الفصل الثالث

١

كان إبراهيم جالسًا إلى مكتبه وأمامه نافذة مفتوحة. وكان وجهه إلى النافذة ولكنه لا يرى، لفرض اشتغاله بما يجول فى رأسه وذهوله به عن النظر. ثم كأنما تقشع غمام فأبصر فتاة هيفاء ممشوقة، متكئة على درابزين السلم الذى ينحدر إلى حديقة بيتها، وهى فى منامة — بيجاما — من الحرير الأبيض. وكان بناء داره هو على مقربة من الطريق، والحديقة من الخلف. فترك ما كان مشغولاً به وتساءل من عسى تكون هذه الجارة؟ وقديمة هى يا ترى أم حديثة؟ إن لى هنا سنوات طويلات ومع ذلك لم تأخذ عينى إنسانًا يدخل أو يخرج من هذه الفيلا حتى لقد حسبتها مهجورة.. لم أر حتى بوابًا أو بستانيًّا، ومع ذلك.. غريب هذا.. لقد تذكرت الاَن فقط أن حديقتها غير مهملة.. وأتأر الفتاة بنظرة فخيل إليه أنها جميلة رشيقة، وأعجبه منها مرونة بينة على الرغم من سكون أوصالها وقلة حركتها. وراقه شعرها الذى تفرقه من الوسط وترسله على جانبى وجهها — مثل كريمة — وحدث نفسه أنها نحيفة.. نحيفة جدًّا.. ولكن النحافة خير من إلحاح اللحم.. ونظرتها؟ كيف هى يا ترى؟ إن عينها تبدو له من هذا البعد حوراء واسعة، وفى نظرتها لين وعذوبة.. فتنة. وأحس من نفسه شوقًا إلى معرفتها. وضحك إذ خطر له أن هذا هو الحب من أول نظرة! ومط بوزه ساخرًا، فما ارتجت نفسه إلا مرة واحدة من قبل. وليس حبه لتحية بالفائر الثائر، وإنه لساكن جدًّا، وأشبه بحب المرء لأخته. وقد نسى على كل حال مبلغ اضطرام شعوره فى البدايات — إذا كان قد اضطرم — فهو لا يذكر ولا يعرف إلا أن تحية صديقته التى لاغنى به عنها.

وظل برهة طويلة هكذا … لا يفعل شيئًا سوى أنه ينظر إلى الفتاة. والفتاة التى يتأملها قبالته معتمدة على الدرابزين. وقال لنفسه إن الجديد من الأمر يتطلب جديدًا من التصرف والتدبير، فماذا يصنع؟ لو كانت له خبرة بمثل هذه المواقف، أو سبق له بها عهد لقاس حاضره على ماضيه وأجراه فى مجاريه. وغريب أن ينقضى شبابه وهو جاهل بهذه الشئون؟ ثم يشارف الكهولة ويقف على بابها ويأخذ الأبيض يختلط بالأسود، ويبدأ الزمن يرسم خطوطه فإذا هو يشتهى أن يفعل ما يفعل الشبان. وارتفعت يده إلى وجهه متحسسة، وإلى شعر رأسه كأنما يحاول باللمس أن يعرف كيف وخط الشيب لمته. وهل هذا إيذان باندلاع نار المشيب ذات الوقود؟ وتلفت ولكن غرفة المكتب ليس بها مراَة.. وخطر له وهو يفعل ذلك أنه لا يذكر أنه عنى مرة بالنظر فى المراَة.

وألقى القلم — فقد كان يكتب — واضطجع. وقال يناجى نفسه وهو يضحك ساخرًا: «هل أصنع كما يصنعون فى الروايات الكثيرة التى قرأتها؟ وعلى ذكر ذلك ماذا ترى أبطال هذه الروايات يصنعون فى حالات كهذه؟ لقد نسيت والله. فكأنى ما قرأتها، ولا وقعت عينى عليها. وهبنى كنت ذاكرًا فهل يصح من دنيا الحقيقة ما يصف الخيال».

واستطرد من هذا إلى القول بأن الروايات ليست، ولا يمكن أن تكون خيالاً بحتًا، أو شيئًا يخلقه الإنسان من لا شىء ولا يحور فيه إلى أصل من حقائق الحياة. وأنكر قدرة الإنسان على هذا الخلق من لا شىء. وذهب إلى أن كل ما يسعه هو التوليد، وهو أن يلفق القصة من جملة ما شهد وجرب وسمع، ويكون الشخصيات من أشتات ما عرف، ثم تعمل الفطنة الطبيعية واللب العبقرى فعلهما بعد ذلك. فليست القصص خيالاً ولا ما تصفه محالاً. اذن يكون تقليدها ميسورًا. أو دع كونه ميسورًا أو غير ميسور، وقل إنه لا يكون شططًا.

ولم يرض عن هذا الرأى، فقال: إن القصص يعنى فيها واضعها بترتيب الأحوال والمواقف على النحو الذى يؤثره هو ويراه أوفق لغايته، ومن عسى يرتب لى دنياى كما يرتب مؤلف القصة دنيا أبطاله؟

أم أستشير صديقًا مجربًا؟ ولكن هذا مخجل. ثم إن العبرة بنوع استجابة الفرد لوقع الحياة فى نفسه هو. والاستجابة تختلف باختلاف الأفراد. والذى يفعله إنسان ما، فى موقف ما، ليس من المحتم — ولا من المعقول — أن يفعله كل إنسان فى الموقف عينه. فالاستشارات عبث ولا خير فيها ولا جدوى منها إلا الفضيحة. الفضيحة؟ نعم أليس فضيحة أن تفتح قلبك لمخلوق غيرك وتبيحه سرك وتكشف له عن ضعفك وتدع عينه ترى مقاتلك؟ ولكن هل معنى هذا أن الحب ضعف؟

وأسخطه هذا السؤال وقال إنه لا داعى له فما بلغ الأمر الحب.. أى حب يا هذا؟ إن المسألة كلها أنى أرى فتاة جميلة للمرة الأولى فمن الطبيعى أن أتعجب. وإذا كنت أشعر برغبة فى معرفتها فليس هذا أيضًا بمستغرب.

وبدا له من الحزامة أن يصرف نفسه عن الفتاة. فأكب على عمله ساعة ثم نهض متثاقلاً. وحانت منه التفاتة إلى النافذة فلم ير الفتاة، فاستغرب، ثم ضحك، وقال متهكما: «أترانى كنت أتوقع أن تظل واقفة هنا إلى الأبد، أن تقضى حياتها كلها على رأس السلم كالتمثال؟»

وعالج أن يتشاغل فى الأيام التالية ولكن الجهد الذى أحس أنه يتكلفه فى هذه السبيل أقنعه بأنه معنى بالفتاة، وإن ما يفعله ليس سوى مكابرة. وقال لنفسه إنه لا يرى بأسًا من الإقرار بأنه يؤثر أن يعرف الفتاة، بل إن معرفتها تكون أجلب لراحة نفسه. وقال يومًا لنفسه، وهو يناجيها على عادته: إن فى هذا الحى بضع مئات أو بضعة اَلاف من الناس لو رحلوا جميعًا لما حزنت عليهم ولا أسيت لهم، ولا استوحشت، ولا أحسست نقصًا أو خسارة، ولا أسفت على خلو الحى وخرابه، وقعودى فيه وحدى على تله. ولكنى لو علمت أن هذه الفتاة جرح أصبعها أو أصابها زكام لبت كاسف البال — لا أقول مسهد القلب ولا أظن أن الدنيا تسود فى عينى — ولكنى كنت على التحقيق أشعر بأسف وعطف. ومع ذلك لا أعرفها.. ومن يدرى؟ لعلها مزكومة.. مسكينة! وصد نفسه بجهد عن هذه السخافة، وأمر فنقل مكتبه إلى ركن آخر فى الغرفة. ولكنه لا يفتأ ينهف ويدنو من النافذة ويحاول أن يرى من غير أن يظهر، فلا يبصر شيئًا. فيعود «وينحط على الكرسى، ولا يستطيع أن يعود إلى العمل إلا بمشقة. واستغرب أن شبابيكها وأبوابها لا تكاد تفتح.. أو لا تفتح أبدًا فما رآها قط إلا موصدة.. أو لا تخرج هذه الفتاة للنزهة أو السينما أو لزيارة؟ أو لا يزورها أحد؟ إنها ليست من الطراز القديم، فإن بنات الطراز القديم، لا يلبسن المنامات. وأدهشه أنها خرجت إلى الحديقة أو أطلت من رأس السلم وليس على بدنها سوى هذه المنامة، فإنها ليست مما يليق أن تبرز فيه فتاة. ولكنها صغيرة ولعلها لا تجد من يرشدها أو ينبهها. وعلى ذكر ذلك قال إنه يتكلم عنها كأنما ليس فى البيت سواها وليس هذا بمقبول. وخطرت له فكرة.. لماذا لا يزور هذا الجار؟ ولكن من المحتمل أن لا يكون فى البيت رجل.. فلمن تكون الزيارة إذن؟ هل يسأل خادمًا؟ واستحى أن يفعل، وماذا عسى أن يقول للخادم؟ وبماذا يسوغ السؤال؟ وسيبدو عليه التكلف ولا شك حين يلقى السؤال، وهو يحاول أن يتظاهر بقلة الاكتراث. وفرك عينيه بأصبعه وهو يدير هذا كله فى نفسه، ثم أطبق جفونه وراح يحاول أن يحضر صورتها لذهنه كما بدت له على رأس السلم، فلم يجد عناء فى ذلك، فقد كانت الصورة مطبوعة على صدره. وذكر قول العقاد من قصيدة مرقصة له «ذهبى الشعر ساجى الطرف حلو اللفتات». وقال لنفسه أما أنها ذهبية الشعر فنعم. وأما سجو الطوف فأشهد أنى ما رأيت أحلى من نظرتها ولا أسحر للب فكيف إذا ابتسمت وأشرق وجهها الواضح الصبيح؟ وأما حلاوة لفتاتها فلا شك فيها، ولكنه ينقصه أن يذوق هذه الحلاوة. وراح يقطع الغرفة الواسعة المكظوظة بالرفوف والكتب وغير ذلك. وحدثته نفسه أن يركب الحياة بما يركبها به الشاب، ثم ضحك وقال: لم يكن باقيًا إلا هذا: أمسح لها شعرى بكفى، أو أعبث — على مرأى منها — بوردة أرجوانية (كتفاح خدها الأرجوانى)، أو أبعث إليها مع النسيم بقبلة؟ أو هو هو هو!

وقهقه وهو يتخيل نفسه فاعلاً ما يفعل الشبان والأحداث. ثم أشعل سيجارة وارتمى على مقعد وسألى نفسه أترانى أحتقر الشبان وأسخر مما يصنعون؟ من الذى عليه أن يتصدى للآخر؟ الرجل أم المرأة؟ كلاهما يفعل ذلك. فأما المرأة فتصديها مخايلة بالجمال وألوانه وبالزينة لزيادة فتنته، وبالشفوف والأفواف والأدهان والأصباغ والشعر المصفف أو المرجل والمشية المغرية، والخطرة، وبما تعرض وما تستر إلى آخر ذلك. وأما الرجل فتصديه يكون بالإقدام لأنه هو القوى الذى عليه أن يطلب ويسعى ويخطو. فلا محل لتكلف الزراية على الشبان فإنهم يصنعون ما يصنعون بوحى الفطرة والأصل الذى فى الطباع. وهذا الاحتشام الذى اعتدته آفة — وليس نعمة — وما أراه فى قرارة نفسى — فضيلة.. لا لا، إنه ضعفْ ولا أعنى أن التوقح والتهجم فضيلة، أو حكمة، أو عمل مقبول. ولكنى أعنى أن المبالغة فى الاحتشام والخروج به عن حده ضعف كالحياء، لأنه ينافى الطبيعة التى ينبغى أن يصدر عنها الرجل، وهى طبيعة تفرض عليه السعى إلى المرأة، لا القعود حتى تتكلف المرأة السعى إليه.

وخرج عصر يوم مع تحية، وإنه لواقف بالباب ينتظرها وإذا بجارته نازلة على درجات السلم وكانت فى ثوب وردى اللون محبوك، مفصل على قدها تفصيلا يجلو محاسنها كلها، ويعرض مفاتنها جميعًا. وكان نحرها يضىء — أى نعم يضىء — وثدياها الناهدان يبدوان من تحت الثوب بارزى الحلمتين … ما أعظم فتنة هذا الجسم الغض الجديد الذى لم تبتذله السن ولم يرهله الزواج؟

وكان شعرها الوحف الأثيث اللامع الناعم مرخى. وكان الضوء المراق عليه يخيل للناظر إليه أن فيه نجومًا زهرًا أبهى وأسنى من نجوم السماء. وكان وجهها الدقيق المعارف مشرق الديباجة — «يا ويل الرجال من هذا الفم الذى لم يعرف الأصباغ، وهو مع ذلك يبدو لى كأنما غذته الورود!» — وقد لانت نظرتها ورقت. وبدا خداها كأنهما غلالتا وردة جورية. وتذكر قول الشاعر مهيار: «آه على الرقة فى خدودها لو أنها تسرى إلى فؤادها». صحيح.. وليس من يدرى كيف فؤاد هذه الفتاة الرائعة الرقيقة الخدين اللينة النظرة.. أرقيق هو يا ترى كخديها أم.. كلا.. لا يمكن أن يكون إلا رقيقًا.. ولكن لماذا؟ وأى منطق هذا؟ على كل حال لا يزال أوان السؤال بعيدًا.. بعيدًا جدًّا.. وما حاجتى إلى الاطمئنان من هذه الناحية ولا صلة هناك ولا كلام ولا حتى إشارة؟ وستكون بعد ثانية على الباب وتخرج أمامى ولا تلقى إلى نظرة أو إيماءة. وأقبلت تحية فبادرها بهذا السؤال: «من تكون هذه البنت الحلوة؟» سألها عن ذلك بغير تفكير أو تحرز أو إشفاق من أن تسىء امرأته الظن! فنظرت تحية إليها ثم إليه وقالت: «ألا تعرفها؟ إنها عايدة … تعالى يا عايدة هذا زوجى يسألنى من تكون هذه البنت الحلوة.. لن نعرفك بعد الآن إلا بهذا الوصف … من اليوم فصاعدًا سيكون اسمك على لسانى البنت الحلوة. وقد صدق».

فخجلت عايدة واتقدت وجنتاها. واندلعت النار فى وجه إبراهيم، وقال لامرأته بصوت يكاد يكون همسًا: «إنك خبيثة.. ما كان ينبغى أن تفضحينى هكذا».

قالت: «لا تخف.. فإن ثناءك سرها.. ألا يسرك يا عايدة ثناؤه؟».

فغلبها الحياء والخفر. وقالت تحية: «إن زوجى ذو عين فاحصة وذوق سليم، أليس كذلك؟»

فوجد إبراهيم لسانه، وأراد أن يزيل أثر هذه الحادثة فقال: «كل ما يشهد لى بذلك أنى اخترتك».

والتفتت تحية إلى عايدة وسألتها: «إلى أين؟» قالت: «والله مترددة بين السينما واﻟ …».

فقالت تحية مقاطعة: «تعالى إذن معنا، لا تخجلى. فإن بعلى هذا رجل طيب، وثقى أنه أليف لا يعض».

فضحكتا وابتسم، وشكر لتحية فى قلبه حكمتها ورحابة صدرها وعقلها.

وذهبوا جميعًا إلى السينما لأن عايدة ذكرتها. وشهدوا رواية فيها مهندس ناهز الأربعين يقول لفتاة صغيرة السن إن عليها أن تخشى أمثاله من الكبار المجربين فإن لهم لحيلا وخبرة باقتناص قلوب العذارى، وليس للشبان مثل خبرتهم أو قدرتهم على الاحتيال، فهم — أى الكبار المجربون — أخطر من الشبان على الفتيات الغريرات.

ومال على عايدة وقال: «هذا صحيح. لقد أخلص الرجل لها النصح».

فقالت عايدة: «ألك خبرة مثله؟» فأحرجه هذا السؤال، ولم يدر كيف يجيب. لأنه لو قال إنه لا خبرة له صار فى عينها غريرًا وفقد مزية السن. وإن قال إنه ذو خبرة كان هذا اعترافًا غير لائق. فاَثر أن يكتفى بنظرة، فألقاها إليها كأنما يريد أن يقول: «يا خبيثة» فابتسمت وثنت رأسها ناظرة إلى حجرها. واستغرب هو جرأتها على هذا السؤال. وكبر فى وهمه أنه ممن تخلفوا عن ركب الحياة، فلعل الجيل الجديد لا يرى فى السؤال ما يعد اجتراء غير لائق.

وأبت تحية إلا أن تتعشى عايدة معهما: «لتتوثق الصلة بينك وبين زوجى» كما قالت، فرفعت هذه البساطة الكلفة. وأحس الجميع أنهم من أسرة واحدة، وأن معرفتهم ترجع إلى عهد بعيد. وعادت عايدة تسأل: «هل صحيح ما قاله هذا المهندس فى الرواية من أن الكبار أخطر على الفتيات من الشبان؟» فلم يرتح إلى هذه الكرة إلى الموضوع، وثقلت عليه. وآلى ليحرجنها كما تحرجه فقال: «قولى لنا أنت أولاً ما رأيك؟» فقالت ببساطة: «أنا لا أحب الشبان»، ثم نظرت إليه وسألته: «وما رأيك أنت؟» قال: «رأيي أن الكبار يمكن أن يقال على العموم إنهم أعقل وأرشد، وأقل اندفاعًا، وأأمن على الفتيات». والتفتت تحية إليه وقالت: «أليس صحيحًا أن الكبار حين يعشقون يندبون ويغرقون إلى الاَذان؟» فقال: «ليس هناك ضابط لهذه الأمور، ولا يمكن استخلاص قاعدة أو حكم عام. فمن الشبان المندفع، والذى يضبط نفسه ويكبحها. ومن الشيوخ أو على الأصح الكبار، الذى يفقد إرادته والذى يحتفظ بها. والدنيا تحتاج إلى كل صنوف الناس لتكون دنيا.. كلا.. ليس هناك حكم عام ولا سبيل إلى الجزم بشىء».

وخيل إليه أن هذه الفتاة أجرأ من رأى فى حياته، فقد عادت تسأله: «ومن أى الفريقين أنت؟ المندفع أم الحكيم؟»

فابتسم ابتسامة متكلفة لم تخف سخطه على السؤال والسائلة وقال: «هذا تُسأل عنه تحية». فعادت تقول: «ألا تعرف نفسك؟» قال: «لو عرفت نفسى لكنت أحكم الحكماء». واغتنم الفرص فاستطرد وقال: «إن الإنسان كثيرًا ما يتوهم أنه يعرف نفسه، ولكن هذا خطأ أو غرور لأنه لا يستطيع أن يعرف كيف يكون سلوكه فى المواقف التى تعرض له، وأنا لم أجرب كل حالة ممكنة، حتى أستطيع أن أعرف كيف يكون سلوكى فى كل موقف محتمل. ثم إن الإنسان يتغير، والذى يراه اليوم صوابًا قد يراه فى غده خطأ. والذى كان يعده بالأمس فضيلة، قد يعده فى يوم آخر ضعفًا أو قلة حيلة. وكل إنسان فى الحقيقة عبارة عن عدة أناس يجىء بعضها فى أثر بعض. رأيه يتغير، وإحساسه يختلف، كما يتغير جسمه سنة بعد سنة، ويختلف مظهره على كر الأعوام. وقد يفعل المرء الشىء اليوم فإذا كان الغد فعل غيره، لأن كل شىء تغير، هو والدنيا».

٢

ورأت تحية من حال زوجها — على الرغم من تحرزه — أنه يصغو بوده إلى عايدة، فأقلقها ما يقلق المرأة، ولكن معرفتها وخبرتها به وثقتها أنه لا يندفع ولا يتورط، ويقينها أن حدة شعوره بذاته وشدة تحفظه بكرامته، تساعده على تغليب إرادته وعقله على هواه. كل هذا طمأنها وأقنعها بأن لا خوف عليه من عايدة أو سوها، وأن الحزامة أن لا تعترض سبيله، أو تحاول أن تأخذ عليه مُتوجَّهه. فقد كان فيه عناد وجموح، لا يخفيهما أنه لين سلس القياد. فما قال لها قط: «لا»، ولكنها ما استطاعت فى حياتها الطويلة معه أن تفعل شيئًا على خلاف رأيه، ولا نازعتها نفسها أن تخالفه. وذكرت قوله لها مرات عديدة، بعبارات شتى، إن الناس فى ركب الحياة رفقاء إلى حين، فليس أسخف من أن يقضوا الفترة القصيرة المتاحة لهم فى خلاف ونزاع، وشجار ونقار. والمثل الحكيم يقول اختر الرفيق قبل الطريق. ولست أعلم أن للمرء اختيارًا، وأنا أشك فى حريته فى ذلك. ولكن المثل مع ذلك يعجبنى. والرفيق لا يختار ويتخذ للتنغيص والتغثية. وسواء أكان أم لم يكن للمرء اختيار، فإن الحكمة تقتضى أن يحاول الرفقاء فى هذه الرحلة أن يجعلوها مرضية على قدر ما يتسنى لهم ذلك، وإلا كانوا قليلى العقل. وما خلقت الدنيا لواحد دون واحد، ولا أعطيت الحياة لمخلوق دون مخلوق، والخلق جميعًا سواء فى الحقوق والواجبات. أفليس الأولى إذن أن يتحروا التعاون ويجروا على سنة التسامح؟ ولفظ التسامح هنا فى غير موضعه، وخير من ذلك أن نقول الاعتراف بحق كل امرئ فى عمل ما لا يضير غيره».

وكان منحاه الخاص فى التفكير، وما تعرفه بالتجربة من حرصه على احترام حق غيره، كاحترامه حق نفسه، واتقائه أن يسىء إلى أحد، وقدرته على وضع نفسه فى موضع سواه ليكون أشد إنصافًا له. كان هذا هو الذى طمأنها، فأقدمت غير مترددة على توثيق صلته بعايدة وإن كانت أصبى منها وآنق حسنًا وأنضر شبابًا وأكثر رونقًا. وناهيك بقلب امرأة تحتمل الإقدام على ما قد يؤدى إلى تضحية. وكان شعور خفى فى قرارة نفسها يقول لها إن زوجها سيعرف لها هذا الجميل ويحفظه، فإنها تعده شكورًا غير جحود، ومنصفًا لا يظلم ولا يغبن. وسرها من نفسها أنها قصت عليه من أخبار عايدة ما هو خليق أن يعطف قلبه عليها. وكانت فى هذا حكيمة وهى لا تدرى، فقد جعلت علاقته بها علاقة عطف ورحمة، وحمتها أن تكون علاقة حب وعشق، فحكت له أن أباها كان رجلاً حسن الحال، ميسور الرزق، ولكنه كان متلافًا. فلما قضى نحبه فجأة لم يترك شيئًا. وكان من حسن الحظ أن أمها استطاعت أن تحتفظ ببضعة فدادين قليلة لا تزيد على العشرة، وبنصف بيت فى حى وطنى لا يغل أكثر من ثلاثة جنيهات، وبهذه الدار المقابلة لدارهما. ولعايدة أخت كبرى متزوجة، مرفهة، ولكنها تحاول أن تغرى أمها أن تبيعها الأرض والعقار. وعايدة تقاوم ذلك وتجاهد أن تصرف أمها عنه، ليبقى لها شىء تعتمد عليه فى حياتها. وقد أورث عايدة هذا الأضطراب تلفًا فى الأعصاب وأصيبت إحدى عينيها بما كاد يذهب ببصرها، لولا لطف الله وقد صنع لها الطبيب بعد شفائها نظارة أوصاها أن لا تنزعها، ولا تضعها عن عينها. ولكنها تخجل وتتوهم أن اتخاذ النظارة يسلكها مع العميان، فيزداد ما تتوهمه من زهد الرجال فيها، وانصرافهم عنها. وكأنما هذا لم يكن كافيًا، فاعتراها وسواس يخيل إليها أنها مريضة الصدر، وأنها ستصاب لا محالة بذات الرئة. فهى لا تزال تعرض نفسها على الأطباء، ولا تنفك كل بضعة شهور تصور صدرها بالأشعة لتطمئن، فلا تطمئن، ولا تزول الهواجس. وقد قل أكلها، وطال سهدها وتعب قلبها قليلاً، والأزمات العصبية تنتابها وتتركها مهدمة محطمة.

على أن تحية عنيت أيضًا بأن تحيط زوجها بغير عايدة من الفتيات الحسان من معارفها، حتى لا تصبح عايدة عادة له ولتدخل السرور على نفسه، وتضىء وجوه العيش فى عينه، وتنشر البشر والبشاشة فى جو حياته. غير أنه كان يؤثر عايدة على الأخريات، ويختصها بالميل والود. فلما رأت تحية ذلك كفت عن «التوسع» وتركته معها على ما يحب من الحال. وكان هو فى أول الأمر يقنع بالحديث والنظر، وقلما كانت تقول شيئًا أو تزيد على السؤال، فيروح يتدفق، ويسره منها حسن إصغائها، وإن كان يسخطه أنها شديدة الاحترام له، حتى لبلغ من ذلك أنها ما كانت تجرؤ أن تدعوه باسمه فكانت تدعوه «الأستاذ»، وتستغنى بذلك عنٍ الأسماء والألقاب. وكان هو يكره ذلك ويشعر أنه يجعل بينهما بونًا يتعاظم المجتاز، أو على الأقل يقيم بينهما حدودًا من التكلف لا داعى لها، ولا خير فيها. فما كان مطلبه «الاحترام»، ولا كان ينقصه أن يعرف أن له فى النفوس مهابة، وإنما كان يريد — وهو يخاطبها — أن ينسى أن بينه وبينها مسافة من العمر تزيد على عشرين عامًا.

وكان حديثهما — من ناحيتها — عبارة عن محاولة لجعله «شخصيًا»، ومن ناحيته هو عبارة عن إصرار على إبقائه «نظريًا» عامًا لا يدور على شخص بعينه. فكانت هى تلقى عليه السؤال من شأنه أن يغريه بالتحدث عن نفسه، فيصرفه هو إلى العموم دون الخصوص، ويحيله أشبه بالدرس والمحاضرة. ويراها تتابعه فيجد لذة فى رفعها إليه، وتقريبها منه، وترحيب أفقها وتوسيع دائرة نظرها، ويشعر أن هذا خليق أن يساعدها على تخفيف ما تعانى. وكان أشد ما يبدو له أنها تعانيه الكبت الشديد، والحرمان من كل ما عسى أن يكون فيه إرضاء للأنوثة، وتلطيف من حدة ثورتها الطبيعية، وقلة الثقة بنفسها. وكان يخشى عليها عاقبة هذا، ويرد إليه كل ما يرى من يأسها من الخير فى الدنيا. وقد قالت له مرة وكان يحاول أن يغريها بالأمل: «لا فائدة فإنى واثقة أنى سأموت قبل أن تلوح أية بارقة من الأمل فيما تصفه لى، وتمنينى به»، فقال لها: «اسمعى يا عايدة، إننا أُعطينا الحياة ولم نُعطها بشرط. وقد أُعطيناها لنحياها لا لنقطع نفوسنا حسرات على أنها لا محالة زائلة — ونسى وهو يقول لها ذلك أنه هو نفسه موسوس — ولا قيمة لطول العمر أو قصره. فإن العمر لا يقاس بعدد السنين، بل بمبلغ ما يعمره من الإحساس والفكر. ورب معمر أربت سنه على المائة وكأنه مات يوم ولد. ورب فتى فى العشرين قد حفلت حياته بما يجعلها أطول فى الحقيقة، وفى إحساسه هو نفسه، من عمر نوح الذى يقال إنه ناهز الألف. وأنت بنت مرهفة الحس والشعور قوية الإدراك، فأنت تعيشين فى كل دقيقة أطول مما يعيش غيرك فى أعوام. وأنت الاَن فى العشرين من عمرك الغض، ولكنك فى الحقيقة أسن من امرأة فى الأربعين. ثم لماذا تفكرين فى الموت؟» وأحس وهو يسألها كأنما الخطاب موجه إلى نفسه: «إن المرء يعيش ما يعيش — زمنًا طويلاً أو قصيرًا — ثم يوافيه الأجل المحتوم. وما دام على ظهر الأرض فهو حى، وهذا كل ما ينبغى أن يعنيه. فإذا مات — كما لابد أن يحدث — فإنه يصبح غير دار، فيستوى حينئذ أن يكون عاش عشرين عامًا أو عمر ألفًا». فقالت: «هذا صحيح، ولكن ما فائدة الحياة؟ ما هو الخير الذى نصيبه فيها؟» فقال: «آه.. هذا سؤال من العبث أن نلتمس له جوابًا، فالحياة لا يسأل فيها عن الفائدة منها، وإنما علينا أن نحياها على خير وجه وأصلحه. ثم إنك أنت الملومة إذا كنت لا تصيبين منها خيرًا. الدنيا كلها أمامك فماذا يمنعك أن تنشدى هذا الخير الذى تسألين عنه؟ تمسكين عن التماس الخير ونشدانه والسعى إليه، ثم تروحين تلومين الحياة وتسخطين على الدنيا؟ هل هذا عدل؟ تقعدين وفمك مفتوح منتظرة أن تحشوه لك الملائكة سكرًا، ثم تشكين إذا حشته الأيام ترابًا؟ لا يا سيدتى لومى نفسك».

فسألته: «ولكن ماذا تصنع فتاة مثلى؟ ما حيلتها؟»

فسألها: «ماذا تشعرين أن بك حاجة إليه وأنه ينقصك وأنك حُرمته؟ لا تجيبى.. إنما أسأل لأقول إن كل شىء يجىء فى أوانه».

قالت: «أو تعرف إذن ما ينقصنى؟»

قال: «أستطيع أن أخمن فإن الطبيعة الإنسانية واحدة لا تختلف ولا تتفاوت، وحكمها معروف لا شك فيه. وفى وسع الإنسان دائمًا بتحويل إحساسه إلى مجار أخرى غير التى يحس أنه يتجه إليها، وفى وسعه أن يخفف من ثقل وطأته وينتفع بهذا التحويل. أنا مثلاً، ولست أعنى شخصى وانما أضرب مثلاً.. أحس ضغط إحساس معين، وأشعر أن إرضاءه وإراحة نفسى من ثقله عسير أو غير مرغوب فيه، فأعكف على كتاب أقرأه أو أخرج فأتمشى مدة كافية، وأحول هذا الإحساس الضاغط عرقًا يتصبب فأستريح وأعود فأنام ملء جفونى». فعادت تسأله «ولكن لماذا هذا التكلف إذا كان الإحساس طبيعيًا؟»

فقال: «عقلى يقول لى إنه لا داعى للتكلف. وإن إرضاء الإحساس الطبيعى أولى، ولا عيب فيه، ولا ضير منه. ولكن العقل ليس هو وحده المسيطر على حياتنا، فلا تحسبى أنك الوحيدة التى تعيش فى أسر تتمردين عليه، وتسودين عيشك بالضجر منه».

وكان أكثر ما يجتمعان فى البيت، وتحية معهما تسمع وتتركهما لحظة وتعود إليهما، وقلما تشترك فى حوارهما. وكان يحس أن هذه الفتاة محتاجة للرياضة، وأن انتقالها من بيتها إلى بيته ساعة لا يغير من حالها، ولا يجد لها شيئًا، وأن كل ما يحدثها به ويشرحه لها لا جدوى منه، ولا أثر إلا زيادة الشعور بالكبت، وأن المسألة مسألة جسم، يجب الترفيه عنه، وإراحة أعصابه. فقال لتحية إنه يرى أن تخرج بها من حين إلى حين للتنزه. فقالت تحية: «يا عبيط. ليس للمرأة فى المرأة لذة. اخرجٍ أنت معها». قال: «على شرط أن تكونى معنا» قالت: «لا تكن سخيفا.. إن وجودى يشعرها بالقيد وأنت تريد لها الانطلاق، وإنك لعلى حق». قال: «ولكن الانطلاق لا يستدعى أن لا تكونى معنا». قالت: «أنا واثقة ولست خائفة. فاذهب أنت معها». وأصرت، فحمل عايدة إلى حيث الهواء طلق، والحرية تامة فى الجرى والنط والضحك. وكان ربما حمل معه طعامًا خفيفًا مما أعدت تحية، فكانت عايدة تعود من هذه الرحلات متقدة الوجنتين ولكنها متعبة. وحدث مرة أن كانا يتقاذفان كرة صغيرة يرميها فتلقفها. فدنت منه والكرة فى كفها وقلبها يخفق خفقًا شديدًا، وعلى فمها ابتسامة، وألقت نفسها على صدره، وأراحت كفيها على كتفيه، فوقف برهة لا ينطق بكلمة، ولا يسألها شيئًا، أو يحاول أن يتبين حالها. وتركها على صدره، ولم يكن يسعه إلا أن يحس بثدييها، فثنى عينه إلى شعرها الناعم المرسل، وقد رقدت خصلة على ثوبه تحت أنفه، ولكنه طرد هذه الخواطر ورفع عينيه إلى السماء. وأفاقت عايدة وصعدت عينها إليه، وهى لا تزال على صدره، وقالت له بصوت خفيض كالهمس: «بُسنى يا أستاذ». فتبسم وقد دار رأسه ومال عليها فقبل جبينها فرفعت نفسها عنه وقالت: «لكأنك أبى.. لا. لست أبى.. لم أعد أطيق صبرًا.. أنت حبيبى. نعم.. لا تفتح فمك هكذا كأنى رميتك بحجر. وما حيلتى؟ كن منصفًا. ألقاك كل يوم وأسمع حديثك وأشعر بقربك، ولا أرى أو أسمع سواك وأحس عطفك.. بل أعلم أنك ترتاح إلى وجودى وترغب فيه، ومع ذلك أحس أنك بعيد كنجوم السماء. ألست معذورة؟ لقد علمتنى أشياء، وإنك لمسئول عنى، ولا أمل لى فى الحياة، ليس لى غيرك، أنت عزائى فيها».

فدنا منها وتناول كفها ومضى بها إلى حجر كبير، وخلع سترته وطرحها عليه لجلوسهما، وقال: «اسمعى يا عايدة. إنك عزيزة على وأثيرة عندى، ولكن الحب شىء اَخر. لا ينبغى أن يكون بيننا هذا. إنه يفسد كل شىء على وعليك. أنت فتاة صغيرة غريرة ومستقبلك كله أمامك. وأنا رجل كهل قد خلفت صباى ورائى. ثم إن لى زوجة تحبك وتأتمنك على زوجها كما تأتمننى عليك. ثم ماذا يكون مصير الحب إذا قامت عليه علاقتنا؟ لا مصير إلا الاضطراب والآلامٍ. واسمحى أن أقول إنى لا أصدق أن فتاة مثلك يمكن أن تحب رجلاً مثلى. كلا. ليس هذا حبًا وإنما هو فورة إحساس. إنها حركة نفس مكبوتة ليس إلا.. نشوة عارضة طارئة تحسينها وتغلطين وتتوهمينها حبًا، كما يشرب الرجل كأسًا من خمر فيبذل وهو البخيل، ويشعر بالقوة وهو الضعيف، ويهيج وهو الساكن الرزين، ويغضب وهو الحليم الرضى. هى نشوة لا أكثر ولا أقل. ثقى بذلك. وستفيقين منها وتعرفين حيئذ أنى على صواب وتشكرين لى أنى حميتك من نفسك».

فضحكت ضحكة مرة وقالت: «ولكن لماذا تريد أن تحمينى من نفسى وأنا لا أريد هذه الحماية؟ أليس لى حق فى نعيم الحياة؟ ألست مخلوقة كغيرى؟ أليس لى قلب وشعور؟ لماذا يجب أن أعيش محرومة مذادة عن نعم العيش ومتع الحياة..».

قال: «لست محرومة فإن هذا من الوهم.. أنت تنعمين بالكثير الذى لا تحفلين به ولا تجعلين بالك إليه. والذى ترين نفسك قد حُرمته سيجئ أوانه كما قلت لك من قبل.. كل مخلوق يطول به انتظار ما ينشد».

قالت: «ما أملى؟ الزواج على ما أظن؟ ومن يتزوجنى؟ ولماذا يتزوجنى أحد؟ جمالى؟ مالى؟ مقامى؟ أسرتى العظيمة؟ لا يا سيدى إنى أعرف أنى قصيرة العمر. وقد فتحت لى عينى فأشكرك، ولكنك مطالب الاَن بأن تغمض لى عينى كما كانت، أو تسمح لى بأن أحبك».

فلاطفها ولاينها وسايرها قليلاً ليعدل بها إلى الطريق الأقوم فما ازدادت على ذلك إلا صلابة وعنادًا. وأنذرته أنها جنت وأنها إذا ظل على تمنعه ستلقى بنفسها على أول رجل تصادفه، ففزع، فقد رأى من لهجتها الجادة ما أخافه وأقنعه أنها لا تمزح. وأيقن أن هذا الجنون ثمرة الكبت الطويل. وحار ماذا يصنع، واستمهلها دقائق ليفكر. فضحكت وتهكمت وقالت: «لابد أن يكون كل شىء بالمنطق.. كل شىء لابد أن يوزن ويقاس..». ثم قالت جادة: «الآن اقتنعت أنك لا تستطيع أن تحب امرأة. إنك آلة مفكرة لا إنسان من دم ولحم». وثارت حتى لأشفق عليها وعالجها، حتى فاءت إلى السكينة.

وخطر له أنه ليس من المروءة — ولا من العدل — أن يمضى فى المقاومة فإنها تكون صدمة مخوفة العاقبة. وبدا له أن من الحكمة أن يأخذها باللين ولا بأس من قبلة أو قبلات. وفى وسعه أن يسعدها بالقليل الذى لا ضير منه وفيه راحتها وسكونها. وحدث نفسه أن من حق هذه الفتاة أن تسعد قليلاً، وغالط نفسه فقال إن جهده معها سيكون جهد الطبيب المعالج. ولكن ماذا يقول لتحية؟ يكتم؟ فبأى وجه يلقاها وهو يطوى عنها هذا السر؟ يكذب؟ إن الكذب نقص فى الرجولة وغض من المروءة.. يصارحها؟ ولكن كيف يصارحها؟ وكيف يرجو أن تطيق هذا وتصبر عليه؟ إنها واسعة الصدر كريم النفس ولكن هذا ما توصد دونه أبواب الغفران. وبأى شىء يعتذر لها؟ يلقى التبعة على عايدة ويزعم أنها هى التى أغرته وأبت إلا هذا وأنها مريضة ولابد من مسايرتها؟ ما شاء الله! ما أكبر هذه الرجولة!. ثم إن هذا ليس بصحيح. نعم إنها فاجأته بهذا، ولكن أصح من ذلك أنه هو الذى رغب فى صحبتها وهو الذى جرها إلى هذا الموقف، وكانت قبل ذلك بعيدة غير معنية به فلم يزل بها حتى صار (عادة) لها. وشعر فى قرارة نفسه أن حب هذه الفتاة يسره ويغره، ومن هذا الذى لا يسره أن تحبه فتاة جميلة كهذه؟ ولكن هل هى تحبه؟ أليست لعلها مخدوعة؟ ألا يمكن أن يكون الأمر كما وصفه لها نشوة طارئة ليس إلا؟ ولكنه هو على كل حال مصدر النشوة وباعثها.. أتراها لو كانت تعرف غيره من الرجال أكانت تخصه بهذا الحب كائنة ما كانت حقيقته؟ وتحية؟ أليست قد شجعته ويسرت له الاتصال بعايدة؟ وما معنى هذا؟ هل أريد أن أحملها التبعة؟ هل أعد حرصها على سرورى ذنبًا لها، وثقتها بى واطمئنانها إلى عقلى خطأ منها؟

كان هذا كله وما يشبهه يدور بنفسه وهو يحنو على عايدة، ويلثم فمها وهى متعلقة برقبته كأنما تريد أن تخلعها، أو تخاف أن يطير من يديها. وأحس بحرارة الصبى فى شفتيها. وحدث نفسه أن هذه الحرارة العجيبة لا يجدها — الآن — من شفتى تحية. واستهجن هذه المقارنة، وأنف أن يجعل تحية موضعًا لها ثم عاد عقله يقول له ولم لا؟ أين الزراية بتحية فى هذه المقارنة؟ ولماذا هذا الغض من عايدة؟ إنها ليست سوقية، ولقد قبلت تحية قبلة الحب وقبلتنى مثلها قبل زواجنا، فما الفرق؟ ولكنى تزوجت تحية ولست أنوى — ولا عايدة تنتظر — أن أتزوجها. هذا هو الفرق.

٣

وكان يتعجب لعايدة وزهدها فى الزواج، ويتساءل: «أتراها خاب لها أمل؟». وقد عرف من تحية أن هذه الفتاة شقية بأختها. وأدرك أن أمها ضعيفة، وأن قيادها سلس فى يد بنتها الكبرى، وأنها لعلها تحب عايدة كحبها لتلك، ولكن تلك لها عليها سلطان ليس لعايدة. غير أن هذا ليس حقيقًا أن ينفر عايدة من الزواج، وإن إحساسها الجنسى لقوى، وإنه ليبدو أقوى فيها منه فى الفتيات الأخريات المطمئنات.

وخطر له أن لعل قلة اطمئنانها وكثرة قلقها واضطرابها يثيران إحساسها الجنسى، أو يخيلان إليها أن إرضاءه — على نحو ما — هو علاجها مما تكابد، ولكن ماذا تكابد غير ذلك؟

وذكرت مرة ابن عم لها بلهجة واشية بالمرارة، فسألها: «لم أكن أعلم أن لك ابن عم؟ فأين هو؟»

قالت: «انقطعت الصلة مذ تزوج».

فسألها: «لماذا يقطعها أنه تزوج؟»

فامتقع لونها، وحاولت أن تهرب من الجواب، غير أنه ألح عليها، فعرف أنه كان يمنيها الزواج، ويتودد إليها، ويظهر لها الحب.

واستخلص من زلات لسانها أنها كانت فرحة بهذا الحب، وكانت ترجو أن يخرج بها من جو القلق الذى أحاطتها به أختها، إلى الاطمئنان. وكانت لهذا حريصة على رضاه. وإذا به يتخلى عنها فجأة ويتزوج غيرها، فوقعت النبوة، وحلت الجفوة، وكانت هذه القطيعة.

وسألها إبراهيم: «اصدقينى يا عايدة.. هل قبلك؟»

قالت: «وأى بأس فى هذا؟ إنه ابن عمى».

قال: «نعم، ولكن بالى ليس إلى البأس أو سواه. إنما أسأل عن الواقع، وسأشرح لك باعثى على السؤال بعد أن أسمع جوابك».

قالت: «نعم».

قال: «بس؟»

فأطرقت شيئًا ثم رفعت رأسها وقالت: «إنك تعرف كيف تكون الفتاة حين تنضج وتستيقظ أنوثتها. ثم إنى كنت حريصة على رضاه، لأنى كنت أحب أن أسعده فى حياتى، وكان ينوى أن يتزوجنى، فسايرته إلى حد».

قال: «إلى أى حد؟»

قالت: «لم يسرف فى الطلب».

قال: «ولو كان أسرف؟»

قالت بغير تردد: «ما أظننى كنت أضن عليه بما يريد إذا كان فى ذلك سعادته».

وكانا يتمشيان فى الجزيرة. فاقترح أن يركبا زورقًا فى النيل. وكان الوقت عصرًا، فقضيا ساعة أو بعض ساعة يسبح بهما الزورق على الماء فى رفق. لا يتكلمان ولا يسمعان إلا وقع المجدافين إذ يخبط الملاح بهما الماء. وكان إبراهيم ثابت الحملاق ينظر إلى حيَث تلتقى الأرض والماء بالسماء عند الأفق. وعايدة تتلفت منه إلى حيث ينظر، وتجيل عينها فى هذا الشاطئ وذاك، ولا تنبس بحرف. وكأنما عجزت عن احتمال هذا الصمت الطويل الثقيل فصاحت فجأة؟ «أى نزهة هذه؟»

فرد إبراهيم عينه إليها، وتبسم بجهد وقال: «معذرة. لقد كنت أفكر فيك. والآن يحسن أن نرجع فإن عندى كلامًا طويلاً أريد أن أحدثك به».

ولم يتركا الزورق لما عادا إلى البر. ورجا إبراهيم من الملاح أن يقعد بحيث يراهما ولا يسمعهما. فلما فعل قال إبراهيم: الآن سأقص عليك قصة:

حكى أن فتاة مات أبوها وهى تلميذة فى السنة الأولى من مدرسة ثانوية. وكان متلافًا فلم يخلف لها مالاً. ولولا بعض مال لأمها لافتقرت بعد غنى. ولكن مال أمها لم يمنع أن تعانى الفتاة الضيق بعد السعة. وكانت تنظر إلى مستقبلها مشفقة واجفة القلب. فقد كانت ترجو فى حياة أبيها أن تستوفى حظها كاملاً من التعليم. فالآن لا أمل فى أكثر من التعليم الثانوى، وقد تعجز عن إتمامه. وكانت ترجو أن تجد زوجًا صالحًا، فأما وقد مات أبوها فمن ذا عسى أن يرغب فيها؟ إن شبان هذا الزمان يسألون عن مال الفتاة وجاه أسرتها قبل أن يسألوا عن الفتاة وأدبها وخلقها وجمالها. وزاد الطين بلة أن أختها الكبرى المتزوجة الحسنة الحال طمعت فى مال أمها وسعت للاستئثار به دون هذه الفتاة. وأبى سوء الحظ لفتاتنا إلا أن تصاب إحدى عينيها بما كاد يذهب ببصرها، واحتاجت بعد علاج طويل، وشفاء كان ميئوسًا منه، أن تضع على عينها نظارة كانت تأنف وتستحى أن تضعها، فتخالف وصية الطبيب، نفورًا من تشويه النظارة لحسن الوجه، ولأنها قد توهم من يبصرها أنها عمياء. وهكذا كبر فى وهمها أنها ليست ممن يرغب الشبان فيهن، فلا هى غنية، ولا أسرتها — بعد وفاة أبيها — ذات جاه، ولا هى جميلة. وفوق هذا كله يأمرها الطبيب أن تشوه وجهها بنظارة! فملأ قلبها الخوف، وخلا من الثقة بالنفس. الخوف من مستقبل يسوده طمع الأخت، وضعف الأم، وقلة الثقة المتولدة من اجتماع كل ما ذكرت. فماذا بقى لها؟ لم يبق إلا أنها أنثى. أنثى قد تُشتهى لأنوثتها وصباها وغضاضة بدنها، وجدة بشرتها التى لم تبتذل، ولكنها لا تُحب لذاتها، ولا تطلب لمزية أخرى فيها.

واضطرت، كما توقعت، أن تنقطع عن المدرسة، لأن مواصلة الإكباب على الدرس كانت خليقة أن تؤذى عينها التى شفيت ولما تكد. فزاد هذا فى خوفها الباطن وقلة الثقة التى استحوذت على نفسها.

وفى هذا الوقت جاء ابن عم كان خليقًا بها — لولا ما صارت إليه من سوء الحالة النفسية — أن تفطن إلى أنه أولى بنفورها منه بإقبالها. ولكنها كانت ظمأى إلى الحب والعطف، متلهفة على الاستقرار والاطمئنان. وكانت تتوهم أن الوسيلة إلى ذلك — إلى الأمن والرى والراحة — هى المطاوعة وإسلاس العنان. كانت تطيع أمها وتتوخى مرضاتها لتمنع أن تخطف الأخت حقها. وكانت تتزلف إلى أختها لتعطف عليها، فتكف عما تسعى له من هذا الخطف. والآن وقد جاء ابن العم يُظهر الحب، وُيلوح بالزواج والأمن والراحة من هذه المزعجات، فما عليها إلا أن تجيبه إلى ما يُهيب بها إليه لتستبقى رغبته فيها. ولما كانت قد وقع فى روعها أنها ليست إلا أنثى تُشتهى لأنوثتها، ولا تُحب لذاتها، فسبيلها إلى ما تنشد هى أن تجعل أنوثتها متاعًا له مخافة أن تفقد حبه. ولو أسرف فى الطلب، وأغرق فى طلب المتعة، لما أحجمت عن التلبية. وكانت تتوهم أنها بهذا تسعده، وأن سعادته هى كل مبتغاها، وأنها مستعدة للتضحية فى سبيل ذلك. وكانت تحدث نفسها أن أنوثتها استيقظت، فهى تجاوبه لهذا، وتجد من قبلاته وضماته وقربه مثل ما يجد. ولكن الأمر لم يكن كذلك، وإنما كانت خائفة قليلة الثقة بنفسها، وكان هذا هو الذى يغريها بالمسايرة والمطاوعة، بل بلغ من خوفها وضعفها أنها صارت لا تقتصر على المسايرة، بل تتجاوزها إلى المجاوبة. وكانت تجهل أن الزواج الصالح إنما يكون بين كفوءين لا بين سيد وجارية، وإنها لم تكن تحبه، ولكنها تخشى فقده، وأن الحب الذى يكون كله تضحية من جانب واحد، ليس حبًا، بل عبودية لا خير فيها للجنس الإنسانى، وليس الحب أن تهب ولا توهب، بل أن تُعطى وتأخذ.

وجفاها ابن عمها وملها، ونباها وتخلى عنها، وبنى بغيرها، أو لعله أساء الظن بها، ولم يحمد سيرتها معه، وأغلب الظن أنه كان نذلاً. فلما اعتاض منها سواها، صارت أقل ثقة بنفسها، وأضعف، وأعظم خوفًا من المستقبل.

ولقيت كهلاً ذا زوجة، وآنست منه ودًّا، فقالت أمنحه من نفسى ما يحب، لأنها لا تزال تعتقد أنها أنثى تُشتهى، ولا تُحب لذاتها أو لمزية لها. ولو عرفت نفسها معرفتها لأدركت أنها لا تحتاج إلى البذل، وإنما تحتاج إلى الثقة بالنفس، وتفتقر إلى اطمئنان القلب وانتفاء الخوف، ولعرفت أن حدة الإحساس الجنسى هى الزى الذى اتخذه الضعف والخوف. وفى الوسع تلطيف هذه الحدة، وكبح هذا الجماح، فإن الإحساس الجنسى ليس مستعصيًا على الضبط. ولو راضت فتاتنا نفسها على السكون إلى الصداقة والعطف والقناعة بالمودة التى تكون بين الرجلين، ولا يندر أن تكون بين رجل وامرأة، ووثقت بنفسها، ونفت عنها هذه المخاوف التى تتلف أعصابها، وتدفع إحساسها فى مجرى غير صالح ولا مأمون، لو فعلت ذلك لاستراحت، ونعمت. والآن ما رأيك فى هذه القصة؟

فلم تجب. وكانت قد أصغت، ولم تحاول أن تقاطع.

فقال: «يحسن أن تفكرى فيها، فإنها قصة حقيقية، ولا عمل فيها للخيال».

وعاد إلى بيته فى تلك الليلة وهو مطرق، ولكنه غير ساهم، فقالت له تحية: «مالك؟»

قال: «اَه لو كنت درست الطب، كما كنت أبغى».

قالت: «ما هى الحكاية؟»

قال: «أظننى أصلح أن أكون طبيبًا نفسيًا … هل تظنين أنى كنت أرزق التوفيق؟»

قالت: «لا أزال أنتظر جواب سؤالى».

فلما قص عليها القصة قالت: «لعل وعسى». ولم تزد.

وخطر له وهو يأوى إلى فراشه أنه ليس خيرًا من عايدة حالاً، وأنه لعله هو أولى بما قال لها.

٤

ولكن عايدة لم تقتنع. ولم يشفها العلاج النفسانى الذى رجا إبراهيم وتحية أن يشفيها مما بها، فتعقدت الأمور فى حياته، وصار يحس أن المتع اليسيرة لا تُنال إلا بأضعاف أضعافها من الاَلام ومما يحاذر.. فهو يحب زوجته حبًا هادئًا، ويكبرها، ويطيب بها نفسًا، ولا يطيق أن يتصور أنه قد يفقد — فى يوم ما — حبها واحترامها، وإن كانت وطأة الفتور الذى عراه معها قد ثقلت على كاهل صبره. وقد وجد فى عايدة الصبا والجدة. ولكن عايدة فتاة غريرة مكبوته ضعيفة البنية، وهنانتها، وخائفة وجلة، ولا يتزعزع يقينها بأن عمرها عمر الورود. فما كادت تلتقى به حتى انطلقت تريد أن تعدو بغير عنان وتحاول وتطلب أن تعتصر وتختزل فى القليل الباقى لها من العمر، فيما تعتقد، كل ما يخطر على بالها أن تستفيده من متع الحياة ولذات العيش. وهو يجاهد أن يكبح هذا الجماح، ويردها إلى القصد والاعتدال، ولا يسلس فى يده قيادُها إلا بعناء شديد ومشقة عظيمة. وكان يقول لها فيما يقول إن من الجهل أن تسرفى فى إنفاق حياتك على هذا النحو، فتقول إنها لا تنفق وإنما تستفيد وتكسب، فيقول لها: «كلا. وإنك لكالرجل الذى يريد أن يذوق الخمر ويجرب الخفيف من نشوتها فيروح يعب فيها حتى تطير فى رأسه، ويُدار به، ويفتر ويسترخى، ويفقد الإحساس بما هو فيه، فلا يخرج بغير هذا الأذى. وكان خيرًا له لو قنع بالدبيب الهين والتمشى اللين، فيبقى له وعيه ويظل مدركًا لما أفاد من سرور، شاعرًا بما أكسبته من انتعاش. ثم إنك تزعمين أنه لا أمل لك فى طول العمر. أفلا ترين إذن أنك تنفقين من رأس مالك بلا حساب؟ ولو حرصت عليه لطال استمتاعك به.. ثم إنك جاهلة جهلاً آخر، ذلك أن أمتع ما يستفاد من نعيم الحياة هو ذكراه. نعم الذكرى أمتع من النعيم نفسه ساعة الفوز به ومواقعته. فإن المرء يكون مستغرقًا فيه فلا يستطيع أن يحيط بصوره ومعانيه ومختلف ما ظفر به من وجوهه ومتعدد ما شاع فى نفسه منه. وإنما يتيسر ذلك بعد انقضائه وعند إدراكه فى هدوء. مثال ذلك أنك تظمئين فتشربين. ولا شك أنك تجدين لذة وأنت ترشفين الماء على ظمأ، ولكن ألذ من ذلك أن تتذكرى ما كان من ظمئك، وما كان من حلاوة الماء فى لسانك وحلقك، وطيب انحداره باردًا إلى جوفك الحار، وحسن ما شعرت به من الارتواء بعد الحر والأوام، وكيف كنت قبل ذلك تجمعين ريقك تحت لسانك، لتبلى به لثاتك، وكيف كان الكوب الذى رفعته بالماء إلى شفتيك الجافتين، إلى آخر ذلك. ولا سبيل إلى إدراك هذا كله وجمع صوره، وإحضارها إلى الذهن، وتمثلها، إلا بعد حصول الشرب والارتواء، حين يجد العقل فسحة فيكر راجعًا إلى ما كان مما عانى وما أفاد. أما قبل ذلك وعند الشرب فهو مشغول بحر العطش، والحاجة إلى إطفائه، وبتناول الماء لإطفاء الحرقة الأليمة. وهكذا فى كل أمر آخر، فإن متعة تفوزين بها فى خمس دقائق قصيرات لا تشعرين فى أثنائها بكل ما تشعرين به فيما بعد خين تذكرين ما كنت فيه. والذكرى هى التى تغريك بالمعاودة. فإذا أنت رحت تنهبين اللذات نهبًا بكلتا يديك كما تريدين أن تفعلى، كنت كذلك السكران الذى ضربت لك مثله، والذى لم يورثه فرط عبه فى الخمر إلا أذاها».

وكان مخلصًا فى إشفاقه عليها من هذا الجموح. وكان يدرك عذرها ويمهده لها من شبابها وغرارتها وطول كبتها وسوء أحوالها، وهذا الاعتقاد الثقيل الذى لا يزايلها بأنها قصيرة العمر. ولكنه كان مقتنعًا بأن شططها خليق أن يزيد عمرها قصرًا. وكان يرى أن ليس من حقه أن يسايرها، وأن الأولى والأرشد أن يقاومها ويضع لها اللجُم ويروضها فتكسب ولا تخسر، وتعتاد ذلك على الأيام. ولكنه كان يراها فى أيام كثيرة ذابلة ثقيلة الجفون مسترخية الهدب متغيرة اللون، فخطر له أن لعلها فتحت لنفسها بابًا نفذت منه إلى ما صدها عنه؟ وأنها لم تقتنع بما أبدأ وأعاد فيه من النصح. وإنما أظهرت الإذعان لما رأت من إصراره على خطته وإبائه أن يجاوز معها حد القصد، وأضمرت التمرد وآثرت اللجاجة فيما بينها وبين نفسها، ولا حيلة له فى هذا ولاسبيل إلى شىء يصنعه.

وكانت تحية لا تبدى خلاف ما ألف منها وعهد. ولم يكن هذا المظهر يخدعه. وكان يشق عليه أن يجمح بها الخيال فتتوهم الأمر أكبر مما هو فى الواقع والحقيقة. فما كان به حب عايدة، ولعله عاجز عن هذا الحب المستغرق الاَخذ بالكليتين، انما كان ما ينطوى عليه لعايدة مزيجًا من العطف والمودة والفرح بصباها وأثر الشباب فى نفسه. على أن الحقيقة — وإن كانت يسيرة هينة وليس فيها ما يغير من حاله مع زوجته — لم تكن هذه الحقيقة مع ذلك مما يمكن أن يكون موضع بحث وجدل بينهما. فكان مضطرًا أن يصبر على تركها تكبر فى وهمها الحبة حتى تصبح عندها قبة. وكان هذا يشق عليه، ولكنه لم تكن له فيه أيضًا حيلة. وقد همت تحية مرات بأن تفتح الموضوع ثم أحجمت، وآثرت أن تستعيد ما توهمت أنها فقدته من حب زوجها بالصبر والحكمة والإيثار. وهمت مرات أخرى أن تستأذنه فى قضاء وقت مع أبيها فى البلدة، ولكنها ردت نفسها عن ذلك لأنه أشبه بأن يكون خطوة لا تخلو من صفة الحسم، ثم لأنها بذلك تترك الميدان لمن تزاحمها عليه فى ظنها، فتكون هذه بداية الهزيمة المخوفة. وكانت إلى هذا مترددة فى الجزم، ولو استطاعت أن تجزم لاستراحت، فما زال صحيحًا أن اليأس إحدى الراحتين. فقد كانت ترى حال عايدة فلا يخامرها شك فى أن الأمر بلغ مداه، ثم تراها مضعضعة وكأنها مشفية على التلف، فيعصر قلبها العطفُ والمرثية. فقد كانت تعرف أن قلبها ليس بالقوى، وأن همومها غير هينة وأن أختها علة بلائها، وكانت تنظر إلى إبراهيم فترى المعهود من ضبطه لنفسه، ولا يبدو لها من نظرته إلى عايدة حين تراهما معًا ما يريب أو يثير القلق. وكل ما كانت تلاحظه أنه بادى الأنس بها، وليس الأنس ما تكره له وتأبى عليه. ولقد حاولت هى أن توفر له أسبابه. وكانت هذه المظاهر المتناقضة المتعارضة لا تسمح لها بالاستقرار على رأى والانتهاء إلى حكم، وكان هذا عذابًا لها، ولكنها كانت تحمد الله عليه أحيانًا وتحدث نفسها أن اليقين خليق أن يذهب بلبها.

وظل هذا الحال عامًا وبعض عام. وكانت عايدة تزداد نحافة وهزالاً وذبولاً، وصارت عيناها أوسع، وقل لحم خديها ونتأت عظام وجنتيها. وذهب شيئًا فشيئًا ذلك البهاء والحسن المالئ للعين، ورونق الورد الريان على ديباجة محياها المشرق الوضاء. وأصيبت بالدوسنتاريا وتحاملت على نفسها وأهملت، فكادت تيبس من الهزال، وذبلت الشفتان الرقيقتان واتخذت الأحمر لهما وللخدين لتستر ما عراهما من إدبار النضرة. وصار إبراهيم معها كالممرضة. ورق لها قلب تحية فأرخت الحبل لبعلها وألقته له وقد وسعها أن تكون كريمة. فكان إبراهيم يحملها فى مركبة أو سيارة — فما عادت تقوى على المشى الطويل المجهد — ويحاول أن يرفه عنها ويعيد إليها البشر والنعمة والرى بالهواء النقى والطعام المنتقى يحمله معه لها، ويشاركها فيه ليشجعها وهى لا تتناول إلا بقدر. وكان يرى زهدها هذا فى الطعام فيخشى عليها فقر الدم مع ضعفها البادى. وكان هذا رأى الأطباء أيضًا. ولكنها هى لم تكن تحفل هذا أو تباليه، وكانت تقول له كلما ألح عليها أن تعنى بنفسها، وراح يبين لها أن العناية سهلة وأسبابها قريبة وغناءها مكفول: «ما الفائدة؟ ثم إنى لست آسفة.. والفضل لك. ألم أقل لك إنى قصيرة العمر؟ فأنت ترى أنى كنت صادقة، وإنى لأحس من نفسى وأعرف ما لا يحس سواى أو يعرف — لا الطبيب ولا أنت — ولولاك لمت وما كنت قد حييت، ولكنك أحسنت إلى، وجُدت على بالحياة قبل أن يوافى الأجل».

فلم يكن يجد ما يجيب به، وإن كان لايقصر فيما يعتقد أنه خليق أن يبعث فى نفسها الأمل، ويقوى الرغبة فى الحياة، ويوقظ إرادتها عبثًا، فما كان يبدو منها ما يدل على أنها تريد البقاء.

واتفق بعد ذلك أن انقلب ماعون فيه ماء مغلى على رجل أمها، فقامت عايدة على خدمتها، وانقطعت لها وكفت عن الخروج للقاء إبراهيم، وأبت عليه زيارتها كما أبتها على تحية. وقيل برئت، ولكنه كان برءًا على بغى، فقد بقى فى الأصبع شىء من النغل، فاحتيج إلى الجراح لبتره. ثم صحت ورجعت إليها القوة. ولكن عايدة انهارت، فقد أبت أن يشاركها فى السهر على أمها أحد — ولا أختها — وانفردت بذلك ليلاً ونهارًا. وكانت نفقة العلاج باهظة والمورد شحيح فقترت على نفسها. وكانت لا تتخذ طاهيًا أو طاهية، وشغلت بأمها عن الطبخ فكانت تكتفى بالكسرة من الخبز وبجبن أو زيتون أو نحو ذلك. ولا تتكلف الطهو إلا لأمها فهد ذلك كيانها. ولم تكد أمها تشفى وتنهض حتى خرج بها التعب وسوء التغذية عن كل حد للصحة، فدنفت وبراها المرض، ثم ثقلت وأثبتت فصارت لا تبرح الفراش. وكانت تبعث إليه كل يوم بكتاب، قصاصة من كراسة تقطعها وتخط عليها كلمات الشوق، وتتقى أن تقول فيها ما عسى أن يسوء وقعه فى نفس تحية إذا وقعت فى يدها أو فتحتها. وكانت لا تزال تأبى الزيارة، فكان لا يعلم شيئًا عن حقيقة حالها. أما تحية فكانت تزور أمها وتعرف منها ما صار إليه هذا الحال، غير أنها كتمته عن زوجها. وفى ضحى يوم من الأيام بعثت عايدة إليه برسالة شفوية مع خادمة صغيرة فحواها أنها تطلب منه أن يشترى لها تفاحًا ولوزًا محمصًا، فاستغرب الطلب. وحدث به تحية، فلم تكن أحسن فهمًا له أو أقدر على تأويله. ولكنه قضى لها حاجتها ووجهها إليها مع الخادم. وكانت تحية تريد أن تحملها إليها لعلها تستطيع أن تقف على سر هذا الطلب، ولكن إبراهيم أبى ذلك. وعاد الخادم يقول أن الست الكبيرة — الأم — أخذت منه التفاح واللوز وقالت وعلى خديها عبراتها: «لوز إيه وتفاح إيه يا بنى … ده حالها حال.. الأمر لله». ولم يكد يتلقى هذه الرواية حتى أقبلت الخادمة الصغيرة تقول أن ستها الصغيرة تطلب إبراهيم. فنظر إلى امرأته، فأومأت إليه برأسها أن اذهب بسرعة.

ودخل على عايدة فى غرفة نومها. وكانت راقدة فى سريرها على ظهرها والملاءة البيضاء عليها، فخيل إليه أنه ينظر إلى جثة، فقد كان وجهها أصفر وعيناها مغمضتين ويداها ممدودتين إلى جانبيها، وكانت أنفاسها مضطربة، وكانت شفتاها تتحركان بتمتمة خفيفة، لا تبلغ أن تكون صوتًا مسموعًا. فقعد على كرسى وقد كبر فى ظنه أنه ما بقى منها إلا شَفا. ودار رأسه وهو ينظر إليها، ويتعجب لهذا الوجه الذى كان ينضح بالدم الحار، ويرف على صفحتيه ماء الحياة، وتونق فيه نضرة الصبا، كيف ذبل ويبس وأربد، وحلت به الكمدة فى عامين اثنين ليس إلا؟ وهاجت حرقاته، واضطرم سخطه على الدنيا وقسمة الحظوظ فيها. وكاد غيظه، قبل حزنه، يبكيه، لولا أنه جامد العين بعيد العبرة جافها، يحس بها تتردد فى صدره وحلقه، ولا تترقرق أو تنحدر من جفنه. ولبث عشر دقائق ناظرًا إليها لا هو يقول شيئًا، ولا هى تفيق، ثم نهض وقد أحس بالعجز عن احتمال ذلك. وتعجب وهو خارج، للمرأة وقدرتها على الصبر على ما لا صبر للرجل عليه.. أهى بلادة فيها ونقص فى الإحساس أو الإدراك أو الخيال؟ أم هى غريزة الأمومة تجعل المرأة تفيض حنانًا، ويستغرقها حنانها فيطغى على كل إحساس اَخر؟ من يدرى؟

وقال لتحية: «لست فاهمًا شيئًا.. كيف أمكن أن يحدث هذا»؟ قالت: «لكأنى بك لا يعنيك إلا أن تفهم كيف ولماذا؟ مسكينة». قال: «لا تظنى أن قلبى غير موجع، فإنه موجع. ولكنى أريد أن أفهم … هذه فتاة لم أر أول ما رأيتها شبابًا اكثر من شبابها رًيا ونعيمًا ونضرة. لم يكن يبدو عليها أن بها مرضًا دفينًا. كلا. كانت مظاهر الصحة مجتمعة. ولست أعلم أنها رقيقة الحال، فإن عند أمها فوق الكفاية لاثنين. وقد كانت دائمًا حسنة الثياب. وكنت أرى معها أكثر مما تحتاج إليه لنفقتها. وليس بأمها بخل. فكيف أصابها هذا الذوى السريع؟ وما علته؟ نعم كانت مكبوتة ولكن الكبت قد يتلف الأعصاب، أو يورث مرضًا غير مستعص، أو حتى يجن. ولكن هل يمكن أن يقتل على هذا النحو وبهذه السرعة إذا كان يقتل؟ وأعرف أنها كانت شقية بأختها.. فقد حدثتنى أنت بذلك. ولكن أين الإنسان الذى تصفو حياته ولا تعكرها الهموم أو تخلو من المنغصات؟ وشقاؤها بأختها كانت علته أنها منهومة لا تشبع، وأنها تطمع فى مال أمها ولا تبالى حرمان أختها. ولكن الأم لم تستجب للبنت الطامعة، ولم تطاوعها ولم تضيع على بنتها الأخرى شيئًا. فشقاؤها بأختها كان يلطفه ويخففه الواقع، وهو أنه لم يحدث ما تخاف. ثم إنى لا أرانى قادرًا على التوفيق بين هذه المتناقضات. كانت عايدة تعتقد أنها قصيرة العمر وأن أجلها لن يطول حتى تنعم بالزواج. ومع ذلك كانت شقية، لأن أختها تطمع فى مال أمها وتحاول أن تغتصبه، وتحرم عايدة منه، فعايدة قلقة على مستقبلها. ثم لماذا كانت لا تأكل؟ لماذا أهملت نفسها إلى هذا الحد الوبيل؟ إنه أشبه بالانتحار فيما يبدو لى، لم تكن غبية أو ضعيفة الفهم أو جاهلة أو عاجزة عن تبين ما لا بد أن يورثها هذا الإهمال. أم كانت تهمل أن تأكل لأنها لا تشتهى الطعام؟ لماذا؟ إن هذه الأمور تحيرنى».

فلم تقل تحية شيئًا لأنها كانت تعرف أن زوجها يحس «بعقله»، أى يحول كل إحساس إلى فكرة، ويروح يعرضها على عينيه ويتأمل وجوهها. وخواطره هى الصور التى تتخذها إحساساته. وكثيرًا ما تتحول الفكرة عنده إلى إحساس. فهذا يتسرب فى ذلك، وذاك يعود فيتسرب فى هذا، ولا نهاية لهذا التحول عنده.

وقضت عايدة نحبها دون أن تفيق. أو لعلها أفاقت وما درى بها أحد.. ومن يدرى.

ووجم إبراهيم لما جاءه نعيها، فقالت له تحية وهى تربت له على كتفه: «اسمع. إنى لم أكلمك فى هذا قط، ولكنى أقول لك الاَن إنى آسفة.. اَسفة من أجلها. والموت حسم، فاطو أنت أيضًا الصفحة».

قال: «ولكنها لم تكن صفحة.. لا ليست صفحة فى حياتى … هنا خطؤك. إنها كانت كتابًا كاملاً. ولكنه خُطف من يدى، وأنا مازلت أجيل عينى فى صفحاته الأولى.. أوه أظن أنى أقول كلامًا سخيفًا.. لم يعد فى رأسى عقل. كل ما أشعر به أو أدريه أنه لم يكن ثم من بأس لو بقيت هذه المسكينهَ.. هل عندنا شىء من الشراب؟ هذا الموت ثقيل.. أكاد أرتاب فى حكمة الحياة والموت.. فى كل شىء.. لا ينبغى أن أكف عن التفكير فى أى شىء فى هذا اليوم».

ففهمت تحية وعذرت. وكانت تعرف تلف أعصابه وما عانى فى سنوات طويلات من عذاب النوراستينيا.

وما أكثر ما تفهم وتعذر المرأة الطيبة المخلصة الرحيمة.. ولعلها أجمل وأروع ما فى الدنيا.

٥

أحس إبراهيم فى الشهور القليلة الأولى التى تلت وفاة عايدة أنه تغير، وأن حياته خلت من بعض ما كانت تجمل به وتطيب، وإن كانت هذه الفتاة المسكينة لم تستطع أن تملأ حياته. وكان هو ربما أحس أنه لم يعرفها معرفتها، وأنها مرت به تخطف ولا تتلبث.

وصار يلزم بيته ويعتكف فيه، معظم الوقت، ولا يخرج إلا لحاجة ملحة. وكانت تحية تدعه لخواطره ولا تتطفل عليه إلا أن يدعوها أو ينشد مجلسها فتكون معه ساكنة وادعة، متكلفة متجملة. وكان يمهد لها العذر ولا يلوم. فما احتملت امرأة مثل ما احتملت تحية منه، ولا تجاوزت بنت لحواء عن مثل ما تجاوزت عنه، وإن كان الذى كبر فى ظنها أوهامًا. ولكنه كان مع ذلك يحس أن ليس له صديق، وأنه فقد الصديق يوم فقد أمه. وكان يقول لنفسه إن ألف ألف من أنصاف الصداقات خير منها صداقة واحدة تامة. وكل إنسان منا عالم قائم بذاته. والذى يستطيع أن يدير عينه فى حياة إنسان اَخر ويتبينها على حقيقتها يكون قد استطاع أن يرى ويعرف عالمًا جديدًا. ولم تكن تحية تتجهم أو تقصر فى لقائه بما تعرف أنه يحب، ولكنها كانت ساكنة، وكان هذا لا يشجع على التبسط أو المصارحة والتفاهم. وما أكثر ما تعجب فى خلوته الطويلة بنفسه لقدرة المرأة على إشقاء الرجل وتعذيبه من غير أن تنطق بكلمة جافية أو تفعل شيئًا ينطوى على القسوة! وكان ربما خطر له أن قوة المرأة مهولة، وصولتها فظيعة، وسطوتها لا يستخف بها عاقل؟ وأنها لهذا خطرة ومستبدة، وأن ودها من أجل ذلك له قيمته، وعطفها جدير أن يُطلب وينشد.

على أنه لم يسخط ولم يتذمر، فقد كان يؤثر الإنصاف على صعوبته ومشقة التكلف فيه. فكان يحدث نفسه أنه هو الذى جنى هذا، وأن عليه أن يمهل تحية — أو يستمهلها — حتى ترى منه ما يعيد إليها البشاشة والطلاقة والخفة والنشاط، ولابد لذلك من عودة الثقة وحصول الاطمئنان. ولم يسعه إلا أن يبتسم، إذ خطر له أن الزواج يشبه لبس الحذاء، والأعزب كالذى اعتاد الحفى، فإذا لبس حذاء شعر بالضيق والكرب. والزوج الذى يهمل زوجته زمنًا ما، يكون كالذى ترك حذاء وتحذى سواه. فإذا عاد إلى الأول أتعبه وأحس أنه ناشف، لا يلين لقدمه، أو أن رأسه المستدق أضيق مما ينبغى، أو أن لسانه قد تلوى، أو أن جانبيه قد تقبضا، أو أنه يُزم زمًا محكمًا. والمواظبة والصبر لا غنى عنهما حتى يلين الحذاء ويعود مريحًا كما كان.

وذكر بهذا المثل الحذاء الصينى الذى يقال إن المرأة تصب قدمها فى قالب منه. فقال لنفسه إن هذا هو مثال اطراد الحياة على نسق واحد لا يتغير. وليست الحياة — أو لا ينبغى أن تكون — كذلك، وإنما الحياة — كما يقول سبنسر — محاولة مستمرة لتنسيق العلاقات الخارجية والداخلية أو التوفيق بين النفس وغيرها. فإذا كان كل ما أفادنى من التحصيل والتجربة لا يعيننى على التوفيق بين نفسى وبين الحياة، فأنا إذن لا خير فى ولا أمل. فالصبر الصبر يا هذا.

وأراد أن يسرها ويبرها، فإن الصبر وحده لا يكفى، ولا مفر من مجهود يبذله لتعود فتسكن إليه وتثق بأنه عاد إليها كله لا بجانب من نفسه. وذكر أنها كانت قالت له لما اتخذ هذا البيت مسكنًا: «إن ساكن الضواحى القصية لا يستغنى عن سيارة»، فسألها يومئذ: «هل تشتهين أن تكون لك سيارة؟» فكان ردها: «وأى امرأة لا تشتهى ذلك؟ ولكنه بذخ لا أحسبه يدخل فى طوقنا فلا تعجل». فسكت، ونسى، إلى أن كان ما كان مما أسلفنا عليه القول، فاغتنم فرصة مزاد تباع فيه مقتنيات إنجليزى أزمع العودة إلى وطنه. وكان بين المعروضات سيارة متينة البناء سليمة المحرك إلا أنها حائلة اللون، غير ذات رونق، فاشتراها بمبلغ زهيد.

ستين جنيهًا ليس إلا. وبعث بها إلى من طلاها وأعاد إليها جمال الشكل وبهاء المنظر. وأعدها — ومعها سائقها — أمام الباب فى ساعة معينة. فعل هذا كله دون أن يخبر زوجته. وفى مأموله أن يفاجئها بما يعتقد أنه يسرها. ودعاها إلى الخروج، وفى عينيه بريق يكاد يفضحه، فما كان يحسن التكلف. فنظرت إلى وجهه مستغربة، وخرجت طائعة، فلما رأت السيارة وقفت والتفتت إليه وسألته: «ما هذا؟» قال: «أتعجبك؟» قالت: «إنها جميلة. ولكنى لا أفهم». قال: «إنها لك». قالت: «لى أنا؟ متى اشتريتها؟ ولماذا لم تخبرنى؟» قال: «لو أخبرتك لما كانت هناك مفاجأة». فعبست وقالت: «ولكن هذا إسراف». وغالبت نفسها فتبسمت وفتحت الباب ودخلت. ولما انطلقت بهما السيارة قالت له: «لولا خوفى عليك لقلت لك تعلم قيادتها، لنقتصد على الأقل أجر السائق». قالى: «لا تخافى على. سأتعلم وأعلمك أيضًا فما اشتريتها إلا لك».

وصمتا برهة قالت بعدها: «لا تظن أنى غير شاكرة فإنى شاكرة. ولكن الثمن الذى ذهب فيها، والتكاليف، وأجر السائق! أليست هذه مجازفة؟»

قال: «ربما. ولكن الذى لا يجازف لا ينال شيئًا». وتمتم: «وفاز باللذة الجسور».

وسرت تحية، فما كان يسعها إلا أن تُسر بالتفاتته هذه. وخيل إليها أنها بداية لعودة العصفور إلى عشه، لا بجسمه، فما كان فارقه، بل بقلبه وروحه. ولكنها على هذا لم تكن تبدو سعيدة كما كان يرجو أن يراها. وبدا له أن الحزامة أن يصارحها، فما يطيق أو يستطيع أن يظل معها هكذا متكلفًا متظاهرًا بالرضى، وأن يدعها تتعمل وتتكلف هى أيضًا، ولعل خواطرها سود حالكة. وما ثم خير فى ترك الأمور تستفحل وتتفاقم وفى الوسع منعها من ذلك. وقد لا تجدى المصارحة، ولكنها على التحقيق لن تزيد الحال سوءًا.

واغتنم الفرصة ذات ليلة، وهما يشربان الشاى وحدهما قبيل النوم — وكانت تلك عادتهما — فقال لها إنه يراها متغيرة منذ زمن وإنه جاهد ليردها إلى سابق العهد بها، ولكنه لا يرى أنه أفلح. فما هى الحكاية؟ فحاولت أن تهرب من الموضوع، وزعمت أن النعاس يغالبها، ويكاد يثنى رأسها على صدرها، وأن للكلام وقتًا آخر، إذا كان لا بد من ذلك، فألح وأصر. فقالت له إنها لا تستغرب أن تكون تغيرت، فإنه هو أيضًا قد تغير. ولعل مرد الحالين إلى أمر واحد. فسألها: «هل تعنين عايدة؟»

قالت: «لا أحب أن أذكرها بغير الخير. وإنى لأرثى لها وأتوجع لما حاق بها وصارت إليه. ولكنى لا أكتمك أن حكايتها معك قد أورثتنى برغمى هذا الذى تنكره من حالى. وثق أنى لا أسىء بك الظن، ولكنى امرأتك، ولا أكون أنثى إذا لم يصبنى ما أصابنى».

قال: «لقد كنت أراها كل يوم تقريبًا، وكنت تعرفين ذلك، وكنت أنبئك أنا إذا لم تعرفى، وكنت أحرص على هذا لتطمئنى. على أنى أقول لك إنى أؤثر المرأة التى لها عقل رجل، لا لأنها تكون أحلى أو أفتن، بل لأنى أرانى عاجزًا عن فهمها إذا لم تكن كذلك».

قالت، وهى تبتسم: «بل أحلى منها عقل امرأة وزينة امرأة».

قال: «هذا صحيح، وليست المرأة امرأة إلا بذلك، ولكن الأخرى التى يكون لها عقل رجل، تجذبنى لأنها شاذة، ونادرة. وأقول لك إنى أحمد عهد عايدة ولا أزال أذكره شاكرًا. ولكن الطريق الذى سرنا فيه لم يفض بنا إلى ما يدعو إلى هذا منك».

قالت: «كان يمكن».

قال: «ربما، جائز، ولكنه لم يكن. أفمن أجل أن أمرًا ما، كان يمكن أن يقع، تعذبين نفسك وتعذبيننى هذا العذاب؟»

قالت: «ألست معذورة؟»

قال: «نعم. ولكن هذا الاحتمال موجود أبدًا، ولا يحتاج إلى عايدة على الخصوص ليمكن أن يكون ما دام الأمر كله أمر إمكان وجواز واحتمال».

فأحست الخوف، فقد كانت هذه أول مرة يبسط لها فيها الأمر على هذا النحو الواضح، وشعرت أن لا سبيل إلى أمن أو اطمئنان ما دام هذا جائزًا ومحتملاً فى أى وقت. ولكنها غالبت نفسها وقالت بابتسام كأنما تمزح: «إنى أعتقد أنك من الرجال الذين يمكن أن يحبوا أية امرأة بشرط أن يكون لها من المفاتن الكفاية».

وكان من الجلى — من نظرتها وابتسامتها ولهجتها — أنها تمزح، ولا تقول هذا جادة. أو لعلها كانت جادة، ولكنها آثرت أن تبطن كلامها بالمزاح.

ولم يغضب، ولم يسؤه هذا، بل قال وقد انتوى أن يذهب فى المصارحة — ما دام قد بدأ — إلى النهاية: «إنك مخطئة خطأين كبيرين، الأول قولك أنى مستعد أن أحب أية امرأة إذا كان لها من الجمال القدر الكافى للإغراء أو استثارة الإعجاب. والحقيقة أنى مستعد أن أحب كل امرأة ولو كانت دميمة، فإن للدمامة فتنتها أيضًا، والبراعة فى تكوينها جديرة بالإعجاب، والمرأة الدميمة المزهود فيها خليقة بالرحمة. ألم تسمعى قول ابن المعتز: «وأرحم القبح فأهواه؟». وخطؤك الثانى ظنك إنى بدع فى الرجال. فاصغى إلى جيدًا.. إن الرجل الذى يقدر على الحب هو الذى يحب المرأة أولاً — الجنس كله، النساء جميعًا — ثم بعد ذلك يحب امرأة معينة. وإنه ليحسن بكل امرأة أن تعرف هذه الحقيقة الأولية لأنها حيوية. إنك تخطئين حين تتوهمين أن رجلاً لا تعنيه النساء، يستطيع أن يحبك ويفهمك ويقدرك. لا يا ستى ليس إلى هذا السبيل. فإن الانتقال يكون من العموم إلى الخصوص. وأنت أيضًا لا تستطيعين أن تمقتى «الرجل» وتحبى رجلاً. إن الذى يعرف كيف يحب امرأة هو الذى يحب المرأة، أو فكر المرأة، والأمران سيان. فإذا كنت تطلبين الشاذ والاستثناء، فاعلمى أن الشذوذ فى هذا يفضى إلى شذوذ آخر، لا تصلح به حياة المرأة الطبيعية التى لا تعانى شذوذًا فى طبيعتها».

فبدا عليها الرعب، ولكنه لم يرحمها وألح عليها فقال: «إنك تريدين أن تفوزى بلذات الحب ونعيمه من رجل محدود، ضيق الأفق والنفس، أعمى العين والقلب، فلماذا تزوجتنى إذن؟ تطلبين الدفء من رجل بارد مقرور النفس! تشتهين نظرة الحب المثيرة من عين كالزجاج لا معنى فيها ولا تعبير لها، لأن من لا يرى ولا يحس لا يستطيع أن يعبر. تريدين أن يخفق لك قلب بعلك بالحب والحنان وهو لا يخفق إلا لمنظر الحمام المحشو، والبطاطس فى الصينية، إذا كان يخفق حتى لهذا … لماذا خلق الله هذه الدنيا وما حفلت به من جمال؟ ما خيرها لنا إذا كنا سنعمى عنها؟ هل تذكرين الجبن اللذيذ الذى أكلنا منه ظهر اليوم؟»

وكان الانتقال مفاجئًا، ولا صلة له بما هو فيه. ولكنها ألفت منه هذه الوثبات، فتبسمت وقالت: نعم. ماله؟»

قال: «لقد كان هذا جبنًا طيبًا. وكان طعمه لذيذًا. وهو صالح نافع أيضًا.. ولكن إذا تركناه زمنًا كافيًا، فإن شيئًا غريبًا ممتعًا يحدث له. تدب فيه حشرة طفيلية نسميها الدودة، وتتكاثر الديدان، وتجعله كالأسفنج.. من أين جاء الدود؟ إنه لم يجىء من الخارج. وهو طفيلى، وعلامة فساد وانحلال.. أنتجه الفساد الذى دب فى الجبن. وكذلك النفس لاتفسد وتتعفن بشىء يجىء من الخارج، بل يكون ما يظهر فيها من الخوارج السود القبيحة نتيجة الفساد الذى اعتراها من الباطن».

واضطجع فى كرسيه وغام وجهه وهو يقول: «يخيل إلى، أن من الممكن أن نكون نحن الآدميين، وغيرنا من صور الحياة، علامات فساد وانحلال. وعسى أن نكون ظهرنا فى هذه الدنيا كما يظهر الدود فى الجبن أو المش، ومن يدرى؟ لعلنا حشرات طفيلية يغص بها كيان ضخم، فهى تعيث فيه.. كيان ظل موجودًا أكثر مما ينبغى.. ففسد.. وصار جديرًا بأن يرمى أو يمحى».

فشق عليها أن يسبح هذه السبحة، ورق له قلبها، فقد أيقنت أنه هو أيضًا يتعذب، وأنه يتألم لنفسه ولها، لنفسه على الاثر لأنه فقد ما يطيب به نفسًا، ولكن الذى فقد، هو الذى أحب منها. فصاحت: «إبراهيم.. أرجو … أرجو أن لا تتكلم هكذا».

فصاح بها هو أيضا: «لماذا؟ لماذا تطبقين جفونك وتحجبين عقلك؟ لست أمية ولا أنت عمياء، ولا أنت بليدة. ألا تعرفين أن النظر إلى الجمال والإعجاب به، بل حبه، كقراءة الشعر يجعل الإنسان أعرق فى الإنسانية؟ ألا تعرفين أن الرجل البليد كالسفينة التى تسير بغير بوصلة؟ ألا تدركين أن الفطنة إلى الجمال فى مظاهره المتنوعة يعينك حتى على حسن الاختيار، حتى حين تشترين حذاءً أو تفصلين ثوبًا؟ أهملى ما فى الدنيا من مباهج العيش، وفتن الحياة، وحلاوة الحسن، وروعة الجلال، وانظرى كيف تصير الدنيا والناس؟ بهائم فى مرعى، لا تدرك حتى أن ما ترعاه أخضر. لا ترفع عينها مرة إلى السماء، لأنها لا تدرى أن فوقها سماء. إن الإنسان إنما صار إنسانًا لأنه رفع عينه، وأجالها، وأحس وأدرك.. ماذا جرى لك؟ أتبغين الموت فى الحياة؟ أتريدين أن أكون مخلوقًا ذا بعدين اثنين فى عالم ليس فيه حتى ولا أشباح؟»

فقالت بلهجة وديعة: «إنى لم أعد أدرى ماذا أنا حتى أعرف ماذا أريد». قال: «ولست مع ذلك بالغبية، ولو كنت، لأقصرت. فما يلام النبات من أجل أنه نبات.. وإنك لذكية، وفيك فكاهة، وذهنك سريع، وحيوَيتك دافقة.. ولكنك تنفقين كل ذلك عبثًا، تبعثرينه سدى، تضيعينه فى غيرة سخيفة. لقد تعبت ونشفت ريقى فاسقنى شيئًا».

فأشارت إلى إبريق الشاى، فأشار إليها أن لا، فجاءته بقدح صبت فيه قليلاً من الويسكى، وهمت أن تشعشعه بالماء، فهز رأسه، وتناول القدح، وقلبه على فمه، فاكتوى حلقه، وقطب، ونهض واتجه إلى الباب فى صمت. فلحقت به ووضعت راحتها على كتفه، وقالت بلهجة هى أعذب وأرق ما صافح سمعه فى سنوات: «آسفة … مسكين … اعذرنى وسامحنى …».

وارتمى على سريره فى تلك الليلة وهو يقول لنفسه: «ألا إنها لمعذورة، وتالله لأنا الذى جنيت هذا كله.. فما أقدر الإنسان على الثرثرة والمغالطة».

وأدركه النوم وهو يحاور نفسه ويسألها: «أترانى كنت أغالطها؟ أكنت أتفلسف عليها لأرد عنها ما يسوءها، ويثقل عليها، ولأدفع عنها ما يعذبها، كما يفتح أحدنا الشمسية ويرفعها فوق رأسه ليتقى الشمس أو المطر؟ وهل ينفى هذا أن الشمس عظيمة الوقدة أو أن المطر يهطل؟»

ودخل فى عالم آخر قبل أن يجيب أو يعرف الجواب.. عالم ملؤه السكينة التى لا تخلو مع ذلك من مغالطة الأحلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤