الفصل التاسع

محاكمة عبد الرحمن

استبشرت سلمى بتلك المقصورة، عسى أن ترى منها ما سيدور بين عبد الرحمن والخليفة إذا جاءوا به للتحقيق معه، فقالت: وهل يجوز أن أطلَّ من تلك المقصورة لأشاهد مجلس الخليفة، فإني لم أرَ مجلسه قط.

قالت: إن الخليفة لا يأذن في ذلك لأحد، ولكني لا أظنه يمنعه عنك، على أني أدلُّك على الكوَّة فتطلين منها على المجلس، وإذا جاء الخليفة لا تذكري له أنك فعلت ذلك.

قالت: بورك فيك يا خالة، إنك والله لطيفة ومحبة، ولا غَرْوَ إذا ارتفعت منزلتك عند الخليفة.

فانشرح صدر العجوز من هذا الإطناب، وزادت رغبةً في خدمتها، فقالت لها سلمى: وأين الباب السرِّي الذي يخرج الخليفة منه؟

فأمسكتها بيدها ومشت بها عدة خطوات، ثم دارت من وراء الغرفة فإذا هناك باب صغير فتحته وأرتها سلمًا ضيقًا وقالت: هذا هو الباب السرِّ، فاكتمي ذلك.

قالت: وإلى أين يستطرق؟

قالت: إنه ينتهي إلى ممر طويل آخر في الحديقة الخارجية يُفتح من الداخل ولا يُفتح من الخارج إلا بمفتاح خاص.

فتفرَّست سلمى في المكان، حتى تصورت المدخل والمخرج، ثم عاد إلى استطلاع أمر عبد الرحمن، ولكنها تظاهرت بعدم الاهتمام في بادئ الرأي وعادت إلى المقصورة وجلست إلى النافذة فأطلت على الحديقة والعجوز إلى جانبها تسليها بالأحاديث، وما لبثت أن تظاهرت بالملل وقالت للعجوز: دعينا نطل من الكوَّة لنرى مجلس الخليفة.

فمشت العجوز أمامها حتى خرجت من الغرفة وتحوَّلت بضع خطوات على الطنافس المفروشة هناك فوصلت إلى وسادة صغيرة أزاحتها فانكشفت كوَّة صغيرة تطل على المجلس، فإذا به قاعة كبيرة مفروشة بالسجاد الملون، وعلى دائرها مما يلي الجدران وسائد جلس الأمراء عليها، بعضهم على وسائد مثناة وبعضهم على وسائد غير مثناة، أما يزيد فقد كان جالسًا في صدر القاعة على دكة مرتفعة من خشب العرر صب فيه الذهب، وعلى رأسه اثنان بأيديهما الجراب، وفي يده قضيب الخلافة، وعلى كتفيه برد خاص بالخلفاء، ورأت على نوافذ القاعة ستورًا من الأطلس المزركش بالكتابة اليونانية التي ذكرناها.

فتأملت في هيئة ذلك المجلس فلم تجد فيه ما كانت تتوقعه من الهيبة والوقار إذ كان أهله يخاطب بعضهم بعضًا حتى علت ضوضاؤهم، وسمعت بعضهم يقهقه ويزيد لا يعبأ بقهقهتهم، وكان موليًا وجهه إلى ابن زياد يخاطبه سرًّا وهو يضحك.

ثم صاح بغتة قائلًا: يا غلام، فدخل رجل كان واقفًا بالباب ووقف متأدبًا، فقال يزيد: قل لمن في بابنا من الشعراء إننا لن نقابل أحدًا اليوم، وقبل أن ينطلق الغلام استوقفه وقال: ثم إننا نريد أن نرى ذلك الغلام الذي همَّ بقتلنا، إليَّ به.

فخرج الغلام ثم عاد ووراءه عبد الرحمن مكبلًا بالحديد، فلما رأته سلمى ارتعشت مفاصلها لما خافت عليه من فتك يزيد.

•••

جيء بعبد الرحمن إلى مجلس الخليفة، فلما توسط القاعة، التفت يمنة ويسرة وهو يتفرس في وجوه الحاضرين، ولا يبالي بما يتهدده من الخطر، وكانت سلمى ترقبه من خلال الكوَّة، فأعجبت برباطة جأشه ولبثت تنتظر ما يكون من أمره، وقلبها يخفق إشفاقًا مما قد يصيبه من الأذى.

فناداه يزيد قائلًا: ممن أنت يا رجل؟

فقالت عبد الرحمن: من هذه الساحة.

فابتدره عبيد الله بن يزيد قائلًا: أيسألك أمير المؤمنين عن نسبك فتجيبه بهذا الجواب؟!

قال: هو الذي يسألني، وهذا جوابي.

قال عبيد الله: يظهر من وقاحتك أنك لا تدري من هو الذي يخاطبك.

قال: أعرفه، إنه يزيد بن معاوية.

قال: قل أمير المؤمنين.

فقطع يزيد كلام ابن زياد وقال: دعه يا عبيد الله، ثم التفت إلى عبد الرحمن وقال: وما الذي حملك على هذه الخيانة؟

قال: ليست خيانة، وإنما هو عمل صالح حملني عليه يقيني مما وراءه من خير للإسلام والمسلمين.

فشعر يزيد بأن الرجل ينوي التصريح بأمور مهينة، ورأى من الدهاء أخذه بالحيلة على غرار ما كان أبوه معاوية يصنع في مثل هذه الحال، ومعاوية هو القائل: «لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت»، فلما قيل له: وكيف ذلك؟ قال: «إذا هم شدوا أرخيت، وإذا هم أرخوا شددت». وكثيرًا ما كان معاوية يتحمل من أتباع علي كلامًا غليظًا ويصرفهم راضيًا، وما ذلك إلا من كثرة دهائه.

ولم يكن يزيد مثل أبيه، ولكنه أراد أن يتشبه به، فقال لعبد الرحمن: ولكن ما يمنعك أن تقول من أنت؟ وما الذي جاء بك إلى هذه الديار؟

قال عبد الرحمن: إنك تسألني سؤالًا لا دخل له في عقابك أو ثوابك، وإنما يكفيك أن تسمع كلامي وتأخذني بإقراري، وأنا أقول إنني جئت لقتلك.

فضحك يزيد والتفت إلى ابن زياد وخاطبه خطابًا لم يفهمه أحد، ثم التفت إلى عبد الرحمن وقال له: يظهر أنك مغرور، ونحن لا نرضى إلا أن نلتمس لك عذرًا، فقد يكون أحد أغواك، ويكفي للصفح عنك أن تلعن عليًّا.

فلما سمع عبد الرحمن ذلك نسي أنه مقيد بين يدي الخليفة، فالتفت إليه وقال: إنك تطلب أمرًا مستحيلًا، وما عليٌّ ممن يجوز لعنه.

فقال ابن زياد: اقبل النصيحة وأطع أمير المؤمنين؛ لئلَّا يصيبك ما أصاب أمثالك ممن ساقهم عنادهم إلى القتل، مثل حُجْر بن عدي و…

فنظر عبد الرحمن إلى ابن زياد والشرر يكاد يتطاير من عينيه وقال: كأني بك يا ابن سمية تقتفي أثر ما فعله أبوك بحُجْر، وقد سعى في قتله زورًا؛ قتله لأنه لم يلعن ابن عم الرسول ، فإذا رأيت أن ترتكب أنت أيضًا مثل ذلك فاقتلني ولا تخوِّفني. إن عليًّا أولى بالمدح من سواه.

فلما قال عبد الرحمن ذلك ضج المجلس، وعجب يزيد والحاضرون من جرأة ذلك الأسير المقيَّد.

أما سلمى فقد كاد يضيع رشدها من عظم التأثر وهي تتقلب بين الإعجاب بشهامة ابن عمها وبين الخوف على حياته، إلى أن سمعت يزيد يقول له: قد أمهلناك يومًا آخر، فإذا لم ترجع عن غرورك أذقناك الموت. خذوه إلى السجن.

فدخل الحرس ليأخذوه فقال: لا تؤجل عملًا إلى الغد؛ فإني أنا اليوم مثلي بالأمس وبالغد، لا أحيد عن الحق ولو قطعتموني إربًا إربًا.

وكانت العجوز جالسة بجانب سلمى تسمع ما دار في المجلس، فلما أخرجوا عبد الرحمن قالت لسلمى: أرأيت مثل هذه الجرأة؟ ولكنها لا تفيده شيئًا، وغدًا يقتلونه.

فلم تستطع سلمى صبرًا على سماع ذلك الكلام، ولكنها قالت في سرِّها: إذا بقيت يا يزيد حيًّا إلى الغد فاقتل عبد الرحمن، وعادت إلى الغرفة وقد ظهر عليها الاضطراب، ولكنها عادت إلى التظاهر بالتألم من الصداع، فأخذت العجوز تهوِّن أمره عليها، وتحاول الترفيه عنها، ثم قالت: ألم تُفِدك التعويذة يا حبيبتي؟ إنها لم تخنِّي إلا اليوم.

فلم تجبها سلمى ولكنها أخرجت منديلًا من جيبها وعصبت به رأسها وهي تتظاهر بشدة الألم. فقالت لها العجوز: إذا كنت تشكين من الصداع الشديد فعليك بالفراش وتوسدي فيه وارتاحي.

فأطاعتها وانثنت إلى فراش من الحرير الملون وعليه غطاء من الأطلس المزركش بالذهب كانت قد أعدته العجوز هناك بأمر يزيد، فتوسدته والتحفت الغطاء إلى رأسها، ولبثت لا تبدي حراكًا حتى ظنتها العجوز قد نامت، وهي إنما سكتت لانشغال ذهنها وقلقها وما تخافه على عبد الرحمن وعلى نفسها من الخطر.

وفيما هي راقدة سمعت خطوات مفردة على السلم، فعلمت أن يزيد صاعد على السلم ليتفقدها ويسأل عن صحتها؛ إذ لا يجرؤ على الصعود إلى تلك المقصورة سواه، فاستعاذت بالله، ولكنها رأت أن تتظاهر بالرقاد؛ لأن الليل لم يدنُ بعد، وهي إنما تريد قتله ليلًا والناس نيام لتتمكن من الفرار.

وبعد هنيهة وصل يزيد إلى باب المقصورة، فأسرعت العجوز إليه واستقبلته لدى الباب وهي تشير له أن يمشي الهوينى ولا يتكلم؛ لأن عروسه نائمة.

فخفف الوطء واستفهم عن سبب نومها فقالت: إن الصداع اشتد عليها فعصبت رأسها وتوسدت ويظهر أنها نامت، ولكنها ستفيق بعد قليل ولا أثر للألم في رأسها، والنوم أنجع دواء للصداع.

فمشى رويدًا رويدًا حتى أقبل على الفراش ودنا من رأسها وكان مغطًّى وهي ساكنة وعيناها مغمضتان، وقد أشرق محيَّاها وزاده الدفء إشراقًا، فلم يتمالك يزيد عند رؤيتها عن الإعجاب بذلك الجمال الجاذب، وحدثته نفسه بأن يوقظها ويجلس إلى جانبها، ولكن العجوز أومأت إليه بأن يتركها لتنام، وأمسكته مشت به إلى جانب النافذة وقالت له همسًا: لا تستعجل يا مولاي، إن العروس عروسك تتمتع بها متى شئت. دعها لتنام الآن وتستريح، فإذا جاء الليل كانت كما تشاء.

فقال: ولكنني لا أريد منها إلا قبلة.

قالت: لم يكن ثمَّة بأس من ذلك لولا مخافة استيقاظها.

فقال لها: هل أدخلتها الحمام؟

قالت: نعم يا سيدي، كن في راحة من هذا القبيل واذهب إلى مجلسك.

فقال لها: أعدِّي لنا ما نحتاج إليه من الشراب والطعام لنقضي الليلة في هذه المقصورة.

قالت: سمعًا وطاعة. وسارت في أثره.

فأدركت سلمى ذهابهما ففتحت عينيها ونظرت إلى جوانب الغرفة فلم تجد أحدًا، وكانت في أثناء رقادها تفكر في طريقة الاحتيال لقتل يزيد، فلما علمت بعزمه على المبيت في تلك المقصورة، وسمعت استفهامه عن دخولها الحمام أخرجت الخنجر من جيبها ودسَّته تحت الفراش بحيث تصل يدها إليه متى شاءت، ثم نهضت ورأسها معصوب وقد تعاظم قلقها على عبد الرحمن.

ومشت إلى الكوَّة المطلة على مجلس الخليفة وأطلت منها عليه، فلم ترَ يزيد هناك، ثم ما لبث أن دخل ومعه رجل لم يقع نظرها عليه حتى ارتعش جسمها وارتعدت فرائصها؛ إذ كان شمر بن ذي الجوشن. فاستعاذت بالله من وشايته، ولكنها أصبحت لا تخاف شيئًا في سبيل الانتقام لأبيها وخطيبها.

ورأت يزيد يرحب بشمر ويدعوه إلى الجلوس بجانبه، فلم يجرؤ أن يجلس على الوسادة المثناة ولكنه تربع على البساط بين يدي يزيد.

فقال له يزيد: لماذا لا تدنو من مجلسنا وأنت أول من نبَّهنا إلى الخطر الذي نجَّانا الله منه بالأمس؟

قال: إن صنيعة مولانا لم يفعل إلا بعض الواجب عليه، ولا فضل له فيه، وقد بايعنا أمير المؤمنين على الطاعة، وإن دماءنا وأرواحنا وأموالنا فداء له.

فضحك يزيد ومشط لحيته بيساره والدِّرَّة في يمينه وقال له: بورك فيك يا شمر، إنك أبيض الوجه أبيض الخصال، وسوف تنال ما تستحقه.

فقبَّل شمر الأرض وقال: أرجو أن ينال ذلك الخائن أيضًا ما يستحقه.

قال: إنه سينال جزاءه بعد أن نرى ما في اعترافه؛ فلعل له شركاء إذا أطلعنا على مخبآتهم أمنَّا شرَّهم.

قال: ألم يسأله أمير المؤمنين عن نسبه؟

قال: سألناه فلم يُجب، فأمهلناه إلى الغد.

فوقف شمر والسرور بادٍ على وجهه وقال: إذا أمرني مولاي أخبرته بنسبه، ولا أظنُّه بعد ذلك إلا آمرًا بقتله في هذه الساعة.

فلما سمعت سلمى كلام شمر اهتزت كل جوارحها، ولم تعد تستطيع الوقوف من شدة الاضطراب، ولعنت ذلك الرجل وساعة قدومه، ولكنها تجلَّدت لترى ما يكون، فإذا بيزيد يقول: من هو؟ قل.

قال: ألا تعرف حُجْر بن عدي؟

قال: أعرفه بالسماع.

قال: هذا ابن أخيه، ويزعم هذا الغادر أنه سينتقم لعمه من أمير المؤمنين.

فهبَّ يزيد من مجلسه وصاح قائلًا: أصحيح ما تقوله يا شمر؟

قال: إني لا أقول غير الصدق، وإذا حضر الآن فقأت حصرمًا في عينيه.

فضج المجلس وصاح يزيد: ايتوني به.

وما لبثوا أن جاءوا بعبد الرحمن وعليه الأغلال والقيود فوقف بين يدي يزيد لا يبالي، فنظر يزيد إلى شمر وأومأ إليه أن يسأله، فالتفت شمر إلى عبد الرحمن وقال له: لقد سألك أمير لمؤمنين عن نسبك فلماذا لم تُجب؟

فنظر عبد الرحمن إلى شمر وحملق فيه وهو لا يعبأ بما يتهدده من الخطر في ذلك الوقت وقال: لم أُخفِ نسبي خوفًا على حياتي، ولا أرى في نسبي إلا ما يدعو إلى الافتخار.

قال شمر: قل إذن من أنت؟

فرفع عبد الرحمن صوته وقال: إني من كندة، واسمي عبد الرحمن، وعمي حُجْر بن عدي الذي قتلتموه ظلمًا وعدوانًا.

فتعجب يزيد من جرأته وقال: أتقول ذلك ولا تخاف؟

قال: ممَّ أخاف وقد أقررت بعزمي جهارًا؟

وكان ابن زياد جالسًا بجانب يزيد يسمع ما يدور بينهما، فلما سمع قوله أراد مطاولته فقال: إنك مصاب في عقلك، فأقلع عمَّا أنت فيه، فإن حلم أمير المؤمنين لا يضيق عن وقاحتك، فاستغفر لذنبك وارجع عن غيِّك.

قال: مه يا ابن زياد، لا تتوسط في استبقائي، ولا تذكروا حلمكم؛ فما لي حاجة إليه.

قال يزيد والغضب ظاهر في وجهه: قد كنا أجَّلنا قتلك إلى الغد لعلك تتوب وتندم على وقاحتك، فإذا أنت مستعجل أجلك، فاعلم أنك مقتول قبل أن تطلع شمس الغد. خذوه إلى السجن وأروني رأسه في الصباح.

ولما همُّوا بجرِّه إلى السجن قال شمر: فليأذن لي مولاي أن أقتله بيدي.

قال: اقتله وأتني برأسه غدًا، إلا إذا رجع عن غيه واستغفر ولعن أبا تراب.

فلما سمع عبد الرحمن ذلك جذب يده ممن كان ممسكًا به، وحوَّل وجهه إلى يزيد وقال: اقتلوني الآن عسى أن ألقى عليًّا وحُجْرًا على عجل، وإذا كان لا بدَّ من تأجيل قتلي فلا أرضى بالموت قبل أن أؤدي شهادتي على رءوس الملأ، فاعلموا يا بني أمية أنكم توليتم هذه الخلافة بغير الحق، وأخرجتموها من أهل بيت الرسول بالحيلة، وحاربتم من هو أحق بها من سائر المسلمين، ولم تفوزوا بها من دونه إلا لرغبتكم في الدنيا ورغبته في الآخرة، ولسوف تلقون عاقبة ما جنته أيديكم.

فانتهره ابن زياد قائلًا: أتقول ذلك جهارًا يا خائن؟

فالتفت عبد الرحمن إليه وصعد الدم في رأسه واشتد غضبه وتذكر ما افتراه زياد والده على عمه حُجْر حتى تمكن من قتله فقال: لا تذكر الخيانة؛ فما هي إلا من شأنك وشأن أبيك من قبلك، وليس في هذا المجلس أحد لا يعرف أباك زيادًا وأمه سمية، وكلهم يعرفون لماذا سمَّوه ابن أبيه. اذكر يا عبيد الله شهادة أبي مريم خمار المدينة، ألم يقل: إن جدتك سمية كانت بغيًّا من بغايا المدينة؟ هل وصلت أنت وأبوك إلى هذا المجلس إلا بفضل بغائها؟ وما في هذا الجمع من يجهل أن معاوية لم يستلحق زيادًا بنسبه ولم يرضَ به أخًا لأبيه إلا لاستخدامه في إيذاء أهل البيت، فإذا رضيت بهذا الاستلحاق فإنما هو شهادة على قذارة أصلك، وإن لم ترضه فأخبرني ما هو نسبك؟ أتزعم أني خائن؟! وهل الخائن إلا من عرف الحق وانحرف عنه طمعًا في الدنيا كما فعل أبوك وأمثاله، وكما فعلت أنت وأمثالك؟ فلا غرو إذا استغربت المجاهرة بانتصاري للحق، وهي شهادة حق أموت في سبيلها، وإذا مت فإن عظامي تنادي بها من أعماق القبر.

فضجَّ الناس، وتشوش المجلس، والكل معجبون بتلك الجرأة، ثم تقدم شمر إلى يزيد وهو يقول: إلى متى يصبر أمير المؤمنين على هذه الوقاحة. مُرني فأقطع رأسه في هذه الساعة.

فصاح فيه عبد الرحمن: اقتل، جرد سيفك، إنكم ما قتلتم من قتلتموه من أنصار الحق إلا بمثل هذا؛ تتكاتفون على الرجل عشرات ومئات، اقتل قتلك الله. ثم التفت إلى يزيد وقال: أتظنون قتل رجل مثلي يؤيد سلطانكم؟! وأشار إلى عمامته وقال: إن دون هذه العمامة ألوفًا من الرجال الصناديد سوف يذيقونكم مرارة ما جنته أيديكم، إن سلطانكم يا ابن معاوية لم يؤيَّد إلا بالحيلة؛ أطمعتم الناس بالدنيا فنصروكم، واستلحقتم زيادًا بنسبكم، وأطمعتم ابن العاص بمصر فنصركم، ولولاه ما بقيتم بعد وقعة صفين يومًا واحدًا، ولولا فعلته بالأشعري في مجلس التحكيم لم تقم لكم قائمة، ولكن دهاء معاوية غلب دهاءه فاستخدمه في مصلحته، فأطعمه مصر وأكل هو الشام وغيرها، ولكنها لقمة لن تهضموها، وسوف ترون ونرى.

وقبل أن يتم كلامه قال يزيد: خذوه إلى السجن وأتوني برأسه في الغد باكرًا. قال ذلك وهو يضحك مستخفًّا، فساقوه، فمشى وهو يرسف في قيوده بخطوات ثابتة، ولا تسل عمَّا أصاب سلمى؛ فقد أخذها الاضطراب والجزع واغرورقت عيناها رغمًا عنها، ولكنها فرحت بما أبداه عبد الرحمن من الأنفة والجرأة، فلما خرج من المجلس انخلع قلبها، وتعاظم قلقها. عادت إلى ثباتها وعللت نفسها بقتل يزيد في ذلك المساء قبل أن يقتل خطيبها، وكانت إلى تلك الساعة تتهيب جريمة القتل لغلبة غريزة النساء عليها، فلما سمعت ما دار بينهم وبين عبد الرحمن هان عليها كل أمر، واشتد بها الهياج.

وبعد هنيهة دخلت العجوز ووراءها جماعة يحملون آنية الطعام والشراب، فمدوا السماط ووضعوا فوقه الآنية من الذهب والفضة، وفيها الدجاج المشوي وأنواع اللحوم والحلوى والفاكهة، وصُفَّت الأقداح، فتظاهرت سلمى بأنها استيقظت لتوِّها، ثم رفعت الغطاء عن رأسها فوقع نظرها على ذلك السماط وعليه أنواع الأشربة وألوان الطعام، ورأت بجانب السماط طنبورًا فتذكرت ما كانت تسمعه عن اشتغال يزيد بشرب الخمر وضرب الطنابير.

أما العجوز فلما رأتها ترفع الغطاء عن رأسها تفرَّست فيها فرأت وجهها قد زاد احمرارًا وتوردت وجنتاها، وازدادت هيبة وجمالًا، فأسرعت إليها وقبلتها بين عينيها وقالت: هنيئًا لأمير المؤمنين متى فاز بمثل هذه القبلة، وهنيئًا لك ما ستحوزينه من المكانة الرفيعة عنده.

فظلت سلمى ساكتة ولم تُبدِ حراكًا، فظنتها لا تزال تشكو الصداع فقالت لها: كيف تشعرين الآن يا بنية؟

قالت: إني أحسبني أحسن قليلًا.

قالت: وسيزول بقية الألم متى جلس الخليفة إلى جانبك الليلة وسمعت ضربه على هذا الطنبور، فإننا قد أعددنا لك كل شيء بأمره.

ولم تتم كلامها حتى فاحت رائحة البخور، وسمعت وقع أقدام خفيفة خارج الغرفة، فتحركت في فراشها، فقالت لها العجوز: لا تجزعي يا حبيبتي، إن الخليفة لم يأتِ بعدُ، وأما الذي تسمعين وقع أقدامه فهو رجل يحمل البخور، سيضع مبخرته هنا ويعود، فأرخت سلمى خمارها على رأسها ونظرت من خلاله إلى القادم فإذا هو رجل عليه قباء من الأطلس الأحمر وعلى كتفه كساء أصفر مزركش، وعلى رأسه شاش وعلى كتفه الأخرى مخلاة من الحرير الأخضر ملآنة بالعود، وفي يده مبخرة من الذهب الأحمر فيها نار يلقي فيها من العود فيتصاعد منها الدخان حتى ملأ المكان برائحة العود، ثم وضع المبخرة بباب المقصورة وكرَّ راجعًا بينما اشتغلت العجوز بوضع الوسائد حول تلك المائدة، وأتت بقوائم من الذهب مغروس في رءوسها وجوانبها شموع فيها الأبيض والأحمر والأخضر، وأوقفتها وسط السماط ولم تشعلها لأن الليل لم يقبل بعد.

كل ذلك وسلمى مستكنَّة في الفراش غارقة في الأفكار والهواجس، وهي ترجو ألا يحضر مجلسهم تلك الليلة أحد غير يزيد.

ولما غابت الشمس همَّت العجوز بالشموع فأنارتها فأضاءت الغرفة، ولبثت في انتظار يزيد، وكانت العجوز تتوقع قدومه قبل الغروب، فلما غابت الشمس ولم يأتِ استبطأته فقالت لسلمى: يظهر أن مولانا الخليفة قد شُغل عنا، وأنا لا أظن في الدنيا شيئًا يشغله عن هذا المجلس، فأوجست سلمى خيفة من سبب تأخره وحسبت لذلك ألف حساب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤