الفصل الرابع عشر

سلمى والناسك

وفيما هي غارقة في لجج الهواجس سمعت أنينًا، ثم رأت شيبوب مسرعًا إليها وقد جمد الدم على جرحه وانسكب على كتفيه إلى قوائمه، وقد فتح فاه واندلع لسانه وهو يلهث، فادته سلمى فدنا منها وذيله لاصق بساقيه، ثم ألقى نفسه بين رجليها وقد أخذ منه التعب مأخذًا عظيمًا، وأغمض عينيه ومدد رجليه وهو يئن أنين النزع.

ولم تكد سلمى تتأمله وتأسف لحاله، حتى رأت الشيخ الناسك بين يديها وهو يحلُّ وثاقها بأسرع ما يستطيعه الشاب في عنفوان شبابه، فبغتت لرؤيته ولم تفُه بكلمة، وكانت حركاته وإشاراته تشير إليها أن تسكت، فلما حل الوثاق أومأ إليها أن تُسرع أمامه فأسرعت ثم حمل كلبه على ذراعيه وسار حتى سبقها، فسارت في أثره لا تنبس ببت شفة، ولكنها استغربت ذلك الاتفاق وعدَّته من قبيل المعجزات، وكان الشيخ خلال سيرهما ينثر التراب على آثار الدم في الطريق حتى لا يستدل بها أحد إلى المكان الذي قصداه.

وبعد مسير نصف ساعة بين الأحجار والعمد، وصلا إلى باب ضيق انحدرا فيه على درجات غير منتظمة والكلب على ذراعي الشيخ، وقبل الدخول عمد الشيخ إلى حجر سد به الباب حتى لا يشك الذي يراه أنه خال مهجور، ثم دخلا وقد اختفيا عن العيون، وسار إلى مصطبة تحت الأرض لا ينفذ إليها النور إلا من شقوق الباب، فجلس الناسك وأجلسها، ووضع الكلب بين يديه على المصطبة، وأخذ في البكاء والنحيب وهو يخاطبه، وسلمى ساكتة تنظر إلى ما يبدو منه، فإذا هو يقول: أسفي عليك يا رفيقي وصديقي، وا حسرتاه عليك أيها الخادم الأمين. لقد ختمت حياتك بشهامة يعجز البشر عن مثلها. إنك حيوان أعجم ولكنك خير من الناطقين؛ لأنهم ينطقون بالباطل ويستخدمون تلك الهبة السامية لارتكاب المنكرات وإتيان المعاصي، وأنت لا تعرف غير الخير، صحبتك منذ بضعة عشر عامًا وأنت رفيقي وأنيسي. صحبتك بعد أن مللت صحبة الآدميين وعرفت شرور بني الإنسان. ما أبلغ عجمتك! وما أقبح نطقهم! نعم إنك حيوان أعجم ولكنك أنقذت نفسًا ناطقة. أنقذت هذه النفس الطاهرة من منكر أوشك أن يرتكبه معها إنسان يزعم أنه أرقى منك خلقة وأسمى عاطفة، وهو لا يفوقك إلا باقتداره على بث الدسائس ونصب المكائد. قوتل الإنسان، ما أكبر دعواه وأقل خيره! وهو يفتخر أنه سيد المخلوقات. ما صحبتك إلا وأنا عارف فضلك وناظر خيرك، ولكنني لم أكن أعلم أن هذا مصيرك، وما حسبت أنك سائر إلى الموت قبلي. قال ذلك وهو ينظر إلى كلبه، والكلب يتمطى ويختلج ويجيل عينيه حوله ويعاني عذاب النزع، وسلمى تنظر إليهما ولا تتمالك عن البكاء، وقالت في نفسها: إذا كان الشيخ يبكي كلبه لأمانته وصدق مودته، فكيف لا أبكي حبيبي وابن عمي وقد ذهب ضحية أمانته في خدمة الحق؟!

وكان الشيخ يبكي ودموعه تنحدر على لحيته فتنسكب على الكلب وتختلط بدمائه، ثم رفع الشيخ بصره إلى سلمى وقال لها: لا تعجبي يا بنية لما ترينه من بكائي على حيوان أعجم، فإنه خير عندي من أولئك الآدميين. ألا ترينه ذكر صحبتك ومات في سبيل إنقاذك؟ ولكنه لم يمت رخيصًا. إنه ذكر صحبة يوم ويومين، فلما اشتمَّ رائحتك بين هذه الخرائب وكان نائمًا إلى جانبي نهض كالليث الكاسر وأسرع إليك ثم عاد ودمه يفور من جرحه لشدة الطعنة وكأنه أشار إليَّ أن ألحقه فتبعته، وفيما أن مارٌّ بين هذه الأساطين بصرت بذلك الرجل اللئيم خارجًا من الهيكل ولا عمامة على رأسه والخنجر بيده وهو يهم بإغماده، فلما أتيت إليك ورأيتك مصلوبة أدركت أنه صلبك تهديدًا، فأنقذتك، والفضل لهذا الحيوان الذي ترينه يقاسي غمرات الموت بين أيدينا، فمن يفعل ذلك من الآدميين؟! كم من رجل تربينه في حجرك وتعمِّينه بخيرك ثم يكون وبالًا عليك!

فتصورت سلمى أحوال البشر ومظالم بني الإنسان ومطامع أهل الشر، وكيف أنهم يقدمون الفضيلة قربانًا على مذبح الأغراض فقلت: صدقت يا مولاي، إن صحبة هذا الكلب خير من صحبة كثيرين، ولكن القضاء نفذ فيه، ولا عجب؛ فتلك عاقبة أهل الفضل من المخلوقات الناطقة أيضًا.

فتنهد الشيخ وتغيرت سحنته، وكأنه أفاق من غفلته والتفت إلى الفتاة وعيناه تقدحان شررًا وقال: ويدلُّك ذلك على صدق ما وعد به ربك من العقاب والثواب، وإلا فإن الحياة ضرب من العبث؛ لأن العدل في هذه الدنيا غريب تائه لا يعرف مأوى، ولا نرى في أعماق الناس غير المظالم الفادحة. نرى الأشرار في رغد وهناء وسعادة، والأبرار يقاسون مرَّ العذاب، وما كان ربك ليثيب الظالمين، وستأتي ساعة تلقى فيها كل نفس ما كسبت، إن خيرًا وإن شرًّا، وويل للذين ظلموا من مشهد يوم عظيم.

فشعرت سلمى والشيخ يتكلم كأنه ينطق بلسان أهل السماء، فقالت: نعم، لا بدَّ من ذلك، وقد رأينا خير الصالحين يُقتلون بأسياف الظالمين، وهؤلاء يعيشون في سعة وسلطان، ولكن الله عادل، فلا بدَّ من يوم ينال فيه كل امرئ ما كسبت يداه.

وسكتا والشيخ يمسح دموعه، ثم قال: هلمَّ بنا ندفن هذا الصديق الأمين فقد بكيناه وسنبكيه كلما لقينا سرورًا. قال ذلك ونهض فحفر حفرة، دفناه فيها، وتوقعت سلمى أن تسمع من الشيخ خبرًا، وتذكرت ما شاهدته من كراماته في دير خالد فقالت: لعله ينبئني بشيء ينفعني، فلما عادا إلى مخبئهما همَّت بخطابه فإذا هو يفرك أنامله وقد أطرق كأنه يفكر في أمر ذي بال، فأمسكت هي عن الكلام تهيبًا وإجلالًا. أما هو فقال لها: وما الذي جاء بك يا سلمى إلى هذه الديار وقد كنت سمعت بمقتلك؟

فلما سمعت قوله استغربت اطلاعه على سر قتلها، ثم تذكرت ما تعلمت من كرامته فزال استغرابها وقالت: قتلوني يا سيدي ثم أحيوني، ويا ليتهم أبقوني ميتة. قالت ذلك وخنقتها العبرات.

ففهم الشيخ أنها تحسب عبد الرحمن ميتًا، وهو يعلم أنه حي، فأراد أن يستطلع فكرها فقال: وهل قتلوا عبد الرحمن؟

قالت: أتسألني عن قتله وأنت أعلم مني بذلك؟

فصمت الشيخ وأطرق، وحدثته نفسه أن يخبرها ببقاء عبد الرحمن حيًّا، ولكنه رأى بقاءها على اعتقادها أقرب لنيل ما يتمناه وما عقد النية عليه، فظل صامتًا مترددًا.

أما هي فمسحت دموعها وقالت: ولكنني لا أعلم ما جرى لعامر. هل علم بما أصاب عبد الرحمن وما أصابني؟ وأين هو الآن؟

فتجاهل الشيخ برهة ثم قال: لا شك أنه علم بموته، وهو يعتقد أنك قتلت أيضًا، ولا أدري أين هو، فلعله سار إلى المدينة أو إلى الكوفة، وربما كان قد انتحر يأسًا وأسفًا.

فلطمت وجهها وقالت: وا أسفاه عليك يا عماه، وا حسرتاه على آمالك ويا لخسارة ما قضيته من سِنِي الشقاء في خدمتنا. إني لا ألومه إذا قتل نفسه.

فأراد الشيخ أن يشغلها عن البحث في مسألة عبد الرحمن فسألها كيف نجت، فقصت عليه الحديث من أوله إلى آخره ثم قالت: وها أنا ذا نجوت من الموت وأنا أشتهيه، إلا إذا كان في بقائي خدمة للمسلمين، فالآن إما أن تقتلني وتدفنني في هذه الخرائب أو ترشدني إلى سبيل للانتقام.

فقالت لها: أتريدين الانتقام؟

قالت: كيف لا أريد وهو وحده الذي يحبب إليَّ البقاء؟! وإلا فالموت أشهى لدي.

قال: إذا كنت تطلبين الانتقام فإنك تلقينه في الكوفة.

قالت: لا أبالي أين هو ولا كيف هو، وإنما أريد الحياة من أجله، فإذا قتلت يزيد وابن زياد، أو رأيتهما مقتولين، فإني أموت بعد ذلك قريرة العين.

قال: اعلمي يا بنية أن الحسين بعث بابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليدعو الناس إلى بيعته، فبايعه منهم ثمانية عشر ألفًا، فإذا جاء الحسين إلى الكوفة تمت البيعة فيفشل ابن زياد ويُقتل، ثم يسيرون إلى الشام فيحاربون يزيد ويقتلونه أيضًا.

ولم يتم الشيخ كلامه حتى أشرق وجه سلمى وقالت: يا حبذا ذلك! هل أراه يتحقق؟ هل أقتل يزيد؟ هل أقتل ابن زياد. إني أريد أن أقتلهما بيدي، ولكن قل لي يا عماه، أواثق أنت من ذلك؟

قال: إني أقول الصحيح الذي لا ريب فيه، فامكثي معي هنا بعضة أيام ريثما ينصرف هؤلاء القوم إلى الكوفة ثم نلحق بهم، ومتى وصلنا إلى الكوفة أنبئك بما سيكون.

•••

ترك ابن زياد سلمى مصلوبة، وهو لا يشك أنها لا تلبث أن تذعن له وتخاف بطشه، فلما عاد إلى الهيكل ورأى بقايا الوثاق ولم يجدها تملَّكه الذهول والغضب، وأخذ يبحث عنها بين الأساطين في الهيكل وخارجه، وأرسل رجاله يفتشون في كل مكان فلم يقفوا لها على أثر، وما زال في البحث يومين حتى ملَّ، ولامه رفاقه على التأخير والأمر يقتضي سرعة المسير، فحمل أحماله وسار يلتمس الكوفة وهو يلتفت وراءه ولا يكاد يصدق أن سلمى خرجت من يده على هذه الصورة، ولو أطاعه رفاقه لما خرج من تدمر قبل الوقوف على مكان سلمى ولو أدى به ذلك إلى نقض أحجار تلك الخرائب حجرًا حجرًا.

وكان أهل الكوفة قبل وصوله قد رحبوا بمسلم بن عقيل وبايعه منهم جمع غفير، وضعُف أمر الأمويين بها، فذهب عبيد الله بن زياد أولًا إلى البصرة فحثَّ أهلها على الطاعة، ثم جاء الكوفة وأهلها قد تشيَّع أكثرهم للحسين، وأصبحوا ينتظرون قدومه ليبايعوه ويولوه أمره، فلما سمعوا أن يزيد ولَّى عبيد الله رجوا أن يصل الحسين قبله لتكون الولاية له، ولكن عبيد الله وصل إلى الكوفة قبل الحسين، فدخلها وحده عليه لباس الأمراء، فكان لا يمر بمجلس أو جماعة إلا ظنوه الحسين فيقولون: مرحبًا بك يا ابن رسول الله، وهو لا يكلمهم، وخرج إليه الناس من دورهم فساءه ما رآه من ترحابهم بالحسين. حتى وصل إلى دار الإمارة وفيها النعمان بن بشير أميرها السابق، والنعمان يحسبه الحسين فأغلق الباب في وجهه وقال: أنشدك الله ألا تنحيت عني. فوالله ما أنا بمسلم إليك أمانتي، وما لي في قتالك حاجة، فدنا منه وقال له: افتح لا فتحت! فلما سمع النعمان صوته عرفه وفتح له، وصعد عبيد الله المنبر وخطب في الناس فقال: «أما بعد فإن أمير المؤمنين ولَّاني ثغركم ومصركم وفيأكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم كالوالد ولمطيعكم كالأخ الشقيق، وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليبقِ على نفسه.» ثم نزل وأخذ يُعنى بإرهاب أهل الكوفة وردهم إلى الطاعة بما عرف به من الدهاء، وأهل الكوفة ضعفاء سريعو الانقلاب.

•••

أما ما كان من سلمى والشيخ فإنهما بعد أن تحققا مسير ابن زياد من تدمر خرجا وسارا يلتمسان الكوفة من طريق غير الذي سلكه هو، وكان سيرهما بطيئًا والطريق وعر خطر.

وبعد أيام أشرفا على الكوفة من تلٍّ وقد تعبا تعبًا عظيمًا، فاستراحا يومًا وسلمى لا تصبر عن النزول إلى الكوفة، فلما عزما على ذلك قال الشيخ: اعلمي يا بنية أني عاهدت الله ألا أقيم بالمدن ولا أسكن العمارة، فانزلي إلى الكوفة وحدك.

فبغتت سلمى وقالت: وكيف العمل يا مولاي؟ وأين أقيم؟

قال: اذهبي إلى هذا البيت في طرف الكوفة، هل ترينه؟

قالت: نعم.

قال: إنه بيت كندية مثلك اسمها طوعة، وكانت جارية للأشعث وأعتقها، ثم تزوجها رجل آخر وولدت منه أولادًا اسم أحدهم بلال. هل تذكرينها؟

قالت: نعم أذكر أني رأيتها في أثناء إقامتي بالكوفة، وأظنها تعرفني.

قال: اذهبي وأقيمي عندها، وأنا أتردد إليك في منزلها ونرى ما سيكون.

فقالت: وأنت أين تقيم؟

قال: أما أنا فذاهب إلى سهل صغير في طرف البرِّيَّة، وراء الكوفة من جانب الفرات، اسمه كربلاء، فإذا احتجت إليَّ فإنك تجدينني هناك.

قالت: اذكرني في دعائك، وإني داخلة الكوفة وقلبي ممتلئ أملًا، وعسى الله أن يفتح علينا ويفرج كربنا ونرى الحق سائدًا.

قال: وأنا أرجو ذلك. ثم ودَّعها ومضى وفي خاطره أن يزيدها اطمئنانًا على حقيقة أمر عبد الرحمن، ولكنه أجَّل ذلك إلى فرصة أخرى مخافة أن تسير إلى عبد الرحمن بمكة، وهو يرى الكوفة أوسع مجالًا للانتقام.

فمشت سلمى حتى دخلت الكوفة كأنها فتاة من فتياتها عائدة من الاحتطاب أو الاستقاء، ومرت بالأزقة فرأت الناس في هرج وسمعت بعضهم ينادون: «يا منصور أمت.» وآخرون يلعنون ابن زياد. فاستبشرت بنقمة الناس عليه، ولكنها أحبت استطلاع الواقع فعوَّلت على الاستفهام من طوعة.

وبعد قليل وصلت إلى دار طوعة فرأتها جالسة لدى الباب وحدها فحيَّتها، فلما عرفتها رحبت بها واستقبلتها، وكانت قد رأتها قبل سفرها إلى دمشق، فسألتها عن عامر وعبد الرحمن فأجابتها جوابًا مبهمًا وكظمت ما في نفسها، وأدخلتها طوعة البيت وقدَّمت لها الطعام، فأكلت شيئًا واستراحت ولم يبقَ لها صبر على استطلاع الخبر فقالت: ما بالي أرى أهل الكوفة في هرج؟ ما الذي أصابهم؟ وما معنى قولهم: «يا منصور أمت»؟

فأشارت طوعة إليها أن تخفض صوتها ثم قالت: لعلك كنت غائبة عن الكوفة؟

قالت: كنت في البصرة وقد عدت منها اليوم.

قالت: إن أهل البصرة لا يجهلون ما أصابنا؛ لأنهم شركاؤنا في الأمر.

قالت: سمعت بانتقاض أهل الكوفة على الخليفة الجديد ومبايعتهم الحسين بن علي، على يد ابن عمه مسلم بن عقيل، ولكنني سمعت الناس يلعنون ابن زياد لأنه تولَّى الإمارة على أن يقاوم المبايعين، ولم أفهم شيئًا غير ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤