الفصل العاشر

المرافق: المباني والجسور والخدمات

التحول في مجالات الإنتاج الصناعي والنقل والاتصالات — شأن التحول في مصادر القوى المحركة التي يسَّرتها التكنولوجيا — تميز بأنه عملية تطور تراكمي، بحيث إن كل ابتكار جديد إنما نشأ عن تكنولوجيا نضجت واستقرت. ويمكن لمثل هذه التكنولوجيا المهيمنة أن تحفز إلى نقلات جديدة بفضل كلٍّ من إنجازاتها، وأيضًا أوجُه قصورها، وتُقدِّم أيضًا نماذج وسوابق لتطورات جديدة، وتشجعها عن طريق الكشف عن أسواق محتملة لها. ولم تكد أي تكنولوجيا جديدة تبلغ غاية نضجها حتى تتخلص من تبعيتها لسوابقها، وتُولِّد نمطها الخاص للتشغيل والعمل واستجابات السوق بصددها. ويمكن لنا أن نلحظ العملية ذاتها سارية المفعول في التجهيزات الأساسية التكنولوجية، مثل المباني وإمدادات المياه وغيرها من مرافق توفر الخدمات العامة الأساسية، وهذه جميعها هي جزء من الكون الأكبر للتكنولوجيا الحديثة، وهو ما سوف نَعرِض له في هذا الفصل.

تُعتبر المباني المنتج الأولي لأي مجتمع يطمح إلى زيادة أسباب رخائه. إنها ضرورية لراحة السكان، ولتوفير الحماية للعمليات الصناعية وللماكينات، فضلًا عن ضرورتها لأغراض الدفاع والثقافة. وتُعتبر المباني من حيث وجودها ونوعها بيِّنة رائعة تعتمد عليها أي دراسة أثرية على أي مجتمع لتحديد مستوى التطور التكنولوجي للمجتمع. وكان المبنى في المجتمعات الأولى يُصنع عادةً من الخشب والخُث والطين، والحجر السائب؛ ولهذا كان عمره قصيرًا، ولكن عَرَفت المجتمعات تدريجيًّا تقنيات صناعة الطوب، وبدأ تشييد المباني بأشكال بنائية جيدة، على نحو ما تشهد آثار الأزمنة القديمة في حضارة الإنكا في جبال الإنديز في أمريكا الجنوبية كمثال؛ إذ توضح هذه الآثار كيف أن بناتها امتلكوا ناصية هندسة البناء وصناعة الأحجار. والملاحظ أن عمال البناء بالأحجار اعتادوا تجنُّب الصخور الصلبة مثل الجرانيت، وفضَّلوا عليها الحجر الرملي والحجر الجيري لسهولة تشكيلهما. وهذه هي الأحجار التي بُنيت بها الكاتدرائيات العظيمة والقلاع العتيدة، ولكن الملاحظ — كقاعدة عامة — أنهم اضطُروا إلى استخدام مواد في متناول أيديهم؛ ذلك لأنهم كانوا يعيشون في عصر حركة نقل بدائية وضعيفة؛ لذلك كان نقل الأحجار عبر أي مسافة طويلة أو قصيرة عملية شديدة البطء ومجهدة للغاية.

وخفَّف من الاعتماد على المواد المحلية تطوران تكنولوجيان؛ أحدهما: التوصل إلى طرق مُحسَّنة في مجال النقل، خاصةً طريقة النقل المائي، والثاني: انتشار تقنيات صناعة مواد بناء اصطناعية، مثل الآجُرِّ والقرميد والزجاج. والمعروف منذ قديم الزمان أن الآجُرَّ يُصنع من طين محروق؛ إذ كان هكذا يُصنع في حضارة ما بين النهرين. لا تزال هذه الطريقة مُتبَعة في بلدان كثيرة، من بينها الصين. وابتدع الرومان طريقة القمائن لحرق الطوب حرقًا كاملًا ليكون أشد صلابة وأكثر تحملًا للبقاء طويلًا. وأَحْيت الحضارة الغربية خلال العصور الوسطى هذه التقنيات، بحيث زاد الاعتماد على الآجُرِّ والقرميد، خاصةً في بناء منازل المدن، ونُظِّمت عملية صناعة الآجُرِّ والقرميد، شأن عمليات أخرى كثيرة، على أساس صناعي وآلي في القرن التاسع عشر. وكنتَ ترى قمائن حرق الطوب مشتعلة على الدوام لإنتاج كميات هائلة من الطوب الجيد، ليستعمله البناءون في القرن التاسع عشر لبناء المنازل والمصانع ودور العبادة والمباني العامة. ومع تحسُّن مرافق النقل إثر انتشار السكك الحديدية تركَّز إنتاج الطوب في المناطق التي يتوافر بها أجود أنواع الطَّفْل، علاوة على سهولة الوصول إلى الأسواق الرئيسية.

وتَضرِب صناعة الزجاج أيضًا بجذورها في العالم القديم، ولكنها لم تصبح متاحة بكميات وفيرة إلا في القرن السادس عشر لتوفير مستلزمات نوافذ المنازل. وأَحْيت البندقية (فينيسيا) في أوروبا الغربية تقنيات صناعة زجاج «البِلَّور أو الكريستال» ذي النوعية الراقية، مثلما أحيت صناعة أنواع زجاج أكثر بساطة خاصة بمستلزمات النوافذ وصناعة القوارير الزجاجية. وانتشرت هذه الصناعة من البندقية إلى بلاد الفلاندرز ثم إلى إنجلترا. وكانت المواد الأساسية اللازمة لصناعة الزجاج — وهي الرمل والخشب كوقود — متوافرة على نطاق واسع، ولكن أصبحت العوامل المحلية الرئيسية هي البحث عن أسواق متنامية، وتوافُر الحرفيين المَهَرة. واستطاع الصناع الإنجليز أن يطوروا مصنعًا مخروطي الشكل متميزًا، بحيث يكون الفرن في الوسط مع أواني الزجاج المصهور، ومن حوله ولكن على مسافة بعيدة عمال نفخ الزجاج لممارسة عملهم الماهر. وأصبحت هذه العمليات جميعها خلال القرنين الأخيرين عملية آلية لإنتاج الزجاج بكميات كبيرة. وتجري الآن عملية حديثة هي صناعة الزجاج «العائم»، حيث تتشكل ألواح الزجاج فوق حمام من القصدير المذاب. وتحتاج هذه العملية إلى التحكم الحذر في الظروف المحيطة، وأن تتم داخل وعاء محكم الغلق.

ولا شيء يعادل الحديد أهمية من بين جميع المواد التي حولت تقنيات البناء الحديث. إن الوفرة النسبية للحديد، خاصةً في صورة حديد زهر، أصبحت قَسَمة مميزة للحضارة الغربية بعد تطبيق نظام الفرن العالي في التكنولوجيا الأوروبية خلال القرن الخامس عشر. وسبق أن اقترحنا على سبيل المماثلة من حيث التمايز الأركيولوجي بين العصرين الحجري القديم والحديث؛ أن من المعقول اعتبار هذا الابتكار علامة مرحلة جديدة في التحول من عصر الحديد القديم، حيث كان إنتاج الحديد في كتل مطروقة صغيرة في حجم كرة القدم، وتُستخدم في صناعة الأسلحة والأدوات المهمة، إلى عصر الحديد الحديث حيث إنتاج الحديد الصلب بواسطة الأفران العالية بكميات كبيرة، ومن ثم أقل تكلفة. وهكذا أصبح بالإمكان استخدامها لأغراض يومية أكثر كثيرًا مما كان في السابق. وهكذا أضحى الحديد يقينًا مادة بناء مهمة جدًّا في القرن الثامن عشر، وإن لم يكن — إلا نادرًا — قَسَمة خارجية مميزة للبناية، سواء من حيث الهيكل أو كسوته الظاهرة. وتجلَّى الحديد بأثره الفذ في إحدى البنايات، وهي القصرالبِلَّوري المبني العام ١٨٥١م؛ إذ صُنع إطاره العام من أعمدة وعوارض من الحديد الزهر طبقًا لنموذج المعهد الموسيقي الذي بناه سير جوزيف باكتون في شاتسورث هاوس. وهناك عدد من الكنائس والدور العامة التي بُنيت بالكامل بطريقة تجميع قطاعات الحديد الزهر. والجدير ذكره أن مؤسسة واحدة على الأقل في بريستول نهضت بتجارة مزدهرة، ألا وهي تصدير مبانٍ سابقة التجهيز إلى المستعمرات.

ولعل الأهم من ذلك هو استخدام الحديد في صناعة الإطار العام للمباني لتكون ضد الحريق، وذلك بتجنُّب استخدام جميع المواد القابلة للاشتعال في أعمال التشييد. وبدأ تطبيق هذا النوع من التصميمات في أواخر القرن الثامن عشر، ثم اتسع نطاق استخدامه لمصانع النسيج وغيرها من المباني العامة الكبرى. وأهم القَسَمات المميزة لهذه المباني إطار عام من أعمدة الحديد الزهر، وعوارض مكسُوَّة بالآجُرِّ أو الطوب، وأقواس من الطوب تصل ما بين العوارض التي تحمل السقف. ولم يكن الخشب مستخدمًا — إذا ما استُخدم — إلا لعمل عوارض السقف؛ إذ كانت أُطر النوافذ هي الأخرى مسبوكة من الحديد، ولكن على الرغم من كل هذا الحذر حدث أن اشتعلت النيران في بعض هذه المباني بسبب العمليات والمواد التي تشتمل عليها. مثال ذلك أن المواد الخام والألياف النسجية والماكينات التي تعمل بالزيت لجمع القمامة، وتُولِّد حرارة احتكاكية كانت دائمًا معرَّضة لأخطار الحريق، بيد أنه من الملاحظ في تشييد المباني الكبرى أن استعمال الحديد الزهر بقصد تقليل الأخطار إلى أدنى حد ممكن قدَّم إسهامًا فعالًا ضمانًا للأمن العام. ويكفي أن بعض المصانع المبنية على أساس مقاومة الحريق مع بداية هذه المرحلة لا تزال قائمة كما هي سليمة تمامًا.

وعندما تجاوز الفولاذ إنتاج حديد الزهر باعتباره المنتج الأكثر وفرة في مجال صناعة الحديد؛ أصبح هو المادة المتاحة لصناعة الأُطر العامة للمباني، مثلما كانت الحال في صناعة مسارات السكك الحديدية وبناء السفن. ونظرًا لأن الفولاذ أقوى من الحديد الزهر وأقل هشاشة بات اقتصاديًّا أكثر في صناعة الهياكل الكبرى، وهكذا بدأ عصر ناطحات السحاب. وظهرت في شيكاغو أول بناية شاهقة الارتفاع وذات هيكل فولاذي قرب نهاية القرن التاسع عشر. وأصبح هذا الأسلوب على الفور هو الشائع في المدن الأمريكية. وبدأت بلدان العالم الغربي في تطبيقه ولكن بدرجات مختلفة من الحماسة؛ نظرًا لأن مُدنًا كبرى عريقة، مثل باريس، قاومت إقحام طراز غريب عليها، ولكن الشيء المثير واللافت للنظر أن باريس هي التي طبَّقت نظام الهيكل ذي العوارض المصنوعة من الحديد المطاوع — برج إيفل العام ١٨٨٩م — ليكون قَسَمة مهيمنة لأفق المدينة.

وتزايد استخدام الحديد الآن في تلازم مع الأسمنت في صورة الخرسانة المسلحة التي تمتد بداخلها أسياخ الحديد وسط كتلة من الأسمنت، أو في صورة ما يُسمى خرسانة سابقة الإجهاد، حيث تُشيَّد أسياخ الحديد بجهد عالٍ ثم تُبيَّت داخل الأسمنت. ويساعد استخدام هذه المواد على خفض نسبي في مجمل ثقل الهيكل، علاوة على ما يقابل هذا من مزيد من رشاقته.

وقبل شيوع استخدام الحديد كعنصر أساسي من عناصر البناء؛ استُخدم الحديد في تشييد أول جسر حديدي أُقيم عبر نهر سيفرن قرب كولبروك دال في شروبشاير، وأشرف عليه إبراهام داربي العام ١٧٧٩م. وامتد العمر بهذا الجسر، وبقي ليصبح واحدًا من أهم المعالم الأثرية الصناعية في العالم. والجدير ملاحظته أن المسئولين عن بنائه — شأن ما يحدث في جميع الابتكارات المذهلة — عملوا في حدود التقنيات المعروفة؛ قطاعات الحديد الزهر تُجمع وتُركَّب مع بعضها كأنها قطعة من أعمال النجارة، وتُعطَى شكل القوس شبه الدائري التقليدي في البناء. واتجهت أوروبا آنذاك إلى تحويل الجسور المبنية على شكل قوس إلى شكل آخر عبارة عن مقاطع مستعرضة إهليلجية رقيقة. ونجد مثالًا على هذا في الجسر الذي شيَّده توماس تلفورد عبر نهر سيفرن ذاته عند منطقة جلوشستر، ولكن مُبتكري جسر كولبروك دال ارتضوا الشكل التقليدي للجسر الحديدي الذي شيَّدوه، شأنهم في هذا شأن بناة الجسور الأوائل. وسرعان ما أصبح واضحًا أن العوارض الحديدية جعلت من القوس شيئًا زائدًا عن الحاجة. وتبيَّن في منتصف القرن التاسع عشر أن استخدام عوارض الحديد الزهر يجعلها غير آمنة عند استخدامها لصناعة جسور السكك الحديدية؛ ولهذا سرعان ما حلت محلها عوارض مُركَّبة، هي شبكة من أجزاء الحديد المطاوع. وأدى انتشار خطوط السكك الحديدية إلى حدوث زيادة كبيرة في صناعة هذا الطراز من الجسور الحديدية في جميع أنحاء العالم.

وظهر في هذه الأثناء، خلال القرن التاسع عشر، طراز آخر من الجسور للامتدادات الطويلة والمعروفة باسم الجسور أو الكباري المُعلَّقة. ونجد سوابق قديمة ومعمرة لهذا النوع من البناء في الصين أو في غيرها، ولكن بناء كوبري مُعلَّق بسلاسل من الحديد المطاوع هو ابتكار عشرينيات القرن التاسع عشر، نُفِّذ لأول مرة العام ١٨٢٦م بالنسبة إلى كوبري تلفورد الممتد من طريق هولي هيد عبر مضايق ميناي، ويصل إلى فتحة أنجليزي Anglesey. وواصل المهندسون البريطانيون عمليات بناء الكباري المُعلَّقة بسلاسل متعددة المسافات الفاصلة بين الدعامات (الباكيات) عبر نهر الدانوب في بودابست، وعبر نهر الدنييبر في كييف. وفي العام ١٨٥٥م استخدم المهندس الأمريكي جون رويبلنج الكابل الفولاذي المغزول بدلًا من سلاسل الحديد المطاوع المستخدمة في الكباري المُعلَّقة السابقة، ونفَّذ ذلك في بناء كوبري عبر مضيق نياجارا. وعقب ذلك أشرف هو وابنه واشنجطون على بناء كوبري بروكلين عبر إيست ريفر في نيويورك. وتميَّز هذا الكوبري بأن طول المسافة الفاصلة بين الدعامات، أو بين «الباكيات» هي ٤٧٠م (بينما هي ٢١م في كوبري كولبروك دال، و١٨٠م في كوبري ميناي)، واكتمل البناء العام ١٨٨٣م بعد عمل استمر أربعة عشر عامًا. وشاع استخدام الكابل الفولاذي في جميع الكباري المُعلَّقة الضخمة التي شُيِّدت بعد ذلك، مثل كوبري جولدن جيت في سان فرانسيسكو (طوله ١٢٨٠م واكتمل العام ١٩٣٣م)، وكوبري هامبار (طوله ١٤١٠م واكتمل العام ١٩٧٨م)، والكوبري الياباني أكاشي-كيكو (طوله ١٧٨٠م واكتمل العام ١٩٨٨م). واستُخدم أيضًا في طراز كابل التثبيت للجسر؛ حيث تُثبَّت منصة الكوبري بكابلات خارجة متشعبة من برج مركزي. وشاع هذا الطراز خلال العقود الأخيرة بالنسبة لكثير من الكباري ذات الامتدادات القصيرة بين الدعامات.

واستُخدم الحديد والفولاذ بوسائل أخرى غير هذه في تشييد الكباري؛ إذ كان الرأي السائد أن الكباري المُعلَّقة ليست قوية بما يكفي لتصلح معابر للسكك الحديدية، غير أن الحاجة المُلحَّة لإنشاء كباري أطول وأضخم صالحة لمرور قاطرات السكك الحديدية كانت حافزًا لتجربة تصميمات جديدة. وأول هذه التجارب هي التجربة المعروفة باسم كوبري العارضة الصندوقية، وهو عبارة عن نفق أسطواني من الحديد المطاوع على مدى مسافتين فاصلتين بين الدعامات. وأنشأ هذا الكوبري روبرت ستيفنسون العام ١٨٤٩م ليحمل قطاره الحديدي عبر مضايق ميناي التي تبعد ميلًا عن نقطة عبور جسر تلفورد. وأعدَّ التصميمَ وليام فيربيرن بناءً على حسابات دقيقة، وفي ضوء نماذج خضعت لاختبار جيد لعوامل التدمير. ويسير القطار، حسب هذا التصميم، عبر نفق أسطواني وليس فوقه كما أصبح شائعًا في جسور العوارض الصندوقية الحديثة. وإذا كان جسر بريتانيا هو أول جسر اعتمد بالكامل على الحديد المطاوع، فإن جسر فوث للسكك الحديدية المبني العام ١٨٩٠م كان أول جسر يستخدم الفولاذ، وكان أيضًا أول جسر نصف مُعلَّق، أو ما يسمى قنطرة كابولية؛ حيث يتألف مَعبَر العربات من ثلاثة أبراج ضخمة داعمة. والجدير ذكره أن المهندسَين المشرفَين على التصميم، وهما جون فولار وسير بنيامين بيكر ساورهما قلق شديد بسبب كارثة انهيار أول جسر أشرفا عليه، وهو جسر تاي، العام ١٨٧٩م. وكان هذا الجسر مشيدًا من سلسلة عوارض متشابكة من الحديد المطاوع، ومُركَّبة على أعمدة من الحديد الزهر. وأثبت أنه غير ملائم لتحمل ضراوة العواصف عند مصب النهر، حتى إن عاصفة دفعت بعدد من هذه العوارض مع قطار كان يعبر الجسر آنذاك. وهكذا حرص المهندسان المشرفان على جسر نورث أن يكفلا أكبر قدر ممكن من الصلابة في التصميم الجديد. وأثبت الجسر بالفعل قدرة كبيرة على التحمل.

وتأثر تصميم الكباري، شأن تصميم المباني، تأثرًا كبيرًا بتقنيات الجمع بين الفولاذ والأسمنت. وشاع التجهيز المسبق لوحدات كبيرة من الخرسانة سابقة الإجهاد لتجميعها بعد ذلك في موقع البناء. واستحدث هذه التقنيةَ المهندسُ الفرنسي أيوجين فريسينيه، التي أفادت في إبدال كثير من الجسور التي دُمِّرت في أثناء الحرب العالمية الثانية. وشاع بعد ذلك استخدام الخرسانة سابقة الإجهاد لبناء جسور لها المقاييس المعيارية ذاتها الممتدة عبر شبكة الطرق الدولية للسيارات. وعلى الرغم من أن هذه الجسور لم تحظَ باهتمام واسع للعمل ككباري، فإنها يسرت للطرق السريعة الحديثة سبل اختراق المدن دون حاجة إلى إزالة مبانٍ إلا في أدنى الحدود الممكنة، ولكن زاد نطاق إقحامها على بيئة الحضر زيادة كبيرة، كما أن حجم حركة المرور المترتبة عليها آثار مشكلات جديدة بالنسبة لشبكات الطرق البرية التي أضحت مزدحمة بما يفيض عن طاقتها.

fig32
شكل ١٠-١: الكباري الكبرى في العالم – مقارنة من حيث اتساع الامتدادات الفاصلة بين الدعامات (الباكيات).
والمعروف أن الخبرة الطويلة في مجال استخراج المعادن والفحم خلقت أُلفة مع تقنيات إنشاء الأنفاق والحفر العمودي للآبار، وهذه الخبرة لها سوابق قديمة في حضارة ما بين النهرين، حيث حُفرت هناك أنفاق لتوصيل المياه ولأغراض الري الأخرى، ولكن إنشاء الأنفاق لم يحظَ باهتمام كبير في ارتباطه بتكنولوجيا النقل إلا في العصر الحديث؛ إذ استُخدمت الأنفاق امتدادًا للطرق البرية، ومَعبرًا للقنوات المائية، ولحركة النقل والمرور عبر الجبال وتحت سطح الماء. وكانت أول أنفاق استُخدمت كقنوات مائية هي تلك التي كانت امتدادات لمناجم الفحم، مثل القناة المُسمَّاة بريدج ووتر الممتدة عبر المصانع التابعة لمنشآت مناجم الفحم في يوورثلي شمال مانشستر. وجَرَت هنا جميع عمليات الحفر يدويًّا، ولكن بُطِّنت الأنفاق بالآجُرِّ لضمان تثبيتها واستقرارها. وجاءت أول خطوة في سبيل الحفر الآلي للأنفاق العام ١٨٢٥م، عندما بدأ مارك أيزامبارد برونيل في أعمال حفر نَفَقه تحت نهر التايمز، والذي يصل بين وابنج وروذرهايث، وهذا هو أول نفق تحت الماء في العالم. ونظرًا لأنه يجري عبر منطقة طَفْلية في لندن، فإن جميع المهارات الخاصة بالصخور الصلبة التي يجيدها عمال المناجم التقليديون لم تفد شيئًا هنا. وعكف برونيل على دراسة هذه المشكلات ووَضْع حل لها، واستلهم خبرة أو طريقة خنفساء الخشب المعروفة باسم تيريدو نافاليس Teredo Navalis التي تُلحِق الدمار بسفن الأسطول المصنوعة من الخشب؛ إذ تأكل هذه الحشرة القدر الأعظم من ألواح الخشب الصلبة، ويلاحظ أن أفواهها تحميها دروع، ويتحول الخشب إلى ما يشبه العجينة، وتبطن النفق من خلفها بفضلاتها المتحجرة. وقياسًا على هذا النموذج وضع برونيل تصورًا لدرع من الحديد الزهر مصنوع من صناديق مسامية بحيث يتسع الصندوق لرجل يعمل في داخله، ويكون مفتوحًا من الخلف لإزالة المواد التالفة، والصندوق مجهز في الواجهة بلوح يمكن رفعه في أثناء سير العمل في أي من الصناديق الستة. وبعد أن تُحفَر جميع القطاعات يمكن دفع الدرع إلى الأمام بواسطة مرفاع لولبي يعمل في التبطين بالآجُرِّ الذي يتراكم في أثناء عمل الدرع، ولكن هذه الطريقة واجهتْها صعوباتٌ هائلة، وتُرك استخدام الدرع تحت الماء لسنوات عدة بعد أن توافرت موارد جديدة لاستكمال العمل، واكتمل المشروع العام ١٨٤٣م. وكان النفق مصمَّمًا للعمل طريقًا للسيارات، ولكن تحول ليصبح طريقًا للسكك الحديدية بعد مد نفق لندن، ولا يزال يعمل حتى الآن.

وحُفِرت أنفاق بعد ذلك في لندن، مثل أنفاق شبكة المواصلات تحت الأرضية. واستُخدمت في هذه الأنفاق قوالب من الحديد الزهر بدلًا من الآجُر كبطانة، ولكن نفق السكك الحديدية الممتد تحت سطح نهر سيفرن، وهو الأطول في بريطانيا، وبُدئ العمل فيه العام ١٨٩٣م، بُطِّن كاملًا بالآجُر. ويُستخدم الآن على نطاق واسع عند حفر الأنفاق عبر صخور أكثر لينًا؛ نظام الرءوس الدوارة القاطعة مع الاستعانة بمعدات هيدرولية لدفع الدرع، ولوضع قوالب التبطين في مكانها. وطُبق هذا الأسلوب حديثًا جدًّا لحفر نفق شانيل بين فرنسا وبريطانيا، ولكن حفر الأنفاق في الصخور الصلبة يستلزم استخدام الهواء المضغوط لدفع معدات القطع والحفر، على نحو ما حدث العام ١٨٦٠م عند حفر نفق عبر جبال الألب؛ إذ اقتضى العمل هنا استخدام ضواغط (كومبريسورات) هيدرولية لضمان استمرار عملية التزويد بالطاقة، والتي تفيد — علاوة على هذا — في استمرار حركة الهواء للتهوية داخل النفق.

وتوجد طريقة بديلة للحفر تحت سطح الماء؛ إذ تُبنى الأنفاق في شكل قطاعات لتثبيتها ولحامها مع بعضها، ثم توضع في صورة خندق عبر مجرى أو مصب النهر. وأجرى ريتشارد تريفيثيك تجارب على هذه التقنية لعمل نفق تحت نهر التايمز خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر، ولكنه اضطُر إلى التوقف بسبب نقص الاعتمادات المالية. ونجحت هذه الطريقة بعد ذلك في عمل نفق جون كينيدي تحت مجرى نهر شيلت في أنتويرب، والذي اكتمل العام ١٩٦٩م. وأصبح أسلوبُ القيسون Caisson، وهو مقصورة مُحكَمة الغلق للعمل تحت الماء، هو الأسلوبَ الأمثل؛ إذ يستطيع الإنسان بفضله أن يحفر في مجرى النهر، أو أن يُرسِي أساس دعامات الكوبري. وهذا القيسون عبارة عن «جرس» معدني كبير الحجم بحيث يُشكِّل غرفة تتسع لعامل أو أكثر، علاوة على ما يكفيهما من هواء وضوء. ونظرًا للحاجة الماسة إلى تزويد الجرس بهواء مضغوط بنسبة معينة للحيلولة دون أن تغمره المياه من أسفل فإن هناك خطرًا حقيقيًّا للإصابة بمرض «شلل الغواص»، أو إصابة العمال بتقوسات والْتواءات، وهو خطر لم يكن هناك إدراك واضح له في الأيام الأولى لتطبيق هذه التقنية.

ولعل إمدادات المياه هي أهم الخدمات العامة التي تُمثِّل أحد المرافق اللازمة للمجتمع الحديث، وتشتمل على بعض التقنيات المميزة للغاية، من بينها السدود والخزانات والقنوات المائية. والمعروف أن الرومان استحدثوا شبكة لتزويد المدن، خاصةً روما، بحاجتها إلى المياه، ولكن تبددت هذه المهارات خلال العصور الوسطى، ثم استُعيدت تدريجيًّا مع تعاظم بناء المدن واتساع الحضر، حيث بات لازمًا العمل بجد واجتهاد لمواكبة حاجات المواطنين. وكانت الأنهار والنُّهيرات هي المورد الأكثر شيوعًا للإمداد بالمياه، بعد استغلال الينابيع والآبار المتاحة. وبدأ سكان المدن يتطلعون إلى خارج حدودهم باحثين عن موارد من الأنهار غير المُستغَلة بالكامل، ومن ثم عملوا على تجميع مياهها في صورة خزانات. وكانت أغلب السدود في هذه الفترة الباكرة من النوع المعروف باسم السد الثقالي، أي الذي يحول ثقله دون انهياره، وكانت عبارة عن سدود ترابية، أو جدران حجرية قادرة على مقاومة ضغط المياه بفضل ثقلها. وكان أول مشروع محلي واسع النطاق في بريطانيا لتوفير إمدادات المياه هو المشروع الذي أشرف على بنائه جي إن لاتروب باتمان، والذي أقامه لمصلحة منطقة مانشستر فيما بين العامين ١٨٥١م و١٨٧٧م، ويتألف من سلسلة تضم خمسة خزانات في وادي لونجدال الواقع شرق المدينة، ويعتمد على خمسة سدود ترابية كبيرة من الطراز نفسه الشائع في كل أنحاء العالم.

وظهرت أشكال أخرى من السدود الأكثر تعقيدًا، من بينها ما يُعرف باسم السد الكتفي، وهو عبارة عن جدار حجري رقيق تدعمه سلسلة من الدعامات أو الأكتاف المقامة في النواحي المواجِهة لمجرى النهر. وهناك السد المقوس والقنطرة وبه جدار مُنحنٍ رقيق من الحجر أو الأسمنت، ويستمد قوته من تأثير القوس؛ إذ يلقي بالحمل الرئيسي على الصخور الملتحمة به. وثبت نجاح — ومن ثم شيوع — هذين النوعين. ويُعتبر السد الكتفي أو السد ذو الدعامات الأكثر ملاءمة بوجه خاص للتحكم في دفق أي نهر كبير، وهو المستخدم في بناء سد أسوان على نهر النيل. أما السد المقوس أو ذو القنطرة فهو أكثر ملاءمة للأراضي الجبلية، مثل سد هوفر المقام عبر نهر كولورادو في الولايات المتحدة. ويمثل نوعًا من البنية الأخف وزنًا بالقياس إلى أنواع السدود الأخرى. وهذه السدود جميعها لا ترتبط مباشرةً بموضوع تزويد المدن بالمياه؛ إذ إن كثيرًا منها هدفه الأول تنظيم حركة تدفق المياه، التي من دونها يصبح مورد المياه غير متساوٍ على مدار السنة، ومن ثم ليس بالإمكان الاعتماد عليه كمورد دائم.

ولكن حيث تكون المياه السطحية غير متاحة بكميات كافية يمكن أحيانًا استغلال موارد تحت أرضية، أي مستودعات مائية أرضية. وإذا ما تبين أن التكوين الجيولوجي مُواتٍ يمكن استخراج المياه من هذا المستودع عن طريق آبار أرتوازية، وذلك بدفع المياه إلى فوهة البئر عن طريق الضغط، ولكن من الضروري عادةً توفير محركات ضخ قوية لاستخراج المياه من فتحات الآبار، وكانت هذه هي واحدة من بين طرق كثيرة أفاد فيها المحرك البخاري لخدمة احتياجات عامة خلال القرن التاسع عشر؛ إذ استُخدمت آنذاك وحدات كثيرة لضخ مياه الآبار وتغذية المدن بها. وكانت لدى بريطانيا كميات كبيرة من هذه الوحدات، ولا يزال بعضها يعمل حتى الآن. ويمكن إتمام عملية الضخ بطريقة أسهل، وذلك باستخدام مضخات كهربائية صغيرة، والتي لا تثير غير قليل من مشكلات الصيانة وإن ظهرت وظيفة ضخ المياه إلى المستهلكين في الحضر واحدة. وتتمثل المشكلة الآن في أنه مع الزيادة المطردة في استهلاك المياه وفاءً بما تقتضيه أساليب حياتنا الحديثة، فقد نفدت مستودعات المياه الجوفية التي اعتمدنا عليها طوال المائتي سنة الماضية. هذا علاوة على أن الكثير من أنهار الأقاليم في جنوب إنجلترا جفت الآن، وبدأ ضخ المياه من مستويات أعمق فأعمق. ويتكرر النموذج نفسه في جميع أنحاء العالم الغربي، وهو ما يجعل من موضوع توفير إمدادات المياه على المدى الطويل مسألة شديدة الإلحاح.

وبقدر ما نحن بحاجة إلى ضمان إمدادات المياه، كذلك من الضروري توفير وسائل ملائمة لخدمات معالجة وتوزيع المياه. والمعروف أن بالإمكان استخدام مرشح المياه للتخلص من بعض الشوائب الخشنة الملوثة. وتوجد طرق موثوق بها، مثل الترشيح الرملي الذي استحدثه مهندسون بريطانيون خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وتعتمد هذه الطريقة على نفاذ الماء من خلال مسامِّ طبقة الرمل في قاع الصهريج. وهكذا يحتجز الرمل الشوائب الملوثة كبيرة الحجم، ويعاد تغيير الرمل بانتظام. ولكن هناك طريقة أخرى للمعالجة الكيميائية، وهي قتل الكائنات الحية الخطرة عن طريق عملية الكَلْوَرة، أي: المعالجة بالكلور. وأصبحت هذه عملية إلزامية في أغلب خدمات إمدادات المدن بالمياه، على الرغم من أنها لم تُطبَّق عمليًّا بشكل عام في بريطانيا إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وتضيف بعض السلطات أيضًا مادة الفلوريد لوقاية أسنان الأطفال من التسوس، ولكن يدور جدال لم ينقطع في البلدان المتقدمة بشأن معالجة إمدادات المياه بالمواد الطبية.

والملاحظ أن كميات كبيرة من المياه تتجمع الآن على بعد مسافات طويلة من موقع الاستهلاك، وأصبح ضروريًّا لهذا السبب أن نُولِي اهتمامًا كبيرًا بوسائل النقل والتوزيع؛ ولهذا أصبحت الصهاريج والقنوات المائية، المكشوفة والمغطاة، وملحقاتها من سيفونات وأنفاق ومضخات؛ جزءًا لا يتجزأ من جهاز تزويد المياه بانتظام. وكانت أنابيب توصيل المياه تُصنع تقليديًّا عن طريق عمل تجويف في سيقان خشب الدردار وربط أطراف بعضها ببعض، ولكن مع التوسع في صناعة الحديد أصبح ميسورًا توفير المواد اللازمة لصناعة أنابيب معدنية لتوصيل المياه، وتتميز هذه الأنابيب بقدرة تحمل، فضلًا عن استعمالاتها المتعددة؛ ولهذا شاع استعمالها. وصُنعت أول الأمر من حديد الزهر بحيث تتداخل الحلوق ثم تُلحم، وهيأ هذا إمكانًا لمد الخطوط الأم لتوصيل المياه تحت شوارع المدن المزدحمة. بعد ذلك أصبحت هذه الأنابيب تُصنع من الحديد المطاوع، وبرشمة ألواح منحنية مستخدمين تقنيات بناء السفن، وشاع استخدامها لعمل قنوات مائية في الهواء الطلق. ولكن في القرن العشرين استُخدمت أنابيب من الصلب ملحومة لأداء الوظيفة ذاتها. مثال ذلك أن مستوطنات مناجم الذهب في كولجاردي في صحراء أستراليا تصلها المياه عبر خط أنابيب طوله ٦٤٥كم، حيث تُضخ المياه فيه من منطقة مجاورة لمدينة برث.

وتتوافر اليوم شبكة صرف جيدة، والتي يمكن اعتبارها الوجه الآخر لعملية إمدادات المياه، خاصةً أن غالبية المدن الكبرى في العالم الحديث بدأت تعتمد على قنوات الصرف الصحي عن طريق البالوعات. وتشتمل عملية الصرف على التخلص من الزائد من مياه النهر أو البحر لتكون الأرض صالحة للسُّكنى. وتُستخدم في سبيل ذلك تقنية السدود وفتحات التصريف والمجاري المائية الاصطناعية. وأسهمت هذه الوسائل إسهامًا كبيرًا بالنسبة لبلدان مثل هولندا والبلدان المجاورة المُطِلة على الساحل الأوروبي. والمعروف أن اليابسة في بعض الأماكن حول بحر الشمال تغوص تدريجيًّا، وترتبت على هذا مشكلة طويلة المدى تستلزم العمل دائمًا لصد غائلة الفيضان. وأكثر من هذا أن لندن نفسها معرضة للخطر في حالة ما إذا تعرضت لطقس سيئ للغاية وظروف مد بحري استثنائي؛ ولهذا السبب وُضع تصميم لبناء سد التايمز ببواباته العشر المصنوعة من الصلب والمثبتة بين دعامات مغطاة عبر اتساع طوله ٥٢٠ مترًا. والهدف من هذا السد هو حماية لندن من احتمالات هذه الأخطار، واكتمل تنفيذ السد العام ١٩٨٤م.

لم تستطع مدن أوروبا وأمريكا التخلص بطريقة ملائمة من النفايات العضوية قبل أن تتوافر لها إمدادات المياه بصورة مستمرة؛ إذ إن توافر المياه هيَّأ لها وسائل التخلص من هذه النفايات؛ ولهذا فإنه منذ منتصف القرن التاسع عشر استثمرت المدن موارد حضرية هائلة من أجل بناء شبكات الصرف التي تجري تلقائيًّا بحكم ثقلها أو قوة الجاذبية. واستُخدمت المضخات لضمان حركة المحلول بالسرعة المطلوبة. وكانت مجاري الصرف الضخمة تُشيَّد عادةً من الآجُر وتأخذ شكل قطاع مستعرض كمثري الشكل حيث القاع هو الطرف المستدق، ضمانًا لأقوى حركة دفق حين يكون المستوى منخفضًا، مما يهيئ وسيلة للتنظيف التلقائي. وكانت مجاري الصرف المغذية تُصنع عادةً من السيراميك الصقيل غير الجيد تمامًا، ولكنه قوي صلب. هذا على الرغم أيضًا من شيوع مجاري الصرف المصنوعة من الحديد الزهر. وتُستخدم الآن مواد أسمنتية بل بلاستيكية.

وكانت شبكات الصرف المنقول بالمياه تعمل على أساس صب دفقها في النهر في اتجاه مجرى المياه بعيدًا عن المدينة التي تغتذي على مياه النهر، وهذه هي الطريقة التي وضع تصميمها سير جوزيف بازالجيت، وبنى على أساس هذا التصميم شبكة البالوعات ومجاري الصرف لخدمة مدينة لندن فيما بين العامين ١٨٥٥م و١٨٧٥م، ولكنها أضحت طريقة غير مقبولة خاصة بالنسبة للمدن الداخلية التي تعتمد على النهر ذاته على طريق مجرى ماء النهر. وهكذا كان لا بد على الهيئات المسئولة عن التخلص من نفايات الصرف أن تفكر في وسائل أخرى تجعل الوضع أقل ضررًا وأقل إثارة، بل العمل إذا أمكن لاستعادة المعادن الصالحة للاستعمال التي تحتويها مياه الصرف. وبناء على هذا استُعملت تقنيات جديدة لمعالجة مياه الصرف تشتمل على طريقة الترسيب مع إضافة كيماويات تؤدي إلى سرعة تحلل البكتريا، وهذه مهمة ضرورية، وإن بدت بغيضة، يتعين أداؤها بالنسبة لمرافق المدن الحديثة؛ إذ نظرًا لأنها بعيدة عن الأنظار فكثيرًا ما نغفل عن أهميتها الحيوية.

وهناك خدمات عامة أخرى كثيرة تشتمل على مهارات تكنولوجية مهمة، وسوف نعرض لها بإيجاز شديد، نظرًا لأننا تناولنا أهمها في مواضع مختلفة ضمن دراستنا الاستعراضية هنا. نذكر على سبيل المثال إمدادات الغاز الذي يُعتبر من أبرز الابتكارات التكنولوجية في القرن التاسع عشر، والذي أسهم موضوعيًّا في تغيير نوعية حياة الحضر. والمعروف أن وليام موردوخ هو مبتكر هذا الغاز في العام ١٧٩٢م. وأقيم أول جهاز لصناعة غاز الاستصباح بعد هذا التاريخ بعشر سنوات، وذلك في المصنع الذي كان يعمل فيه ويملكه بولتون ووات في برمنجهام. وبعد عشر سنوات أخرى أُسست أول شركة لتوريد الغاز في لندن، ولكن العملية انتشرت بعد ذلك في كل أنحاء مدن وعواصم بريطانيا علاوة على التصدير إلى أوروبا وأمريكا، وتشتمل هذه العملية على مصانع إنتاج الغاز حيث يجري تقطير الغاز من الفحم عن طريق تسخينه في معوجات مغلقة، ويحتاج بعد هذا إلى معالجات إضافية ليصبح صالحًا للاستعمال للإضاءة العامة، وتتضمن العملية أيضًا أسطوانة لتخزين الغاز، وأنابيب من الحديد والزهر والرصاص تمتد أميالًا لتوصيل الغاز إلى مواقع الاستهلاك. ومع شيوع استخدام الغاز تزايدت مصانع الإنتاج، وتعاظمت المعدات التكميلية المصاحبة للإنتاج، وأصبحت من القَسَمات المميزة لمشهد حياة الحضر. وبدأ التخلي عن المعوجات الأفقية التي كانت تُعتبر في البداية معدات معيارية، وحلت محلها معوجات رأسية. وحيث إن هذا النوع الجديد أطول قامة فقد أصبح له تأثير بصري كبير، ولكنه يسمح بالعمل المستمر بدلًا من العمل على دفعات كما هي الحال بالنسبة للمعوجات الأفقية. هذا علاوة على سهولة التخلص من الكوك المنتج كأحد المشتقات، وإخراجه من قاع المعوجة دون توقف عملية الإنتاج. وهناك مشتقات أخرى مثل قار الفحم وغاز النشادر؛ إذ أصبحت متوافرة بكميات كبيرة للصناعات الكيماوية ذات الصلة.

وإذا كان «غاز المدن» الذي أنتجته هذه المصانع حظي باحتكار إضاءة مناطق الحضر، فإنه مع نهاية القرن التاسع عشر واجه تحدي الكهرباء له فور أن بدأ إديسون، ومن حذا حذوه، في توفير شبكات كاملة لتوليد القوى وشبكات للتوزيع ومعدات لاستخدام مصابيح الكهرباء ذات الفتيل الوهاج. وتجلى الأثر المباشر بالنسبة لصناعة الغاز في تشجيعها من أجل تنويع الإنتاج. وشرعت في إنتاج غاز للتسخين وللطهي، وكذلك للإضاءة. وتحسنت نوعية غاز الإضاءة كثيرًا بفضل ابتكار الرتينة الوهاجة التي حصل على براءة اختراعها النمساوي كارل فون ويلشباخ العام ١٨٨٥م، غير أن الإضاءة الكهربائية تتميز بالنظافة فضلًا عما توفره من أسباب الراحة؛ ولهذا تمكنت من التفوق على الغاز، وإن ظل هذا الأخير موجودًا ويستعمله كثير من سكان الأقاليم لفترة طويلة خلال القرن العشرين. ورُسِّخت صناعة الكهرباء في هذه الأثناء في كل أنحاء البلدان الصناعية، وأُنشئت محطات لتوليد الكهرباء تدار بتوربينات بخارية مع غلايات تعمل بوقود الفحم، وشبكة واسعة من الأبراج تنقل عبر المدن والأقاليم تيارًا عالي الجهد. وهكذا أمكن توصيل تيار الكهرباء إلى مناطق نائية معزولة لم تكن تصلها إمدادات الغاز التي تصل إلى المدن. وعقب الحرب العالمية الثانية اتجهت بلدان كثيرة إلى الاستثمار في مجال توليد الطاقة النووية، وأمكن إنجاز الكثير بفضل ذلك على الرغم من التكاليف العالية والأخطار بعيدة المدى المحتملة، والتي توجب التفكير مرتين؛ نظرًا لعدم التوصل إلى حلول شافية لها. ولا يزال القسط الأكبر من الطاقة الكهربائية يتولد عن توربينات بخارية على الرغم من أن أكثرها يستمد بخاره من غلايات تعمل بوقود زيتي، وتستطيع نسبة كبيرة منها أن تستخدم القدرة المائية لتحريك توربينات مائية. ويجري توزيع الطاقة المستمدة من هذه المحطات في صورة تيار متغير عالي الفولتية بدلًا من التيار المستمر الذي كان يفضله توماس إديسون. والمعروف أن الفولتية العالية تيسِّر تغذية التيار في شبكات التوزيع الضخمة، والتي تخفضه إلى فولتات أدنى بواسطة محولات محلية للاستخدام في المنازل والمصانع والطرقات. وأصبحت الحياة الحديثة والحياة المنزلية تعتمد على توافر الطاقة الكهربائية في الآن واللحظة، وأصبح شيوعها عالميًّا عاملًا مهمًّا في زيادة حراك الصناعة السكان.

وسوف نعالج بعض الخدمات العامة الأخرى خلال مناقشتنا لعملية التحضر. ويكفينا الآن أن نختتم هذا العرض للبنية الأساسية التكنولوجية بأن نلفت الأنظار إلى ما تولَّد عنها من تجهيزات تكنولوجية متخصصة، مثال ذلك معدات نقل التربة، مثل الحفارات والبولدوزرات، ومعدات البناء، مثل المرفاع الهيدروليكي التلسكوبي، والمرفاع البرجي، ومعدات حفر الأنفاق، مثل القطاعات الدوارة والسيور الناقلة، علاوة على ثروة من أدوات ومركبات دون ذلك. وأدى هذا كله إلى الاستغناء عن العمل اليدوي الشاق الذي يمثل ضرورة لصيانة البنية الأساسية للحياة الحديثة. ويمثل تجديد وتطوير هذه المعدات إسهامًا مهمًّا للغاية في عملية الثورة التكنولوجية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤