الفصل الرابع

مقتل حُجْر بن عدي

جالس عامر جاثيًا أمام قبر حُجْر، وبدأ بتلاوة الفاتحة واستغفر الله ثم افتتح الحديث قائلًا: اعلمي يا سلمى أن أباك صاحب هذا القبر كان من أقوى أنصار الإمام علي، وقد حارب معه حروبًا كثيرة وجاهد معه بسيفه ولسانه جهادًا حسنًا إلى آخر نسمة من حياته، فلما قُتل الإمام علي وصار أمر الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان في دمشق ظل أبوك وغيره من العلويين على مبدئهم بين مجاهر ومستتر، وكان أبوك يقيم بالكوفة مع قومه ينادي بحبه عليًّا على رءوس الأشهاد، ولكن سلطان معاوية ما لبث أن استفحل، وكان كما تعلمين قد جعل ديدنه الحط من كرامة علي وجميع أهل البيت، فكان يأمر الناس أن يلعنوه، فمنهم من يطيع خائفًا ومنهم من لم يكن يفعل، وفي مقدمة هؤلاء أبوك حُجْر وبعض رفاقه. حتى إذا كان سنة ٥١ للهجرة بعث معاوية إلى الكوفة عاملًا اسمه المغيرة بن شعبة وأوصاه حين بعثه قائلًا: «أما بعد، فإن لذي الحلم قبل اليوم تقرع العصا، وقد يجزئ عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادًا على بصرك، ولست تاركًا إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمَّه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم.» فقال له المغيرة: «قد خرجت وجربت وعملت قبلك لغيرك فلم يذمني، وستبلو فتحمد أو تذم.» فقال معاوية: «بل نحمد إن شاء الله.» فأقام المغيرة عاملًا على الكوفة وهو لا يدفع شتم علي والوقوع فيه والدعاء لعثمان والاستغفار له، فكان أبوك إذا سمع ذلك قال: «بل إياكم من دم علي ولعنه!» ثم يقول: «أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تشكرون أولى بالذم.» فيقول له المغيرة: «يا حُجْر، اتقِ هذا السلطان وغضبه وسطوته، فإن غضب السلطان يهلك أمثالك.» ثم يكف عنه ويصفح، فلما كان آخر إمارة المغيرة قال في علي وعثمان ما كان يقوله فقام أبوك وصاح فيه صيحة سمعها كل من في المسجد وقال: «مُرْ لنا أيها الإنسان بأرزاقنا، فقد حبستها عنا وليس ذلك لك، وقد أصبحت مولعًا بذم أمير المؤمنين.» فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون: «صدق حُجْر وبرَّ، مُرْ لنا بأرزاقنا فإن ما أنت عليه لا يجدي علينا نفعًا.» وأكثروا من هذا القول وأمثاله، فنزل المغيرة فدخل عليه قومه وقالوا: «علامَ تترك هذا الرجل يجترئ عليك في سلطانك ويقول لك هذه المقالة فيسخط عليك أمير المؤمنين معاوية؟» فقال لهم: «إني قد فتنته؛ سيأتي من بعدي أمير يحسبه مثلي، فيصنع به ما ترونه يصنع بي، فيأخذه ويقتله. إني قد قرب أجلي ولا أحب أن أقتل خيار هذا المصر فيسعدون وأشقى، ويعز في الدنيا معاوية ويشقي في الآخرة المغيرة.»

ثم تُوفي المغيرة، وولي الكوفة زياد ابن أبيه المشهور بدهائه ومكره، فقام في الناس فخطبهم عند قدومه، ثم ترحم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه، فقام أبوك ففعل كما كان يفعل بالمغيرة، فكظم زياد، حتى إذا عزم على الفتك به دخل المسجد وصعد المنبر يومًا فحمد الله وأثنى عليه، وأبوك جالس، ثم قال: «أما بعد، فإن غبَّ البغي والغيِّ وخيم، إن هؤلاء جمعوا فأثْرَوا، وأمِنوني فاجترءوا على الله، لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حُجْر وأجعله نكالًا لمن بعده، ويل لك يا حُجْر، سقط العشاء بك على سرحان.» ثم أرسل إلى أبيك يدعوه وهو بالمسجد، فلما أتاه رسول زياد قال لأصحابه: «لا نأتيه ولا كرامة له.» فرجع الرسول فأخبر زيادًا فأمر صاحب شرطته، وهو شداد بن الهيثم الهلالي، أن يبعث إليه جماعة ففعل، فسبَّهم أصحاب أبيك، فرجعوا وأخبروا زيادًا.

فلما رأى زياد امتناع أبيك بأهله وأصحابه احتال بشتى الحيل حتى تمكن من القبض عليه خدعة. وذلك أن بعض أصحاب أبيك استأمنوا زيادًا على أن يرسله إلى معاوية في الشام، فأمنه زياد، وأرسلوا إلى أبيك فجاء زيادًا، فلما رآه قال: «مرحبًا بك أبا عبد الرحمن، أحرب أيام الحرب؟ وحرب وقد سالم الناس؟! على أهلها تجني براقش.» فقال أبوك: «ما خلعت الطاعة، ولا فارقت جماعة، وإني على بيعتي.» فأمر به إلى السجن، فلما ذهب قال زياد: «والله لأحرصن على قطع رقبته.»

ثم جد زياد في طلب أصحاب أبيك فهربوا، فأخذ كل من قدر عليه منهم، وجاء بعض الوشاة إلى زياد فقالوا له: إن رجلًا هنا يقال له صيفي من رءوس أصحاب حُجْر، فبعث زياد فأتى به وقال له: يا عدو الله، ما تقول في أبي تراب؟ قال: ما أعرف أبا تراب. فقال: ما أعرفك به! أتعرف علي بن أبي طالب؟ قال: نعم. قال: فذاك أبو تراب. قال: كلا، ذاك أبو الحسن والحسين. فقال له: صاحب الشرطة يقول هو أبو تراب وتقول لا؟! فقال: أفإن كذب الأمير أكذب أنا، وأشهد على باطل كما شهد؟ فقال له زياد: وهذا أيضًا؟ عليَّ بالعصا، فجاءوا بها، فقال: ما تقول في علي؟ قال: أحسن قول. قال: اضربوه! فضربوه حتى لصق بالأرض، ثم قال: أقلعوا عنه. ما قولك في علي؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسي ما قلت فيه إلا ما سمعت مني. قال: لتلعننه أو لأضربن عنقك. قال: لا أفعل. فأوثقوه حديدًا وحبسوه، وإني والله لم أرَ أشجع منه إلا أبوك، رحمهما الله.

ثم جمع زياد اثنى عشر رجلًا اتهمهم بالدعوة لعلي، وأشهد شهودًا أن حُجْرًا جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة معاوية ودعا إلى حربه، وأنه قال: «إن هذا الأمر لا يصلح إلا في أبناء أبي طالب.» وأنه وثب بالمصر، وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه، وأن هؤلاء الاثني عشر معه هم أصحابه على رأيه، ثم دفع زياد أباك وأصحابه إلى اثنين من خاصته وسلمهما تلك الشهادات وأمرهما أن يسيرا بهم إلى الشام.

فساقاهم من العراق حتى انتهيا بهم إلى هذا المكان، وهو مرج عذراء، فأبقياهم وسارا إلى دمشق، فدخلا على معاوية وعرضا عليه الكتب التي كانت معهما، واتفق أن كان في مجلس معاوية أناس استوهبوه ستة من رفاق أبيك فوهبهم إياهم، وبعث أناسًا إلى هذا المرج فوصوا إليه في المساء في مثل هذا الوقت.

•••

وكنت قد صحبت الجماعة من الكوفة ومكثت عن بعد أنتظر ما سيكون، فلما رأيت القادمين من دمشق ومعهم الأسلحة والأنطاع، علمت أنهم قادمون ليقتلوه وأصحابه، ولم أكن أعلم أن معاوية وهب ستة منهم، فدنوت عند ذلك من أبيك فلما بصُر بي دعاني إليه وقال لي قولًا لا أنساه عمري، وكأني به قد تحقق دنو الأجل فقال: إني أوصيك يا عامر بوليدتي سلمى، احتفظ بها ما استطعت، ولا تزوجها إلا بابن عمها عبد الرحمن، ولكن لا تفعل ذلك إلا بعد موت معاوية هذا، فإذا مات وعاد أمر الخلافة شورى للمسلمين، فإنهم يولون الحسين لا محالة، فإذا وليها فهو ينتقم لنا إن شاء الله، ولم يكد أبوك — وا أسفي عليه — يتم كلامه حتى وصل القادمون من عند معاوية، فاستقدموا أباك وستة من رفاقه وقالوا لهم قبل القتل: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، فقالوا: لسنا فاعلي ذلك. فأمروا فحُفرت القبور وأحضرت الأكفان، وقام أبوك وأصحابه يصلُّون عامَّة الليل، فلما كان الغد قدَّموهم ليقتلوهم، فقال لهم أبوك: «اتركوني لأتوضأ وأصلي، فإني ما توضأت ولا صليت.» فتركوه فصلى، ثم قال: «والله ما صليت صلاة قطُّ أخفَّ منها، ولولا أن تظنوا فيَّ جزعًا من الموت لاستكثرت منها.» ثم قال: «اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، والله لئن قتلتموني بها فإني لأول فارس من المسلمين هلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها.» ثم مشى أحدهم إليه بالسيف فارتعد رحمه الله، فقالوا له: زعمت أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك وندعك، فقال: «وما لي لا أجزع وأنا أرى قبرًا محفورًا وكفنًا منشورًا وسيفًا مشهورًا؟! وإني والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرب.» فقتلوه — وا لهفي عليه — وقتلوا ستة من رفاقه، ثم صلوا عليهم ودفنوهم في هذا المكان، وهذا هو قبر أبيك رحمة الله عليه، وخرجت أنا إلى الكوفة ثم قمت بكفالتك وربيتك أنت وعبد الرحمن.

وكان عامر يتكلم وسلمى وعبد الرحمن شاخصان إليه بأبصارهما، وقلباهما يكادان يشتعلان، فلما بلغ هذا الحد لم تتمالك سلمى نفسها وقالت: ويل لقساة القلوب قتلة الأبرياء! ألأنه لم يلعن الإمام عليًّا قتلوه؟! إن الله منتقم من القوم الظالمين.

فوقف عبد الرحمن واستلَّ خنجرًا أبرق فِرِنْده في ضوء القمر، وقال وهو ينظر إلى القبر: أيها الراقد بلا حراك، يا عماه، يا حُجْر بن عدي، إني لا أخاطب ترابًا ولكنني أخاطب روحًا طاهرة لا أظنها تفارق هذا المكان، اعلم رحمك الله أني سأنتقم لك قريبًا بحدِّ هذا الخنجر إن شاء الله.

واستولى عليهم السكوت تحت تلك الشجرة هنيهة لم يكن يسمع فيها إلا طنين البعوض وخرير الماء، وكان كل من هؤلاء الثلاثة يفكر في شيء واحد مرجعه الانتقام، ثم هبَّت سلمى من مكانها بغتة وجثت على قبر أبيها وتناولت حفنة من ترابه بيدها وقالت وهي تنظر إلى السماء من خلال الأغصان: أنت تعلم أيها الواحد القهار أن أبي هذا قد مات مظلومًا، وأنت وحدك نصير المظلومين. إنه قتل في سبيل نصرة بيت نبيك . إنه قتل في سبيل نصرة الإمام علي، وصيِّ النبي وصهره وابن عمه.

ولم تتم سلمى كلامها حتى سمعوا صوتًا عميقًا كأنه خارج من أعماق القبر، أو كأن هاتفًا من عالم الأرواح يقول بصوت ضعيف وقع همسًا في أذن كل منهم على حدة: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، فلما سمعوا الصوت اقشعرَّت أبدانهم، ووقفت شعور رءوسهم، وتولتهم الدهشة، وظلوا صامتين هنيهة وكل منهم يحسب نفسه قد انفرد بسماع الآية، وتطلع بعضهم إلى بعض والبغتة ظاهرة على وجوههم، ثم ازدادت دهشتهم حين تبينوا أنهم سمعوا الآية جميعًا على السواء، وخُيِّل إليهم أن روح حُجْر تنطق من عالم الغيب، أو أن روحًا من الأرواح العلوية تخاطبهم بما تنطوي عليه إرادة الخلاق العظيم، فخشعوا واستولت عليهم الرهبة وكلهم ساكنون لا يُبدون حراكًا، وتصوروا المكان مسكونًا بعد أن كانوا يحسبونه مهجورًا.

وكانت سلمى لا تزال قابضة على التراب بيدها، وعبد الرحمن واقف والخنجر مشرع في يده، وبدأ عامر بالكلام فاستعاذ بالله وقرأ الفاتحة، ولم يكد يتم تلاوتها حتى ابتدره عبد الرحمن وهو يغمد خنجره وقال وصوته مختنق من عظم الدهشة: أرأيت يا عماه كيف أن الله معنا؟ وهل بعد ذلك الهاتف من شك في نجاح المهمة التي ندبت نفسي لأجلها؟! فسكتت سلمى وقد اقتنعت في سرها بأن عزم عبد الرحمن إلهام من الله، ولكنها لم تحرضه على تنفيذ عزمه خوفًا عليه من الخطر، وتركت الأمر يجري مجراه الطبيعي.

نهض عامر وهو ينفض التراب الذي لصق بثيابه ويقول: سر يا بني واتَّكل على الله وثق به، وقد سمعت قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.١

ونفضت سلمى يدها أيضًا وتوجهوا جميعًا إلى الدير والقمر في كبد السماء، والسكوت ساعتئذٍ أرهب مما عهدوه وهم قادمون؛ لشدة ما آثر في نفوسهم من حديث عامر وهتاف الهاتف، وأصبحوا إذا وقعت أقدامهم على العشب أو التراب أثناء مشيهم سمعوا لوقوعها دويًّا، وإذا دبت دابة أو نقَّت ضفدع وقع ذلك في آذانهم وقعًا شديدًا، فمشوا معظم الطريق وكأن على رءوسهم الطير، وعامر يفكر في دخول الدير ومن يفتح لهم بابه بعد أن انتصف الليل، وخاف أن يوجب غيابهم شبهة فغيَّر الطريق التي جاءوا منها، حتى إذا أشرفوا على مدخل البستان شاهدوا شبحًا قادمًا نحوه من الجانب الآخر، فظنوه لأول وهلة ضيفًا طارقًا وعجبوا لقدومه في أواسط الليل، وفيما هم يتفرسون فيه قالت سلمى: هذا هو الشيخ الناسك بعينه. ألا ترون الجلد على ظهره، ورأسه لشدة بياضه كأنه قطعة من ثلج؟

ولم يكونوا قد رأوه ماشيًا قبل ذلك، فعجبوا من نشاطه وخفته، وقال عبد الرحمن: كنت قد حسبته لأول وهلة شيخنا الناسك، ولكنني اشتبهت في أمره لما عاينت من نشاطه وسرعة جريه، فإني لا أرى قامته محدودبة كما كنت أتوقع أن تكون بعد أن رأيناه في ساحة الدير.

فقال عامر: لا أظن سبب هذا النشاط إلا اقتصاره على أكل الفاكهة والخضر دون اللحوم، على أنني أستغرب خروجه في هذا الليل، وأخشى أن يكون قد رآنا تحت الجوزة، أو لعله سمع كلامنا أو اطلع على شيء من أمرنا.

قالت سلمى: لو كان قد مر بنا لرأيناه أو سمعنا خطواته، فقد كان السكوت سائدًا وضوء القمر ساطعًا، ولكنني أظنه كان يجول في الغوطة يتناول الثمار كما حكى لنا الرئيس عن غرابة أخلاقه وبداوة معيشته.

وفيما هم يتهامسون كان الشيخ قد أدرك باب البستان وعالجه بأداة في يده حتى انفتح، فدخل ووقف ينتظر وصولهم، فاستغربوا غايته من ذلك، ولم يفهموا السبب الذي حمله على هذا العمل، وحملوه على غرابة أخلاقه، وبخاصَّة بعد أن دخلوا الباب وحيَّوه فلم يرد التحية، بل أسرع إلى باب الدير فقرعه حتى أفاق أحد الرهبان ففتح له، فدخل ودخلوا هم في أثره، ثم اختفى ولم يعودوا يشاهدونه كأنه كان ظلًّا وزال.

وأما هم فأسرعوا إلى غرفتهم يلتمسون المنام بعد المشقة والسهر الطويل، ولكنهم بالرغم من تعبهم لم تغمض أجفانهم إلا قبيل الفجر لما ثار في خواطرهم تلك الليلة.

•••

على أنهم لم يكادوا ينامون حتى أفاقوا على ضوضاء الرهبان في ساحة الدير، فنهضوا مذعورين، وخرج عامر للبحث عن السبب ثم عاد وأمارات الدهشة بادية عليه، فابتدرته سلمى بالسؤال عن سبب دهشته، فقال بصوت خافت: إن أهل الدير يستعدون لاستقبال يزيد بن معاوية.

فبُغت عبد الرحمن وقال: يزيد؟! وكيف يستقبلونه؟! ولماذا؟

قال: لأنه ذاهب إلى الصيد في هذا الصباح، ومن عاداته إذا مر بهذا الدير أن يستريح ساعة ثم ينصرف.

ولم يتم عامر كلامه حتى اختلج قلب عبد الرحمن بفعل البغتة، دون أن يداخله شيء من الخوف. وأما سلمى فقد كان أثر هذه المفاجأة فيها أكبر منه في عبد الرحمن، بنسبة ما بين الرجل والمرأة من دقة الشعور، ثم قال عبد الرحمن: هل أنت واثق يا عماه مما تقول؟ وهل نرى يزيد في هذا الدير اليوم؟

قال: ليس نزوله هنا أمرًا محتومًا، لكنه خارج إلى الصيد لا محالة، وسيمر من طريق بقرب هذا الدير، ويغلب على الظن أنه يعرج عليه هنيهة؛ لأنه يعرف رئيس الدير ويحترمه، والرئيس يعد مائدة من الفاكهة والأشربة، فإذا شاء أقام أو ظل سائرًا في طريقه.

قالت سلمى: أرجو أن ينزل هنا لكي أراه؛ لأني لم أرَ وجهه بعد.

فقال عبد الرحمن: ولكنك لا تقدرين على ذلك إلا إذا جلست في مكان ترين منه موكبه دون أن يراكِ.

قال عامر: وأنا لا أريد أن يرى وجهي، فالأجدر بنا أن نتخذ مقامًا في خلوة تشرف على ساحة الدير، وإذا استطعنا أن نُشرف على بستان الدير كان حظنا أوفر؛ لأن يزيد إذا أراد الصيد خرج في حاشية كبيرة وفيها البازيارية والعقَّابون وساسة الفهود والقرود والكلاب، وحملة الزاد والخدم والأعوان، وغير هؤلاء ممن يحتاج إليهم أثناء الصيد.

فقال عبد الرحمن: وهل يقيمون في الصيد طويلًا؟

قال: ربما أقاموا أسبوعًا أو شهرًا أو بضعة أسابيع، وهم في مضاربهم ومعهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والكساء. كذلك كان يفعل ملوك العراق عندنا من عهد الفرس، فقد كان الملك منهم إذا خرج للصيد بنوا له حائطًا طوله فرسخ يبتدئ من دجلة مثلًا أو من الفرات على هيئة زاوية، ثم يخرج الملك أو الأمير ومعه الرجال والأعوان على الخيول والبغال والحمير يطاردون الغزلان وحمر الوحش وغيرهما من الطرائد نحو الحائط والنهر، ويمنعونها من الرجوع، فلا تفر منهم، ويستدرجونها حتى يدخلوها وراء ذلك الحائط، فتنحصر بينه وبين النهر، فإذا انحصرت هناك دخل الملك ومن معه من خاصته وتأنَّقوا في القتل، فيقتلون ما يقتلون ويطلقون الباقي، وما أظن يزيد إلا فاعلًا في هذه الغوطة مثل ذلك.

فقال عبد الرحمن: وما السبيل إلى مكان نستتر فيه؟

قال عامر: دعوا ذلك لي، وخرج إلى رئيس الدير، وكان الصبح قد انبلج والرئيس على السطح يراقب تنفيذ أوامره في تنظيف الدير وضواحيه، وفرش الطنافس وإعداد المجالس وترتيب الفاكهة في الآنية واستحضار المياه الباردة المحلاة بالسكر وأنواع الأشربة الحلوة، فصعد عامر إليه وحيَّاه فرحب به الرئيس، فتجاهل عامر وسأله عن سبب ذلك الاهتمام فقال: إن أمير المؤمنين مارٌّ بنا هذا الصباح في طريقه إلى الصيد، ومن عادته إذا خرج للصيد أن يجعل هذا الدير أول محطة يقف فيها.

فأظهر عامر ارتياحه لذلك وقال: وقد بلغني أن مولانا الخليفة يجلُّكم ويحترمكم لقِدم عهدكم في هذا المنصب.

قال: ربما فعل ذلك تفضلًا منه، ولا غَرْوَ؛ فإني أعرف أباه من قبله، وكثيرًا ما كان يجالسني وأجالسه، وكان خليفتنا هذا يومئذٍ صبيًّا يخرج أحيانًا إلى هذه الغوطة ومعه معلم يلقنه حركات النجوم وأنساب العرب اسمه دغفل، وكان إذا أتاني أنس بي فأكرمه، فلما تولَّى الخلافة ظل ذاكرًا الصحبة.

فقال عامر: إن منظر أمير المؤمنين بحاشيته وخدمه مما ينشرح له الصدر، وأراني كثير الشوق إلى مشاهدة ذلك المشهد، وابنتي أشوق مني إليه، ولكنني لا أدري كيف أستطيع أن أريها إياه من غير أن يراها أحد؛ لأن عادتنا تقضي بالتحجب.

فقال الرئيس: هذا أمر سهل يا بني، فإني أقدم لكم غرفتي تجلسون فيها أثناء تلك الزيارة.

فأثنى عامر على حسن ضيافته وقال: بورك فيك يا مولاي، ثم ذهب ليدعو سلمى وعبد الرحمن. وعندئذ تذكر الرئيس ما سمعه بالأمس من الضيف الأبرص المتنكر من أن لهؤلاء حكاية تتصل بأمير المؤمنين، ولكنه لم يعد يستطيع الرجوع في قوله.

وبعد قليل عاد عامر ومعه رفيقاه فصعدوا جميعًا إلى عُلِّيَّة الرئيس، فاستقبلهم وأوصاهم بالتستُّر ما استطاعوا، فلم يفقهوا لوصيته معنًى غير مجاراتهم في مقتضيات الحجاب، وكان للعُلِّيَّة نافذتان تطل إحداهما على ساحة الدير والأخرى على بستانه، فأطلوا على البستان والغوطة من ورائه يستطلعون موكب الخليفة قبل وصوله، وكانت الشمس قد أرسلت أشعتها على تلك المروج الخضراء تتخللها الجداول والبحيرات، وتطايرت العصافير وغنت البلابل، كما علت أصوات الماشية والحمير والجمال في الحظيرة، فشاقتهم تلك المناظر البديعة بما يخالطها من ألوان الفاكهة والرياحين والأزهار، ولم يكادوا يقفون قليلًا حتى لاحت لهم من بين الأشجار خيول قادمة من جهة دمشق، وهي في هيئة موكب يتقدمه فارس بلباس زاهٍ، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وتجلل ثيابه جبة أرجوانية موشَّاة، وإلى جنبه سيف مرصع انكسرت أشعة الشمس على أحجاره الكريمة فأضاء كالمصباح، ووراء الفارس بضعة عشر من الفرسان، أقربهم إليه في مثل هيئته وزيِّه، فعلم عامر لأول وهلة أن الفارس الأول يزيد بن معاوية، ولكنه لم يتبين وجهه لبعد المسافة، ولم يعرف رفيقه، وإن كان قد رجح أنه من كبار خاصته.

وسألته سلمى: من هو هذا الفارس الأول يا عماه؟ لعله الخليفة المزعوم؟

قال: يظهر أنه هو.

قالت: ومن هو رفيقه الفارس الذي يليه؟ يظهر لي أنه من أخصَّائه.

قال: أظنه كذلك، فإذا اقترب تفرَّسته وأنبأتك بحقيقة حاله.

وظلت أبصارهم شاخصة إلى هذين الفارسين ولا يلتفتون إلى ما وراءهما حتى اقتربا من سور البستان، بينما كان رئيس الدير قد خرج برهبانه لاستقبال الضيف العظيم.

وترجَّل الفرسان، ودخل الخليفة أولًا وإلى جانبه رفيقه، ثم دخل وراءهما بقية الحاشية، فمشوا في البستان وعامر يتفرس فيهم وسلمى وعبد الرحمن ينظران إلى عامر فرأيا سحنته قد تغيرت، والتفت إلى سلمى فسألته: ما بالك يا عماه؟ ماذا رأيت؟

فتنهد وقال: يا للعجب! سبحان جامع الأشباه والنظائر! أتعلمين من هما هذان؟

قالت: لا، ومن عسى أن يكونا؟

قال: أما الأول صاحب الحلة الأرجوانية الذي تريان وجهه شديد الأدمة وعليه أثر الجدري، فهو يزيد بن معاوية، الذي يسميه أتباعه أمير المؤمنين خليفة رب العالمين، والخلافة بريئة منه، وهو كما تريانه فتًى حسن الصورة لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، ولم يغير الجدري شيئًا من جماله، ولكن الخلافة لا تحتاج إلى الجمال، وبخاصَّة إذا كان صاحبها منغمسًا في الملاهي. أما رفيقه الذي يسير بجانبه مختالًا، فهو عبيد الله بن زياد، ومتى اقترب منَّا فستشمَّان رائحة المسك تفوح من ثيابه.

فلما ذكر اسمه ارتعدت سلمى وقالت: أليس أباه الذي سعى في قتل أبي؟

قال: هو بعينه.

فقال عبد الرحمن: يا للغرابة! قد اجتمع القاتلان، وسيُقتل كلاهما إن شاء الله. قال ذلك وحرَّق أسنانه، فنظر عامر إليه شزرًا كأنه يؤنبه على ذلك التصريح؛ لأنهم محاطون بالرقباء والأعداء.

ولم يكد يزيد ورفقاؤه يقتربون من الدير حتى وصل أتباعهم ودخلوا البستان زُرافات ووحدانًا، وفيهم الراكبون على البغال والحمير، وفيهم المشاة وهم الأكثرون، ولكنهم على أشكال شتَّى في ملابسهم وأزيائهم، فبينهم أصحاب الملابس القصيرة والطويلة على اختلاف ألوانها، وبينهم حملة الحراب والنبال، وبعضهم يقودون فهودًا، وآخرون يسوسون قرودًا، وغيرهم يجرون كلابًا في أرجلها أساور من الذهب وعلى ظهورها الجِلال المنسوجة بالذهب، ومن حولها عبيد اختص كل منهم بخدمة كلب، فيقوم بكل ما يحتاج إليه من الطعام والنظافة، وشاهدوا في جملة تلك الحاشية أناسًا يحملون طيورًا جارحة كالباز والصقر والعقاب.

وانتشر هذا الجمع في البستان؛ لأن ساحة الدير لا تسعهم جميعًا، وقد أحدثوا جلبة شديدة لكثرة عددهم واختلاط أصواتهم بأصوات الحيوانات والطير، من صهيل الخيل ونهيق الحمير وشحيج البغال وصياح الثعالب ونباح الكلاب وضحك القرود وصرصرة البُزاة وحفيف الأجنحة.

وأخذت سلمى تسأل عامرًا عن ذلك الجمع المحتشد، وما يحملونه أو يسوقونه من أنواع الحيوان، فأجابها عامر قائلًا: إننا يا سلمى في مشهد بديع يندر أن يتفق لمثلك أن تراه؛ ولذا فإني أقص عليك خلاصته، فاعلمي أن الخليفة خارج للصيد، وربما أوغل في الغوطة واستغرقت سفرته أسابيع عدة، وهو مولع بالصيد حتى لقد شغله عن مهامِّ الخلافة، ولا يقتصر في صيده على نوع من أنواع الحيوان، بل يصطاد الطيور والظباء والأرانب وحمر الوحش وغيرها، وهذا هو السبب في كثرة هذه الحاشية؛ فإن منهم حفظة الفهود وقد أركبوها على الخيل، ويزيد هذا أول من أركبها عليها، أما أول من اصطاد الفهود فهو كليب بن وائل الشهير في حروب الجاهلية، وهي تصطاد له الغزلان وحمر الوحش ونحوها، وترين في هذا الجمع عبيدًا يسوسون الكلاب وعليها الألبسة الفاخرة والأساور الذهبية، وعند يزيد عدد كبير منها، وهي تصطاد له الغزلان والأرانب.

وأما الطيور التي ترينها في أيدي حامليها، فمنها الباز ويسمى حامله «البازيار»، والباز كما تعلمين من الجوارح التي تفترس الطيور الضعيفة كالدراج والحُبارى والورشان والعصافير، فيحمل الصيادون الباز من الجبال ويعلمونه الطيران والرجوع إلى مكانه، فإذا خرجوا به للصيد أطعموه قليلًا وقبض البازيار عليه من رجليه ومشى به بعد أن يكسو كفه بقفاز من جلد، فإذا اشتمَّ الباز رائحة دراج أو حُبارى رفرف وحاول الإفلات، فيفلته البازيار فيطير حتى يقع على طريدته فيقتلها، والبازيار يركض في أثره، وقد يهمُّ الباز بأكل الطريدة فيدركه البازيار ويخرجها من فمه، وقد لا يهمُّ بذلك، وهكذا يفعل العقاب، ويقال لحامله «عقَّاب»، وكذلك الصقر والشاهين وغيرهما من الجوارح ولكنها لا تصطاد إلا الطيور الضعيفة.

فاعترضه عبد الرحمن قائلًا: ولكنني سمعت أن الباز قد يصطاد الغزال أيضًا.

قال عامر: ربما اصطاده، ولكنه لا يستطيع ذلك وحده، فإن بعض البزاة إذا أطلقتها على غزال رفرفت على وجهه واعترضت مسيره فتعوقه عن الفرار السريع ريثما يدركه الكلب أو الفهد فيرديه. أما حمار الوحش فإن الفهد يصطاده، وقد يصطادونه بالنبال، وحمار الوحش كثير في «جرود»، وهي قرية في هذه الغوطة.

وكانت سلمى مصغية تسمع حكاية الصيد وهي تعرف شيئًا منه، ولكنها لم تكن تعرف هذا التفنن فيه، فلما وصل عامر إلى هذا الحد ظهر من رنة صوته أنه يهمُّ بإنهاء الحديث فقالت سلمى: ولكنني أرى جماعة من هؤلاء الغلمان يسوسون قرودًا منها قرد عليه قباء من حرير أحمر وأصفر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بديعة، وقد ركب أتانًا وحشية عليها سرج من الحرير الأحمر منقوش بألوان جميلة، وبين يديه خادم يسوسه ويطعمه الفاكهة من يده، فما هو شأن هذا القرد؟

فضحك عامر وقال: هذا هو «أبو القيس»، وقد ربَّاه يزيد وسمَّاه بهذا الاسم، فإذا جلس للشراب مع منادميه طرح له مقعدًا معهم، وهو قرد خبيث كثيرًا ما يركب هذا الأتان ويخرج لمسابقة الخيل في أيام السباق، وقد يحوز قصب السبق عليها كلها.

•••

اشمأزت سلمى مما سمعته عن يزيد، وقالت: أإلي هذا الحد بلغت حال الخلافة! أين هذا من عصر الخلفاء الراشدين، وقد كانت أثوابهم من الكرباس الغليظ، ونعالهم وحمائل سيوفهم من الليف، وكانوا يمشون في الأسواق كبعض الرعية! هكذا كان أبو بكر، وكان عمر بن الخطاب، وهكذا كان علي بن أبي طالب! أين الزهد والتقوى! أين العدل والقسط! أين الحزم والعزم! أين العلم والفضل! وا أسفاه على الإسلام والمسلمين.

فابتدرها عبد الرحمن وقال: رويدك يا سلمى، إن وقت النجاة قريب، ولا أظنك بعد ما سمعت ورأيت تترددين في إطلاق حريتي فيما عزمت عليه، وإن غدًا لناظره قريب.

فتنهدت سلمى وأطرقت وكأن قلبها قد دلها على خطر يهدد حبيبها، ولكنها ظلت صامتة، وبينما هم في ذلك إذ علا نباح الكلاب في باحة الدير، فتحولوا إلى النافذة المطلة على تلك الباحة ليروا ما هناك، فإذا الخليفة ورجاله قد جلسوا على طنافس فرشت لهم تحت الصفصافة، وبين أيديهم مختلف ألوان الفاكهة، والرهبان وقوف بأقداح الماء المحلى بالسكر وأنواع الأشربة الحلوة التي يستخرجها الرهبان من الثمار، وفيها أصناف الخمور المختلفة، المستخرجة من العنب والتفاح والبلح، وكان الرئيس جالسًا باحترام بين يدي يزيد، وبيده قدح من الفضة يقدمه له ليشرب، ولكن الصفصافة حجبت كثيرًا من ملامح الجالسين، فلم يكن يبدو إلا بعضها من خلال الأغصان، كما أن عواء الكلاب كاد يصمُّ آذانهم ويشغلهم عن تتبع ما يجري في ذلك المجلس الطريف.

وكان سبب ذلك العواء أن كلاب يزيد حينما تبعته إلى باحة الدير وعليها الألبسة والأساور كما تقدم، كان شيبوب وصاحبه نائمين على دكة في بعض جوانب الباحة، فلما شعر الشيخ بمجيء يزيد ارتعدت فرائصه ولم يعد يستطيع البقاء، فهرول وانزوى في مستتَر من الدير ولم يدعُ شيبوب لمرافقته، فظل الكلب متكئًا حتى دخل يزيد وانتشرت كلابه تحت الصفصافة، واشتمَّ شيبوب رائحتها فكان أشد نفرة ورعدة من صاحبه، فأخذ في النباح وكذلك فعلت كلاب يزيد.

فلما طال النباح، أمر الرئيس بعض الرهبان أن يطرد شيبوب من ذلك المكان، فقام الراهب بذلك، وركض شيبوب إلى السلم فصعد إلى السطح، وكان لعُلِّيَّة الرئيس كوَّة واطئة تشرف على السطح فأدخل الكلب رأسه منها، فرأى سلمى ورفيقيها فحمحم مستأنسًا بهم، ثم وثب إلى الداخل ودنا من سلمى وقد أرخى أذنيه وهز زيله، فاستأنست هي به وجعلت تمسح رأسه بيدها وهو يدنو منها ويحك جنبه بثوبها، على أنها خافت أن تشتغل به عن مشاهدة مجلس يزيد، فشغلته بثمرات جافة كانت في جيبها، وكان شيبوب قد ألِف أكل الفاكهة مثل صاحبه وإن لم يكن هذا طبعه، ثم عادت سلمى إلى التطلع من النافذة، وأهل الباحة مشتغلون عنها بخدمة يزيد وإكرام وفادته، وكلابهم لا تزال تنبح، فلم يكن من شيبوب إلا أن أجابها بنبحة ارتجعت لها العُلِّيَّة واستلفتت انتباه الجالسين تحت الصفصافة، فالتفت بعضهم إلى جهة الصوت وفي جملتهم عبيد بن زياد رفيق الخليفة وصديقه، فوقع بصره على وجه سلمى فلم يتمالك عن الإعجاب بجمالها وهيبتها، وشعر بجاذب جذب قلبه إليها وامتلك عواطفه.

أما هي فلحظت انتباه الناس لنباح شيبوب والتفات بعضهم إلى العُلِّيَّة ووقع نظر ابن زياد عليها، فهرعت إلى الداخل وقد غلب عليها الحياء وتبدلت هيئتها. كان عامر وعبد الرحمن مشتغلين عن ذلك بالحديث، فلما عوى شيبوب وتحولت سلمى عن النافذة التفتا إليها فإذا هي قد احمر وجهها وظهر عليها الاضطراب، فابتدرها عبد الرحمن بالسؤال عن سبب ذلك، فأظهرت أنها لا تبالي، وقالت: إن نباح هذا الكلب قد استلفت أنظار بعض الجالسين بين يدي الخليفة فتطلعوا إلى النافذة.

فقال عبد الرحمن: وما الذي تخافينه؟

فقطع عليه عامر الكلام قائلًا: لم تخف وإنما الحياء غلب عليها.

•••

كان عبيد الله بن زياد قد افتتن بسلمى للنظرة الأولى، ولم يبقَ له صبر على معرفة أمرها، ولكنه لم يجرؤ على ذلك والخليفة معه، فعزم بينه وبين نفسه على الإسراع في العودة وحده من الصيد بحيلة يخترعها ليزيد، لكي يعرج على الدير وحده ويبحث عن تلك الغادة الفتانة.

على أنه لم يتمالك عن سؤال الرئيس خلسة عن سكان تلك العُلِّيَّة، ولا تسل عن حال الرئيس عند ذلك السؤال بعد الذي سمعه من ضيفه الأبرص من أمر أولئك الضيوف وعلاقة ذلك بالخليفة، فلما سمع ابن زياد يسأله عنهم أوجس في نفسه خيفة، ولكنه تجلَّد وأجاب بسذاجة قائلًا: إنهم يا مولاي رجل وابنته، وهم من أهل العراق نزلوا ضيوفًا علينا، ثم فطن لعذرٍ ظنَّه يُرضي الخليفة فقال: ولا يخفى على مولاي أننا مكلَّفون باستضافتهم؛ لأنهم مسلمون، فأنزلناهم وقمنا بخدمتهم عملًا بعهد الخليفة عمر بن الخطاب، وهو يقضي علينا بضيافة من ينزل علينا من المسلمين ثلاثة أيام.

فقال عبيد الله: حسنًا فعلت، واطمأن قلبه إذ علم أنهم من المسلمين، ورجح أن تلك الحسناء عزبة، ولكي يتأكد من ذلك قال مغالطًا: ألم تقل إن الثلاثة رجل وامرأته وابنه؟

قال: لا يا مولاي، إنهم رجل وابنه وابنته، والابنة عذراء.

فازداد اطمئنان عبيد الله، ولكنه خاف إذا طال غيابه أن تخرج سلمى من الدير فلا يعود يظفر بها فقال للرئيس: وهل تطول إقامتهم في هذا الدير؟

قال: لا أدري، ولكني أظنهم مسافرين قريبًا إلى دمشق؛ لأنهم آتون في تجارة. قال: أوصيك باستبقائهم ريثما أعود، فقال: سمعًا وطاعة.

ثم خرج يزيد بحاشيته من الدير والرئيس والرهبان يشيعونهم إلى البستان، حتى ركبوا وهم يدعون لهم بالسلامة. أما عبيد الله فخرج وقلبه مشتغل بسلمى، وهو يعد نفسه بالرجوع إليها عاجلًا.

١  وقع في الأصل: وبشر الذين ظلموا، ولا يوجد في القرآن الكريم آية بهذا اللفظ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤