تصدير

أثبتنا في كتاب «العقل والوجود» أن للإنسان قوة درَّاكة متمايزة من الحواس، تُدعى بالعقل، شأنها أن تدرك معاني المحسوسات مجردة من مادتها، ومعاني أُخَرَ مجردة بذاتها، وأن تؤلف هذه المعاني في قضايا وأقيسة واستقراءات، فتنفذ في إدراك الأشياء إلى ما وراء المحسوس، محاوِلة استكناه ماهيَّته، وتعيين علاقاته مع سائر الموجودات. ولما كانت موضوعات العقل مجردة، كانت أفعاله التي ذكرناها مجردة كذلك، فأبطلنا المذهب الحسي الذي يقصر المعرفة الإنسانية على الحواس، ويرمي إلى أن يرد إليها ويفسر بها سائر المدركات.

وبعد إثبات وجود العقل بوجود موضوعاته وأفعاله، عرضنا لقيمة الإدراك العقلي، فأدحضنا مذهب الشك المنكر لجميع الحقائق، حتى الحسية منها، والهادم للعلم من أساسه؛ وأدحضنا المذهب التصوري الذي وإن آمن أصحابه بوجود العقل وبمدركات عقلية، فهم يقصرون هذا الوجود على داخل العقل، ويعتبرون هذه المدركات تصورات وحسب، فينكرون على الإنسان حق الخروج من التصور إلى الوجود. وبعد إثبات بطلان تلك الدعاوي بَيَّنَّا تهافت المذاهب الميتافيزيقية المبنية عليها.

ثم بينَّا أصول رَأْيِنا فيما بعد الطبيعة، وهو أن هذا العلم يدور على معنى الوجود بما هو وجود، أي: بإطلاقه من كل تعيين وتخصيص، وعلى المعاني والمبادئ اللاحقة لمعنى الوجود، وهي أبسط المعاني والمبادئ وأعمها، المؤسسة لمعرفتنا، المؤيدة لحقيقتها، المخولة العقل حق الخروج إلى موضوعات التصور في أنفسها، والنفاذ إلى حقائقها، وبناء العلم.

والآن نقصد إلى النظر في طبائع هذه الموضوعات، وأن نبدي الرأي فيها، وقد تشعبت الآراء تشعبًا كثيرًا، وتضاربت تضاربًا شديدًا، حتى ولدت الحيرة وبلبلت الخواطر، فعدلت مذهب الشك لمحض كثرتها وتعارضها، آملين أن نحل محلها الرأي الحق في كل مسألة، وأن نقدم صورة سليمة للطبيعة بقوانينها وبموجوداتها؛ من جماد ونبات وحيوان وإنسان، على هذا الترتيب التصاعدي الظاهر لأول وهلة.

ونقصد أخيرًا إلى إتمام البحث الشامل، واستيفاء اليقين الكلي، بالصعود إلى العلة الأولى للطبيعة، أي: لخالقها ومشرِّع قوانينها، المفارق لها، العالي على موجوداتها، وقد نفت وجوده فرق، وضلت في فهمه فرق، فتكدَّست المسائل في هذه الناحية من المعرفة. وأعضلت حتى لا يهتدي إلى وجه الحق فيها إلا الأقلُّون.

من بين الموجودات بعضها موجود بالطبع، والبعض الآخر بعلل أخرى [كالفن أو كالصادفة]: الموجود بالطبع الحيوانات وأجزاؤها، والنباتات والأجسام البسيطة [التي هي العناصر]. وهذه الأشياء، والتي من قبيلها، تختلف اختلافًا ظاهرًا عن التي ليست بالطبع، فإن كل موجود طبيعي فهو حاصل في ذاته على مبدأ حركة وسكون، بعكس السرير والرداء وما إليهما، أي: بقدر ما هو مفعول الفن، فهو ليس حاصلًا على أي ميل طبيعي للتغير.

(أرسطو: كتاب السماع الطبيعي، م٢ ف١)

العقل يدرك جميع الأشياء، فيلزم أن يكون مفارقًا للمادة لأجل أن يدرك، فإنه إن كانت له صورة خاصة [كخصوصية أعضاء الحواس] إلى جانب الصورة الغريبة (أي: المدركة) كانت تلك حائلة دون تحقق هذه.

(أرسطو: كتاب النفس، م٢ ف١)

كل متحرك فهو متحرك بغيره … وهذا الغير إن كان متكثرًا محركًا ومتحركة آحاده كل بغيره، فهو متناهي العدد بالضرورة، إذ يمتنع التداعي إلى غير نهاية في سلسلة العلل، وإلا كان في التسلسل إنكارًا لبداية الحركة، ومن ثمة إنكارًا للحركة نفسها، وهي واقعة. وإذن فلحركة العالم علة أولى ثابتة غير متحركة.

(أرسطو: كتاب السماع الطبيعي، م٨ ف٤)

إننا نرى كل شيء منظمًا في ذاته، ونرى الأشياء منظمة فيما بينها، فللعالم غاية ذاتية هي نظامه، وغاية خارجية هي المحرك الأول؛ علة النظام.

(أرسطو: ما بعد الطبيعة م١٢ بداية ف١٠)

المحرك الأول هو الخير بالذات، فهو مبدأ الحركة، هو المبدأ المتعلقة به السماء والطبيعة.

(أرسطو: ما بعد الطبيعة م١٢ ف٧)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤