الفصل السابع

جميل وبثينة

وفيما هو يركض ويلهث إذا به يرى شيخًا عليه لباس الرعاة يسير عاري الرأس وقد غرس عصاه في قفا طوقه، وعليه عباءة قصيرة وخشونة البداوة بادية في وجهه مع شدة الظلام. فناداه حسن: «يا أخا العرب، ألم ترَ بعيرًا راكضًا هنا؟»

وما أتمَّ حسن سؤاله حتى أسرع الرجل إليه وأمسك بذراعه وضغطها بشدة في حين أشار إليه أن يسكت وينتظر، فالْتفت حسن إلى ما حوله فرأى شجرة كبيرة على أكمة ورأى هناك ظلًّا يتحرك، فهمس في أذن الشَّيخ قائلًا: «ما شأنك؟ أخبرني.»

قال: «لقد اتفق لي اليوم حادث غريب مع رجل لقيته على غير معرفة فإذا أصغيت لي قصصت الخبر عليك، ثم نذهب ونستطلع بقيته معًا عند تلك الشَّجرة.»

قال حسن: «ولكن هل رأيت جملًا راكضًا من هنا؟»

قال: «نعم رأيته، وأظنه طلب هذا الوادي، ولا تَخَفْ عليه فإني كفيل برده إليك؛ لأني أعرف رجال الحي وهم يعرفونني، والإبل سارحة عندهم ولا خوف عليها.»

قال حسن: «وأي وادٍ هذا؟»

قال: «هو وادي القرى.»

قال حسن: «أليس هو موطن بني عذرة المعروفين بشدة عشقهم وعفتهم؟»

قال: «هو بعينه. والحادث الذي وقع لي اليوم يكشف لنا عن حقيقة ما نسمعه عن هؤلاء. فأعرني سمعك لأقصَّ عليك الخبر.»

فمال حسن إلى سماع الحديث، وأهل الغرام يميلون إلى أحاديثه، فقال الرجل: «قضيت في هذه الأودية معظم فصل الربيع أرعى إبلي، فجاءني في أصيل اليوم رجل طويل القامة منطوٍ على رحله كأنه جانٌّ، فسلَّم عليَّ ثم قال: «ممن أنت يا عبد الله؟» فقلت: «أحد بني حنظلة.» قال: «فانتسب.» فانتسبت حتى بلغت فخذي الذي أنا منه، ثم سألني عن بني عذرة أين نزلوا، فقلت له: «هل ترى ذلك السفح؟ إنهم نزلوا من ورائه.» قال: «يا أخا بني حنظلة، هل لك في خير تصطنعه لي، فوالله لو أعطيتني ما ترعاه من هذه الإبل ما كنت بأشكر عليها مني لك عليه؟»

فقلت: «نعم، ومن أنت؟» قال: «لا تسألني من أنا. ولن أخبرك بأكثر من أني رجل بيني وبين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم، فإن رأيت أن تأتيهم فإنك تجد القوم في مجلسهم فتنشدهم بكرة أدماء تجر خفيها عقلاء من السمنة. فإن ذكروا لك عنها شيئًا فذاك، وإلا فاستأذنهم في دخول البيوت وقل: إن المرأة والصبي قد يريان ما لا يرى الرجال. فإذا أذنوا لك فادخل بين البيوت واسأل أهلها حتى لا تدع أحدًا تصيبه عينك ولا بيتًا من بيوتهم إلا وقفت به وسألت».»

فدُهش حسن واشتدَّت رغبته في سماع بقية القصة، وعاد الشَّيخ إلى الكلام فقال: «فأتيت القوم فإذا هم على جزور يقتسمونها، فسلَّمت وانتسبت لهم ونشدتهم ضالتي، فلم يذكروا لي شيئًا، فاستأذنتهم في دخول البيوت وقلت: «إن الصبي والمرأة قد يريان ما لا يرى الرجال.» فأذنوا، فأتيت أقصاها بيتًا ثم مضيت أطوف بيتًا بيتًا أسألهم فلا يذكرون شيئًا، حتى إذا انتصف النهار وآذاني حر الشَّمس وعطشت وفرغت من البيوت وذهبت لأنصرف، حانت مني الْتفاتة، فإذا بثلاثة أبيات فقلت في نفسي: «ما عند هؤلاء إلا ما عند غيرهم.» ولكني عدت فقلت لنفسي: «أيثق بي رجل يؤكد أن حاجته تعدل كل مالي ثم آتيه فأقول عجزت عن ثلاثة أبيات؟» فانصرفت عامدًا إلى أعظمها، فإذا أهله قد أرخوا مؤخره ومقدمه، فسلمت فردوا السلام، وذكرت ضالتي، فقالت جارية منهم: «يا عبد الله قد أصبت ضالتك، وما أظنك إلا قد اشتد عليك الحر واشتهيت الشَّراب.» قلت: «أجل». قالت: «ادخل.» فدخلت فأتتني بصفحة فيها تمر من هجر، وقدح فيه لبن، والصفحة مصرية مفضضة، والقدح لم أرَ إناء قط أحسن منه. فقالت: «دونك.» فأكلت التمر وشربت من اللبن حتى رويت. فقلت: «يا أمة الله، والله ما أتيت أكرم منك ولا أحق بالفضل، فهل ذكرتِ عن ضالتي شيئًا؟» فقالت: «هل ترى هذه الشَّجرة فوق الشَّرف؟» قلت: «نعم.» قالت: «إن الشَّمس غربت أمس وهي تطوف حولها، ثم حال الليل بيني وبينها.» فظننتني فهمت مرادها فقلت: «جزاك الله خيرًا، والله لقد تغدَّيت ورويت.» ثم مضيت فأتيت تلك الشَّجرة وطفت بها فما رأيت أثرًا. فأتيت صاحبي فإذا هو متشح بكسائه وقد قبع بين الإبل ورفع عفيرته يغني فقلت: «السلام عليكم.» قال: «وعليكم السلام، ما وراءك؟» قلت: «ما ورائي شيء.» قال: «لا عليك، فأخبرني بما فعلت.» فقصصت عليه القصة حتى انتهيت إلى ذكر المرأة وأخبرته بما صنعت فقال: «قد أصبت طلبتك.» فعجبت لأني لم أجد شيئًا. ثم سألني عن صفة الإناءين والصفحة والقدح، فلما وصفتها له تنفَّس الصعداء وقال: «قد أصبت طلبتك والله.» ولما ذكرت له حديث الشَّجرة وغروب الشَّمس وهي تطوف حولها، بدا البشر في وجهه وقال: «حسبك.» ففهمت أنها ضربت له موعدًا للقائه عند هذه الشَّجرة بعد الغروب. ومكث حتى أوت إبلي إلى مباركها، فدعوته إلى العشاء فلم يدنُ منه وجلس مني بمزجر الكلب. حتى إذا ظن أني نمت، قام إلى عيبة له فأخرج منها بردين، ارتدى أحدهما وائتزر بالآخر، ثم انطلق نحو الشَّجرة. وهو الذي تراه جالسًا هناك بقرب جذع الشَّجرة، وسنرى ما يكون من اجتماع الحبيبين.»

•••

أمسك الشَّيخ حسنًا بيده، وجذبه إلى الجلوس بجانبه على الأرض بين شجيرات هناك، ثم أشار بيده صامتًا نحو شبح صاعد من الوادي وعليه لباس النساء، ومعه شبح آخر وقال: «هذه هي الفتاة ومعها خادمتها، اضطجع مكانك لنرى ما يكون.»

فانبطحا، وبعد قليل زحفا حتى اقتربا من الشَّجرة واختفيا في مكان بحيث يريان ويسمعان ما يدور بين الفتى والفتاة.

ولو أن الليلة كانت مقمرة، لتبين لهما ما ارتسم على وجه الفتى حين وصلت الفتاة. فوقف وتقدم للقائها وهو يحسب نفسه في خلاء وظلمة، وكان قلب حسن في أثناء ذلك يضرب ضربات سريعة مخافة أن يرى من الحبيبين ما يخجله أو يهيج غيرته، فندم على إصغائه للشيخ الراعي لما رأى في اختلاس أسرار الناس من أمر منكر. على أنه أحس بميل شديد لاستطلاع ما يدور بين هذين العاشقين. واستطلاع مثل هذه الأسرار مما تتوق إليه النفس، والميل إلى ذلك عامٌّ في الناس على اختلاف طبقاتهم وإن تفاوتوا في احترام تلك الأسرار والإغضاء عن استطلاعها عملًا بالآداب العامة.

وملتقى الحبيبين على هذه الصورة تميل النفس إلى رؤيته ولا سيما عند أهل الغرام، فلا عجب إذا اختلج قلب حسن واصطكَّت ركبتاه واقشعرَّ بدنه. ولم يكن سبب ذلك التأثر إلا توقعه أمرًا يخاف أن يراه ولا يريد أن يفوته. ولكنه ما كاد يرى العاشق واقفًا لرد التحية حتى عرف من طول قامته وغنة صوته أنه جميل الذي رآه أصيل ذلك اليوم في مجلس سكينة. فتحقق أن الفتاة هي بثينة؛ لأنه كثيرًا ما كان يسمع أحاديث غرامهما وكيف منعه أهلها منها ولكنه ما زال يحبها حبًّا مفرطًا، كما أنها تحبه هي أيضًا. وكان حسن يسمع بحب بني عذرة وعفافهم، ولكنه لم يكن يصدق أن مثل ذلك الملتقى في ذلك الخلاء على غفلة من الرقباء يكون مقصورًا على إلقاء التحية.

وكانت الفتاة مقنعة، فجلست على حجر وجلس جميل على حجر لا يمس ثوبه ثوبها ولا يده يدها. جلسا متقابلين ينظر أحدهما إلى الآخر ولا يفوه بكلمة إلا ما كان عتابًا أو تشاكيًا، ولا يقولان فحشًا ولا هجرًا. فاستغرب حسن ما رآه من العفة الصادقة، ثم سمع الفتاة تنادي خادمتها، وكانت الخادمة قد وقفت على مقربة منهما، فجاءت تحمل قصعة من الطعام، فجلسا يأكلان ويتحادثان، فلما فرغا من الطعام قالت بثينة: «بلغني أنك قلت فيَّ أشعارًا، فهل أنت على حبك؟»

قال: «لا أعرف في لغة البشر لفظًا يعبر عما في قلبي؛ فإنه أعظم من الحب، وأشد من الغرام، وأرقى من العبادة، ولا أدري ما هو يا بثينة، فإذا اكتفيت بتسميته حبًّا فإني لا أراه يؤدي ما في قلبي.»

قالت: «وكيف ذلك؟»

قال: «لا أدري يا حبيبتي. لا أدري كيف هو ولا ما هو!» ثم صعَّد الزفرات وقال: «إنما أعلم أنك نصب عيني أينما سرت وحيثما جلست وكيفما نظرت. إن بثينة أمام عيني، أراها جسمًا واضحًا ومن عداها من الناس أراهم أشباحًا أو ظلالًا. ولم أسمع اسمها إلا اضطربت جوارحي وخفق قلبي، ولا أرى راحة إلا بالبكاء، حتى قلت:

خليلي فيما عشتما هل رأيتما
قتيلًا بكى من حب قاتله قبلي؟»

فقالت بثينة: «إذا كنت أنت كذلك فكيف أنا، ولكننا معشر النساء مقضي علينا بالتعب والشقاء، فلا تقدر إحدانا على بثِّ شكواها إلى أحد لئلا ينثلم عرضها. وأما أنتم معشر الرجال فلكم الحرية كلها، وأنت تزعم أنك تحبني حبًّا لا تدري مقداره، فهل يهجر محبٌّ حبيبه وقد أحبَّه إلى هذا الحد؟ فوالله ما أعلم ما تسمعه عني أو تقوله فيَّ أثناء غيابي الطويل، ولا أدري موقع بثينة ممن يقع بصرك عليهن؟» قالت ذلك بنغم الدلال فازداد جميل هيامًا وقال لها:

إني لأحفظ غيبكم ويسرني
إذ تذكرين بصالح أن تذكري
ويكون يوم لا أرى لك مرسلًا
أو نلتقي فيه، عليَّ كأشهر
يا ليتني ألقى المنية بغتةً
إن كان يوم لقائكم لم يُقدر
لا تحسبي أني هجرتك طائعًا
حدث لعمرك رائع أن تهجري
يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت
يتبع صداي صداك بين الأقبر

فما تمالكت بثينة عند سماعها قوله أن غصت بريقها وقالت: «وهل أنت الذي قلت:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى إني إذن لسعيد
وهل ألقين فردًا بثينة مرة
تجود لنا من ودها ونجود؟

قال: «نعم.»

قالت: «وما الذي ترجو أن نجود به ونحن بنو عذرة؟»

قال: «لا أطمع منك بغير الحديث والنظر ولو كان من وراء نقاب:

لا، والذي تسجد الجباه له
ما لي بما تحت ثوبها خبر
ولا بفيها ولا هممت بها
ما كان إلا الحديث والنظر.»

فأطرقت بثينة خجلًا ثم قالت: «ذلك عهدنا بجميل، ولولا ذلك ما رأيتني أسعى إليك وحدي.»

فلا تسل عن استغراب حسن والراعي ما رأياه حتى هانت على حسن نفسه؛ لأنه لم يكن يظن أنه يستطيع ما استطاعه جميل إذا الْتقى بسمية.

قضى جميل وبثينة ساعة في مثل ذلك ثم نهضت فودَّعته أحسن وداع، فودَّعها بمثله، وانصرف كلٌّ منهما في سبيله وكل منهما يمشي خطوة ثم يلتفت إلى صاحبه.

فلما تواريا نهض حسن من بين الأعشاب مذهولًا وقال للرجل: «لقد رأيت منظرًا طالما تاقت نفسي لمشاهدته، إنه منظر يخجل منه كل ضعيف النفس دنيء الطبع. إن العفة يا أخا العرب خير ما في الفضائل.»

فقال الشَّيخ وهو ينقر بعصاه على عباءته لنفض التراب عنها: «كيف لا وقد سمعت ابن عباس — رضي الله عنه — يقول: قال رسول الله : «من عشق فعفَّ فمات فهو شهيد.» وقال أيضًا: «عفوا تعف نساءكم».»

فقال حسن: «صدق رسول الله، وإن بني عذرة كلهم لشهداء؛ فقد بلغني مثل ذلك عن كثير من عشاقهم ولكنني لم أصدق حتى رأيت ذلك رَأْيَ العين.»

ثم انتبه حسن لما هو فيه من أمر جرح سليمان وضياع الجمل فقال للراعي: «وأين الجمل يا أخا العرب؟ فقد وعدتني بإحضاره.»

قال: «امكث هنا حتى آتيك به.» قال ذلك وانحدر في الوادي حتى توارى عن النظر، ولكن صوت الأحجار المتدحرجة تحت قدميه ما زال مسموعًا، ثم ساد السكون فجلس حسن تحت الشَّجرة ولبث ينتظر عودة الشَّيخ وقد استوحش المكان.

ولما خلا حسن إلى نفسه تحت الشَّجرة جالت به هواجسه في عالم الخيال فانتقل ذهنه مما شاهده في ذلك المساء إلى سمية وحاله معها، ثم إلى خادمه عبد الله وتأخره، ثم إلى سليمان وأبيه، ثم عاد إلى الجمل الهارب بكتاب خالد فرأى أنه أهمل البحث عنه بتربصه هناك لمشاهدة لقاء ذينك الحبيبين. ولكنه اعتذر بأنه إنما فعل ذلك مرغمًا، فلو أنه لم يُطِعْ الشَّيخ الراعي وظلَّ في مسيره لما وجد إلى جمله سبيلًا؛ لأنه يجهل تلك البقاع ولا يعرف طرقها.

وفيما هو كذلك وظلام المساء لا يريه على الآكام والأودية المحيطة به إلا ظلالًا ضعيفة، سمع خربشة بين الأعشاب فوقف بغتة ثم فطن إلى أنها خربشة ضب سارح فلم يلتفت إليه، ولكنه ظلَّ واقفًا وقد تزايد قلقه لإبطاء الراعي وهمَّ باللحاق به ولكنه خاف أن يختلفا في الطريق.

ولما طال انتظاره ملَّ الوقوف فمشى على غير هدًى، واتخذ علامة علَّقها على الشَّجرة لتهديه إلى المكان من بعيد. وجعل مسيره في جهة الوادي الذي سار إليه الراعي يطلب الجمل وهو يتوقع أن يلتقي بالشيخ وهو عائد أو يسمع جعجعة الجمل عن بعد أو يعود إلى مكانه. ولذلك فإنه كان كلما مشى بضع خطوات الْتفت إلى الشَّجرة مخافة أن تتوارى عن بصره وراء بعض التلال، فمشى مسافة طويلة لم يسمع في أثنائها صوتًا ولا رأى شبحًا، ثم نسي أمر الشَّجرة فانحدر في الوادي وهو يلتمس الأرض ولا يرى الطريق فكانت رجله تزلق طورًا وترتطم أصابعه طورًا من فوق النعال بأصول الأعشاب الباقية بعد المرعى، وهو بين أن يحملق نحو الوادي بعينيه ويصيخ بأذنيه أو يتفرس في الطريق بين يديه. فلما طال به المسير ولم يهتدِ إلى شيء ندم لنزوله من مكانه.

وبعد مسير طويل على تلك الصورة سمع نباح كلاب في الوادي فالْتفت إلى جهة الصوت فرأى نورًا ضئيلًا فتأثر الصوت فإذا به يتعاظم كلما اقترب من النور، فعلم أنه على مقربة من بعض القرى الكثيرة في وادي القرى منتشرة في بطنه وعلى جانبيه. ولكنه استغرب النباح في الليل لعلمه أن ذلك لا يكون إلا إذا طرق الحي غازٍ أو لصٌّ. فوقف ليستريح ويفكر في أمره فالْتفت إلى ما يحيط به فإذا هو في وادٍ بين جبلين والظلام حالك والمكان موحش، ولكنه استأنس بتلك النار على بُعْدِها، فمشى نحوها فرأى شبحًا يعدو صاعدًا من الوادي كأنه غزال نافر، فلما اقترب منه علم أنه الراعي واستغرب مجيئه وحده فصاح فيه: «ما وراءك يا أخا العرب؟ أين الجمل؟»

قال: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟»

قال: «جاء بي قلقي على الجمل ورغبتي في التعجيل بالإياب.»

قال: «وما الفائدة من انحدارك في هذا الوادي والليل دامس وأنت لا تعرف الطريق وقد تعرضت للخطر بطرقك هذا الحي ليلًا إذ نبحتك الكلاب؛ لأنها لم تألفك من قبل كما أَلِفَتْني لكثرة تردادي إلى هذه القرى.»

فقطع حسن كلامه قائلًا: «ما لنا ولهذا؟ قل لي أين الجمل؟!»

قال: «لم أعثر عليه في المكان الذي كنت أظنه فيه، والظاهر أنه قصد ماء آخر وقد كنت ذاهبًا للبحث عنه في العقيق بجوار المدينة.»

فاستعاذ حسن بالله وقال: «يا لله! ما هذه المصيبة؟»

فابتدره الراعي قائلًا: «لا تخف يا سيدي فلن يضيع الجمل ولو غاب عنك طويلًا فإن أهل البادية يرسلون إبلهم للمرعى وقد لا يرونها أيامًا ثم تعود بنفسها أو يعود بها غلام أو فتاة. وقد كان ذلك شأننا في زمن الجاهلية، فكيف ونحن الآن في ظل الإسلام، وأما أنتم معشر أهل المدن فإذا غفل الرجل منكم عن عمامته خاف اختطافها!»

فملَّ حسن من جدال الراعي فقال له: «ما لنا ولهذا الجدال؟ أين الجمل وكيف السبيل إليه؟»

فقال: «يغلب على ظني أنه سار إلى العقيق، وهو ماء يخرج أهل المدينة إليه فيقيمون عنده ساعات أو أيامًا في خيام يحملونها معهم، وربما ذبحوا الذبائح وأولموا الولائم.»

فقطع حسن كلامه قائلًا: «ثم ماذا؟»

قال: «فالعقيق مجتمع أهل الرخاء من اليثربيين وهو يذكرني أيام الشَّباب، فقد كان العقيق موعدنا لنلقى نساء المدينة. لا تغضب يا سيدي إننا سائرون الآن جنوبًا نحو المدينة والعقيق في طريقنا إليها.»

•••

استغرب حسن بعده عن المدينة شمال المكان الذي ترك فيه سليمان وأباه فيه، فقال للشيخ: «هلمَّ بنا.» فمشيا والراعي على شيخوخته أسرع عدوًا منه؛ لأنه تعوَّد المشي في الوعر. أما حسن فلما صعد من الوادي والْتفت إلى السماء وتبين الكواكب فعلم أنه في أواخر الليل بغت لضياع الوقت وهو لم يأتِ عملًا بعد، وتشاءم مما تأتى له في ذلك المساء وهو إنما أمسك عن رؤية حبيبته رغبة في المسير إلى مكة على عجل، فكيف يعود إلى الوراء بعد قضاء الليل في المشي والقلق؟

قضى مدة سائرًا في أثر الراعي، على أرض رملية، بعضها رطب بما يرشح فيه من الماء، وفكره تائه حتى رأى نجم الصبح فعلم أن الفجر دنا ثم رأى الراعي وقف وأشار إليه قائلًا: «ألا ترى الماء أمامنا عن بعد؟»

قال: «إني أرى سطحًا لامعًا وكأني أرى فيه سماء أخرى من انعكاس أنوار الكواكب.»

ولما رأى الماء شعر بانشراح الصدر واستبشر ببلوغ أمنيته وجعل يتفرس في ضفاف ذلك الماء لعله يرى أناسًا أو جمالًا فلم يرَ شيئًا. ثم سمع الراعي يقول: «ها إننا على ضفاف العقيق ولا نرى فيه أحدًا سوى آثار أناس كانوا هنا ورحلوا في أوائل الليل، فاقعد على هذا الحجر واغسل رجليك في هذا الماء واسترح ريثما آتيك بالخبر.»

قال: «دعني أسر معك.»

قال: «لا. امكث هنا واغسل رجليك وسأعود إليك على عجل، فإني لا أتحقق الأمر حتى أطوف حول هذا الماء، ولا حاجة إلى مسيرك معي فقد تعبتَ وإن كنت في عنفوان الشَّباب؛ لأن أهل المدن لا يقوون على المسير مثلنا.» قال ذلك والْتحف العباءة وسار وحسن يتبعه بنظره حتى توارى، وما لبث أن سمع الشَّيخ يناديه فنهض وأسرع حتى أقبل عليه فإذا هو واقف تحت شجرة منبسطة الأغصان وقد قبض بيده على شيء وهو يقول: «متى خرجت من المدينة؟»

قال حسن: «نحو الغروب.»

قال: «هل أطعمت الجمل قبل خروجك؟»

فتحير حسن بماذا يجيب؛ لأنه وكل أمر الجمل إلى خادمه فقال: «أظن الخادم أطعمه.»

فبسط الشَّيخ يده فإذا فيها أبعار فقال: «إن هذه الأبعار لجمل من جمال المدينة جاء وحده إلى هذا المكان من مدة قصيرة ورجع.»

فاستغرب حسن بته في الأمر وقال: «وكيف عرفت ذلك؟»

قال: «عرفته من هذه الأوساخ؛ فإن فيها النوى وهو علف جمال المدينة؛ لأن النوى كثير عندهم. ويظهر من قلة جفافها أنها وُضعت من عهد قريب. ولم أرَ واضعها فيكون قد عاد.»

فوجد حسن كلامه معقولًا ولكنه لم يقتنع بأن الجمل الذي يشير إليه هو جمله؛ إذ لا يبعد أن يكون جمل أناس آخرين فقال له: «وما الذي أنبأك أنه جملي وليس من جمال الناس مروا بهذا المكان الليلة؟»

فضحك الشَّيخ وقال: «لو كانت أبعار الجمال كثيرة لرأيناها أصنافًا وألوانًا. فهي إذن لجمل واحد، وهذا الجمل لم يقم هنا إلا قليلًا. وأي جمل من جمال أهل المدينة يخرج إلى هذا المكان بعد منتصف الليل إلا أن يكون فارًّا مثل جملك؟»

فأُعجب حسن ببداهة أهل البادية، وتذكر اشتهارهم بقيافة الأثر، ولكنه ما زال مشككًا في أن يكون ذلك الجمل جمله فقال: «لا أرى ما يمنع بعض أهل المدينة من الخروج الليلة على جمله يلتمس بعض الأحياء فمرَّ بالعقيق ليشرب أو يسقي جمله أو يستريح.»

قال: «قد يكون ذلك، ولكن حال المكان، لا يدل عليه؛ لأني لا أرى على الأرض آثار آدميين.»

فقطع حسن كلامه وقال وهو يظن أنه أفحمه: «الظاهر أن الراكب لم ينزل عن جمله وإنما وقف ريثما يشرب ثم ساقه.»

فقال: «لا؛ لأن الجمل لا يستطيع الوقوف تحت هذه الأغصان المدلاة وعليه راكب؛ لأنها تمس ظهر الجمل بانبساطها وانحنائها وليس عليه أحد.»

قال حسن: «ربما برك الجمل؟»

قال: «لو فعل لشاهدنا آثار ركبه، فما الجمل الذي مرَّ من هنا إلا جملك، وإذا صبرت هنيهة أريتك الطريق الذي سار فيه فيهون عليك طلبه.»

قال: «وكيف ذلك؟» وكان الفجر قد لاح، وتبينت الأرض جيدًا، فنظر حسن إلى ما حوله وراجع ما قاله الشَّيخ فترجح لديه قوله، وتحقق ما كان يسمعه من مهارة أهل البادية في قيافة الأثر، فلبث ليرى ما يفعله الشَّيخ فإذا هو قد مشى خطوات قليلة ثم قال: «انظر إلى هذه الخطى فإنها آثار خفاف جمل يعدو عدوًا سريعًا، يدلك على ذلك عمقها وعدم نظامها، ويظهر أن الجمل عاد إلى المدينة.»

فالْتفت حسن إلى يساره وقد بان الصبح فإذا هو مشرف على المدينة عن بعد ولا بد له من الذهاب إليها، فتذكر حبيبته فيها، ولكنه عاد إلى التفكير في أمر الجمل فقال: «إني لأستغرب ما رأيته اليوم من جملي ولم يكن عهدي به مثل ذلك من قبل.»

قال: «للجمال طبائع غريبة وقد يكون الجمل هادئًا ساكنًا فلا تراه إلا وقد دلق لسانه وأرغى وأزبد وأركن إلى الفرار كأنه أُصِيب بجنة، وقد يصيبه ذلك على خوف ورعب أو جوع. ومهما يكن من الأمر فاطلب جملك في المدينة. وأما أنا فإني أستأذنك في العودة إلى ماشيتي مخافة أن يكون قد أصاب إبلي ما أصاب جملك وهي وحدها هناك ما عدا غلامًا وأمه تركتهما لحراستها.»

فأثنى حسن على الشَّيخ وودعه وسار قاصدًا المدينة وقد أنهكه التعب والقلق وأحس بالجوع وتشاءم مما اتفق له، فعوَّل على أن يسير توًّا إلى المسجد للصلاة والتبرك ثم يبحث بعد ذلك عن الجمل، ثم تذكر حديث سليمان وأبيه وما فيه من الإشارة إلى الفتك به، فأحبَّ استطلاع سر أبي سليمان قبل دخوله المدينة لئلا يكون فيه ما يمنعه من دخولها، فسار يلتمس المكان الذي تركهما فيه بالأمس فاستشرف أكمة قرب سور المدينة فرأى قرب المستنقعات شيئًا كالجمل البارك ثم ما لبث أن سمع جعجعة فأسرع حتى دنا من الجمل فإذا هو جمله بعينه وقد وقع عند حافة المستنقع وقد كُسر فخذه ولم يعد يستطيع النهوض ولكنه رآه عاريًا لا رحل على ظهره ولا خطام في رأسه فشكَّ في أن يكون جمله وظنه جملًا آخر، فتفرس فيه جيدًا فلم يرَ فرقًا بينه وبين جمله، ثم تذكر ميسمه وهو العلامة التي يسمون بها الجمال بسمات القبائل، فنظر في الميسم فإذا هو الميسم الذي يعرفه؛ فتحقق أنه جمله، وأنه لم يعد يقوى على المسير، فلم يهمه ضياعه وود لو أن الراعي معه ليهبه الجمل فينحره لأهله. ثم عاد إلى التفكير في الرحل وما كان عليه من أمتعته وبينها كتاب خالد بن يزيد، فزاد تشاؤمه من تلك السفرة وقال في نفسه: «لم يعد لي وطر في المدينة الآن.» ووقف برهة ثم مشى إلى الجهة التي ترك فيها سليمان مطروحًا وبجانبه أبوه فرأى المكان خاليًا إلا من آثار الدم على صخر منبسط، ورأى بجانب الصخر ثوبًا معفرًا فإذا هو القباء وقد تلوث بالدم وتمزق قطعًا قطعًا فاستغرب تمزقه، ثم طرح بقاياه وفكر في أمر سليمان والكتاب فقال في نفسه: «لعل أبا سليمان عثر على الجمل وهو سائر إلى المدينة فلما رآه معطلًا حمل رحله معه على نية أن يدفعه إليَّ عند الملتقى.» فارتاح حسن إلى هذه الفكرة وهدأ اضطرابه وترجح لديه أن أبا سليمان حمل ابنه إلى منزله في المدينة لمداواته، فعوَّل على الذهاب إليه.

وفيما هو سائر إلى المدينة رأى غبارًا يتطاير في عرض الأفق مما يلي طريق مكة، فوقف ينتظر ما يكون، فإذا بثلاثة من الإبل عليها ثلاثة رجال قد تلثَّموا وساقوا الإبل سوقًا عنيفًا، ثم سمع قرقعة اللجم فعلم أنها إبل البريد، وكان لدواب البريد قعقعة خاصة كأنها أرسانها من سلاسل الحديد، أو لعلهم كانوا يعلقون في أعناقها جلاجل أو نحوها، فمكث هنيهة ريثما مرَّ البريد، فعلم من لباس الرجال وهيئة الركب أنهم من العراق، فترجح عنده أنه بريد الحجاج بن يوسف إلى عامل المدينة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤