍ ما، يبعث على الخوف، أن نرى هذا النوع من … الناس ليسوا … إنه أمر لا يصدق. أعتقد أن هذا شيء لا يروق للشباب. إن أحد أنواع الفكاهة الأساسية في كرواتيا، لا سيما بين الشباب، هو أن تسخر من نفسك، وحياتك ومجتمعك، وهم لا يرون ذلك. عندما ترى طلابًا أمريكيين في حفل، فلن ترى أيًّا من هذا … يبدو الأمر مضحكًا، يبدو مضحكًا لأنهم جادون جدًّا حول شرب الكحوليات ليصلوا إلى مرحلة السكر.

ترى بترا أن الحديث عن معاداة أمريكا أكثر إثارة للاهتمام من تناول العولمة بالحديث. وكان جزء من السبب هو تركيز طاقاتها واهتمامها نحو بلدها وفرصه المستقبلية. في حين رأى العديد من أقرانها أن هناك ندرة في التعبير السياسي بين الشباب، والذي أشارت إليه هي نفسها في التعليقات الافتتاحية حول عدم وجود ثقافة مدنية نشطة، قالت أيضًا إن الفترة التي تلت أحداث ١١ / ٩ أعادت النشاط للسياسة. هناك الكثير من النقاط فيما يتعلق بمعاداة أمريكا تزيد الأمور سوءًا ويمكن أن تؤدي إلى أخطاء في كيفية التفكير، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل العالم بأسره. ولكن تعتقد بترا كذلك:

يمكن لهذه الطاقة المعادية للولايات المتحدة أن يكون لها تأثير إيجابي جدًّا على تحريك وعي الناس بالسياسة. يدرك الناس أكثر فأكثر أنهم قد يجدون أنفسهم في مثل هذا الوضع؛ إذا كانت بلادهم تفعل أشياءَ من هذا القبيل، فماذا سيفعلون؟ أعتقد أن الناس يصبحون أكثر ميلًا للمشاركة في الحياة السياسية وأكثر وعيًا بهذا الموضوع. إذا كنا بصدد إرسال قواتنا إلى العراق، فسيرفض الناس.

إحدى النتائج الإيجابية العديدة للمشاعر المعادية للولايات المتحدة إمكانية انتخاب باراك أوباما، التي من شأنها أن تعكس صدمة أوروبا الكبيرة في إعادة انتخاب جورج دبليو بوش. إذا تم انتخاب أوباما، «فسيكون أمرًا رائعًا … إنه سيكون مقيدًا لأن لديه الكثير من الأمور التي عليه أن ينظر فيها، ولكنني ما زلت أعتقد أن السياسة الخارجية الأساسية ستتغير، وستكون أكثر احترامًا لغيرها من الثقافات والبلدان، والسياسات والسياسة والشعوب.»

يبدو المستقبل القريب لكرواتيا صعبًا، ولكن ماذا عن المدى الطويل؟ بالنسبة إلى بترا، يبدو المسار واضحًا. لا تقدم الدول الاسكندنافية أفضل شكل ممكن للحكومة فحسب، ولكن ليس هناك إمكانية أخرى للنظر فيها. تساعد الحكومة النشطة والمجتمع المدني القوي (المنظمات غير الحكومية وجماعات الضغط وأصحاب المصلحة من مختلف الأنواع) على تهذيب الحواف الحادة للرأسمالية. تتعامل بترا مع هذه العناصر المكونة (الحكومة، والمجتمع المدني، والرأسمالية) بوصفها عناصر مستقلة بعضها عن بعض، كما لو كان يمكن للمرء أن يتخيل عمل اثنين منها حتى لو كان الثالث معطوبًا. لو كان لدينا زعيم مثل باراك أوباما في وطننا، لسارت الأمور على نحو أكثر سلاسة؛ إذا كان لدى الولايات المتحدة مثل هذا القائد، فسيكون قادرًا على ضمان حُسن سلوك أمريكا، على الأقل إلى أقصى درجة ممكنة بالنظر إلى كل تلك المصالح التي قد تعوق أهدافه التقدمية وتقيده.

(٤-٢) الطالب غير المستاء: تايوان/تشي-شيان

أبدى الطلاب الذين حاورناهم من تايوان مواقف عاطفية مماثلة تجاه بلادهم، والولايات المتحدة، والعولمة، والمستقبل مثلهم مثل الطلاب الذين أجرينا معهم مقابلات من الدول الخمس الأخرى. ولكن، من الواضح تمامًا أن مرجعياتهم كانت مختلفة. كان أهم تلك المرجعيات علاقة تايوان بالصين والولايات المتحدة واليابان. أجرينا مقابلات في تايوان في أعقاب انتخاب الرئيس التايواني ما يينج-جيو، مرشح حزب الحزب القومي الصيني (الكومينتانج) في مارس عام ٢٠٠٨؛ حيث حقق انتصارًا كبيرًا على منافسه من الحزب التقدمي الديمقراطي. حاول الحزب التقدمي الديمقراطي إقناع الناخبين بأن فوز الحزب القومي الصيني سيعيد تايوان إلى ماضيها الاستبدادي ويقوض استقلالها عن الصين. ولكن مع وجود صورة البطالة والتضخم حاضرة في أذهان الجميع، كان لهذه الرواية الخاصة بالحرب الباردة تأثير بسيط. بالإضافة إلى ذلك، كلما اندمجت الصين في النظام الرأسمالي العالمي قلَّت أهمية مثل هذه المخاوف السياسية الرجعية. وبالمثل، يبدو أن الأدوار التي لعبتها اليابان (تحت مسمى المستعمر «الجيد») والولايات المتحدة (تحت مسمى القوة العظمى «الجيدة») ساعدت أيضًا على تغيير السيناريو الجديد.

لم يملك الطالب التايواني تشي-شيان إلا أن يمرر جميع إجاباته من خلال عدسة اقتصاد بلده الواهي. بعد ذكر كيف أن عددًا كبيرًا من أصدقائه عاطلون عن العمل (حتى بعد تخرجهم في الجامعة وحصولهم على تقديرات عالية)، اعترف بأن الصين تمثِّل في آنٍ واحدٍ السببَ والحلَّ المحتملَين للمشكلات الاقتصادية الحالية في تايوان.

بعض أقاربي ذهبوا لتوِّهِم للعمل في الصين؛ لأن فرص العمل هناك أكبر منها في تايوان. يقول بعض الناس بأن الصين سوف تسيطر على تايوان بسبب الاقتصاد والوظائف التي تقدمها … وقد وعدَنا الرئيس الحالي بأنه سيكون هناك تعاون مع الصين دون أن نفقد استقلالنا. أعتقد أن هذا هو ما يأمل الناس في تحقيقه.

كما أشار تشي-شيان إلى أن الاقتصاد الرأسمالي الناجح في تايوان في نظره ليس الناتج المحلي الإجمالي أو حتى القوة العسكرية، بقدرِ ما أطلق عليه «رأس المال الثقافي».

لديَّ طلاب وأصدقاء هنا يحاولون أن يجدوا طريقة لإنتاج أفلام تايوانية أكثر؛ أعتقد أن هذا النوع من رأس المال الثقافي سيكون أحد أهم العناصر بالنسبة إلينا للتعريف بتايوان. إنها قضية مهمة جدًّا لأنك يمكن أن ترى الصراع بين الجماعات الثقافية المختلفة هنا بسبب أننا لا نمتلك صورة واضحة عما تعنيه تايوان في واقع الأمر.

وقد رأى تشي-شيان أن هناك تناقضًا بسيطًا في الجمع بين التأثيرات الخارجية الرئيسية الثلاثة على المجتمع التايواني: التعاون الاقتصادي مع الصين (مما يتيح المزيد من فرص العمل)، والتعاون السياسي مع الولايات المتحدة (مما يعزز توفير المزيد من الحريات الفردية)، والتعاون الثقافي مع اليابان (مما يعزز ثقافة شعبية معترف بها عالميًّا، مثل الإنجازات اليابانية في مجال الرسوم المتحركة وموسيقى البوب).

لا يجب أن يبدو هذا المزيج من القوى التي تبدو متعارضة مفاجئًا إذا تَذكَّرنا، على سبيل المثال، أن الشكوك حول الإمبريالية الثقافية التي تم التعبير عنها في العديد من الأماكن التي تعمل على إنهاء الاستعمار، أو التي دخلت مرحلةَ ما بعد الاستعمار في جميع أنحاء العالم، كانت أقل وضوحًا في تايوان واليابان وكوريا الجنوبية؛ فمع وجود أيديولوجيات أقل قوة من الفردية والأصالة، يمكن للعلامات التجارية الغربية أن تحصل على اعتماد فوري من رجال الأعمال المحليين بحيث ينظر إلى أشياء مثل ديزني لاند أو ماكدونالدز بوصفها تايوانية بقدرِ ما هي أمريكية. وحول هذا الموضوع، يشرح تشي-شيان أن متجر مثل ٧ / ١١ في تايوان يعد أقرب إلى النموذج الياباني الذي يقدم جميع أنواع الخدمات المساعدة (من تلك الخاصة بمكتب البريد وحتى الخاصة بالبنوك). وقد دفعت هذه اللامبالاة تجاه ما يسمى عادة ﺑ «الأمركة» تشي-شيان إلى ذِكْرِ أنه لا يعلم بوجود حركات نقدية ضد الثقافة الأمريكية أو أي حركات لمعاداة أمريكا في البلاد.

أما بالنسبة إلى الأنشطة المناهضة للعولمة التي ظهرت في جميع أنحاء العالم منذ أحداث سياتل عام ١٩٩٩، أبدى تشي-شيان قليلًا من الاهتمام بها. يقول: «بالنسبة إلينا، لا يتعدى ذلك كونه مجرد خبر أو قصة تناقلتها وسائل الإعلام.» أما بالنسبة إلى العولمة بنحو أعم، فيقول: «لا يمكننا مقاومتها في حياتنا اليومية؛ علينا فقط أن نتقبل سيادة العولمة.» عندما وصلنا إلى نقطة المستقبل (مستقبل تشي-شيان الشخصي، ومستقبل تايوان، ومستقبل العالم)، بدا أن لهجته تغيرت:

أنا غير متأكد الآن. بالنسبة إلي، أنا غير متفائل بشدة بالمستقبل، وخصوصًا عندما نواجه صعود الصين ووضع أمريكا، فضلًا عن العلاقات بين تايوان وأمريكا. الشيء الأكثر أهمية هو الانقسام السياسي؛ الاختلاف الكبير بين الكتلتين السياسيتين الكبيرتين [الحزب القومي الصيني والحزب التقدمي الديمقراطي]. يتجه الناس إلى طرفي النقيض: إما إلى الاستقلال عن الصين وإما إلى علاقات أوثق معها. إنه وضع خطير، ويتم ذلك عن طريق التلاعب السياسي. بالنسبة إلى عامة الناس، ليس لديهم فرصة كبيرة أو خبرة كافية لفهمٍ أفضل للأمور. أشعر بالقلق. بوصفي طالبًا، لست متفائلًا؛ ولكن بوصفي مدرسًا، فلا يزال هناك ما يمكنني القيام به. ما زلت سعيدًا جدًّا برؤية الحركات المستمرة، مثل هؤلاء الذين يدعون إلى زيادة نسبة العمالة أو حماية العاملات في مجال تجارة الجنس. هناك الكثير ممن يقومون بدورهم لمساعدة مجتمعنا، الذين يعملون لتحقيق الوئام الاجتماعي في تايوان. الشيء الآخر المهم هو الحرية والديمقراطية. غالبًا ما ترتبط الحرية بأمريكا، ولكننا في تايوان، لا تزال لدينا حرية المناقشة. من المهم بالنسبة إلينا تأسيس مجتمع حيث يمكننا أن نحظى بحوار أكثر عقلانية بين الأشخاص المختلفين. أنا متفائل بشأن هذا الجانب. لا تزال تايوان تتمتع بالحرية والديمقراطية.

اللافت للنظر هنا هو الاعتراف بالهياكل السائدة، إن لم يكن الخضوع لها أيضًا، ولكنه اعتراف لا يتصف باللامبالاة أو قلة الاكتراث. وفي الوقت نفسه، يبدي تشي-شيان القليل من الحماس السياسي أو المشاعر القوية تجاه أيٍّ من الموضوعات التي ناقشناها. يتحول إدراكه للعالم إلى قبول بطبيعة الأمور، الذي نادرًا ما يضطرب بسبب شعور متكرر بالأمل أو اليأس. أما ما نجده لافتًا للانتباه بوجه خاص في حالته، فهو الرغبة المستمرة في المعرفة والمشاركة في العالم (سياسيًّا وثقافيًّا)، في حين أنه لا ينتج عن ممارسة هذه الرغبة الكثير من المتعة أو اليأس. يأتي دافع تشي-شيان دون أي توقعات في المقابل؛ يقدم هذا نموذجًا ممتازًا للسياسة الراديكالية؛ أي السياسة الخالية من الاستياء.

(٤-٣) الطالب المتفائل: ألمانيا/كلاوس

كان الطلاب الذين أجرينا معهم مقابلات في ألمانيا هم من أظهروا أكبر قدر من الإيمان بالمستقبل. رأى كلٌّ منهم أن مستقبله حافل بمختلف الإمكانات وفرص الانفتاح؛ فهو فرصة يجب اغتنامها أكثر منه تحديًا أو عقبة يجب التغلب عليها. ماذا عن مستقبل ألمانيا ككل؟ أعرب جميع الطلاب عن عدم ارتياحهم لتبنِّي رواية قومية، ورأوا أن المستقبل يحمل بين طياته إحلال أوروبا محل ألمانيا بوصفها مركزًا للانتماءات الجماعية. من وجهة نظرهم، لا يشعرون بأن هذا الأمر يعد خسارة، ولكنهم ينظرون إليه باعتباره تطورًا من شأنه أن يُنتج «المزيد» من الفرص بالنسبة إليهم (على سبيل المثال، سهولة السفر والعمل في المدن خارج ألمانيا).

كان كلاوس أحد الطلاب الأكثر ثقة وتطلعًا مِن بين مَن أجرينا معهم المقابلات. لقد عرَّف نفسه بأنه ينحدر من عائلة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة العليا، وقال إنه تَخصَّصَ في الدراسات الإنجليزية والأمريكية والتاريخ الحديث. وعندما طلبنا منه تحديد بعض المشكلات الاجتماعية والسياسية الأساسية في ألمانيا في الوقت الراهن، أشار كلاوس إلى التحديات التي تمثلها الهجرة بالنسبة إلى المجتمع الألماني والأثر الاقتصادي للعولمة، وما تتضمنه من تهديدات محتملة لاستمرار وجود دولة الرفاهة الألمانية. كان كلاوس مدركًا لضرورة وحتمية زيادة مستويات الهجرة إلى ألمانيا (بسبب تراجع معدلات المواليد في البلاد).12 بالنسبة إليه، كانت إحدى المشكلات الناتجة عن الهجرة هي أن الوافدين الجدد يميلون إلى أخذ مميزات من نظام الرعاية الاجتماعية أكثر من مقدار مساهمتهم فيه. وكان واضحًا أيضًا في نظرته أن مشكلات الهجرة ترتبط صراحةً بالعرق: «ليست لدينا مشكلات مع المهاجرين من فرنسا أو سويسرا، ولكن المشكلة تتعلق بالأتراك في المقام الأول … للأسف ليست لدينا فسحة من النقاش المفتوح حول إن كان هذا سلوكًا عنصريًّا أم لا؛ حيث إن العنصرية في ألمانيا ربما تكون أكثر إثارة للجدل حتى مما هي عليه في الولايات المتحدة؛ نظرًا إلى تاريخنا.»
على الرغم من أن كلاوس قدم نفسه بوصفه ألمانيًّا يقدر أنشطة الدولة الألمانية، فإنه انزعج من المشاعر القومية الجديدة التي ظهرت في البلاد منذ بطولة كأس العالم لكرة القدم عام ٢٠٠٦.13 عند مناقشة هتافات تشجيع المنتخب القومي، والتلويح بالعلم، ووضع الأعلام خارج المحال التجارية، كان من المهم بالنسبة إليه أن يشير إلى أن هذا لا يزال لا يمثل المشاعر القومية، ولكنه دعم لمجموعة من اللاعبين: «أعتقد أن بطولة كأس العالم أظهرت أن الألمان يريدون أن يرتبطوا ببلادهم، على الرغم من أنني لست متأكدًا إن كانوا يرتبطون بالعَلَم والبلاد أم الفريق الذي يرمز إلى البلاد، وأعتقد أن الفريق كان هو حقًّا ما يدعمونه وليس ألمانيا.» وخلال كأس العالم لكرة القدم لعام ٢٠٠٦، كان أمرًا كاشفًا بالنسبة إلى كلاوس أن: «معظم المهاجرين الوافدين لألمانيا، الذين ليس لديهم ارتباط بالتاريخ الألماني، ولم يكن أجدادهم موجودين هنا، ومن ثم فليس لديهم أي اتصال تاريخي بألمانيا؛ ليس لديهم مشكلة في التلويح بعلمهم الألماني والإشارة به.»
تلعب القومية دورًا مثيرًا للاهتمام في ألمانيا؛ حيث يبدو أن المهاجرين «أكثر» قومية من أصحاب البلد؛ يزيد الانزعاجُ الذي يشعر به الكثير من الألمان مع تزايد أعداد المهاجرين صعوبةَ توظيف الرواية المعتادة الخاصة بالدفاع عن الوطن ضد الأجانب التي تقدمها القومية. على أي حال، يرى كلاوس أن هذه مشكلة مؤقتة فحسب:

لا أظن أن القومية بمعناها التقليدي موجودة لدى الجيل الجديد … أعتقد، كيف يمكنني أن أصيغ هذه العبارة، أن هناك فجوة بين الألمان في كيفية رؤيتهم لهذه الرموز القومية وكيفية ربطها بالدولة القومية؛ لأن … جيلي نشأ بالفعل على فكرة أن أوروبا هي الكيان الأكبر وأنها شيء مثالي يجب أن نسعى جاهدين للعمل من أجله.

للعولمة دور في إدخال أوروبا إلى حيز الوجود: «إن أعظم أمنياتي هي أن تختفي من خلال عملية التوحيد الأوروبية الدولة القومية، وربما في يوم من الأيام نتحدث عن الأقاليم الثقافية … ونظرًا لظهور العولمة، فقد أصبح لديك حافز آخر لتقول: حسنًا، إن العالم يتقلص ليصبح قرية، فلماذا لا ننضم معًا ونقول دعونا ننسَ الحدود لأنها غير ذات معنًى.»

بالنسبة إلى كلاوس، تعني العولمة ضغط المكان، واختفاء الحدود، والمنافسة العالمية النطاق في الأسواق. هذه هي التطورات الإيجابية، وليس فقط لأنها قد تؤدي إلى اختفاء الحدود بين دول أوروبا. يشير كلاوس إلى «أنها مصدر تهديد إذا نظرت إلى الجانب السلبي لها، ولكن … هناك الكثير من الإمكانيات والفرص المتاحة لي، أكثر من تلك التي كانت متاحة لوالدي ووالدتي على سبيل المثال، وهذه هي الحقيقة.»

كان كلاوس يمتلك رؤية متوازنة للدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في العالم. في بعض الأحيان، قد ينظر إليها على أنها أقرب إلى الإمبراطورية الرومانية: «قوة سياسية هائلة وحيدة تُحْكم قبضتها على كل الأشياء، ولكنها في نفس الوقت واقعة باستمرار تحت ضغط من أطراف تلك الإمبراطورية.» ولكن إذا كانت الولايات المتحدة تقوم بهذا الدور في يوم من الأيام، فهو يرى أن هذا في طريقه للانتهاء. ويتوقع كلاوس أن يشهد القرن الحادي والعشرون نشأة قوًى جديدة، وتكون النتيجة أن «الشعب الأمريكي والثقافة الأمريكية والسياسة الأمريكية سيتعين عليها الاختيار بين عزلة جديدة وحل وسط جديد.» هناك معاداة لأمريكا في ألمانيا، وتنبع من حقيقة أنه بسبب أن الولايات المتحدة يبدو أنها تتدخل في كل شيء تقريبًا في العالم، فهي تتحمل الكثير من المسئولية عما يسير على نحو خاطئ كذلك. ولكن في حين أنه قد تكون هناك مشاعر معادية لأمريكا تجاه السياسات التي تنتهجها، وخاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فإن مثل هذه المشاعر لا تمتد إلى الثقافة الأمريكية أو المجتمع الأمريكي ككل. يصف كلاوس جيلًا ذكيًّا ومتوازنًا للغاية في نظرته للولايات المتحدة. وبينما كان هو وأقرانه ينتقدون (على سبيل المثال) حرب الولايات المتحدة في العراق أو إقامة مركز الاعتقال في خليج جوانتانامو، كانوا يستفيدون من عمل الصحفيين والمدونين الأمريكيين لِيظلوا مطَّلِعين على ما يحدث في الحرب على الإرهاب، ووجدوا أن الأصوات الأمريكية التي تنتقد الحكومة الأمريكية مهمة للغاية. وكما هو الحال مع الغالبية العظمى ممن أجرينا المقابلات معهم، لا يُدين كلاوس وأقرانه الولايات المتحدة على نحو كامل. في الواقع، فقد أشار إلى أنه، بطرق عدة، من المرجح أن تلعب أمريكا دائمًا دور كبش الفداء العالمي بحكم مكانتها في العالم في الوقت الراهن. وفي حين أن هناك «الكثير من الانتقادات الموجهة للمؤسسات الأوروبية، فإن أوروبا ببساطة لا تلعب نفس الدور، فهي ليست على نفس القدر من الأهمية، وهي ليست كما تبدو، وليس تأثيرها كبيرًا في كل مكان. إن حقيقة صعوبة تورط الاتحاد الأوروبي ككل، على سبيل المثال، في شيء مثل العراق يجعل من الأسهل توجيه الأنظار إلى الولايات المتحدة.»

وماذا عن رؤيته للمستقبل؟ يشعر كلاوس بالتفاؤل تجاهه. فهو لا يعتقد أنْ ستكون هناك مشكلات جيوسياسية بنفس نطاق تلك التي كانت موجودة في القرن العشرين؛ إذ يعني الانتشار العالمي للرأسمالية أنه حتى دول مثل روسيا، و«ديمقراطيتها التي تشبه الديكتاتورية»، والصين سيكون لها حتمًا دورٌ لتلعبه وفقًا للقواعد الدولية. مهما كانت المشكلات التي قد تظهر، فهو لا يعتقد أنْ ستكون هناك أي مواجهة عسكرية بين القوى الكبرى. ويرى أن هذه المواجهات إذا كانت ستحدث فستكون على القيم، وستكون نقطة التوتر الرئيسية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. يقول:

إن التحدي الأكبر الذي سيواجه أمريكا سيكون التعامل مع حقيقة أن أوروبا سوف ترتفع إلى وضع يساعد الرواية الأوروبية على تحدي الرواية الأمريكية — الرخاء والحرية والتحرر — وستكون هناك رواية أوروبية قوية لنفس القيم تقريبًا، ولكن في شبكة اجتماعية أو مُثل اجتماعية مختلفة؛ أي دولة الرفاهة وما إلى ذلك. وأعتقد أنه يتعين على المجتمع الأمريكي أن يأتي بسرعة برموز جديدة ومقنعة إذا أراد الحفاظ على وضعه باعتباره منارة للحرية والتحرر وما إلى ذلك، حتى لا يتجاوزه الأوروبيون الذين سيكونون أكثر عقلانية وأكثر براجماتية حيال مُثلهم. قد يكون هذا هو التحدي الثقافي الأعظم بالنسبة إليهم.

في بداية حوارنا، أخبرنا كلاوس أنه أمضى سنة يَدْرس في مدينة أتلانتا الأمريكية حيث كان طالبًا في المدرسة الثانوية. بينما كان أساتذته يُعِدُّونه لتوقع الصدمة الثقافية الناتجة عن تجربة الانتقال من برلين إلى أتلانتا، وجد أن الانتقال كان سهلًا. وكما هو الحال في تجربته الشخصية في الانتقال من مدينة إلى أخرى، لا تمثِّل حركة العالم إلى المستقبل العديدَ من التهديدات أو المشكلات بالنسبة إليه؛ فهو يرى أن الديمقراطيات الموجودة بالفعل تمثل أفضل نظام سياسي ممكن؛ هذا النظام الذي شيد مبدأً أساسيًّا لنفسه (وهو الديمقراطية)، ويحاول أن يطبقه على الرغم من التحديات التي تواجهه على طول الطريق (كان المثال الذي قدمه هو تأثير المال على الانتخابات الأمريكية وعملية صنع السياسات)؛ فالمستقبل دائمًا أفضل من الحاضر، وكذا سيكون الحال بالنسبة إلى مستقبله أيضًا.

(٥) لا يمكن أن نصل إلى المستقبل من الحاضر

ما وجدناه مذهلًا حقًّا في هذه المقابلات هو الطريقة المباشرة، الصريحة، اللطيفة التي تَنَاوَل من خلالها الطلابُ مشكلاتِ العولمةِ. ونرى أن هذا النوع من التناول عرضٌ من أعراض حدوث تحول رئيسي. عندما ظهر خطاب العولمة لأول مرة في بدايات تسعينيات القرن العشرين (عندما ظهرت كلمة «عولمة» باعتبارها السبيل المهيمن الذي يمكن من خلاله وصف تحولات القوة التي انبثقت بعد نهاية الحرب الباردة)، انقسم النقاش فورًا إلى معسكرين رئيسيين: من ناحية، كان هناك مَن يروِّجون للحداثة في كل شيء، ويَسْخرون من غير المؤمنين بها؛ وعلى الجانب الآخر ظهر المنكرون لذلك، الذين سَخِروا من المؤيدين لأنهم أغفلوا الحقيقة الواضحة بأن العالم المعاصر ما زال يعمل إلى حدٍّ كبير بنفس الطريقة التي عمل بها طوال السنوات المائتين الماضية. كان هذان المعسكران المتعارضان يشتركان في افتراض أن المستويات المختلفة للنظام العالمي قد تغيرت، أو لم تتغير، معًا. وبعبارة أخرى، كان هناك رأي إجمالي يشير إلى تشابك المستويات الثقافية والاقتصادية والسياسية بحيث أصبح يُرى أن كلًّا منها يتحرك بنفس سرعة الآخرين؛ على سبيل المثال، كان لا بد من ارتباط الفكرة القائلة بأن قوة الاقتصادات الوطنية بدت باهتة بالمقارنة بما تحقِّقه الشركات المتعددة الجنسيات، بتلك التي تقول بأن الهويات القومية كانت تضعف مع صعود الهويات العابرة للحدود القومية، وكذا الربط الضروري بين الفكرة التي ترى أن الإنتاج الثقافي القومي بعد الحرب الباردة كان يقوى بالفعل، بتلك التي تؤمن بالأهمية المتنامية للممثلين السياسيين القوميين. إذن، فما كان ينقص المناقشات المبكرة حول العولمة هو الحساسية إزاء إمكانية أن تكون المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية تتحرك بسرعات مختلفة.

في الواقع، كان هذا التفاوت تحديدًا هو الأقرب لكيفية سير عمليات العولمة بالفعل. لا نحتاج إلى الكثير من التأمل، على سبيل المثال، لندرك أن الأنشطة الثقافية القومية قد تصبح أكثر قوة في نفس وقت مواجهة الاقتصادات القومية لتحديات من جانب السلطة المتنامية لصانعي القرارات الاقتصادية العالمية، أو أن الحركة القومية قد تشهد انتعاشًا تحديدًا بسبب ارتفاع تدفقات الهجرة العالمية (كما حدث مرارًا، بدرجات متفاوتة من النجاح، بدءًا من جان-ماري لوبان في فرنسا، إلى جون ميجور في أستراليا، إلى إنشاء حزب الديموقراطيين السويدي). بمجرد إدراك هذا الانفصال النسبي للجوانب المختلفة، ودمجه في الخطاب السائد (والاحتفاء به لما يقدمه من تباين وتنوع)، ظهرت بقعة عمياء جديدة: الدولة القومية. تعمل فئة الأمة على الحد من الفكر، ويتحول تقريبًا كل نقاش حول العولمة إلى نقاش حول الأمة (هل تم التغلب عليها أم استعادت نشاطها؟ هل هي رجعية أم تقدمية من الناحية السياسية؟) وهذا الجدل الدائر حول كون الدولة القومية «أكثر» أو «أقل» مما كانت عليه يصرف الانتباه عن الوظيفة الأيديولوجية لخطاب العولمة؛ أولًا: للانتصار للرأسمالية في النقاش الدائر حولها، وثانيًا: لإخفاء الجدل حول ما قد يأتي «ما بعد» العولمة. إذن فقد كان الجدل الدائر حول الدولة القومية في هذه المرحلة الثانية من خطاب العولمة بمنزلة مشاركة فعالة في مشروع تأريخ الحاضر باعتباره امتدادًا خطيًّا للماضي، وكذلك استعمار المستقبل من خلال حدود الحاضر.

مع الأزمة الاقتصادية لعام ٢٠٠٨، دخلنا إلى ما يشبه المرحلة الثالثة لخطاب العولمة. وتتميز هذه المرحلة، ليس فقط بعودة الرأسمالية باعتبارها خطابًا يمكن التحدث عنه، ولكن أيضًا بتحول التركيز من دراسة الرأسمالية باعتبارها منطقًا سياسيًّا في الأساس (كما كان سائدًا خلال الحرب الباردة) إلى دراستها في إطارها الاقتصادي. هذا لا يعني أن الاقتصاد لم يكن دائمًا جزءًا من النقاشات الخاصة بالعولمة، ولكنه يعني أن الوقت قد حان ليسود، ويتم التحدث عنه بنحو جديد؛ إذ يتم تناوله ليس بوصفه جزءًا مكونًا من السياسة — باعتباره ذلك المد المرتفع الذي «سيرفع كل القوارب» (وهو التعبير الذي يفضله وزير الخزانة الأمريكي السابق روبرت روبين)؛ ومن ثم يساعد على نشر الديمقراطية — ولكن بصورة أكثر مباشرة وصراحة. عندما يتحدث المرء عن العولمة اليوم، فهو لا يشير إلى الحرية، والديمقراطية، والفردية، والتحرر والفئات السياسية الأخرى، بقدرِ ما يشير إلى الناحية الاقتصادية الصريحة، مثل التوزيع، والإنتاج، والاستهلاك، والربح، والأزمة، وتوسيع السوق، والكفاءة؛ أصبحت مجموعة كاملة من المفاهيم الاقتصادية على مدى العقدين الماضيين جزءًا من الخطاب اليومي المعتاد، كما أنها المقياس الأساسي الذي نستطيع من خلاله تقييم مدى نجاح الروايات الجماعية أو فشلها. لقد أصبحت الفكرة التي تربط بين الرأسمالية والديمقراطية غير مقنعة اليوم كما كانت تلك التي تربط بين الاشتراكية والأوتوقراطية (ولا يعني ذلك أن هذين الربطين قد أصبحا مهجورين). عوضًا عن ذلك، يتم الحكم على الرأسمالية أكثر من خلال ما تنتجه؛ أي نتائجها «الفعلية»: درجة تحقق المساواة، والسلام، والعدل، والصحة البيئية، ونوعية الحياة من خلال الممارسات والمعاملات «الاقتصادية». هذا التحول تحديدًا؛ من الأيديولوجيات السياسية الأكثر رومانسية للرأسمالية إلى الأيديولوجيات الاقتصادية الأكثر واقعية؛ هو ما نلمحه في المواقف الشعورية العامة للطلاب الذين قابلناهم، وهو اعتراف أو رد فعل لهذا التحول الذي يبدو أقل وضوحًا بكثير في روايات الكُتاب المعروفين الذين عرضنا لأفكارهم في الفصل الثاني. حتى بول كروجمان، الخبير الاقتصادي، يتعامل دائمًا مع تحليله للرأسمالية من خلال ليبراليته السياسية، تمامًا كما لا يَسَعُ ناعومي كلاين، المحللة الأكثر انتقادًا للرأسمالية في مجموعة المفكرين الذين عرضنا لهم هنا، إلا أن تتناول الرأسمالية على أساس الفساد السياسي.

سيكون من السهل الشعور بالرثاء تجاه الطلاب لأنهم في المجمل منفصلون عن العالم وأصبحوا غير مهتمين به، ومستسلمين لقدرهم في ضوء نطاق النظم التي تشكل الواقع الاجتماعي العالمي، فضلًا عن حجم المشكلات التي نتجت عن هذه الأنظمة. ولكن هذا ليس صحيحًا تمامًا. إن عدم وجود أيديولوجيات قوية يمكن التأكيد على صحتها بسهولة، أو التأكيد على الروايات السياسية التي يصفها الخبراء، يوحي لنا بوجود فرصة سياسية. لم يُبدِ الطلاب أي اندهاش على الإطلاق من الفساد وعدم المساواة اللذين تَنْتَهجهما الرأسمالية؛ الرأسمالية العالمية. هذا الحذر إزاء الأفكار الراسخة قد لا يفسح المجال لحقبة مريحة يمكن العيش فيها، ولكنه يحوِّل اهتمام الطلاب بعيدًا عن تأكيد أي إيمان أعمى بالأطروحات السبع التي نفيناها في نهاية الفصل الأول. نحن لا نقصد أن اتخاذ موقف جذري جديد يجب أن يركز على العنصر الاقتصادي للرأسمالية على حساب كل العناصر الأخرى، ونحن بالتأكيد نقدِّر ارتباط المجال الاقتصادي الذي لا ينفصم ليس فقط بالمجال السياسي، ولكن بالمجالات الثقافية والنفسية كذلك (وأن الرأسمالية نفسها تشكيل تاريخي يضم كل أشكال النشاط البشري). في الواقع، يبدو أن الطلاب فهموا هذا بينما في نفس الوقت (وعلى عكس العديد من مُنظري العولمة) لم يفترضوا أن المستويات المختلفة لهذا التشكيل كانت تتحرك بنفس السرعة، أو كانت مرتبطة بأي شكل محدد (على الرغم من أنهم كانوا أيضًا يميلون إلى ذكر بعض العبارات الشائعة عما كانت عليه العولمة وكيفية عملها).

نريد أن نجادل بأن التفضيل المؤقت للاقتصاد اليوم هو أحد سبل اجتياز «الحد الزمني» للعولمة الذي يُنهي أي تكهنات تتناول ما سيأتي بعدها. كما نريد أن نجادل بأن التفضيل الاقتصادي لا يعني أن على كل شخص أن يعود إلى الجامعات ويتخصص في الاقتصاد، خاصةً مع هيمنة الأسس الكلاسيكية الجديدة على مناهج العديد من أقسام الاقتصاد بالجامعات بطريقة نادرًا ما تتطرق إلى السياسة (في أمريكا الشمالية، على سبيل المثال، تم تقسيم معظم أقسام الاقتصاد السياسي إلى قسمين؛ واحد للاقتصاد، والآخر للسياسة منذ عقدين)، وعدم وضع تلك المناهج لإطار نظري للعلاقة بين الاقتصاد والعلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية. إن كيفية تعلُّم علم الاقتصاد بدقة من خارج الدراسة الجامعية هي إحدى أكبر التحديات اليوم، ويبدو أن الطلاب يفهمون ذلك تمامًا، مع اهتمامهم بعلم الاقتصاد (أو على أقل تقدير، إدراكهم لأهمية علم الاقتصاد) على الرغم من عدم دراسته رسميًّا. (بالمناسبة، هذا هو أيضًا الموضع المناسب للتأكيد على تقديرنا لناعومي كلاين، فعلى الرغم من انتقاداتنا لعملها إلا أننا نعتقد أنها تقدم نموذجًا يُحتذى به في كيفية القيام بمثل هذه الدراسة الذاتية.)

بالإضافة إلى هذا الاهتمام المتزايد بعلم الاقتصاد، لاحظنا أيضًا تغيرًا كبيرًا في الموقف تجاه الأمة؛ ليس الأمة التي ينتمي إليها كل طالب، ولكن تجاه الأمة ككيان أعم. وبدلًا من تعديل معظم الردود حول كيفية سير الأمور في بلدانهم، كان الاتجاه السائد في أغلب المقابلات هو التحدث بنحو أعم حول المستقبل، والرأسمالية، ومعاداة أمريكا، وغيرها من الموضوعات. وحتى في هذا القسم من المقابلات الذي ركز على مخاوف الطلاب الخاصة المتعلقة بأمتهم، كانوا عادة يستدعون أسبابًا فوق قومية أكثر مثل تدمير البيئة أو الهياكل الجيوسياسية.

هذان الميلان — الأول: الانتباه إلى العمليات اليومية للاقتصاد الرأسمالي بنحو يفوق الاهتمام بالادعاءات السياسية المثيرة للرأسمالية، والثاني: الارتباط الذي انتهى نسبيًّا بالأمة التي يعيش فيها كل طالب — أدهشانا واعتبرناهما مبشرَين للغاية. في الواقع، نرى أن هذين الميلين يفضيان إلى نقد أيديولوجي حاسم للهيمنة المؤقتة للعولمة. وكما تأكد في كل مقابلة من المقابلات الستين، لم يستطع الطلاب أن يتخيلوا (ولم تكن بهم رغبة في أن يتخيلوا) ما يأتي بعد العولمة. بدلًا من رؤية هذا على أنه مشكلة، نرى أن هذا التشاؤم يشير إلى احتمالات جديدة: عزوف عن التسليم بالروايات القائمة حول كيفية تحسين الحاضر من أجل المستقبل، ورفض رؤية أي بريق أمل في الأفق في الاتجاه الحالي للعالم، ونقد صريح للأنظمة السياسية التي يعيشون فيها، وإدراك للحقائق الاقتصادية القاسية في العالم. وحتى لو كان معظمهم يرغبون في نظام ديمقراطي اجتماعي، وهو المثال الوحيد المتاح لنظام «أفضل» قليلًا من ذلك الذي يحيون في إطاره، فإن الشكوك العميقة تملؤهم كذلك حول النظام الاقتصادي المصاحب له؛ وهو: الرأسمالية. ويميل الطلاب إلى البحث عن الأشياء التي قد تنقذهم، وكيف لا يفعلون ذلك؟ ولكنهم يتفقون معنا في النقاط التالية: التعليم لا يقدم أي ضمانات، والأخلاق لا تأثير لها على الواقع القاسي للجيوسياسة، والأمة محل شك، والرأسمالية لا يمكن الوثوق بها، والتاريخ اختفى إلى حدٍّ كبير، والمستقبل لا يبشر إلا بعواقب وخيمة.

إن اللحظة الراهنة غير ملائمة، وخطرة، وتمتلئ بعدم اليقين. والمستقبل، وهو احتمالية وجود بديل للأنظمة التي نحن محاصرون بداخلها الآن، يبدو من الصعب تخيله؛ فكيف يمكن أن نصل إلى المستقبل من الحاضر؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤