الفصل الثانى

١

لم يكن إبراهيم حين استقر رأيه على الزواج من تحية يعرف قبل ذلك بدقائق — أى نعم بدقائق — أنه سيتزوجها، أو ينوى ذلك، أو يفكر فى زواج.

وكان ابن عمته حامد — أو ابن بنت عمة أبيه إذا أردت الدقة — قد دعاه إلى ضيعته لقضاء أيام مع لفيف من الأهل والأصهار، وقال له فيما قال إن أسرة «طاهر بك» — عميد إحدى القرى المجاورة — ستكون هناك.

ومعها ابنتها «تحية».

وابتسم …

فقال إبراهيم: «هذا الجمع يحشد إذن لهذا؟»

فقال حامد: «الحقيقة أنها فى حكم الخطيبة، وإن لم يجر كلام فى الموضوع».

قال إبراهيم: «إنك تذكرنى بمن قال لأمه إنه سيتزوج بنت السلطان، فما ينقصه إلا أن يوافق السلطان وبنته. هل أعرفها؟»

قال حامد: «لا أظن. فقد تعلمت فى الإسكندرية حيث اتخذ أبوها دارًا فى الرمل قريبًا من دارنا التى بعناها. وفى دارنا عرفناها وأعجبت بها. وأنت تعرف رغبة أبى فى تزويجى، ولكن بلدتنا ليس فيها كفؤ لنا. وقد أدرت عينى فى مركزنا كله فلم أجد من هو أكرم وأرفع منزلة من طاهر بك وإن كان دوننا ثروة».

فتبسم إبراهيم وقال: «يخيل إلى من يسمع كلامك أنك ستتزوج طاهر بك أو بقراته وعجوله أو أرضه، أو جاهه..».

فهم حامد بكلام صرفه عنه إبراهيم بقوله: «لا تقل شيئًا.. إنى فاهم. هذا أنت.. كالريال النمسوى الذى ضرب فى القرن التاسع عشر.. يتعاملون به فى الحبشة، وقد بطل استعماله فى بلاده».

وأزجى إليه التهنئات «سلفًا» ووعد بالسفر.

وخطر له وهو فى القطار أنه آن لحامد أن يتزوج، فقد ناهز الخامسة والثلاثين، ولأبيه الحق فى الإلحاح عليه فما رزق من الولد غيره. ولا خير فى العزوبة لرجل انقطع للعمل فى الأرض فما يفارق القرية إلا فى الندرة القليلة ولأمر تستدعيه مطالب الزراعة. وحدث نفسه أن حامدًا حكيم حازم، وأن أباه موفق. ومن حكمته أنه أقنع أباه بالتخلص من الدار التى بالرمل؟ فإن الإقامة فيها معظم شهور السنة تنأى عن «الغيط»، وتكل أمره إلى الأجراء الذين لا يبالون أجاد الزرع أم كندت به الأرض.

وانثنى إلى نفسه فقال إنه هو أيضًا فى مثل سنه أو أعلى منها، ولا علاقة هناك تؤذن بزواج. وطافت برأسه صور الماضى فنحاها، كما يهش المرء الذباب. وليس له أرض يحمل همها، فقد كان له أخ أسن منه — عليه رحمة الله — «كنس ومسح» كما تقول العامة وأعفاه من هذا العناء. وقد عنيت أمه بتعليمه، وآتته القدرة على كسب رزقه بعرق الجبين، فما حاجته لأرض؟ وإنه ليكسب كثيرًا، ولكنه متلاف لايبقى على شىء ولا يحسن أن يدخر قرشًا أبيض ليوم أسود، أترى هى الوراثة؟ وإن ابن عمته ليرى إنفاقه عن سعة فيتوهمه أغنى منه وخيرًا حالا.. وضحك إبراهيم وقال: إن هذا هو «الستر» الذى لا ينفك الجمهور الأكبر من الناس يسألون الله أن يضفيه عليهم. ولقد عمل فى الصحافة — وإنه الاَن لحر — يكتب فى الصحف والمجلات، ويؤلف الكتب، و«يدبج» التقارير والمذكرات لمديرى الشركات بالعربية الذين يحسنون غيرها، ولا يجحد فضل الله عليه.

وما زالت أمه تحثه على الزواج وتدعوه إليه وتقول له: إنها مريضة، إحدى رجليها فى الدنيا والأخرى فى … العياذ بالله.. ولا قدَّر الله. وكبر فى وهمه أنه خليق بأن يضل ويشقى إذا فقد أمه؟ فإنها عصمة له. وثقلت عليه وطأة هذا الخاطر، فنفاه بجهد، وذهب يفكر فى تحية، كيف هى ياترى؟ وماذا عسى أن يبلغ من صبرها على حياة الريف وهى بنت الإسكندرية، المشرقة الوضاءة؟

وبلغ القرية، وقد مالت الشمس للمغيب، فاستقبله على الجسر، عند مدخلها خادم أبلغه أنه أعد له «الكشك» الذى فى الجزيرة، وأركبه زورقًا إليها، وكان الجو سجسجًا، وأشعة الشمس الذهبية ترقص على الماء، فانشرح صدره، وأمر الخادم أن يكف عن التجديف، فبقى — الخادم — كالتمثال، ومقبضا المجدافين فى حجره، وطرفاهما يقطر منهما الماء، والزورق يسبح على غير هدى. وصارت الشمس فى عينيه فرفع كفه وحجبها، فعاد يرى النهر المتوهج و«الكشك» القائم على شاطئه والخضرة اليانعة حوله، وود فى هذه اللحظة لو أنه كان إلى جانبه.. من؟ وأحس أن حياته ناقصة.. ودار فى نفسه ما يشبه الحسد لقريبه، فأنكر هذا، وبادر فقال إنه يرجو له السعادة مع تحية … ترى كيف هى؟ طويلة؟ قصيرة؟ ثقيلة؟ خفيفة؟ ومتكلفة أم على الفطرة؟ وهز كتفه ومط بوزه، وتنهد. وأمر الخادم أن يرسو به.

وكان الكشك عبارة عن بيت من خشب، فيه غرفتان أرضيتان، واحدة للخادم والأخرى متخذة مخزنًا لما عسى أن يحتاج إليه الضيف، وفوقهما غرفتان أخريان للنوم والجلوس، وحولهما شرفة من جهات ثلاث. والأثاث بسيط مريح: طارقتان — كنبتان — بينهما «كليم» من نسج الصعيد، فوقه منضدة مستديرة عليها رخامة، وإلى جانبها كرسيان من الخيرزان، ورف بجانب الباب عليه أكواب وفناجين للقهوة والشاى. وفى غرفة النوم سرير وكرسى هزاز، ومشجب ومنضدة صغيرة. وعلى حافة الشرفة قلل شتى الأحجام والأشكال ملأى بالماء ليبترد، وعلى أرضها وسائد منتثرة للجلوس.

وصرف الخادم وأخرج من حقيبته زجاجة ويسكى صب منها قيراطين فى كوب وشعشعه بالماء، وقعد على كرسى خرج به إلى الشرفة، وتبسم وقد تذكر أنه كتب مرة إلى صديق، من هذه الجزيرة — ومن هذا الكشك — يصف له الموقع والمقام، فما كان من صديقه إلا أن بعث إليه بالرد بهذا العنوان:

«بكشك بجزيرة فى مجرى النيل بين قريتى كذا وكذا، لا يمكن أن يخطئها عامل البريد إلا إذا غلط وركب النيل على فرعه الاَخر».

وخطر له وهو ينظر إلى الماء والخضرة، أنه لا يريد أن يعبر إلى حيث القوم فى «الدوار»، وماذا يصنع فى ذلك الزحام؟ إن حاجته إلى هذا السكون المريح. وقد يستغربون تخلفه عن العشاء معهم، ولكن فى وسعه أن يعتذر غدًا بطول الرحلة وتعب السفر ووجع الرأس. وعلى ذكر ذلك قال لنفسه إن رأسه سيوجعه على التحقيق إذا ظل يعب فى هذا الشراب.

ونهض وانحدر على درجات السلم الخشبى وتلفت فلم يجد أحدًا، حتى الزورق اختفى، لابد أن يكون «آدم» قد عاد به إلى الضفة الثانية. إذن سيجىء على الأرجح بحمولة أخرى. وقطب، فقد كان يؤثر أن يظل وحده فى هذه الجزيرة الساكنة، وأن يسعه أن يقول كما قال الشاعر بلسان مستفرد وحادٍ فى جزيرة كهذه: «إنى ملك على كل ما أرى!». وراح يتمشى، فأشرف على مزرعة بطيخ، فنزع واحدة صغيرة ودقها على ركبته فانفلقت وانشطرت، فإذا هى حمراء مغرية، فقضم، فاستحلاها، فعكف على القضم، وابتل أنفه وخداه، وهو لا يحفل ذلك، ورمى القشرة البيضاء الماسخة، واستأنف المشى غير جاعل باله إلى الوقت.

ودخل الليل فقعد على الأرض، ومد ساقيه، ومد بصره أيضًا ليرى الماء. وكان يسمع خريره، ولا يبصر إلا سوادًا يخلطه فى رأى العين بالأرض، إلا حين تلتمع صفحته من بعيد. وشاع فى نفسه الاغتباط، فصح عزمه على التخلف عن العشاء هناك. وحدث نفسه أنه اعتاد، فى حياته المضطربة أن يتقبل بقبول حسن ما تجيئه به الساعة التى يكون فيها، وأن لا يضيع أو يفسد ما يفيد فيها بالطمع فيما عسى أن يجنى من سواها. وإنه لكذلك.

وإذا بحفيف توهمه بادئ الأمر من أوراق الشجر، وكان الظلام والسكون قد أرهفا سمعه، فخيل إليه أن أحدًا قادم، فحدق فى الليل فلم ير شيئًا. وكانت الكلاب تنبح — على الناحية الأخرى من النيل — والضفادع تنقنق حوله، ولكن هذه الأصوات كانت تزيد السكون عمق وقع فى نفسه.

وخاطبه صوت عذب فيه نبرة الشباب: «وحدك؟»

فوثب إلى قدميه من الدهشة، فقد كان صوت فتاة، ما فى ذلك شك. واضطرب وهو ينهض بسرعة، فكاد يقع، لعجلته ولقلة استواء الأرض، وامتدت يداه كأنما يحاول أن يمسك شيئًا يعتمد عليه فيتقى الوقوع. فعل ذلك بالغريزة، ولو أتيح له أن يفكر لما دفع يديه. وكانت دهشته أعظم لما التقت يداه وهما تذهبان فى الهواء بجسم لين، ولو فكر لما تعجب.

وقالت: «لا تفعل هذا مرة أخرى. كدت توقعنى فى الماء».

كأنما كان قد تعمده.

فقال — وفاته أن يعتذر —: «لم أكن أدرى أن الماء قريب من هنا». وكان لا يرى منها إلا ثوبها الأبيض، وكان مع ذلك غامضًا.

ولم يسمع جوابًا فقال: «أنا إبراهيم … قريب حامد».

وانتظر، فجاءه الجواب فى الظلام الدامس: «أنا تحية.. تحية طاهر».

وأضحكه أنه كان ينحنى لها فى الظلام، ولكنه صد نفسه عن هذا العبث وقال: «ستكونين سعيدة مع حامد.. رجل طيب جدًّا.. لا لأنه قريبى. بل لأنه طيب».

فلم تجب عن هذا، وقالت: لأ أظنك تتعجب وتتساءل عما جاء بى إلى هنا؟ وحدى فى الليل … لا ألومك إذا تعجبت … ولكنه لم يكن يسعنى إلا أن أفعل … كان لابد أن أفر … لم أعد أطيق الزحام … ضاق صدرى جدًّا … عمتك ست طيبة جدًّا … غريبة … لا متعلمة ولا.. مثقفة.. ولكنها ذكية.. ذكية جدًّا.. أدركت حاجتى إلى الهواء الطلق.. وإلى البعد من هذا الزحام.. والراحة من الضجة.. ورافقتنى إلى هنا!. وضحكت ثم قالت: «لفت نفسها بملاءة سوداء، كأن أحدًا يمكن أن يراها فى هذا الظلام، وجاءت معى، تركتها فى الكشك، وخرجت أبحث لها عنك، فما جاءت إلا من أجلك. تالله ما أطيبها … تحبك كحامد».

ولم يستغرب ما أنبأته به، فقد كان يعرف حبها له، ولا عجب فإنها بنت عمة أبيه. ولكنها كانت تحنو عليه حنوًا شديدًا، ولعل كل هذه الرقة منها له، مصدرها حبها لأمه هو؟ فقد كانتا صديقتين. امرأة طيبة على كل حال، ولها عنده منزلة تقارب، وإن كانت لا تعادل، منزلة أمه. فإن هذه لا شريك لها ولا مزاحم وكلهم يعرف ذلك، وما من أحد يسوءه أن منزلته عنده دون منزلتها.

وقالت تحية: «إنهم هناك يلغطون بغيابك».

قال: «أحسب أنى فررت سلفًا. كما تفرين من الضجة».

وسكتا.

وراعه بعد هنيهة أنها تدندن — بصوت خافت ولكنه يسرى إليه — بكلام لا يتبينه.

ثم قالت وقطعت الغناء: «لست أحسن أن أغنى. ولكن هذا الليل الساجى … وهذه الجزيرة المنعزلة.. والماء الذى يومض من بعيد وإن كان أدنى شىء … كل هذا أغرانى … سامحنى».

فلم يقل شيئًا.

وبقيا واقفين برهة، ثم قالت، وخيل إليه أنها تبتسم: «إن حديثنا عبارة عن فترات من الصمت، هل نعود؟»

فمشى خلفها صامتًا، وسمعها تقول، كأنها تحدث نفسها: «غريب … منذ نصف ساعة كنت بين عشرين أو يزيدون، وإذا بى أشعر فجأة أنى وحدى … أحسست بوحشة عجيبة وسط القوم.. أعنى أنى لم أشعر فى نفسى بوجودهم حولى.. كيف تعلل ذلك؟»

قال: «لعله الحب».

وندم على ما قاله، وود لو كان لسانه استل أو قطع، ولم يقله، وخشى أن تحمله على محمل السخرية أو التقريع.

وخيل إليه أنها استدارت ونظرت إليه. على أنها لم تقل شيئًا، حتى بلغا الكشك.

٢

وراَها فى الكشك — على ضوء مصباح بترول تحمله حلقة مدلاة من السقف — وخيل إليه أن وجهها متهضم، ولونها باهت، وأن شفتيها ذابلتان، وأن جسمها كله صغير منحوف لا تُرى عليه نعمة، وخطر له أن لعل هذا اليبس والسهوم من ضوء المصباح، أو لعلها أساءت اختيار الثوب ولونه أو لم تحسن تفصيله على قدها، ونصف جمال المرأة يستفاد من تفصيل الثوب ولونه.

وقالت له عمته، بعد أن رحبت به، وربتت عليه، ولثمت جبينه، ولثم هو يدها: «يا ابنى. لماذا أبطأت علينا؟»

فقال بإيجاز: «السفر، والكسل، والاسترخاء».

قالت: «لا. هذه آفة العزوبة الطويلة، اعتدت الوحدة». وابتسمت فانبسطت أسارير وجهها المخدد، وقالت: «عندى لك عروس. تعال، وتمل بالنظر إلى حسن وجهها».

قال: «من تكون المسكينة؟»

قالت: «إيه؟ لا تقل هذا، إنك لقطة».

فقهقه وقال: «أنت وأمى … لا أدرى أيكما شر؟»

واشتركت تحية فى الحديث، فقالت: «هى زهرة … زهرة غضة نضيرة».

فألفى نفسه يسألها: «مثلك؟»

قالت: «لا تسخر منى».

وقالت عمته: «نعم ياسمينة مثل تحية».

وهز رأسه كالموافق. وحدث نفسه أنه لا يسعه غير هذا.

وسمع تحية تقول: «ليتنى كنت ذاك، ولكن الحقيقة أنى … إن الذى يرضى بى يحتاج إلى الصبر الطويل، والحلم الكثير. فإنى كثيرة النسيان، أنسى مشابك شعرى ولا أذكر أين وضعتها … وأهم بقطف قرنفلة فأقطف وردة، وأذهل عن الطعام وأنا أقرأ، وأذهب إلى محل أو بيت أعرفه، فادخل فى شارع غير شارعه، وأترك نقودى ومناديلى وأشيائى الأخرى فى كل مكان، ثم أروح أزعج الناس بالسؤال والبحث، ثم إنى لا أحسن شيئًا، ولست أكتم عيوبى أو أخفيها، ولكنهم يضحكون ولا يصدقون».

فألفى نفسه يقول مرة أخرى: «سيسعد بك حامد».

ودار فى نفسه قولها إنها دائمة النسيان، وإنها لا تحسن شيئًا، وإنها تشغل بالزهرة والكتاب عن الطعام وتدبير المنزل. وكان يسمع خرير الماء، تحت قدميه فيما يحس، ويرى ضوءًا خافتًا على الضفة الأخرى. وحدث نفسه؟ وهو يكلم المرأتين — العجوز والصبية — أن تحية لن تكون ربة بيت كأمه، ولكنها أجدى له منها … ومن يدرى!. لعل زهرة مطلولة تكون أشهى — وألزم أيضًا — من حكمة ربة البيت المدبرة، وعسى أن يكون الفل والياسمين والقرنفل والنرجس والورد على أغصانه أو فى زهريته أجلب لطيب الحياة، ورغد العيش. ولم يطل عمر هذا الخاطر سوى هنيهة ثم طرده ونحاه. وراح يقول لنفسه إن المرأة التى يتزوجها، إذا قسم له الزواج، تحتاج أن تكون كأمه، حسن تدبير، وسيكون عليها أن تؤدى طوائف شتى من الواجبات المختلفة، ولن تكون فى بيته للزينة والمتعة وحدهما. كلا. فليس هذا جزاء أمه.

ورأى نفسه يقول: «صبرًا حتى تتزوجى. وحينئذ تتغيرين».

وأمنت العجوز على ذلك وأكدت لتحية أن الزواج يذهب بكل ما أحدث التدليل والفراغ.

وقالت تحية لإبراهيم: «أواثق أنت أن الزواج يفعل هذا؟ ليته يفعل».

قال: «هذا أثره فى العادة … يحدث تغييرًا على كل حال».

قالت: «لا أدرى لماذا كنت أتوقع أن تقول لى شيئًا آخر … أهم».

قال وهو يبتسم: «آسف.. ربما كان حامد أقدر على ذلك … وأولى».

وبدا له أن كل هذا الحوار غير لائق، فى الكشك، وفى جزيرة منعزلة. وخيل إليه مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتحرك، ولا يقدر أن يعبر إلى الضفة الأخرى … فى هذه الليلة على الخصوص. وكبر فى وهمه أن لا وسيلة إلى الاتصال بهذه الضفة الأخرى، كأن الجزيرة قد سبحت وانتقلت إلى موقع اَخر قصى … موقع ليس له حدود، ولا على جانبيه ضفتان. وكم من «ضفة أخرى» فى الحياة ينشدها المرء ويشتهيها ويتمناها ولا يبلغها.

ولم تقل له عمته من العروس التى اختارت له. ولكنه عرفها تخمينًا، وهل فى القرية كلها من بنات الأسر الظاهرة من تستحق أن توصف بالجمال غير «كريمة»؟ وكان أبوها قد اختفى بعد مولدها وانقطعت أخباره فليس يعرف أحد أحى هو فيرجى، أم ميت فيندب؟ وآثرت زوجته له الموت كراهة منها لأن يكون حيًّا، ويهجرها هذا الهجر القبيح، وإن كان قد ترك لهما أرضه ولم يبعها ولم يرهنها، فنشأت كريمة يتيمة وإن كانت لعلها غير ذلك. وكان عهد إبراهيم بالبلدة غير قريب ولكنه تذكر كريمة كما راَها آخر مرة: وكانت تفرق شعرها الوحف من الوسط وترسله على جانبى وجهها وتربطه من الخلف بأنشوطة، فكأن محياها من شعرها الدجوجى فى إطار. وكانت وجنتاها كالوردتين، وعيناها سوداوين نجلاوين، وفيهما سعة وفتور. وقدر إبراهيم أن تكون قد ناهزت السادسة عشر من عمرها الغض فهى صغيرة، ولكنها لابد أن تكون الآن ناضجة. وتبسم إذ تذكر حديثًا رُوى له لما كان فى البلدة اَخر مرة، وكان على الطعام مع الأسرة، وكانت كريمة وأمها حاضرتين. وكانت كريمة تتهامس هى وجارة لها فى مثل سنها، وكان ذلك يستغرقهما ويكاد يلهيهما عن الطعام. وكانت عمته على يمينه، وإلى جانبها فتاة صغيرة أخرى، فمالت الفتاة على عمته فألصقت فمها الدقيق — وعليه ابتسامة رفافة — بأذنها وقالت همسًا — كذلك جرت الرواية —: «هل تعرفين فى أى شىء تتحدث كريمة وفتحية؟» قالت المرأة: «كلا. ولكنا نحن أيضًا نستطيع أن نتهامس مثلهما». قالت الصغيرة: «ولكن لا يجوز أن يسمع إبراهيم ما أقول»، فوعدتها الكبيرة أن تكتم الخبر، وأكدت أن الكلام سيدخل من أذن ويخرج من أذن. فزوت الصغيرة ما بين عينيها وقالت: «إذن سيصك سمعه لا محالة»، فضحكت الكبيرة وطمأنتها على أن الكلام الخارج من الأذن الأخرى لن يبلغه، فأنبأتها أن كريمة تحب إبراهيم …

وأقبل الخادم الهرم «عم آدم» يسأله ألا ينوى أن يتعشى؟ فقال إبراهيم إنه يكتفى ببطيخة، وطلب منه أن يقطعها ويقشرها ويضعها على الشرفة لتبرد. ففعل، ووضع معها سكينة، فاستغرب إبراهيم وقال له: «كان الأولى أن تجىء بشوكة إذا كان لابد من شىء آكل به» قال: «هذه لتصرف الشمامة» فلم يفهم وسأله «أى شمامة؟» قال: «التى تشم البطيخ»، فضحك إبراهيم وصرفه، وغطى الطبق بفوطة. ولكنه نام قبل أن يأكل منها فى ليلته.

وفى الصباح عبر النهر إلى الضفة الأخرى التى زايلها الغموض والنأى فى النهار، فالتقى بالقوم جميعًا جلوسًا إلى المائدة يفطرون. وكان الجو رقيقًا، والهواء معطرًا بأنفاس الحقول والرياض. وأقبلت تحية تسلم عليه كأنها لم تره من قبل، فاستغرب هذا وكبر فى ظنه أن لعلهما كتمتا رحلتهما إليه البارحة فلماذا؟ أتراهما يخشيان أن يثير الخبر غيرة حامد؟ ومم يغار الأبله؟ وأيتهما صاحبة الرأى فى الكتمان؟ وألفى نفسه يسخط على عمته.

وحدث نفسه وهو يختلس النظرات إلى تحية أنها أقل جمالاً حتى مما توهمها البارحة فى الظلام. ولم يخدعه المصباح حين أراه أن خديها متهضمان، ووجد أن عينيها عسليتان، وبدا له أن جمال شعرها فى أنه كأنما يأبى أن يخضع للتمشيط أو التصفيف أو الترجيل. وكانت لا قصيرة ولا طويلة. على أنه أحس أن عليه أن يغير رأيه فيها، وإن كان لم يدمن النظر إليها، فإن لها لجمالاً، وإن شبابها ليفيض عليها رونقًا عجيبًا، وإن فى صوتها لحيوية «حادة» هذا هو الوصف الوحيد لما يصافح سمعه من نبراتها، وخيل إليه أن حيويتها تكاد «تؤلمها». واستغرب منها أنها طويلة النظرات حديدتها، ولكن فيها مع ذلك رقة مستوردة، ولينا وراء هذه اللحظات الحداد. ثم رشاقة جسمها ومرونة بدنها …

وأمسك عن الاسترسال، وأنكر من نفسه أن تطوف برأسه هذه الخواطر، وشعر بارتباك، فأطبق فمه وزمه كأنما كان يتكلم. وأحس أن وجهه يضطرم، وخشى أن يلاحظ أحدهم ذلك، وسمع حامدًا يقول لتحية، وكأن الصوت يأتى من بعيد: «إنك خليقة أن تحبى إبراهيم فإنه من هؤلاء الخياليين الذين تعجبين بهم. يحلم بدنيا سعيدة حافلة بالخير، له ولمن حوله من أهل وإخوان».

وسمع نفسه يقول فى جواب ذلك: «إنى ما فكرت فى هذا قط، ولكنك لابد أن تكون على صواب».

وغاظه ما انطوى عليه كلام حامد من التهكم، وأعياه أن يجد له مسوغًا وراح يتعجب لتحية مرة أخرى.. كيف يا ترى ستكون حياتها مع هذا الرجل الذى لا يلبس إلا الجلاليب الفضفاضة، ولا يعنى بغير القطن والفول والذرة والبرسيم والجاموسة والثور؟ وود فى هذه اللحظة لو يعرف رأى حامد فى تحية.. وانثنى من هذا يسأل نفسه عن رأيه هو فيها؟ وامتعض وقال لنفسه إنه لا حاجة به إلى جواب، ولا حق له فى أن يكون له رأى فيها، فإن شأنها لا يعنيه.

ونهضوا عن المائدة وذهب هو إلى الشرفة المطلة على النيل من بعيد، وكانت كريمة قد سبقته إليها وهو لا يدرى. فخشى أن يساء تأويل ذلك عند قوم عهده بهم أنهم لا تفوتهم كلمة أو حركة من ضيف، ولا يبعد أن يحملوا ما يكون منه على غير محمله، وخطر له أن يقظتهم وسوء ظنهم ثمرة عصور طويلة من الظلم والاستبداد وقلة الأمن والاطمئنان، وأنهم ورثوا ضعف الثقة بالعدل وحسن النيات.

وكانت كريمة متكئة على السور، فاعتدلت لما دنا منها، وتبسمت له. ولكن لسانه لم يسعفه، فلم يجد كلامًا حاضرا، وكان يرى جانب وجهها المتورد، وشعرها الفاحم المرسل، وتذكر فى هذه اللحظة تحية — لا يدرى لماذا؟ — وهى تدندن بما لا يتبين فى ظلام الليل على حافة الجزيرة. وأغضبه أن تنثنى خواطره مرتدة إلى تحية، وأن لا يستطيع الكلام مع هذه الفتاة المشرقة الديباجة، الصابحة المحيا، كأن على فمه شبح يد يصده عن فتحه.. ورآها تنظر إليه بعينيها الواسعتين الفاترتين، ويفتر فمها الدقيق المغرى، وخيل إليه أن أنفاسها أسرعت، وأن صدرها يعلو ويهبط، وأحس أن شبابها يحمل عليها حملة رجا ألا تكون عنيفة هوجاء.

وقال فجأة، ومن غير أن يفكر: «أنت أجمل من رأيت يا كريمة».

فاتقد محياها وقالت وهى مطرقة: «يسرنى أن هذا رأيك».

ورآها جادة، وكان صوتها عميقًا ساكنًا كصوت الماء حين ينتهى إلى بركة. ووقفا بعد ذلك صامتين. ثم مضت بخطوات بطيئة إلى الداخل. فلما بلغت الباب التفتت إليه ولم تقل شيئًا، وألقت إليه ابتسامة خفيفة.

وارتد بعدها داخلاً فالتقى بتحية فسألها متبسمًا: «متى الزواج إن شاء الله؟» فهزت كتفيها، ثم قالت وأغفلت سؤاله: «الجزيرة أحلى من هنا».

فلم يدر أهى تصرفه، أم تبدى رأيا. وقال: «الحق معك. سأعود إليها».

قالت: «الآن».

وقال وقد ذهب عنه الشك: «نعم، فإنى بى حاجة إلى عزلتها. هى عالم اَخر تسكن فيه النفس، وتطمئن، وتكف عن الجيشان، وتستريح من شدة المخض. ثم هناك الخضرة والماء — كهنا — ولكنهما هناك أوقع، حتى كأن الماء أمهى، والخضرة أخضر».

قالت: «والوجه الحسن»؟

قال: «هذا أتركه لحامد».

ولم يدر لماذا قال هذا. وكأنما لم تلتفت إلى ما سمعت، فسألته ورفعت حاجبيها قليلاً: «والمخض؟»

فابتسم، وأطرق هنيهة ثم رفع رأسه، وحدق فى وجهها الشاحب، وهم بكلام، ثم عدل.

وتركها … إلى الجزيرة.

٣

وقال لعمه — كما اعتاد أن يدعوه —: «إن ضيفكم يدعوكم أن تكونوا ضيوفه».

فضحك الشيخ وصار فمه الفارغ كمدخل الكهف. وكان فى يده مغزل وصوف يصنع منه جوارب للشتاء. وقال إنه ليس هناك ضيف ومضيف. فقال إبراهيم: «إنما أعنى أن الجزيرة أحلى وأطيب، وأن المقام فيها أحرى أن يكون حميدًا فى كل وقت». وألفى نفسه قد حمس وهو يقول: «ثق يا عم أنها قطعة من الجنة وإن كانت كلها بطيخًا، وليس فيها سوى حوض واحد صغير من الورد خلف الكشك. ولكن أليس البطيخ نصف فاكهة أمة محمد؟ وما أراها ينقصها إلا الحور العين، فأرسلهن إليها، وأطلقهن فيها واعمرها بهن، وسأسبقهن لأعد لهن متكاَت أو حصيرًا مما فى المخزن. وما أظن أن الحصير مما يفرش فى الجنة لأهلها السعداء، ولكننى أظن أن الحصير فى جنة، يكون أوثر من السجاد العجمى، والعبرة بشعورك بأنك فى جنة».

واضطجع فى الزورق ويده على الدفة، وأمامه فى وسط الزورق عم آدم يجدف، وطاف برأسه خيال كريمة، فانطلق يفكرْ فيها وفى شبابها الغض وشعرها الوحف، وتذكر أنهما تقاذفا كرة قبل بضع سنوات، فكان ثدياها الناهدان يرتجان، فكف عن ملاعبتها إشفاقا على نفسه.

وكان لطول ما استنفدت الوحدة من حياته كثير التفكير طويله، يستطرد من خاطر إلى خاطر ببطء وعلى مهل، كالذى أمامه الدهر كله فلا موجب للعجلة. ومن أجل ذلك كانت عباراته — حين يتحدث — قصيرة موجزة، وأشبه بفهرس الكتاب، تومئ إلى ما فيه ولا تبسطه، إلا حين يقصد إلى الإفهام، أو يرى مدعاة للبيان. وكان فى الأغلب هادئًا لا يكاد يخرجه شىء عن طوره، ولا يسبق لسانه عقله وإن كان عصبيًا، لطول ما راض نفسه على الحلم والاتزان.

وخطر له وهو مضطجع فى الزورق أن لسانه أفلت منه زمامه وهو يحادث تحية. وهز رأسه لما خطر له ذلك مستنكرًا «فضول» تحية وتطفلها على خواطره، كأنما كانت هى التى أقحمت نفسها.

وترك الزورق ورده إلى الضفة الأخرى ليجئ بمن يشاء أن يجىء ممن يقبل دعوته. واستلقى على الوسائد فى الشرفة فنام. ثم استيقظ على مثل أصوات العصافير تناديه، فألفى عمته قاعدة على عليا درجات السلم الخشبى. وأجال عينه فرأى كريمة حيث كان هو قاعدًا فى الزورق، وعينها على الماء، وكفاها على الحافتين وعلى صفحة خدها الوردية خصلة متمردة من شعرها المرسل، فخطر له أن هذه فرصة … بعد دقيقة أو اثنتين — إذا ظلت كما هى — أهبط إليها. ونطت سمكة من الماء ثم غطست. وأبصر «ذهبية» مقبلة يقطرها زورق بخارى كبير فوقف ينتظر مرورها، ودنت فأبصر الذين على سطحها يطلون على الجزيرة، فتمنى لو كان معهم. وإذا بأحدهم يصيح: «يا ولاد الكلب …»، وأضحك إبراهيم هذا الأسلوب فى الإعراب عن الإعجاب، واستغرب أن يحسد ركاب الذهبية الأنيقة الفخمة سكان جزيرة ليس فيها سوى البطيخ، ونسى أنه وصفها بأنها قطعة من الجنة، ولكن لعل الجنة ليست جنة إلا نسبيًا، وفى أوقات دون أخرى.

ولم تبرح كريمة مكانها من الزورق، ولم ينزل إبراهيم إليها، وكأنما أتعبتها الجلسة فتحركت ووضعت يديها وراء رأسها فبرز صدرها الناهد. ولم يسعه إلا أن يرى أحد ثدييها ناتئًا راسخًا كالكمثرى. وسخط على نفسه حين جرى بباله هذا، فرد عينه عن النظر، وأدارها فى الجزيرة، فرأى تحية مع أتراب لها، فتذكر دندنتها فى الظلام وشعر بأسف لأن ألفاظ الأغنية قد فاتته، فخطا خطوة، فضربت الشمس وجهه وأزاغت بصره، فلم يعد يرى سوى نقط سود ترقص فى الجو، فلفت وجهه، فرأى تحية تنظر إليه. وخيل إليه أن فى نظرتها حيرة واضطرابا، وأنها أجمل من رأى — أجمل على كل حال من كريمة — ونزل إليها لا إلى كريمة. وقال بلا مناسبة: «لقد كانت الشمس فى عينى»، فلم تقل شيئًا، ولم تنظر إليه. وكان وجهها إلى الشمس وشفتاها منفرجتين، وكفها مرفوعة إلى جبينها. ثم التفتت إليه وقالت: «أحسست بشىء غريب …» وأمسكت ولم تزد، وأطرقت هنيهة ثم مضت عنه — فى صمت — إلى الكشك.

ولم يحدث فى بقية ذلك النهار سوى أن الطعام جاءهم من «الدوار» فى الزورق فأكلوا وتلاغطوا، ثم رقد من رقد، وذهبت البقية تتمشى فى أرض الجزيرة. وكان إبراهيم ممن رقدوا، فقد كانت عادته أن ينام قليلاً بعد الغداء. وأطل على حوض الزهر من غرفة نومه، فبدا له كالمنديل الموشى. وطلب القهوة، وكان يتوقع أن يجيئه بها عم اَدم، فجاءته بها كريمة، فجرى بخاطره أن هذا من مكر عمته، أو من يدرى؟ لعلها بريئة وهو يظلمها. وصبتها له فى الفنجانة، وناولته إياها، كما تفعل المرأة إذ تقوم على خدمة بعلها. وثقل على نفسه هذا الخاطر. وجلست أمامه وهو مغمض عنها لغير علة يدركها، فتوجع لها فى سره، وعكف على القهوة يترشفها، والسيجارة يدخنها ولا يكاد يرفع رأسه، وفى أذنيه دندنة تحية، وفى عينيه منظرها وهى واقفة تظلل نفسها من الشمس براحتها.

وملت كريمة الانتظار والإعراض فسألته: «فيم تفكر؟»

فقال — بلا تفكير —: «فيك».

فضحكت ضحكة السرور والخوف والأمل والشك وقالت: «إن هذا خير على كل حال من الصمت».

ولم يكذب إبراهيم حين قال إن تفكيره كان يدور عليها، وهو يتصور تحية، فقد كانت خواطره تروح وتجىء من هذه إلى تلك كرقاص الساعة. وكان يشعر بحيرة لا يدرى لها سببًا، فإن تحية خطيبة حامد أو فى حكم الخطيبة، فلا داعى لانثناء خواطره إليها، وقد يسعدها أو لا يسعدها فذاك شأنهما وحظها. أما كريمة فشأنها مختلف جدًّا، وهى حرة طليقة مثله ومن واجبه أن يقصر خواطره عليها وأن لا يعدوها إلى سواها — إلى تحية على الخصوص — إذا كان لا معدى عن التفكير فى إحداهما. فإذا اقتنع بأن زواجه بكريمة يكون ملائمًا فبها، والا … وإلا فقد انتهى الأمر. فما هو مقيدًا بشىء. وليس من الضرورى أن تكون المسألة مسألة حب … فى البداية لا ضرورة … فإن الحب شجرة تنمو، ولا تخلق كاملة فى لحظة بأغصانها وأورا قها ونوارها.

وجاء الليل، على عجل فيما أحس، وتمشى مع ضيوفه فى الجزيرة. وانفض من حوله، وبقى هو على الشرفة وحده وخلا بنفسه وخوالجه. ولم يكن ما يدور فى نفسه يبلغ أن يكون خواطر أو معانى، فقد كان لمحات خاطفة ينقصها الاتصال والتسلسل، كالشرار المنبعث من وقع حوافر الجياد على أرض صلبة. ولا كان «عواطف»، على قدر ما كان يستطيع أن يتبين. وكان الأمر يبدو له أشبه بالومضات من خلال السحب. وأورثه ذلك الغموض اكتئابًا لا تعليل له يعرفه.. كلا لم يكن هذا اكتئابًا، وإنما كان رأياً لا يتكون ويتولد شيئًا فشيئًا ويبرز من هذا الغموض الذى كان يلفه فى مثل الضباب الكثيف.. وإذا به يدرك فجأة أنه لا يستطيع أن يتزوج كريمة.

وأدهشه إدراكه لهذا. وحاولى أن يطرد ما باغته منه، ولكنه شعر أن هذا عبث وأن لا مفر له من الاعتراف بهذه الحقيقة التى كأنما صاح بها فى وجهه صائح. وأحس بمثل اللطمة حين تبين أنه لا يحبها، ولا يستطيع أن يحبها، لا لعيب فيها، بل لأن هذا هو شعور قلبه. ورفض ما كان يقول من أن الحب خليق أن يجىء على مهل وبحكم الألفة.. كلا لا سبيل إلى هذا. ولو تزوجها لقضى عليها بالشقاء السرمدى.. وليس الأمر أمر امرأة يلقى إليها بزمام بيته. ولو كان كذلك لكان سهلاً وخيرًا أيضًا.

وخطر له أن لعله قد شط وأسرف، فأراد أن يراجع نفسه ويحاسبها، فسألها: «ما عيب كريمة؟» ونفى أن بها عيبًا. فإن لها لجمالاً، وإنها لعلى حظ من التعليم، وفى مقدورها بفضل نشأتها أن تتولى أمور بيته، وتريح أمه. وكره هذا اللون من التفكير، وحدث نفسه أنه لا يشترى بقرة من السوق. إذن ما علة هذا النفور من كريمة، وستشقى المسكينة، إذا صح ما كان بلغه عنها من. حبها له، وإذا صدقت دلائل ما رآه اليوم منها.. ولكن هل هى تحبه؟ إنها صغيرة، ولا يبعد أن يكون ما تشعر به — إذا كانت تشعر بشىء — ثمرة الإيحاء وجنايته. ولعل عمته الماكرة قد ظلت تحدثها عنه وتعدها به حتى تعلقت المسكينة بهذا الأمر، وشغل به خيالها، وصارت تحدث به نفسها وتناجيها. ولكن شبابها خليق أن يكون عونًا لها، وسيندمل الجرح بسرعة، والشباب كفيل بذلك. والآن ماذا ينبغى أن يصنع؟ هل يخاطب عمته لتكف عن إلقاء الفتاة عليه؟ أو لا يقول ولا يصنع شيئًا؟

ونهض. وفى مرجوه أن يفتح الله عليه بالرأى الأصوب، وانحدر ومضى إلى الشمال حتى بلغ حوض الورد، وكان الظلام قد أرخى سدوله، فاستغرب أن يبدو له الورد أسود فى الليل، وخطر له أنه لم يلاحظ ذلك من قبل. ثم استأنف المشى، فالتقى بمن لم يتبين، ولكنه قال: «تحية؟» نطق اسمها غير مستغرب كأنما كان يدور على لسانه طول عمره. ولم تجبه. ولكنها بدت له كأنها تترنح، وكبر فى ظنه أنها ستقع، فخطا إليها ودنا منها وأحاطها بذراعيه، فلم تدفعه، ولم تلق بنفسها عليه. وكانت كأنها غير مفيقة وليست تامة الوعى، وكان رأسها مطرقًا، وذراعها على ذراعه. وظلا هكذا برهة، وهو مطوقها بذراعيه، وهى واقفة لا تبدى حراكًا، ولا تُقبل ولا تنفر، كأنما ليس لها فى الأمر رأى أو خيار، ثم رفعت رأسها، فأحنى رأسه، وباسها.

ولم يشعر حين باسها بنشوة، وإنما كان شعوره باغتباط هادئى. وكان مبلغ إدراكه لما هو فيه شبيهًا بصوت الموجة مقبلة من بعيد. وتلقت قبلته أول الأمر بلا مجاوبة، كأنها تمثال، ثم حركت شفتيها بغتة، وباسته، فأحس كأنه يكاد يختنق.

وكأنما ارتجت الأرض فتحاجزا، وتراخت السواعد إلى الجنوب. وكان يستطيع أن يرى، على الرغم من الظلام، جانب خدها وبياض جيدها، ويحس رشاقة قوامها، ويود لو تكلمت، لو نطقت بأى شىء، ولكنه لم يسمع سوى أنفاس غير منتظمة، ولم يجد هو كلامًا يقوله سوى: «يحسن أن نجلس».

وجلسا، متباعدين، غير متلامسين. وخطر له وهو يتدبر تعمدها التباعد، أنها المعرفة التى أحوجت آدم وحواء إلى الخصف بورق الجنة، وكانا قبل ذلك لا يستحييان من العرى ولا ينكران شيئًا. ثم قال بعد برهة: «لست آسفًا، فلا تتوقعى منى الإعراب عن أسف». وقالت بعد فترة: «ولا أنا. كلا، لست اَسفة، وإنى …».

ولم تتمها.

فهم بكلام، فرفعت كفها الدقيقة الرخصة إلى فمه تصده، وقالت: «إنك لا تدرى … ولكنى تمنيت أن يحدث ما حدث … لم يبق إلا أن تقال الحقيقة فلأقلها. ولم أكن أدرك على وجه واضح ما أبغى، ولكنى كنت أحس برغبة غامضة فى شىء غير جلى. أخشى أن ترى كلامى هذا فارغًا، ولكنى لا أعرف كيف أقول غير ذلك، وإنما أصف ما خامرنى».

قال: «لست أراه فارغًا، فإن له لصدى فى نفسى. أنا أيضًا كنت جاهلاً ما يضطرب به صدرى، وكنت أحسى دفع الدوافع إلى مجهول أو غامض يأبى أن يخرج إلى النور. وقد عرفنا الآن، وهذا هو المهم، وسأخبرهم بما حدث، فما يليق ولا يعقل أن يبقى هذا مكتومًا وموقفهم منك ما تعلمين وأعلم. يجب أن يسدل ستار على هذا الفصل، وإلا صار هزلا مرًا».

فألحت عليه أن لا يقول شيئًا، وأن يدع لها تدبير الفكاك من الموقف، فإنه موقفها، فأبى. فعادت تلح، وقالت: «إن ظهور الحقيقة يثير العداوة بينه وبين أهله، وبينهم وبين أهلها، ويخلق لغطًا هم جميعًا فى غنى عنه، وقد يحمل أباها على العناد فيأبى عليهما الزواج. وفى الوسع اتقاء هذا كله بالحكمة وحسن التدبير».

وبدت له الحكمة فيما تشير به. ولكنه رأى فيه ضربًا من التاَمر والتواطؤ غير لائق، وذهب إلى أن الصراحة أمثل وأكرم. فوافقت على أن هذا تآمر قد تأباه المروءة، ولكنه تآمر يتقيان به ما هو شر من لوثته — يتقيان به لغطًا أليمًا لا داعى له ولا مسوغ؛ وعداوة يسهل اجتنابها، وعذابًا غليظًا قد يجره عليهما استنكاف أبيها، وما قد يغريه به من العناد، ويكسبان به أخيرًا سعادتهما.

فأصر على الإباء أنفة منه أن يسلك هذه السبيل العوجاء، وأنفة — لم يصارحها بها — من أن يكل إلى امرأة تدبير أمره. فعرفت له ذلك، ولكنها هى أيضًا أصرت على رأيها. ولما رأته لا يقتنع أنذرته أنها لا تملك إذن إلا أن تتحامل على نفسها وتضحى بها، وتتزوج حامدًا إذا طلبها، وخيرته بين الإذعان لرأيها وركوبها هذا المركب الصعب، فلم ير سبيلاً إلى غير الإذعان.

ولكنه قال لها: «سأرحل فى الصباح على أول قطار، فما أرانى أطيق أن ألقاهم وفى قلبى هذا السر».

وأصبح الصباح فسافر من غير أن يعلم بسفره غير «عم اَدم».

وبعد شهور وشهور — كأنها الأحقاب طولا — تزوج تحية، وعاشا فى «تبات ونبات»، ولكنهما لم يرزقا ما يرزق الأزواج، من صبيان وبنات.

٤

وعاش إبراهيم مع تحية سنوات، وفيا لها بالعين والقلب. وكان يطوف ويعمل ويكد، ويعود إلى البيت فيلقى إليها بما أفاد من مال. وكان ما يكسب من الرزق يجيئه من هنا وههنا، وبين بعضه والبعض الآخر فترات تطول وتقصر. ولكنه فى جملته — وبفضل تدبير أمه ثم تحية — واف بالحاجة، كاف لستر المظهر. وكانت أمه هى ربة بيته، وظلت كذلك زمنًا بعد زواجه؛ فلما آنست من تحية الرشد وشامت من سيرتها الخير، ألقت إليها بالزمام اَمنة مطمئنة، ولم تجشم نفسها حتى عناء الإيحاء والتوجيه، ووكلت كل شىء إلى ذكائها وفطنتها وعقلها وحكمتها.

وكانت كبيرة السن ضعيفة القلب، فأتيحت لها الراحة التى تعذرت قبل زواجه، ووسعها أن تقول لتحية يومًا: (الآن أستطيع أن أودعكما، وأنا سعيدة قريرة العين. فإنك كنز ظفر به، ووقع عليه إبراهيم، وأرجو أن يكون رأيك أنه أهل له. على أن فى يديك أن تجعليه كذلك، وكما تحبين. والرجال يحبون أن يكونوا سادة، ولكنهم يكونون بين يدى المرأة الحكيمة أطفالاً رضعًا، وأنا أحب أن يطول عمرى فأسعد بسعادتكما، ولكن وجودك أغنانى عن البقاء والتلبث، وأشعرنى أنى كنت متعبة مرهقة، وأفقدنى الباعث على التشدد، فأنا أنهد بسرعة. وليس لى إلا رجاء واحد إليك، فقد كنت لابنى أمًا وصديقًا، وأخشى أن لا يهون عليه أن يفقدهما جميعًا بعد طول الإلفة، فيتغير وتنكرى منه ما لا عهد لك به، فلا تحملى ذلك منه على غير محمله ورديه إلى ما عرفتك، لا إلى ما عسى أن يطوف برأسك من البواعث، وآثرى معه الحسنى — في كل حال — وطول الإناة، ولا تنسى أنه إنسان مخلوق من طين، وثقى إذا فعلت ذلك أنه سيعود إليك — كما كان يعود إلى — فيفتح لك مغاليق قلبه. وقد يكلفك هذا شططًا، ولكنك حقيقة أن تحمدى المغبة إذا رضت نفسك على أن تكونى صديقته لا زوجته فقط. لا تجعليه يشعر أنه فقد أمه؟ أى صديقته، فإنه يتعزى عن فقد الأم ولا يتعزى عن فقد الصديقة. والذنب لى فقد أنسيته الأم لما صرت له صديقة. لقد كان يفضى إلى بما لا تسمعه أم من بنيها أو بناتها لأنه كان يثق أنى أفهم وأعذر. فى حجرى هذا كان يدفن وجهه ويبكى كالطفل فيتفطر قلبى. فليس أقسى ولا أوجع من بكاء رجل … نحن النساء يا بنتى دموعنا قريبة، وإن ذلك لمن رحمة الله بنا. ولكن الرجل لايبكى.. لم يخلق للبكاء مهما بلغ من لوعة الحزن.. فهل تدرين ماذا كنت أصنع؟ كان يرتد بين يدى طفلاً فأرتد أول الأمر أمًا، ولا نخجل — لا هو ولا أنا، فما يستطيع أن ينسى، ولا أستطيع أن أنسى أنه رضع من ثديي هذين، ثم أعود فأصير له صديقًا. لقد كان الأمر أسهل على لأنه رضع من ثديي، ولم يرضع منك، ولكنك تستطيعين أن تعوضى ذلك إذا استطعت أن تكونى صديقة قبل أن تكونى زوجة. دعى الحقوق والواجبات … تناسيها … نحيها، وغضى عنها، فإنها قيود لك وله.. وصدقينى فقد جربت.. لم يكن أبوه مثال الوفاء والقناعة فى نظر الزوجة، فقد كان مزواجًا.. وقد شقيت به زمنًا وكدت أخسره، ولكنى استعدت وفاءه وثقته وحبه واحترامه لما أنسيته أن لى حقوقًا عليه، وأن عليه واجبات لى، وأن بيننا هذا الحساب الذى لا ينقضى، فصرت بذلك امرأة جديدة عنده وتكشفت له جوانب لم يكن يفطن إليها أو يراها.. وإنها لفى كل امرأة. ولكن النساء اللواتى تزوج لم يبدينها له كما أبديتها ولم يقدرن على ما قدرت، فعاد لى بقلبه وعقله جميعًا. ووصيتى الأخيرة يا تحية أن تجعلى دأبك ووكدك أن تجددى نفسك له؛ فإنى أخشى فتور الألفة. لا تكونى له فى يومك كما كنت فى أمسك، ولا تظهرى له فى مباذلك أبدًا. ولا تقولى إنه زوجى ويعرفنى معرفتى نفسى فما داعى التكلف؟ لا.. ينبغى أن تكونى له فى كل يوم امرأة جديدة تتصدى له وتغريه وتفتنه. وإنه لعناء يا بنتى ولكنها لعنة جنسنا، ولا حيلة لنا إلا أن نتكلف العناء إذا أردنا أن نحتفظ ببعولنا.. وسامحينى يا تحية واغفرى. لى أنى أنصح لك كأنى أسىء الظن بعقلك فإنها تجربتى، ومن أنفع بها إذا لم أنفعكما؟»

فقالت تحية، وهى ترد الدمع بجهد: «أخشى يا نينا — أى يا أم وكانت هكذا تدعوها — أن أكون خيبت أملك»، تشير إلى أنها لم تجئها بذرية وإلى الخوف من أن تكون أعقمت.

قالت: «لا تقولى لى هذا فإنها إرادة الله. فإن تكن خيبة أمل فهى لك قبل أن تكون لى. وإنى كون جاحدة فضل الله على إذا لم أشكره، فقد كان لى ولد فصار لى ولد وبنت. ولا أتكلف التواضع فأقول إنى لا أستحق هذه النعمة، فقد أنعم الله على بها، فلابد أنى عنده أهل لها. نعم، لقد رضى الله عنى حين رزقنى بك، ولا قنوط يا بنتى من رحمة الله فاصبرى تؤجرى».

قالت: «إنما أسفى من أجله لا من أجلى، فإنى راضية قريرة العين، ولكن أكبر خوفى أن يثقل عليه هذا الحرمان».

قالت: «لا تخافى فإنى أعرف ابنى لا بال له إلى هذا. همه ما يقرأ ويكتب. وما يُخرج خير عنده من البنين والحفدة — أو هو عدله على الأقل — وهذا من لطف الله فلا تقلقى فإنى أخاف أن يذبلك القلق، ولا تضمرى الحسرة واللهفة فإنها شر ما جنى على المرأة وحياتها مع بعلها. ويا بنتى إن ذلك ليس فى أيدينا، وإنما نحن كالأرض لزارعيها، ولسنا ننبت إلا ما زرعوا».

وجاء يوم آذنت فيه بفراق، وكانت تحية وحدها معها فى البيت، فامتنع صبرها — على فرط تجلدها لهذا التوديع الذى كانت تعلم أنه لابد آت — وانحدرت العبرات — «كاللؤلؤ الرطب» — من مدامع قرحات، واضطرمت فى أحشائها نار أليمة الحرقات.

وكانت المسكينة كالمشفى على الغرق، وهو لا يحسن من السباحة إلا الغوص. وكان التمزيق الذى تحسه فى صدرها يجعلها — على الرغم منها — تدفع يديها ورجليها فى الهواء، كأنما تحاول أن تتعلق بشىء. وكانت تنفخ كأنما فى جوفها بركان حام هائج. وعيناها متفتحتان جاحظتان، ولكنهما لا تكادان تبصران، وحملاقهما ثابت لا يتحير أو يتحرك، وجيدها يكاد ينخلع من شدة التلوى، وعروقه ناتئة، وأوردته دارة كالوارمة. وكان منظرها هذا وما تكابده من الآلام المبرحة يقطع من تحية نياط قلبها، فارتبكت لحظة ثم عاد إليها الرشد فدعت طبيبًا ثم آخر وودت لو استطاعت — أو أجدى — أن تحشد لها جمهرة الأطباء الحذاق. وجاء أولهما — وكان وثيق الصلة بالأسرة — فدخل عليها هاشًا باشًا كعادته، فتجلدت وتكلفت الابتسام له، فقال هذا أحسن وفحصها وهو يمازحها وطمأنها. وجاء الثانى فتشاورا ثم حقناها بالمورفين واتفقا على العلاج. وانصرف ثانيهما وبقى الأول حتى جاء إبراهيم، فارتمت على صدره تحية تبكى بأربع. وقال الطبيب إننا نفعل ما نستطيع والله يقضى بما يشاء، ولكنى غير يائس.

وحبست تحية نفسها عليها تمرضها. وكان الطبيب يعودها فى اليوم مرة واثنتين. واستراحت الأم من الاَلام فى اليومين الأولين واَذنت الحالة بالتماثل وقاربت أن تشابه أحوال الصحة، فاستبشر إبراهيم وتحية، ولكن الطبيب ظل يقول إذا مضت لها سبعة أيام رجوت لها البرء. وكان ما خاف أن يكون، فانتابها كالاختناق، فتسترخى إحدى العينين، ويتهدل أحد الشدقين، ويغيض الدم من الوجه، وتصبح الحدقة زجاجة. وكان هذا ربما طال ربع ساعة. ولكن فترات الراحة كانت طويلة، ثم قصرت وتلاحقت هذه الأزمات على قصر مدتها، وضعفت المقاومة وزهدت فيما وصف لها من طعام ودواء، فكانت لا تقبل من ذلك شيئًا إلا مرضاة لابنها وتحية.

وكان صباح، فأومأت إلى تحية أن تدنو منها وقالت لها همسًا: «يا تحية أوصيك بأمور. إنى أعرف أنى هامة اليوم. فلا صراخ ولا عويل، فإنه أنكر ماسك مسمع حى. ولا نساء يحتشدن حولى، ويبكين مخلصات أو منافقات أو مجاملات. ولا سواد تلبسينه على. ولا مأتم يقام ولا جنازة تشيع، وإكرام الميت دفنه، فعجلوا به، والله يبارك لكما فى حياتكما».

وأمسكت هنيهة تستريح ثم تبسمت لها فى عينيها، وقبلت ما بينهما. وفاضت روحها فى قبلتها، على جبين تحية.

وخالف إبراهيم وصية أمه — بكرهه — فقد كان يخشى شماتة بعض من يعلم أنهم يتنسمون أخباره ويتمنون له السوء. وخاف أن يحملوا العمل بالوصية على محمل الفقر والعجز، فكلف نفسه شططًا، واحتفل بدفن أمه وأقام لها مأتمًا «كنجوم الليل زهرًا» ولم يذرف دمعة واحدة وهم يدفنونها، ولم يقل لدافنيها ترفقوا بها وإن كان قد هم بذلك، حين رآهم يحملونها بغير احتفال. وسبقهم فانحدر إلى القبر فسوى لها التراب بيديه، وكاد يعفر به وجهه. وتلقى تعزيات المشيعين — وهو باسم — وقلبه يدمى، والدموع فى حلقه. ولكنه على فرط تجلده لم يستطع البقاء فى البيت، فقد كان يرى أمه فى كل مكان، وكان كل شىء يذكره بها. وانتابه الأرق والوسواس، وتلفت أعصابه حتى صار يشق عليه أن ينام وحده على سريره. واحتاج أن يشعر لإنسان آخر إلى جانبه. وكان هذا الاضطراب يخجله، فتحامل على نفسه وأخفى ضعفه. غير أن تحية فطنت إلى ما به، وكانت عينها عليه، وقلبها معه، فزعمت أنها خائفة فهل يسمح لها بالانتقال إلى جانبه فى سريره؟ ففعل مرحبًا مسرورًا. ولم يفطن إلى حيلتها. ووسعه أن يغالط نفسه ويوهمها أنه يحمى امرأته ويرعاها ويحرسها، وفتر إزعاج الهواجس، وضعف صوت الهواتف. ولكنه ظل لا يطيق البيت فتحول عنه إلى سواه، وإن كان عزيزًا عليه حافلاً بالذكريات الحبيبة إليه.

وخالفت تحية الوصية أيضًا فلبست السواد. وكانت تعرف أن السواد والبياض سيان، وأن العبرة بما ينطوى عليه القلب. ولكنها خشيت سوء القالة والتأويل، وإن كان لها من الشجاعة وقوة النفس ما يعينها على مخالفة العادات وإهمال التقاليد. ولكن إبراهيم كان يكره السواد ولا يطيق لونه، فانتظر حتى مضت الأربعون، ثم قال لها: «إننا لا نزور ولا نزار — على الأقل الآن — فما فى زيارة حزين متعة، ولا للناس فى ذلك رغبة صادقة، فاخلعى هذا السواد فإنه يثقل على نفسى. وما أظن بك إلا أنه يثقل عليك أيضًا. إنه لون قابض يجثم على الصدر، ويشد الجلد، ويسقم القلب، وأنت تعرفين حبى لأمى، وأنا أعرف حبك لها، فهل تظنين أنها تطيب نفسًا — لو كانت دارية — بحالنا هذا وما نحن فيه؟»

فنضت السواد — على كره وإشفاق — ولغطت نساء بذلك فيما بينهن، ولكنها لم تجعل بالها إليهن، وإن كن يجدن الوسيلة إلى إبلاغها ما يقلن فيها. وكان عزاؤها حين يتأدى إليها هذا اللغط أن: «هى تعرف، هى تعرف. لا سواها».

وكان الانتقال إلى الحياة العادية بطيئًا بطبيعة الحال. ولكنهما عادا سيرتهما الأولى على الأيام. ولم ينسيا هذه الأم الكريمة، وأنَّى لهما أن يفعلا؟، ولكن حزنهما عليها تحول إلى اغتباط عجيب بذكرها. فكانا يقضيان بعض الوقت — أحيانًا — وهما يتساقيان ذكرياتها، فينتشيان. وكانت تحية ربما توقفت وهى تلبس ثيابها استعدادًا للخروج معه إلى السينما أو لزيارة صديق أو قريب، وألقت إليه نظرة وديعة، فيها لين وحنين، فيفهم. ويذهب بها إلى قبر أمه فيقفان عليه لحظة — لا يقولان شيئًا ولا يقراَن حتى الفاتحة — ثم يعودان من حيث جاءا، ويذهبان إلى حيث شاءا، وقد استراحا وشعرا أنهما سراها.

وقال لها إبراهيم يومًا: «هل تعرفين يا تحية أن أمى فترت إرادة الحياة فى نفسها وضعف تعلقها بها لما اطمأنت إليك ووثقت أنك لى أم وزوجة وصديق فى آن معًا؟»

فلم تدر أينبغى أن تسر أم تألم؟

ولكن السرور غلبها مع ذلك وقالت: «لقد استراحت فقد كانت تكتم ألمها وتحاذر أن تبديه. وكنت أعرف ذلك، وأعرف أنه يسرها أن لا أظهر أنى أعرف ما تكابد. لم أر أشجع منها ولا أرق قلبًا. لو وزع حنو قلبها على الناس جميعًا لعادوا ملائكة رحمة».

ولكن إبراهيم خامره خاطر غريب جعل يقوى ويستبد بنفسه على الأيام. وكان يدرك بعقله أن هذا من تلف أعصابه. ولكنه مع ذلك لم يستطع أن ينحيه. ولم يفد فى دفعه ما أحاطته به تحية من وسائل التسرية وأسباب التلهى. وكان منطق هذا الوسواس أعجب من الوسواس نفسه، فكان يقول لنفسه إنه كبر وأسن. أليست أمه قد ماتت؟ والأمهات يمتن فى كل سن، عن بنيهن، فى كل عمر. ولكن أمه قد ماتت وهى مقتنعة بأن به الاَن غنى عنها. فما معنى ذلك؟ أليس معناه أنه شب عن الطوق جدًّا جدًّا؟ ودخل مداخل الرجال الذين لا يحتاجون إلى تعهد ورعاية؟ فهو يدلف الاَن إلى الشيخوخة. لقد كانت أمه تشعره فى حياتها أنه ما زال حدثًا بل صبيًا صغيرًا. وكان هو يشعر بين يديها أن فى وسعه — بل ما زال من حقه — أن يرتمى على صدرها ويرضع ثدييها لا يصده عن ذلك شاربان ولحية، وإن كان يحلقها ولا يبقى عليها، فكان وجودها يفيض عليه شعورًا قويًا بالشباب والفتوة. وكان يحس أنه لن يكبر ما بقيت حية. فلما فقدها فقد هذا الشعور وأحس أنه ارتفع عن تلك السن التى كان لا يحس أنها تعلو فى حياتها. كان فرعًا من أصل، فاجتُث الأصل واقتُلع، واقتطع الفرع وغرس فصار أصلاً له عروق وأطناب. وراح يشعر أنه من الأرض مباشرة وإليها. نعم بقيت له تحية، وهى لا تنى تبره وتسره، وتتعهده، وتحنو عليه. ولكنها تعتمد عليه أيضًا — تتكئ عليه كالعصا — تقوى نفسها وتُصيبها بالاستمداد منه، كما كان هو يقوى نفسه ويصيبها بالاستمداد من أمه، فصار هو لتحية ما كانت أمه له، متكأً، ومعتمدًا، ومعين قوة، وينبوع حرارة، وليس له هو أحد يمتح منه …

وهو لم يرزق ولدًا، وليس هذا لمحزنه. ولكن أهو يا ترى عقم؟ وتمثلت له أرضان، واحدة خصيبة والأخرى جديبة. واحدة يرف نباتها ويربو ويهتز، ويوحى إلى النفس معنى القوة والنعمة والرى. والأخرى خاوية موحشة توحى معانى الفناء والعبث. وتراءت لعينيه شجرتان واحدة عليها ثمرها ونوارها، والأخرى لا ثمر عليها ولا زهر لها. وتساءل عن الشجرة اليابسة ما انتفاعها بالثمرة المضمرة التى لا تطرح؟ ثم أليس الإثمار تفتحًا والعقم انسدادًا؟

ودار فى نفسه ما هو أثقل وأبعد من الصحة. أحس أنه وثب فجأة من الطفولة التى أطالت أمه عهدها إلى الكهولة دفعة واحدة، وأن شبابه ذهب خطفًا، ومر كالقذيفة، فلم يتلبث ولم ينعم هو به وألفى نفسه يتساءل — وينكر من نفسه تساؤلها — ترى كيف طعم الشباب؟

وخطر له أن هذا جحود، وأن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الحاضر إلا بعد أن يصبح ماضيًا، وأن من تضييع الحاضر والماضى جميعًا — وتقصير العمر أيضًا — أن يترك نفسه يفكر على هذا النحو وينكر شبابه، ويمحوه ويمسحه من لوح الذاكرة التى لا يحسن الإدراك والفهم إلا بها.

وانثنت خواطره إلى تحية. فحدث نفسه أن شباب المرء يشعر به المرء فى سواه — على الأقل أكثر مما يشعر به فى نفسه. وتساءل: كيف هذا؟ أترانى خرفت؟ لا. ليس هذا من الخرف.. إن صدى شبابى فى نفوس الناس.. أثره ووقعه.. إحساسهم به.. مجاوبتهم له.. هذا هو الذى يُشعر المرء بشبابه.. يعنى ماذا؟ هل معنى هذا أن الشباب — أو الشعور به — إيحاء؟ وقال لنفسه، بعد إطراق طويل إنه يحسب أن الأمر كذلك إلى حد كبير.. كل شىء فى هذه الدنيا يكاد يرجع فى مرد أمره إلى الإيحاء.. لو اجتمع نفر على واحد، وألحوا عليه بالإيحاء الخفى أو الظاهر لأقنعوه بما شاءوا.. بأنه عاقل أو مجنون.. وشاب أو كهل، وظريف أو ثقيل … ولا يمنع هذا أنه فى الواقع غير ذلك.. نعم الشباب قوة ذاتية ولكن الشعور به رهن أيضًا بما يتلقى المرء من إيحاء الحياة.

وكان يشعر ويدرك أن فى تفكيره عوجًا، أو على الأقل يحب أن يعتقد ذلك. ولكنه لم يستطع أن يقيم العوج أو يثنى خواطره ويصرفها إلى مجرى اَخر. ووجد نفسه يتساءل عما توحى إليه حياته وعن نوع إيحائها أهو إيحاء بالشباب والقوة، أم بالكهولة ودلوف الشيخوخة وذهاب النعمة والغضوضة؟ وتنهد أسفًا فليس فى حياته غير تحية. وليست تحية بالامتحان الكافى أو المقنع. واستهجن أن يجرى هذا بخاطره، وعده ظلمًا لتحية، وقلة وفاء. وعالج أن يطرده ولكنه أبى إلا أن يستولى على نفسه حتى صارت المسألة عنده كيف يكون الأمتحان.

وانتابه وسواس آخر جرته عليه النوراستينيا، وكان قد أصيب بها فى صباه وعانى تبريحها سنوات، وكان أخوف ما يخافه فى هذا العهد الأول «الحمى» فكان لا يكاد يأكل شيئًا أو يتعب إلا توهم أنه يجد مسها وأنه سيحس بعد ذلك نفضها وإرعادها ثم تشتد عليه حرارتها وتدوم فيموت. وكان لا يريحه ويعفيه من هذه الأوهام إلا أن يشرب شيئًا يُسيل العرق فيهدأ ويطمئن. وكان فى قرارة نفسه يعرف — كما يدرك بعقله — أن هذا كله من فعل الأعصاب وأنها أوهام فى أوهام وأنه لا شىء به يشكوه ولا خوف عليه من حمى نافض أو صالب. غير أن ما كان يعتريه كان يغلب إرادته فكان يحس هذا الخوف على حين يبقى عقله مطمئنًا. وكان ربما قعد على الطعام وهو سليم مبرأ وفى ظنه أن سيقش كل ما على المائدة من شدة الرغبة فيه والشهوة له، فلا تكاد تمتلئ عينه منه حتى يرد يده عنه وينهض ويلبس الصوف — حتى فى وقدة الصيف — ويلف عليه بطانية سميكة ويقول: «اغلوا لى كراويا»، فتتنهد أمه اَسفة وتقوم إليه حتى تسرى عنه. ويا ويحه إذا رأى جنازة أو فاجأه عويل نسوة على ميت، أو صادفه رجل له وجه حانوتى، أو مر به غراب يخطف، أو وقعت عينه على بومة.. وأتعبه الأطباء ولم يجده ما كانوا يشيرون به عليه، وأحس أنه لو صدر عن رأيهم لطار عقله، فقد كانوا يأمرونه بالراحة والكف عن العمل وينصحون له باتقاء الإجهاد ويشيرون بالسكنى فى مكان خلوى ساكن لا ضوضاء فيه. وكان هو يرى أن العمل تسلية وأن الراحة تلتمس لا بالكف عن العمل، بل بتنويعه والانتقال من شىء إلى شىء، وأن التعب يجعل نومه هادئًا عميقًا وأنه على كل حال لا يطيق السكون والجمود، وأنه إذا كف عن العمل لم يسعه إلا أن يدير عينه فى نفسه ويفكر فى حاله فيزداد اضطرابًا. وكان يحدث أمه بهذا ويروى لها حواره مع الأطباء، ويحاول أن يقنعها بصواب ما يذهب إليه وخطأ ما يشيرون به، كأن اقتناعها بأحد الأمرين يرجح الكفة ويحسم النزاع، ففهمت أمه حقيقة الحالة وأدركت أنها هى التى بيدها علاجه. وكان رأيها أن الأطباء على حق وأن ابنها أيضًا مصيب، فقصدت إلى طبيبه زاعمة أنها هى المريضة وعادت وقد استقر رأيها على النهج الذى بدا لها أنه أوفق. وكانت تعرف حب ابنها لها فأرادت أن تصرفه عن نفسه وتحول عنايته إليها. واختارت للسكنى بيتًا فى ضاحية جميلة وله حديقة صغيرة، قائلة إن ضجات المدينة تحرمها الرقاد وتسلبها الراحة، وأغرته بزراعة الأزهار والخضر، وصارت تخرج تتمشى فيرافقها من تلقاء نفسه وهى تبدى الزهد فى ذلك وتدعى أنها تخشى عليه التعب، وما كان خروجها إلا من أجله لا من أجلها. وكانت تحرص على أن لا يدرك أنه هو المقصود بما تصنع وما تتكلف حتى لا يشعر أنه مريض يُعالج، وحتى تجىء الصحة التى تستفاد من هذه الحياة الجديدة بثمراتها المنشودة. ولاحظت أنه اتخذ عصا وأنه اعتاد أن يحملها معه كلما خرج ليرافقها. وكانت تراقبه خلسة فبدا لها أنه وهو يتوكأ على العصا يثنى رأسه ويمشى مطرقًا متجمعًا، وخيل إليها أن هذه العصا توحى إليه شعورًا بالضعف وأنه يتخذ سمت الشيوخ الوقورين، فزعمت أن المشى يتعبها قليلاً، ورغبت فى الاعتماد على العصا، فناولها إياها فلم تدعها له بعد ذلك. وسرها أن رأته يمشى خفيفًا، وكان المشى والعمل فى الحديقة مشغلة كافية، فقلت مطالعاته وطال نومه وصح بدنه وأذهلته العناية بأمه عن العناية بنفسه، وأنسته معظم وساوسه فعاد إلى ما كان قد كاد يخرج عنه من حدود الصحة.

فلما ماتت عاودته الوساوس ولكن فى صورة أخرى، فصار يخشى الموت بالسكتة أو الذبحة، وبتوهم أن قلبه ضعيف. أليست أمه قد أصيبت بالذبحة؟ ألم يكن قلبها ضعيفًا؟ أليس هو ابنها، فهو لعله قد ورث بعض ضعفها؟ وصار يزعجه ويؤرقه ويثير مخاوفه على نفسه أنه يسمع — حين يضع رأسه على الوسادة — دقات قلبه، فكان يؤثر النوم قاعدًا فيرص المخدات وراء ظهره لتسنده، حتى إذا خفت صوت هذه الدقات وكاد النوم يغلبه انحدر عن المخدات برفق وحذر ونام كالعادة. وكثر تردده على الأطباء ليقولوا له كيف حال قلبه، ويبينوا له ما خطبه، فقال له صديق له منهم: «يا سيدى إن قلبك سليم، وأنت رجل جسمه ليس بالضخم الهائل الأنحاء فهو لا يكلف طلمبة قلبك — فما القلب إلا طلمبة — جهدًا ولا يتعبه ولا يرهقه. ولا أدعى أن لك قلب مصارع أو ملاكم أو رجل مغرى بالرياضة البدنية، ولكنه كاف جدًّا لجسمك وخليق أن يظل كافيًا زمنًا طويلاً. فلا تقلق عليه، واعلم أن الذى بك هو تلف الأعصاب ليس إلا. إن جسمك — وصدقنى فقد درسته وأنا أعرف به منك — أقول إن جسمك عبارة عن شبكة معقدة من الأعصاب، وهى أعصاب حساسة مرهفة جدًّا، وهذه الأعصاب فى إطار من الجلد، تحمله عظام وقد وضع هنا قلب وهنا معدة وهنا كلية إلى اَخر ذلك، وكل هذا سليم لا عيب فيه ولا مرض، وإنما البلاء أعصابك هذه، فاعرف ذلك ورد كل ما تحس به وتقلق من جرائه إلى هذا واحمد الله واشكر نعمته، فإن إخوانًا لك أصغر منك سنًا، وكانوا أصح منك أبدانًا، قد أصيبوا بأمراض وبيلة، وأنت تجيئنى متغير اللون مربد الوجه من الفزع وتقول لى: قلبى مريض.. أسمع دقاته وأنا نائم.. يا أخى كل إنسان يستطيع أن يسمع دقات قلبه وهو راقد إذا جعل باله إليها، فاصنع معروفًا وأرح نفسك من هذه الوساوس وابتسم واضحك والعب وأدخل السرور على نفسك، ولا تجالس من يقول لك إن الدنيا دار شقاء وإن الحياة ذميمة، فما أعطينا الحياة لنشقى بها بل لنحياها على خير ما نستطيع وفى أسعد حالة تتيسر لنا.. ثم ما هذه الضجة بالله؟ ماذا تخاف؟ أو هو الموت؟ فإنا جميعًا أبناء الموت ولا مهرب لنا منه، ولو أعطيت أقوى قلب فى الدنيا لما منع ذلك أن تموت فى يوم ما. فلماذا نعنى أنفسنا بالموت طول حياتنا؟ وإنه لحال مقلوب، فى شبابك — لا تضحك فإنك مازلت فى شبابك — أقول فى شبابك يسود الخوف من الموت عيشك، وتعلو سنك شيئًا فشيئًا وتدلف إلى الكهولة والشيخوخة فيكون من أثر هذا أن يوطن نفسك ويروضك على المصير المحتوم، وفى الشيخوخة يشعر المرء بالبلادة كلما طاف برأسه خاطر الموت — لأن الشيخوخة عبارة عن تبليد هو بمثابة الإعداد للموت — ففى صباك، فى نضارة عمرك، فى عهد القوة والفتوة واستطاعة الانتفاع بالحياة والاستمتاع بها، تنغص على نفسك هذه الحياة وتفسدها بالموت والفزع منه، ثم ينقضى الشباب الذى لم تصنع به شيئًا ولم تركب به ما يُركب، وتجىء الشيخوخة — إذا مد الله فى عمرك — فيفتر وقع الموت فى نفسك ولا يعود له ذلك التنغيص القديم، ولكن ما الفائدة حينئذ؟ أليس هذا حالاً مقلوبًا؟ اذهب.. اذهب يا رجل واختش.. وانتفع بما لا يزال لك من شباب».

ولم تخل هذه «المحاضرة» من أثر، وصار تفكيره أن صدق الطبيب والله! ولقد أضعت شبابى بين الخوف والحذر! أنفقته فى غير ما ينفق فيه، بددته تبديد سفيه أخرق.. لا فى لذات ومتع، بل فى بلابل ووساوس وهواجس ما أنزل الله بها من سلطان.. ليت أن من الممكن الحجر على الشباب كالحجر على المال.. إذن لأمكن أن يحجر أحدهم — أمى مثلاً أو تحية زوجتى — على شبابى فيظل محفوظًا لى مصونًا حتى أرشد كما أكاد أرشد الآن، حتى أفيق وأصحو من غاشية الأوهام وأستطيع أن أحسن الانتفاع بهذا الشباب الذى يولى ولا يتمهل … أو ليت العمر يُرفى كما يُرفى الثوب كلما بلى منه شىء.. ولكنه لا يرفى ولا سبيل إلى الحجر على الشباب وصونه من البعثرة والتبديد والإنفاق بخرق وحماقة.. فهل ضاعت الفرصة؟

وكرَّ إلى رأس أمره من توهم الدلوف إلى الكهولة المنذرة بالعجز.. العجز عن ماذا؟ إنه يستطيع التفكير، وتفكيره أنضج وأسد وأحكم، ورأيه أقوم. فالعجز عن أى شىء إذن؟ ما هى هذه الحياة؟ أهى الفكر؟ العقل؟ إن كانت هذا فلا قيمة للشيخوخة المخوفة، ولعل بلوغها يجعل الحياة أتم وأكمل. أهى الإحساس؟ فإنى أراه قد صار أعمق على الأيام. إن كل يوم يمضى يزيد ذخيرتى من الشعور والإحساس، ويتركنى أقدر مما كنت على التلقى والاستجابة، لأنى أزداد فهمًا ورحابة أفق، وحياتى تتسع وتعمق، كالماء المتحدر، تحدره يوسع مجراه ويعمقه. أهى القوة البدنية؟ إن القوة ليست مطلبًا بل وسيلة، وليست غاية بل أداة إلى غيرها. فما غيرها هذا؟ أهى القدرة على كسب الرزق؟ ما أسخف أن تكون الغاية من الحياة لقمة! أهى السعادة؟ وتذكر قول شاعر أن السعادة أشبه بعود من البرسيم معلق أمام عينى حمار، فهو لا يزال يعدو ليبلغه ولا يزداد دنوًا منه ولا بعدًا. أهى القدرة على إسداء الخير إلى الجماعة؟ قد تكون هذه من غايات الإنسان المحس المدرك، بل هى ينبغى أن تكون من غاياته. ولكن ما الغاية التى ينشدها لنفسه، فإن لنفسه عليه حقًا وما يستطيع أن ينسى هذه النفس أو حقها. وكاذب مغالط من يقول غير هذا.. فماذا يطلب بالقوة لنفسه؟ شيئًا من النعيم فى الدنيا؟ نعيم العقل والإحساس والجسم؟ وخطر له أنه يوشك أن يغالط نفسه، فما هذا العقل الذى يتميز من الجسم؟ وما هو هذا الإحساس الذى لا يتصل بالجسم؟ إن هذا وذاك بعض الجسم أو بعض ما يؤدى إليه تركيب الجسم وتكوينه على هذا النحو. فالمسألة أولاً وقبل كل شىء مسألة جسم. وكل ما نباهى به ونعتز، ثمرة هذا التكوين الجسمانى الخاص فلا داعى للمغالطة وتقسيم الإنسان إلى جسم وعقل أو غير ذلك، فإنه لايتجزأ، أليس كل شىء يذهب ويتعطل حين يتعطل ما يجعل الجسم كائنًا حيًّا؟ لا يبقى عقل، ولا يبقى شعور، ولا يبقى أى شىء اَخر حين تعدو المنية على هذا الجسم الذى نغالط أنفسنا باحتقاره. هل نقول إن العقل يبقى بآثاره؟ هذه مغالطة أخرى فما أمكن أن توجد هذه الآثار إلا لما كان الجسم موجودًا وحيًا. انتهينا إذن، والمسألة مسألة جسم.. وهذا الجسم له حقوق فى السعادة الميسورة والنعيم المتاح. والعقل والشعور يشقيان إذا شقى الجسم المزدرى. وقال لنفسه لما انتهى إلى هذه النتيجة: «إن كل حالات الإنسان، كل ما يقوى عليه، وكل ما يكون منه ويصدر عنه، ونوعه، وصفته، وقيمته — كل ذلك رهن بحالة جسمه».

وحدث نفسه أن مغالطات الشباب لا محل لها فى مثل سنه، فإنه يوشك أن يخرج عن حد الشباب. وحينئذ تكون صحة الفهم بعد الأوان غصة ونقمة. ولحرى به أن يعجل.. يعجل؟ يعجل بماذا؟ هذا هو السؤال.

وتردد فى الإجابة الصريحة. فما بالسهل أن يخالف ما جرى عليه طول عمره، وأحس، وخاف. إنه صار حزمة من العادات حتى فى تفكيره.. وأسخطه هذا وأثار نقمته، وحنقه، وآلى ليفكن هذه الحزمة وليبعثرنها. فما يريد أن يكون كهذا الترام الذى لا يستطيع أن يخرج عن قضبانه، ولا يصلح لشىء إذا هو خرج عنها، والأولى به أن يكون كالسيارة التى لا تتقيد بقضبان ولا تعجز عن الانثناء إلى أية ناحية والسير فى أى اتجاه. وهبط قلبه إذ خطر له مفاجأة أن تحية إحدى عاداته، فهل يتحرر من هذه العادة أيضًا؟ ورأى نفسه يستعيذ بالله، وينثنى فيقول، إن التفكير على هذا النحو يقود إلى الشطط. وسأل نفسه — وخيل إليه وهو يفعل ذلك أنه انتزع من نفسه شخصًا آخر يضعه أمامهِ ويلقى عليه السؤال — هل يستطيع أن يحتمل خلو حياته من تحية؟ وقال: «الأن نريد الجواب الصريح».. وكان الجواب الذى دار فى نفسه أنه لا يستطيع.. ثم قال إنه استطاع أن يحتمل حياته من غير أمه.. شق عليه ذلك أول الأمر، ولكن الإنسان رُزق الكفاية من المرونة، أى القدرة على التكيف. فهو يألف كل حال، وإن بدا فى أول الأمر عسيرًا.. فهل معنى هذا أنه يقدر أن يألف خلو حياته من تحية؟ نعم. وساءه هذا اللون من التفكير. فغضب وصاح بنفسه «ولكن ما الحاجة إلى إخراج تحية من دنياى؟» ثم إنه لا يشعر أن حبه لتحية قد ضعف، وإنما يشعر أن به فتورًا عنها كامرأة ليس إلا.. وليس هذا بذى قيمة، وهى عسى أن تكون مدركة لهذا، ولعل بها مثل فتوره. فإنها تتوخى أن تكون له صديقًا، وهو يحمد منها هذا، ويراه أطيب وأوفق. غير أن تحولهما إلى صفة الصديقين أوجد بينهما نوعًا من الحياء، وأقام فواصل خفية يتطلب الأمر فى بعض الأحيان تنحيتها. فهما يتكلفان جهدًا واضحًا حين يحاولان أن يتجاوزا حد الصديقين ويعودا زوجين أى رجلاً وامرأة. وهذا عناء يزيده فتور الألفة ويبدو أحيانًا ممتعًا ولكنه على كل حال عناء. وإذا طال الأمر على هذا النحو فأخلق بأن تكثر الحوائل بينهما، لأن كل حال تتقرر بالعادة.. أفلا يمكن أن تُزال هذه الحوائل دفعة واحدة ليعودا كما كانا؟ ممكن ولا شك. ولكن ما القول فى الفتور؟ ما خير أن تزال الحوائل مع بقاء هذا الفتور اللعين؟

وصار الأمر فيما يرى معضلاً، وأعياه التماس الوسيلة لحل هذا الإشكال. وألفى نفسه يتساءل: أليس على تحية — كما علىَّ — أن تعالج حل العقدة؟ لماذا تتركنى أنفرد وحدى دونها بمعاناة هذه المشقة والأمر مشترك بينى وبينها؟ وقال فى جواب ذلك إنه هو الرجل، وإن المرأة ما زالت تنتظر أن يكون السعى من جانب الرجل ابتداء، لأنها مازالت أضعف منه وهو أقوى منها، وله السيادة والسلطان على الرغم من كل هذا التحرير الذى لم يحررها، لأنه لم يكسبها إلى الآن ما ينقصها من أسباب القوة التى للرجل. وقد يجىء زمن يتساويان فيه. وقد يجىء زمن تصبح فيه أقوى منه، وحينئذ لا تنتظر سعيه بل تسعى هى جهرة. وإنها الاَن لتسعى سعيها إلى ما تريد من الرجل، ولكن خفية وبخبث، وإنها لتبلغ من غاياتها أكثر مما يبلغ الرجل من غاياته، بالحيلة التى تتقنها ولا يتقن الرجل مثلها، لأنه لشعوره بقوته وإربائها على قوة المرأة اعتاد أن يسير إلى غايته جهرة، ويمضى إلى ما يطلب غير متكلف هذا الضرب من المكر الذى تحسنه المرأة. وإنها لتغلبه وتسيطر عليه من حيث لا يشعر — وأحيانًا من حيث يشعر — ضعفا منه إذا كان ضعيفًا أو التذاذًا لرؤيتها تسيطر عليه، وتتوهم أن لها هذه السيطرة فعلاً.

وعاد يقول لنفسه: «لا يا شيخ. والله إن المرأة لمسكينة». وأطرق قليلاً ونفسه فياضة بالعطف على المرأة المظلومة، ثم وجد نفسه يثور على هذا الخاطر ويقول: «إن المرأة هى التى أوحت إلينا أنها ضعيفة مسكينة لتغرينا بإلقاء السلاح والكف عن الكفاح فتبلغ ما تريد، والله ما المسكين إلا الرجل المخدوع».

وضاق صدرًا بهذا كله فصاح: «ولكن ما دخل كل هذا فى أمرى وأمر تحية؟ لماذا أرانى أذهب أتفلسف هذه الفلسفة العقيمة كلما فكرت فيما ينبغى أن تكون عليه حياتى وكيف أنتفع بها؟ هذه أيضًا عادة، وهى أولى من سواها بالترك. فإن الذى يطول تفكيره على هذا النحو قلما يصنع شيئًا. وأنا أريد سيرة أسيرها، لا فلسفة أتفلسفها، فلنضع حدًا لهذا العبث».

ولم يضع هو الحد بإرادته — ولو ترك لها لما صنع شيئًا — وإنما تكفلت بهذا الأقدار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤