الفصل الثاني

غوطة دمشق

غوطة دمشق في بلاد الشام مشهورة بخصبها، وهي مربعة الشكل يبلغ طول ضلعها خمسة أميال، وتحيط بها جبال عالية، وتجري فيها أنهار تسقي بساتينها ثم تصب فضلاتها في بحيرة هناك، وفي هذه الغوطة عمرت دمشق منذ بضعة آلاف من السنين، وفيها عدا دمشق قرى صغيرة متفرقة، بينها المغارس والحدائق من أشجار الفاكهة، تجري بينها الجداول والأنهار.

وكان على مسافة ميل من الباب الشرقي من دمشق وعلى مقربة من برج العذراء دير قديم يقال له دير خالد، نسبة إلى خالد بن الوليد الذي جاء لفتح الشام في أوائل الإسلام فنزل فيه، وكان اسمه قبل ذلك دير صليبا، وهو على مقربة من برج العذراء في بستان تكاثفت فيه الأشجار من كل فاكهة زوجان.

وإذا نظرت إلى ذلك الدير من خارجه تخيلته قلعة منيعة، وكان بناؤه مربعًا، تكاد زواياه تستدير، ويكسو جدرانه من الخارج بلاط صقيل، وقد مالت هذه الجدران في صعودها نحو الداخل بحيث أصبحت قاعدة البناء أوسع من سطحه قليلًا، وله مدخل ضيق قصير لا يكاد يدخله الرجل إلا منحنيًا، وله باب من الخشب المصفح بالحديد قد كساه من الصدأ غشاء كثيف، وليس للدير مدخل سواه، ينفذ منه إلى طرقة طولها بضع أذرع كأنها ممر، تنتهي بباب آخر يؤدي إلى ساحة الدير وحولها الغرف طبقة واحدة، إلا عُلِّيَّة منفردة يقيم فيها رئيس الدير في الصيف والخريف، وللدير نوافذ في أعلى الجدران لا يدركها كفُّ الواقف ولو تطاول إليها ذراعه، وهي كُوًى صغيرة فيها شبك من الحديد، ولا يكاد المتأمل يقف هنيهة حتى يدرك الغرض من بناء تلك الأديرة على هذه الصورة؛ لأنهم كثيرًا ما كانوا يتخذونها معاقل وحصونًا عند الحاجة، على أنهم لم يكونوا يستغنون عن إصطبل أو حظيرة يحبسون فيها مواشيهم ودوابهم.

وكانت للدير حظيرة هي بقعة مربعة من الأرض طول ضلعها خمسون ذراعًا، يحيط بها سور من أعواد غليظة مغروسة في الأرض متحاذية، ثُبِّتت في أطرافها العليا عوارض من الخشب شُدَّت إليها بأمراس من قشور الأغصان، ولها باب مصنوع من هذه الأعواد كذلك، يدور على مصراع في طرف أحد جدران السور مما يلي جدران الدير التي تلاصقها، ويغلَق بعارضة ضخمة تدخل في هذا الجدار.

ويغطي نصف الحظيرة سَقيفة قائمة على أعمدة غليظة، تأوي إليها الماشية والدواب في أيام الشتاء، ويحيط بالدير والحظيرة والبستان جميعًا سور كبير من العليق المتكاثف، علوه قامة وبعض القامة، وبابه من الخشب أيضًا لكنه أضخم كثيرًا، وقد علقوا عنده ناقوسًا إذا جاء طارقٌ دقه فيسمعه أهل الدير فيفتحون له.

تلك حالة دير خالد في السنة الستين للهجرة، وهي السنة التي تُوفي فيها معاوية بن أبي سفيان وخلفه ابنه يزيد على الخلافة الإسلامية في دمشق، وكان رئيس الدير يومئذٍ شيخًا طاعنًا في السن رومي الأصل، قضى فيه ما ينيف على نصف قرن، تدرج خلاله من مراتب الرهبنة حتى صار رئيسًا. ولما نزل خالد هناك كان هذا الرئيس راهبًا صغيرًا فشهد فتح دمشق، ولم يكن يعرف العربية ولكنه أتقنها بعد ذلك، وكان لقدم عهده ودماثة أخلاقه قد حاز منزلة رفيعة لدى الرهبان، وكان معاوية يحترمه، وكثيرًا ما كان يجالسه إذا خرج للرياضة في الغوطة، وربما مازحه، ولما تولَّى يزيد الخلافة ظل على احترامه وإكرامه.

•••

في يوم من أيام الخريف من تلك السنة، أصبح أهل الدير وقد جاءهم الفلاحون بأحمال الفاكهة من بساتين الدير، وفيها سلال العنب والسفرجل والتفاح والرمان والكمثرى والخوخ وغيرها، وكان الرهبان يتوقعون قدومهم كل صباح من أيام الخريف، فنزل بعضهم لمساعدتهم في إدخالها إلى باحة الدير، وهي بقعة مكشوفة تحيط بها الغرف وتظلل معظمها صفصافة كبيرة في وسطها، وبقرب الصفصافة بئر يستقي منها أهل الدير عند الحاجة.

فأدخلوا السلال أزواجًا وأفرادًا، والرئيس لا يزال في عُلِّيَّته وقد عاد إليها بعد صلاة الفجر واشتغل بالصلاة الانفرادية، فلما انتبه للضوضاء خرج من العُلِّيَّة حتى وقف على قمة سلَّم من الحجر ينتهي إلى الباحة، وقد تزمل بعباءته فوق المسوح، فرأى الرهبان يحملون الأحمال، فقال لهم: ما لي أراكم تدخلون السلال وأنتم تعلمون أنه لا بدَّ من حمل بعضها إلى دار الخليفة لتفرق في أمرائه ورئيس شرطته كالعادة؟ قال ذلك واتجه إلى جانب من السطح أشرف منه على معظم الغوطة، وكانت الشمس قد أطلَّت من وراء الجبال عن بعد، فأرسلت أشعتها على تلك المغارس الواسعة، ففزعت أطيارها، وتناثرت عن الأغصان أسرابًا تتسابق إلى الخلاء البعيد، وقد اتجه معظمها نحو الشرق كأنها تتلمس الشمس وهي تحيِّيها وترحب بها بالزقزقة والتغريد.

ونظر رئيس الرهبان إلى ما بين يديه من البساتين فإذا هي تشرح الصدر وتُذهب الغم بروائحها العطرية المنبعثة عن أنجم الريحان المتكاثف في أشكال مختلفة، وأكثره قائم أسوارًا تفصل بين البساتين أو بينها وبين الدروب ومجاري الماء، ناهيك بالرياحين الأخرى تظللها الأشجار على اختلاف أشكالها وأقدارها، وقد اعتاض أكثرها عن أوراقه الخضراء بالثمار المختلفة الألوان، وفيها الرمان الأحمر، والسفرجل الأصفر، والآس الأبيض، والخوخ البنفسجي، والتفاح الوردي، وفي بعض جوانب الغوطة كروم العنب المختلفة تتدلى منها العناقيد، وفيها الأبيض الشمعي، والأحمر الوردي، والأسود الفحمي، يتخلل ذلك أعشاب تكسو الأرض قميصًا جميلًا، وقد اختلفت ألوانها باختلاف أعمارها، ففيها الأخضر الحاني، والأصفر الفاقع، والأبيض اليَقَق، والأحمر الزاهي، يزيِّنها ما ينحدر بينها من مجاري الماء فوق الحصباء فيختلط خريره بتغريد العصافير وحفيف الأوراق، كأن الغوطة جنة تجري من تحتها الأنهار، والشمس من وراء ذلك ترسل أشعتها فتتكسر على تلك المجاري متلألئة، ويستوقف النظر انكسارها على سطوح البحيرات في بعض المستنقعات.

وكان الرئيس منذ إقامته هناك لا يكاد يفوته صباح لا يقف فيه مثل ذلك الموقف، يسرح بصره في تلك المناظر البهجة، فيشغل بها عمَّا قام من ضوضاء الرهبان والفلاحين وهم يشتغلون بترتيب الفاكهة وحمل الأحمال، وما يخالط ذلك من رغاء الشياه وخوار الثيران ونهيق الحمير في الحظيرة، فوقف يتأمل في صنع الخالق العظيم ثم أرسل بصره إلى أطراف الغوطة من جهة مطلع الشمس فرأى آثار الدروب عن بعد، فإذا هي أشبه شيء بآثار الجداول إذا جف ماؤها.

وفيما هو ينظر إليها بصُر بقافلة رجَّح أنها قادمة من العراق أو الحجاز، وفيها النياق والحمير يقطر بعضها بعضًا، فطاب له استشراف تلك القافلة؛ لعله يعرفها أو يتبين جهتها، فحال البعد بينه وبين ما يريد، وكان قبل شيخوخته حادَّ النظر لا تعجزه معرفة الصور من مثل هذا البعد، فلما أعجزه ذلك الآن وقد كلَّ بصره تذكر شيخوخته، وأسف لانقضاء معظم العمر، وتحوَّل نحو ساحة الدير، وعاد إلى مخاطبة الرهبان والإشراف عليهم، حتى إذا فرغ من ذلك نزل إلى الكنيسة فأقام صلاة الصبح ثم عاد إلى غرفته العليا.

•••

صعد رئيس الرهبان على السلم الحجري داخل الدير، وفي يده دَرْج يقرأ فيه، حتى دخل عُلِّيَّته فاتكأ واستغرق في القراءة، إلى أن انتبه لجعجعة جمال تدنو من الدير، فنادى قيِّم الدير — وكيله — وكان كهلًا قوي البنية ممتلئ الجسم جاء الدير من عهد قريب، فلما وقف بين يديه قال له: إني أسمع جعجعة، فأشرف على الطريق واستطلع خبر القادمين، فأطل القيِّم من بعض جوانب السطح ثم عاد وهو يقول: رأيت جمالًا محمَّلة، وأناسًا يظهر من لباسهم أنهم من العراق.

فقال: أظنهم من القافلة التي تبصَّرتها عن بعد في هذا الصباح، وقد جاءوا إلينا فلا بد لنا من القيام بضيافتهم.

قال القيم: وما الذي يدعونا إلى ذلك وهم غرباء لا نعرفهم؟! أما كفانا ما نقدمه من غلَّاتنا وثمارنا لرجال الحكومة؟! إذا نزلوا عندنا أنزلناهم ساعة ريثما يستريحون ثم ينصرفون.

قال: إذا أرادوا الانصراف انصرفوا ولا حرج عليهم، وأما إذا آثروا البقاء فلا مندوحة عن القيام بضيافتهم، عملًا بالعهد الذي بيننا وبين خلفائهم.

ولم يكن القيِّم قد سمع بذلك العهد، فقال: وما هو هذا العهد؟

قال: هو عهد أُخذ على النصارى منذ الفتح يقضي عليهم بأمور كثيرة منها أن يقوموا بضيافة المسلمين ثلاثة أيام، يخدمونهم ويقدمون لهم كل ما يحتاجون إليه، وهبْ أنه لم يكن هناك عهد، أيليق بنا إذا نزل عندنا ضيف إلا أن نكرمه حتى يرحل، ولو أقام سنة؟

فخجل القيِّم وأراد أن يعتذر، فسمع صوت الناقوس، فقال الرئيس: لقد صدق ظنِّي فاستقبل الضيوف ورحِّب بهم، وعُد إليَّ بعد أن تئويهم في أماكنهم.

فبعث القيِّم أحد الرهبان الصغار ليفتح له باب البستان، ووقف هو بباب الدير ينظر إليهم وهم مقبلون، فإذا هم ثلاثة قد تزمَّل كل منهم بعباءة، وعلى رأسه الكوفية مشدودة بالعقال تغطي وجهه، ومعهم بضعة جمال تحمل أجربة مملوءة تمرًا جافًّا، ويدل ظاهرهم على أنهم من تجار العراق، ولعلهم جاءوا بهذه الأحمال ليبيعوها في دمشق، ولما دنوا من باب الدير تبين الوكيل مما بدا من وجوههم أن بينهم فتاة في مقتبل العمر فاشتبه في أمرهم، وقال في نفسه: لو كانوا قادمين للاتِّجار لما كان ثمَّة داعٍ لمجيء تلك الفتاة معهم، فلما بلغوا الباب خفَّ لاستقبالهم، وخاطب بعض الخدم باليونانية أن يأخذوا الجمال إلى الحظيرة للعلف، واستقبل الضيوف مرحِّبًا بهم بلغة عربية مستعجمة لحداثة عهده بالشام، فدخلوا جميعًا وهو يتقدمهم، وكان أحدهم طويلًا فلم يستطع الدخول من باب الدير إلا مطأطئًا رأسه، فمروا في الطرقة الضيقة حتى انتهوا إلى الباب الآخر ومنه إلى ساحة الدير حيث الصفصافة والبئر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤