تصدير

تساعدنا فكرة الثورة التكنولوجية على تحديد وتفسير ظاهرة من أهم ظواهر الحياة المعاصرة، وتتمثل هذه الظاهرة في واقعِ أننا، في القرن العشرين، نعيش غِمار عملية تغير عميقة ومتصلة. وتختلف هذه العملية عن التغير الدوري للفصول أو عملية الشيخوخة الطبيعية، إنها على الأصح عملية تغير في ظروف الحياة، إذ أصبحت الحياة عملية تحول دائم ومُطَّرِد. وهذا من شأنه أن يزيد من صعوبة فهم الكيفية التي كانت عليها الحياة في عصور سابقة — وهي الشطر الأكبر من خبرة البشر — ولم تشهد هذا النوع من التغير السائد الآن. وكانت القوةُ الدافعة لعملية التغير هذه التجديداتِ التي طرأت على مصادر القوة في صناعة التقنيات وفي وسائل النقل والاتصالات، أي بكلمة واحدة: في التكنولوجيا. والشيء اليقيني أن عملية التغير التكنولوجي اطَّردت زمنًا طويلًا جدًّا منذ أن صارع الرجال والنساء الأوائل من أجل الاستفادة من بيئاتهم، واكتسبوا المزيد والمزيد من قوة الدفع على مدى آلاف السنين. ولكن قوة الدفع هذه تسارعت خلال القرون الثلاثة الأخيرة على نحو غير مسبوق، وترتبت على هذا تحولات بعيدة المدى في ظروف الحياة الاجتماعية والإنسانية بعامة، بحيث يمكن القول إنه بات جديرًا بنا النظرُ إلى العملية كلها معًا وفي شمولها باعتبارها تمثل ثورة تكنولوجية.

وعلى الرغم من أهمية التكنولوجيا في العالم الحديث، فإن أي محاولة لدراستها دراسة فاحصة يغلب عليها طابع التعقد والتقنية المفرطة في تناول موضوعها مما يشوشها ويزيدها التباسًا وغموضًا. ولم يكن يسيرًا خلال القرن الثامن عشر أن نفهم كيف كانت الآلة البخارية تعمل، كذلك فإن العاملين في مجال السكرتارية في عصرنا مهما كانت براعتهم في التعامل مع أجهزة الكمبيوتر الشخصية فإن قليلين جدًّا منهم هم الذين يتمتعون بقدر وافٍ من فهم طريقة عمل هذه الأجهزة. ولقد استطاع الإنسان السيطرة على خصائص الكهرباء والطاقة النووية، وعلى التفاعلات الكيميائية المعقدة، ولكن الملاحظ أنه حتى العلماء الذين أَلِفوا العمل بهذه المفاهيم يجدون صعوبة في التعبير عنها بعبارات يمكن أن يفهمها الإنسان العادي. ونعرف أن صورة «الصندوق الأسود» أضحت رمزًا شائعًا لأسطورة تكنولوجية؛ إذ يمثل لغزًا سحريًّا للقدرات التكنولوجية على أداء أعمال لمصلحتنا جميعًا، ويتعين الركون إليها. وأشهر أنواع «الصندوق الأسود» هو ذلك الذي تحمله الطائرات العاملة على الخطوط المدنية، ويُجري تسجيلًا متصلًا لقراءات آلات تشغيل الطائرة بصورة مضمونة، ويمكن استعادتها. وهكذا يتيسر لنا الحصول على المعلومات الأساسية اللازمة في حالة وقوع حادثة أو كارثة. ولكن هذا السر نفسه يصدق أيضًا بالنسبة لساعة اليد الرقمية التي تبين الوقت بدقة متناهية، وتعمل ببلورة من الكوارتز، وبطارية صغيرة جدًّا، ومادة كرستالية سائلة تعرض لنا الأرقام.

إن هذا الإحساس بما تنطوي عليه التكنولوجيا من سر غامض إنما ينبع من تعقد ما تنطوي عليه من تقنيات، ولكنه إحساس يستمر ويَطَّرِد جزئيًّا بسبب رغبة الكثيرين من البشر في النظر إلى الموضوع في جملته وشموله باعتباره سرًّا باهرًا ومروعًا. حقًّا إن الأمر يتجاوز صلاحياتي وقدراتي إذا ما أردت الكشف عن أسرار التكنولوجيا الحديثة، ولكن من الممكن مع هذا أن أعمد إلى كشف قدر مما تنطوي عليه من طابع أسطوري ملغز، وبذا نتغلب على العوائق التي تحول دون الكثيرين والشعور بالألفة والتوافق مع التكنولوجيا. صفوة القول أن موضوع هذا الكتاب هو بيان وتفسير الطريقة التي أثرت بها التكنولوجيا في الحياة في العالم الحديث، ومن ثم نصل إلى نوع من الفهم لإمكاناتها وأخطارها. إننا مضطرون جميعًا للعيش مع التكنولوجيا وبها، ومن ثم فمن الأفضل لنا أن نعرف شيئًا ما عنها بدلًا من أن نقضي حياتنا جاهلين أو خائفين من شيء بالغ الأهمية لرفاهتنا.

وقد مضى هذا الكتاب بفترة حمل طويلة الأمد، ويمثل ذروة تطور العديد من الخطوط التي تلاقت معًا، فكان هناك في المحل الأول انخراطي زمنًا طويلًا في دراسة تاريخ التكنولوجيا في جامعة باث Bath، وكذلك في منظمات وهيئات قومية ودولية مختلفة، وإنني مَدين بوجه خاص لذلك الدافع الذي ظل يحفزني على مدى السنين من قِبَل زملائي في جمعية نيوكومن البريطانية British Newcomen، والجمعية الأمريكية لتاريخ التكنولوجيا American Society for the History of Technology (SHOT)، واللجنة الدولية لتاريخ التكنولوجيا Inter Committee for the History of Tech. (ICOHTEC)، إذ وضعتني هذه الجمعيات على خط التَّماسِّ المباشر مع طائفة تتزايد باطراد من الباحثين والأخصائيين الممارسين الذين عايشوا وعاينوا سحر تاريخ التكنولوجيا، وما فَتِئ هؤلاء يحثُّونني ويشجعونني على المُضي قُدمًا بأبحاثي داخل المركز المعنيِّ بتاريخ التكنولوجيا Center for the History of Technology، والذي أسسته العام ١٩٦٤م داخل الكلية التي سرعان ما تحولت وأصبح اسمها جامعة «باث».
ثم كان انخراطي في مجال الأركيولوجيا الصناعية، وهو ما أسهم إسهامًا حقيقيًّا في وضع الشكل العام لهذا الكتاب؛ ذلك أن الكتاب، بمعنًى من المعاني، بدأ كمحاولة لتحديث كتابي الناجح «أركيولوجيا حضارة الصناعة في بريطانيا»، الذي صدرت طبعته الأولى ضمن مجموعة بليكان العام ١٩٧٢م، ثم صدرت طبعته الثانية العام ١٩٨٢م، وكنت معنيًّا أشد العناية بموضوع تطور أركيولوجيا حضارة الصناعة في بريطانيا، ومن ثم أصبحت الرئيس الثاني «لاتحاد أركيولوجيا حضارة الصناعة» Association for Industrial Archaeology (AIA)، ويعكس كتابي السابق التزامي هذا. ولكن على الرغم من أن الدراسة الراهنة بدأت بفكرة إعداد طبعة جديدة من كتاب «أركيولوجيا حضارة الصناعة»، فإنه سرعان ما بدا واضحًا لي بجلاء أن من الملائم أكثر أن أنتهز الفرصة وأتطلع إلى ما وراء البقايا الفيزيقية المتخلفة عن التطورات التكنولوجية (وهي الاهتمام الحقيقي ﻟ «أركيولوجيا حضارة الصناعة»)، وأن أدرس، من خلال عملية استقصائية جديدة تمامًا، العلاقاتِ بين التكنولوجيا والمجتمع.

وكانت هناك تلك الحاجة المثيرة للملل، وهي إعداد صفوف دراسية لمقرر «التكنولوجيا في العالم الحديث»، ووَضَع هذا العمل في بؤرة الاهتمام أمامي العديد من القضايا المهمة ذات الطبيعة التاريخية والبيئية، وجعلني هذا أفكر في الموضوع من خلال بعض جوانب الثورة التكنولوجية، وهو ما لم أفعله من قبل. وأشعر في هذا الصدد بالامتنان إزاء أولئك الطلاب الذين عكفوا على دراسة الموضوع معي، كما أشعر بالامتنان لمجموعة من زملائي، ومن الطلاب الباحثين، ومن الزملاء الزائرين والسابقين، الذين ساعدوني في وضع أساس مَكِين لدراسة تاريخ التكنولوجيا في جامعة باث، في الوقت الذي طرأت فيه تطورات أخرى جعلت من غير الملائم بحثَ أي تطور جوهري في الدراسات التاريخية.

والجدير ذكره أن خبرتي في تعليم طلاب لديهم معرفة سابقة ضئيلة عن التكنولوجيا، كان لها تأثيرها في اتخاذ قرارين محددين فيما يختص بشكل هذا الكتاب؛ أولهما: أن أَحُد من عدد المراجع الواردة في المتن، وهو ما لا يتم عادةً إلا عندما يكون الاستشهاد المباشر ملائمًا، وأن أَعمِد بدلًا من ذلك إلى وضع جميع ملاحظاتي وإشاراتي المرجعية «الببليوجرافية» مقترنةً بعناوين هذه المراجع في ختام المتن. والقرار الثاني: أن أُضَمِّن الكتاب بعض الرسوم التوضيحية التي رأيت أنها ذات فائدة كعوامل مساعدة تعليمية. وأود أن أؤكد، وأنا بصدد تنفيذ ذلك، أن هذه الأشكال — في تمايز عن تلك الأشكال المعتمدة على مصادر إحصائية — إنما هدفها فقط إعطاء «صورة» بصرية توضح الموضوعات الصعبة، وأرجو ألا ينظر إليها القارئ باعتبارها متضمنة أي خصائص وصفية محددة. وإني مَدين كعادتي دائمًا بالشكر، فيما يتعلق بالرسوم الواردة في الكتاب، للسيد كولين ويلسون الذي يعمل مصورًا فوتوغرافيًّا بجامعة باث، إنني أشعر بالامتنان له لشجاعته، إذ بذل الجهد في التعامل مع رسومي المطبوعة أو المرسومة على ورق شفاف. وأتوجه بالشكر أيضًا إلى جميع من أذنوا لي باستنساخ الصور الفوتوغرافية المبينة في قائمة الرسوم والجداول، وأتوجه بالشكر كذلك إلى إيلين موري؛ لما بذلته من جهد وما تحملته من مشاقَّ في سبيل مساعدتي كسكرتيرة، وأيضًا إلى المسئول عن مكتبة الجامعة والعاملين معه؛ لاهتمامهم بي حين سألتهم المساعدة.

وأخيرًا أتوجه بالشكر إلى زوجتي بريندا بوكانان على كل ما قدمته لي من عون ومساندة في سبيل إنجاز وتنفيذ فكرة هذا الكتاب على مدى سنوات. وسبق أن أهديتها في العام ١٩٦٥م كتابي الأول «التكنولوجيا والتقدم الاجتماعي»، وأهديت ابنَيْنا أندرو وتوماس كتابي أركيولوجيا حضارة التصنيع في بريطانيا. وحدث هذا في وقت كان جُل عملي بمنزلة نتاج لمشروع أسري شأن اختيار العطلات والنزهات. والآن وقد استقر هذان الفَتَيان فيما اختاراه لنفسيهما من عمل في الحياة فقد ألفيت نفسي أنا وزوجتي وقد عدنا مرة أخرى يعتمد أحدنا على الآخر بغية إنجاز أي تعليق أو تقييم دراسي علمي؛ ولهذا فإنني أهديها كتابي هذا مع عرفان عميق بالجميل.

آر إيه بوكانان
جامعة باث

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤