الفصل الحادي عشر

التكنولوجيا والناس

التكنولوجيا حديث عن الماكينات والعمليات مثلما هي حديث عن الناس. وهي معنيَّة بوجه خاص بالنتائج المباشرة وطويلة المدى المترتبة على العلاقات بين الماكينات والعمليات من ناحية، والناس في المجتمع من ناحية أخرى. وسوف نستكشف في هذا الفصل هذه العلاقات، سواء على مستوى المشاركة الفردية في الابتكار التكنولوجي، أو على مستوى المشاركة الجمعية للناس في الاتجاهات الديموجرافية المهيمنة في مجتمعنا. وسوف نُولِي عناية خاصة لدور الفرد في التغير التكنولوجي وللاستجابة التكنولوجية إزاء النمو السكاني السريع، وللأسلوب التكنولوجي للحياة في المدن والمنازل الحديثة، وللنتائج العامة المترتبة على الحرية الفردية المستمدة من الثورة التكنولوجية. وسوف نعمد دائمًا إلى التأكيد على التفاعل بين الأفراد والتحديات والفرص التي تهيئها التكنولوجيا الحديثة.

والنقطة الأولى في التفاعل بين الأفراد وتطور التكنولوجيا تتمثل في العلاقة بالابتكار. وقد لا نجد من يشك كثيرًا في أن الابتكار مهم في تاريخ التكنولوجيا؛ لأنه يمثل البداية لكل ابتكار آلي جديد أو إدراك لعملية جديدة؛ فالملاحظ أن السلسلة كلها ابتداءً من أهم الإنجازات وأكثرها إثارة إلى أشد مظاهر الفشل ابتذالًا إنما تولدت جميعها بالطريقة ذاتها، أي الابتكار. وأيًّا كان ما يقال عن هذه العملية العميقة والمهمة، وإن بدت مراوغة، فإنها يقينًا عملية إنسانية؛ فالابتكار وليد العقول الإبداعية لأفراد البشر. إن الغالبية من الناس يقدمون ابتكارات غير ذات أهمية، ولكن القليلين يبتكرون الكثير وإن لم تكن لهم سيطرة كبيرة على تصور أفكارهم الجديدة؛ نظرًا لأنها في جوهرها أفكار عفوية واستلهامية؛ فها هو توماس إديسون من أعظم المخترعين في العصر الحديث يعترف بأن النهوض بعملية الابتكار، حتى بالنسبة للعقل المهيأ لها بخياله الواسع، يعني عملًا دَءوبًا وشاقًّا للغاية دون ضمان للنجاح في النهاية. وثمة دراسة حديثة عن الابتكار انتهت إلى أن نسبة عالية جدًّا من الابتكارات لا تزال تظهر لأفراد يحوطهم الصمت أكثر مما نجد عند فِرق بحث تعمل خصوصًا لاكتشاف سبل متباينة وواعدة. وطَبَعي أن فِرق البحث هذه يكون لها دور جوهري في الحفاظ على الإنتاجية الدينامية لمشروعات صناعية كبرى، ولكن مهما كان نصيب هذه الفِرق من النجاح — وقد حالف بعضَهم النجاحُ، مثل معامل شركة بيل التي ابتكرت الترانزستور — فإن القدر الأعظم من عملهم الروتيني إنما ينصبُّ على التجديد والتطوير وليس الابتكار. والمعروف أن إنتاج اكتشاف نافع رهن بالعقل البشري الذي لا يمكن التنبؤ به.

ومع هذا، وشأن أي مظهر من مظاهر الإبداع البشري، ثمة قواعد يمكن استخلاصها بشأن عملية الابتكار؛ أولًا: إن أي ابتكار إنما يجري تصوره داخل منبت اجتماعي قائم، والذي من شأنه — إلى حد ما — أن يحدد خصوصياته. ونحن هنا نقرر ما هو واضح لأن الإبداع البشري محدد اجتماعيًّا بالضرورة حيث الأفراد موجودون بداهةً داخل مجتمع، ومن ثم فإن ابتكاراتهم تغدو غير ذات قيمة إذا لم تكن مقبولة من المجتمع، وهذا ما يتعين إيضاحه حتى لا نقع في شَرَك اعتبار المخترعين وإبداعاتهم عملًا خارج الوسط الاجتماعي، ومن ثم نفسر تاريخ التكنولوجيا كخيط من الاختراعات مقطوعة الصلة بالبيئة. ونجد من الناحية التاريخية أن بعض البيئات كانت أكثر ملاءمة من غيرها للابتكار. ولاحظنا على سبيل المثال أن الحضارة الصينية في ظل سيطرة كبار موظفي الدولة البيروقراطيين كانت أقل قبولًا للابتكارات مما كانت عليه في عصور أسبق، أو أقل مما كانت عليه الحضارة الغربية بعد العصور الوسطى فصاعدًا. ولاحظنا في الغرب أن بريطانيا كانت أكثر تعاطفًا مع الابتكار من فرنسا أو أي بلد آخر في القرن الثامن عشر؛ ولهذا كانت هي المهد الذي عايش تسارع عمليات التصنيع التي بدأت آنذاك. وهكذا نجد مدًى واسعًا من الدرجات التي تكشف عن القابلية الاجتماعية للابتكار، ولكن توافر قدر من الاستعداد لإجراء التجربة يمثل شرطًا جوهريًّا مسبقًا للتطور التكنولوجي.

وتحدثنا فيما سلف عن هذه الشروط الاجتماعية للتطور التكنولوجي، ولكنها تستحق الإشارة إليها من جديد نظرًا لأهميتها القصوى كمنبت بيئي يتم في إطاره الابتكار والتجديد، وتشتمل على عوامل الإنتاج الاقتصادية؛ رأس المال الملائم، والموارد الكافية من المواد الخام، والحد الأدنى الضروري من مهارات القوى العاملة، ولكنها تشتمل كذلك على عنصر الإبداع البشري المنتج للأفكار، علاوة على — وهو الأهم قاطبة — الاستعداد الجمعي لقبول وتجربة أفكار جديدة إذا ما أتيح لها أن تظهر. وتتألف هذه الحساسية تجاه الابتكار من عوامل كثيرة اجتماعية وسياسية وثقافية، تدعمها تقاليد، ويُغذِّيها ويرعاها التعليم والتدريب. صفوة القول أن أي تطور تكنولوجي هو جزء من تلك التوليفة أو الحزمة الاجتماعية المتميزة، وأن عملية الثورة التكنولوجية ضاربة بجذورها في استعداد راسخ عريق لقبول الحزمة برمتها لدى المجتمعات الغربية.١ ولقد تراوح وتذبذب هذا الاستعداد عبر الزمان، وكان أقوى في مناطق بذاتها من أوروبا وشمال أمريكا عنه في مناطق أخرى، وهو الذي هيَّأ البيئة الاجتماعية الضرورية للتحولات التكنولوجية المذهلة على مدى القرون الأخيرة.

وإذا ما أردنا أن نضع تصورًا عامًّا لحزمة العناصر الاجتماعية الداعمة للتطور التكنولوجي؛ فإن من المفيد أولًا أن نلحظ أن الابتكارات يجري تصورها في إطار منبتٍ قائم من الأفكار والتجارب؛ ولهذا فإن بيئتها أو منبتها يضفي عليها غالبًا طابعًا تقليديًّا خادعًا، خاصةً في أول العهد بها. مثال ذلك السيارات في أول نشأتها تصوَّرها الناس في صورة «عربات بغير حصان»، وتحمل جميع القَسَمات الاصطلاحية لعربات البر والموجودة فيما عدا قوتها المحركة. وكذلك الحال بالنسبة للبواخر في أول عهدها؛ اتخذت نظام الدولاب ذي الأرياش (الرفَّاص) ليكون شكل قوة الدفع أسوة بخبرة اجتماعية عن السواقي، وإن ثبت فيما بعد أن اللولب أو القلاووظ هو أسلوب العمل الأكثر كفاءة، ولكن ثمة اختراعات أخرى، مثل الآلة الكاتبة، جديدة تمامًا بحيث إنها لم تكن بحاجة إلى الكد من أجل إثبات نسبها إلى شكل اجتماعي مألوف، على الرغم من أنه بعد استقرارها، وألفة العمل بها أصبحت لوحة مفاتيح الآلة الكاتبة قَسَمة مميزة لاختراعات كثيرة تالية.

وثمة جانب آخر مهم يميز المنبت الاجتماعي للتكنولوجيا، ونعني به درجة الحرية المتاحة للمبتكر لكي يعبر عن أفكار غير مألوفة أو غير رائجة؛ فالمعروف أن المجتمعات التقليدية حالت دائمًا دون الأفراد وتقديم أفكار أو أجهزة تهدد استقرار المجتمع أو تفسد نظامه القائم في العمل. ورأينا خلال فترات حديثة جدًّا كيف أن مخترعين اضطُروا إلى إجراء تجاربهم سرًّا تجنبًا لسخرية المجتمع. مثال ذلك أن سير جورج كايلي واجه ضغوطًا اجتماعية، حظرت عليه بعض نشاطه الرائد الخاص بالطائرة، كذلك واجه جون لوجي بيرد اعتراضات مماثلة بشأن عمله في مجال التليفزيون. وليس عسيرًا علينا أن نتخيل كيف أن المخترع — مهما كان ملهَمًا — إنما يعيش قدرًا لا يُحسد عليه في مجتمع تقليدي يسوده عداء تقليدي إزاء كل جديد أو تجديد؛ إذ تحبطه القيود البيروقراطية؛ ذلك لأن مثل هذه البيئة الاجتماعية تتحاشى تحمل مسئولية اتخاذ القرار، وتعمد إلى ترك هذه المسئولية للمستويات الأعلى فما فوقها في ظل الهرم الاجتماعي. ونجد عكس ذلك الآن في البلدان الغربية؛ إذ ذاعت قوانين براءات الاختراع، والتي تضفي اعترافًا شرعيًّا وحمايةً على أفكار المخترعين مهما كانت غريبة أو شاذة. ويُعتبر هذا الوضع مؤشرًا جليًّا على إرادة ورغبة هذه المجتمعات في أن تكفل للمخترعين الجزاء الأوفى لإنجازاتهم الإبداعية.

وهكذا تمثل حرية التعبير عن الأفكار الجديدة وإجراء التجارب بشأنها عاملًا حيويًّا في البيئة الاجتماعية الداعمة للابتكار. إن بعض التدابير التي تكفل الحرية السياسية، ودرجة التحرر من قيود الطبقة وشرط التماثل الاجتماعي، وكذا التسامح إزاء وجهات النظر غير المألوفة، بل التي تبدو غريبة إنما هي جميعها عناصر ضمن «الحزمة الاجتماعية» للعوامل التي نناقشها. وهذا لا يعني أن المجتمع المناصر للابتكار هو بالضرورة مجتمع ديمقراطي ليبرالي بالمعنى الحديث لهذا المصطلح، ولا يعني كذلك أن المجتمعات البيروقراطية والتسلطية عاجزة عن تبنِّي التكنولوجيا الحديثة؛ فخبرة التاريخ الحديث مؤشر قوي على عكس ذلك، ولكن المقصود أن المجتمع الذي يشجع أو راغب في أن يشجع الابتكار — في تمييز له عن مجتمع قانع بمجرد تبنِّي تكنولوجيا موجودة وجاهزة — لا بد أن يكون مجتمعًا منفتحًا نسبيًّا ومتحررًا من القيود البيروقراطية، ونزَّاعًا تجاه النمط الليبرالي الديمقراطي للتنظيم السياسي؛ إذ على الرغم من أن الأشكال الأخرى من المجتمعات قد تكون راغبة في استخدام ثمار التكنولوجيا الحديثة، خاصةً تلك المجتمعات التي تعتزم الدخول في حرب، فإنها لا تنظر نظرة التقدير هذه إلى الإبداع الفردي، والتي تُعتبر ضرورة لتمكين المبتكر من العمل ولتشجيع أفكاره.

fig33
شكل ١١-١: السكان في العالم (المصدر: Cambridge Economic History of Europe and Encyc. Britannica).

وكان حتمًا علينا عند التفكير في دور الفرد في الابتكار التكنولوجي أن نستعرض الأفراد في المجتمع، وواقع أن التكنولوجيا تتفاعل مع الناس على نحو جمعي، وهذا ما يمكن البرهنة عليه بوسائل عدة. ولعل الشيء الأكثر أهمية بيان الترابط الوثيق بين التكنولوجيا والاتجاهات السكانية «الديموجرافية»، ويتجلى هذا في أسلوب التزايد السكاني، والطريقة التي يتم بها التحكم أو ضبط هذه الزيادة. هاتان الطريقتان مهمتان في العالم الحديث، ولكن دور التكنولوجيا من حيث هي عامل من عوامل النمو السكاني يبدو أكثر وضوحًا وأهميةً؛ نظرًا لأن الانفجار السكاني العالمي أصبح في نظر العالم من أخطر المشكلات على وجه الأرض.

وواقع النمو السكاني واضح تمامًا دون حاجة إلى بيان، ولكن آليات الزيادة هي التي يدور حولها نزاع طويل؛ إذ يقال إن الابتكارات التكنولوجية عامل أثار قلقًا وفوضى على مدى التاريخ البشري؛ ذلك لأنها تعمل على تشجيع الزيادة السكانية؛ الأمر الذي أفسد التوازن المستقر بين المجتمعات البدائية وبيئاتها؛ فالمجتمعات حسب هذا الرأي، مثل مجتمعات السكان الأصليين في أستراليا، خلقت نوعًا من الوسط الإيكولوجي الملائم لها وسط بيئة معادية، واستطاعوا بذلك أن يبقوا على قيد الحياة آلاف السنين دون ابتكار جديد ولا زيادة سكانية. وعلى نقيض ذلك مجتمعات الشرق الأوسط التي عاشت خبرة ثورة العصر الحجري الحديث، فإنها قبلت الابتكارات في مجالَي الزراعة والرعي، والتي ضاعفت الطاقة الإنتاجية للجماعات المعنية، وشجعتها على الزيادة السكانية. وتستطرد هذه الحجة زاعمة أنه بمجرد بدء هذه العملية حتى تزايد الضغط من أجل إطعام أفواه جديدة كثيرة، وأدى هذا إلى خلق طلب لا سبيل إلى وقفه من أجل مزيد من الإنتاجية، ومن ثم من أجل مزيد من الابتكار التكنولوجي. وبمرور الزمن أدى هذا الوضع إلى تلاحم العلاقات المفكَّكة بين أبناء المجتمعات الأبسط تكوينًا، وتحولت إلى نُظم طبقية ضمانًا لاستمرار الحوافز التي تحثُّ الناس على العمل الشاق. وهكذا كان للثورة التكنولوجية دور كبير في ضمان استقرار وبقاء مجتمع فقدَ توازنه الطبيعي.

الفحوى الأساسية لهذه الحجة مقبولة، حتى مع ملاحظة أن عملية التجديد التكنولوجي كانت بطيئة في بعض المجتمعات القديمة بحيث لا يمكن استبيانها بالمقارنة بمعدل التغير الذي بدأنا نُسلِّم به في العالم الحديث. كذلك فإن هذه الحجة أغفلت جوانب كثيرة دون تفسير، وهي الجوانب المتعلقة بالآليات الفعلية للتغير السكاني بفعل المؤثرات التكنولوجية؛ إذ بقدر ما دأبت المجتمعات البدائية على ضبط الزيادة في سكانها عن طريق التخلي عن إنجاب أطفال غير مرغوب فيهم، وعن العَجَزة من كبار السن، فإن المجتمعات المتطورة بعد ذلك نبذت هذه الوسائل في ضبط الزيادة السكانية ورأتها وسائل غير مقبولة. وهنا نجد أن الأعراف الاجتماعية هي التي غيرت وليس التكنولوجيا. ومع هذا نستطيع أن نميز وسائل عدة استطاعت بها التكنولوجيا أن تسهم في إطالة الأعمار، ومن ثم أسهمت بذلك في الزيادة السكانية. وإذا ما ألقينا نظرة إلى المجتمع الغربي بخاصة يمكن أن نقول بثقة إنه على الرغم من كل المناقشات الطويلة بين مؤرخي التغيرات السكانية فإن الأهمية النسبية لارتفاع نسبة المواليد وانخفاض نسبة الوفيات كسببين في الزيادة السكانية يرجعان إلى التكنولوجيا التي لها أثر حاسم هنا. وتحقق هذا من خلال إغناء الطعام بالقيمة الغذائية وإدخال تحسينات على ظروف المعيشة فضلًا عن مظاهر التقدم في الطب.

لقد كان للتجديدات في مجال النظام الغذائي دور لم ينل حظه من التقدير الصحيح في تاريخ التكنولوجيا ورفاهة المجتمعات البشرية. ويكفي أن نشير إلى أن لين هوايت لاحظ منذ بضع سنوات أن العصور الوسطى كانت «أحسن حالًا في طعامها»، بمعنى أن زيادة استهلاك الخضروات البقلية ضاعفت من القيمة الغذائية في طعام العصور الوسطى، وحفزت إلى تحقيق ثروة في النشاط السياسي والفكري والمعماري، وهو ما تميز به القرنان الثاني عشر والثالث عشر. وارتبط هذا الطعام الغني بقيمته الغذائية ارتباطًا مباشرًا، حسب رأي هوايت، بالتكنولوجيات الزراعية الجديدة المتعلقة بقوة الحصان كقوة حركة (وساعد على ذلك صناعة الحدوة والطوق للحصان)، وأيضًا نظام الدورة المحصولية الثلاثية التي أضافت موضوعيًّا إضافة كبيرة إلى إجمال المنتج من الغذاء كمًّا ونوعًا، ومنها البقليات، ولكن هذه الحجة، على الرغم من صورتها التعبيرية الواضحة، ليست خيالًا تمامًا؛ إذ لا شك في أن معايير الغذاء، على مدى فترة زمنية طويلة وما تخللها من نكسات، حققت بالفعل تحسنًا أكيدًا في الحضارة الغربية، مما كان له آثاره النافعة على حيوية الإنسان، ومن ثم على زيادة السكان.

توقف النمو السكاني في أوروبا خلال القرن الرابع عشر بسبب وباء الطاعون المعروف باسم «الموت الأسود» ومضاعفاته، علاوة على ظروف مَرَضية أخرى متوطنة، مثل الإسقربوط، وأمراض مثل الجدري. وشكَّلت هذه جميعها قيدًا على الزيادة السكانية استمر حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهذا هو تاريخ بداية الموجة الحديثة للنمو السكاني. وعاودت العوامل الغذائية دورها المهم من جديد في تحقيق الزيادة السكانية. والملاحظ أن النظام الحقلي الثلاثي الذي رآه الناس آنذاك ابتكارًا مذهلًا أصبحوا ينظرون إليه الآن باعتباره نظامًا عتيقًا غير ملائم للمزارعين وملَّاك الأراضي في وضعهم الجديد المتقدم؛ ذلك لأنه يترك ثلث الأرض المنتجة مراحًا، ومن ثم غير مستغلة جميعها في وقت واحد. ولكن على النقيض فإن الأشكال الجديدة للزراعة الكثيفة، والذي كانت هولندا رائدة فيه، ضمن توافر دورة زراعية أطول، وغلة محصولية أوسع نطاقًا. ووفرت هذه الطريقة الوسائل اللازمة للتربية القائمة على الانتخاب بين الحيوانات مما ضمن تحسين الثروة الحيوانية، وأفضى هذا إلى اطراد زيادة الإنتاجية الزراعية، واطراد تدفق الأطعمة ذات القيمة الغذائية على الأسواق في المدن. حقًّا لم تكن حصص الأفراد متعادلة في هذه التحسينات، ولكن مع مرور الزمن أصبح الغذاء الأفضل هو الأكثر شيوعًا، كما تحسنت المعايير الصحية. وهكذا نجد المجاعة التي لم تكن لتفارق خيال المجتمعات الريفية في الماضي أضحت ذكرى بعيدة، ثم اختفت تمامًا في أوروبا بحلول القرن التاسع عشر فيما عدا الكارثة التي أحاقت بأيرلندا العام ١٨٤٦م. وطَبَعي أن ارتفاع القيمة الغذائية في الطعام كان يعني اختفاء مرض الإسقربوط، وزيادة القدرة على مقاومة الأمراض. وكان هذا أمرًا مهمًّا فيما بين الأطفال؛ إذ أدى إلى انخفاض نسبة الوفيات بينهم، أي زاد عدد من يبقون منهم على قيد الحياة، وأصبح هذا تعزيزًا إضافيًّا للأجيال التالية من السكان.

واقترن ارتفاع القيمة الغذائية للطعام بتحسن الظروف المعيشية. ومرة أخرى لم يكن الوضع سواء بين جميع الأفراد في هذا الشأن؛ إذ كان هذا رهن الموارد المتاحة للمستويات المختلفة من السكان، ولكن المتوسط العام للظروف المعيشية شهد تحسنًا واضحًا بالنسبة للأوروبيين والأمريكيين الشماليين خلال القرن التاسع عشر، وتحسنت عمليات بناء البيوت مع توافر مواد بناء جيدة مثل الطوب والآجُر، وكذا ألواح التسقيف، وأيضًا الزجاج، مما جعل البيوت أكثر اتساعًا وراحةً وإنارةً وأفضل صحيًّا. وشهدت الملابس تحسنًا واضحًا ومهمًّا خلال القرن التاسع عشر من حيث كميتها ونظافتها، وشاع استخدام الملابس الداخلية القطنية جيدة الصنع، وذلك بفضل ازدهار الصناعة القطنية، وساعدت صناعة النسيج الصوفي على وفرة الملابس الخارجية الصوفية. والجدير ذكره أن التقدم المذهل في تكنولوجيا صناعة النسيج أدى إلى خفض كلفة الأقمشة والملابس على اختلاف أنواعها، وشجع هذا الناس على تغييرها والحرص على ارتدائها نظيفة تمامًا. وشهدت المدن في هذه الأثناء تحسنًا في عمليات إمدادات المياه، وتوافر الصابون الجيد. وهكذا تهيأت للناس بانتظام أسباب تنظيف أنفسهم وملابسهم، مما عاد بالفائدة على الصحة العامة مع اتجاه السكان إلى الزيادة. وإن مظاهر التحسن في ظروف المعيشة قابلتها إلى حد ما ظروف قذرة عمت الكثير من المدن الغربية التي كانت بيئة خصبة لأمراض مثل الكوليرا وغيرها، وأحدثت هذه الأمراض دمارًا واسعًا في منتصف القرن التاسع عشر. وأكدت هذه الأحداث درسًا مهمًّا، ألا وهو الاقتناع بضرورة اتخاذ إجراءات وتدابير للصحة العامة، وهذا هو ما أُنجز في غالبية مدن وعواصم أوروبا وشمال أمريكا خلال النصف الثاني من القرن. وكشفت الأوبئة التي عمت البلاد عن أنها لا تعبأ بالفوارق بين الطبقات الاجتماعية؛ ولهذا حرصت جميع قطاعات المجتمع على الاستفادة بالمياه العذبة النقية، وبوسائل الصرف الصحي بعد أن توافرت الوسائل التكنولوجية اللازمة لذلك.

وعلاوة على العوامل الغذائية وتحسن الظروف المعيشية أثرت التكنولوجيا في النمو السكاني عن طريق التدابير الطبية. وتحقق هذا بوسائل عدة.

فالمعروف أن الخبرة الطبية، والعقاقير الطبيعية عرفتها أقدم المجتمعات البشرية. وازدادت هذه الخبرات العملية وضوحًا في أوروبا خلال القرن الثامن عشر. وكانت هناك تجارب مبكرة بشأن التطعيم ضد مرض الجدري الذي كان يمثل أشد أنواع البلاء التي تحيق بالمجتمعات، ولكن مع نهاية القرن الثامن عشر اكتشف إدوارد جينز تقنية خاصة تعطي وقاية حقيقية. وهذه التقنية هي التحصين عن طريق إعطاء المريض شكلًا من أشكال جدري البقر فيُكسِبه مناعة ضد أشد أنواع الجدري العادي، وأدى الالتزام بدأب على تطبيق هذه التقنية إلى استئصال الجدري تمامًا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ويُعتبر هذا إنجازًا كبيرًا لمنظمة الصحة العالمية، وإن لم يكن بالإمكان الجزم بأنه لن يعاود الظهور ثانيةً.

وشهدت التقنيات الطبية تحسنًا مذهلًا على مدى العقود التالية لهذا الإنجاز، فقد زادت معارفنا عن الجراثيم في منتصف القرن التاسع عشر. وأدى هذا بنجاح إلى التحصين ضد عدد من أخطر الأمراض، مثل الحُمى القرمزية والدفتريا. كذلك فإن ابتكار وسائل تخدير فعالة هيَّأ للجراحين فرصة إجراء عمليات جراحية في أعضاء لم يكن بالإمكان الوصول إليها. هذا على الرغم من أن النتائج الأولى المباشرة لم تكن مشجعة؛ نظرًا لأن من طبيعة الجرح أن يتعفن إثر تلوثه بالبكتريا. ولم تكن هذه الظاهرة مفهومة أول الأمر مما تسبب في وفيات كثيرة عقب العمليات الجراحية. واستطاع «ليستر» حل هذه المشكلة في ستينيات القرن التاسع عشر؛ إذ أجرى أبحاثه تأسيسًا على إنجازات باستور، وابتكر ليستر مادة مطهرة، وأخرى مانعة لعفونة الدم لتعقيم جميع الأدوات والمواد المستخدمة في غرفة العمليات تعقيمًا تامًّا. واطرد تقدم تقنيات الجراحة، بأن أصبح نقل الدم عملًا عاديًّا، وكذلك زراعة الأعضاء كجراحة موثوق بها. وأُضيفت إلى هذه التطورات تطورات أخرى مساعدة تمثلت في ابتكار أدوات جديدة لها مهارات خاصة، من بينها استخدام الكهرباء وما أدته من دور مهم للغاية؛ فقد برهن فينسن العام ١٨٩٣م على الآثار العلاجية للأشعة فوق البنفسجية. واكتشف رونتجن العام ١٨٩٥م الأشعة السينية (أشعة إكس) وقدرتها الفريدة على توفير معلومات عن حالة العظام والأعضاء الباطنية للمريض. وسارت عائلة كوري في الخط نفسه للأبحاث العلمية، والذي قادها إلى اكتشاف الراديوم العام ١٨٩٩م، وما له من نتائج في مجال الطب وفي علوم أخرى. ويمكن القول إن المهارات الجراحية أسهمت إسهامًا باهرًا في سبيل سعادة الإنسان وإطالة متوسط العمر المتوقع، وإطالة أمد الحياة المنتجة، وكان لهذا كله أثره في حجم السكان.

وتضاعفت كثيرًا في هذه الأثناء كفاءة المهارات الطبية بفضل التقدم في فهم طبيعة العقاقير. والمعروف أنه كانت هناك وسائل علاجية قديمة وعريقة تستخدم عقاقير من نباتات، وتبيَّن أن لبعضها أساسًا كيميائيًّا صحيحًا وإن أحاطت بطريقة الاستعمال تقاليدُ وطقوس غريبة غير ذات صلة بالعلم أو التكنولوجيا الحديثين. وأدى التحول في الأسلوب القديم للصيدلة إلى الاستغناء عن العقاقير التقليدية والتحول إلى الأسلوب الصيدلاني الحديث خلال القرن التاسع عشر، وساعدت على ذلك كثيرًا التقنياتُ الجديدة لفصل وتحليل واختبار العقاقير. وتمثلت نتيجة هذا كله في إنتاج أنواع كثيرة جدًّا من العقاقير الجديدة لتخفيف الألم، بل ربما لكل الأمراض البشرية التي يمكن للإنسان تصورها. وكان الأسبرين (حامض الأستيل سالسيليك) من بين أول هذه العقاقير العام ١٨٩٩م. وظهرت من بعده عقاقير السلفا (السلفانوميد) في ثلاثينيات القرن العشرين، ثم البنسلين والسلسلة الكاملة من المضادات الحيوية خلال الأربعينيات. ولم يكن بالإمكان أن يحدث مثل هذا التطور في العقاقير — والذي يستلزم موارد مالية ضخمة، وخبرة فنية كبيرة — إلا في البلدان المتقدمة تكنولوجيًّا، ولكن فائدتها عمت العالم قاطبةً، وهكذا أصبحت عاملًا مهمًّا من عوامل الزيادة السكانية في العالم.

ونجد من بين الابتكارات الطبية التي لها أثرها القوي في الحياة الحديثة بعض الابتكارات التي أسهمت في الحد من الزيادة السكانية؛ من ذلك مجموعة وسائل تنظيم النسل التي أصبحت ميسورة خلال العقود الأخيرة. وطَبَعي أن هناك تاريخًا طويلًا لتنظيم النسل، سواء عن طريق التحكم في العلاقات بين الأفراد، أو عن طريق استخدام العوازل الصناعية على اختلاف أنواعها. زد على هذا أنه من الأمور اللافتة للنظر أنه مع تقدم المجتمعات تكنولوجيًّا زادت ممارستها لوسائل تنظيم النسل بصورة أو بأخرى. ولهذا نرى منحنى الزيادة السكانية أصبح مستويًا في البلدان المتقدمة، بعد أن كان في السنوات الأولى للتصنيع يزيد بمعدل أُسِّي، ولعل سبب ذلك إدراك الناس أن الاستمتاع بنوعية راقية للحياة في العالم الحديث إنما يعتمد على الحد من عدد الأفواه المطالِبة بالطعام داخل كل أسرة، ولكن أيًّا كان سبب هذا التحول الديموجرافي، فإنه علامة مبشرة تفيد أن بالإمكان احتواء ظاهرة الانفجار السكاني، غير أن من المتوقع أن تستمر قوة دفع الزيادة لبضع سنوات قادمة؛ نظرًا لأن عادات تنظيم النسل لم تنتشر بعدُ على نطاق واسع في البلدان الأقل تقدمًا.

ولم يقتصر الأمر على مجرد زيادة السكان في العالم الحديث، بل زاد أيضًا تركُّزهم في المدن الكبرى والعواصم. والملاحظ أن عملية الاتساع الحضري هذه كانت تحدث دائمًا على نطاق العالم وفقًا للضغوط والشروط التكنولوجية، وكانت تعبيرًا عن نجاح التجديد التكنولوجي في إزاحة الكثير من هذه الضغوط والشروط، مما يؤدي إلى زيادة حجم المدن. فالمدن دائمًا هي التعبير عن الحضارة ورمزها، وهي مؤشر على الاستيطان الدائم الذي تتولد عنه التجارة والصناعة، ووجود المدن وحجمها وانتشارها في مجتمع ما يمكن اعتباره مقياسًا لدرجة تعقُّد وتطوُّر هذا المجتمع أو ذاك، ولكن هذه الضغوط كانت شديدة القسوة والصرامة في المدن الأولى قديمًا، ومن ثم كان لزامًا على كل فرد أن يعيش حياته العملية داخل حدود المسافات التي يمكنه أن يقطعها مشيًا على الأقدام ليصل إلى مكان عمله، ولا بد أن تتوافر له في هذه الحدود إمدادات كافية من المياه العذبة، علاوة على الخدمات الأساسية من حيث الطرق المُعبَّدة والتخلص من النفايات، وتوافر الوقود للإضاءة والتدفئة والطهي. وسرعان ما تصل المدينة في حدود هذه الشروط إلى الحجم الأمثل لها الذي لا تتجاوزه. ونجد هذا واضحًا حتى بالنسبة لمدينة روما عاصمة الإمبراطورية التي استطاعت أن تنمو بفضل أعمال هندسية مدنية كبيرة. ولم تكن هناك أي مظاهر للتخفف من هذه القيود حتى القرن التاسع عشر حينما بدأت ضغوط الصناعة التي كانت حافزًا مُلحًّا لابتكار وسائل جديدة تسمح بالمزيد من النمو الحضري. ويمكن أن نلمس ثلاث مراحل للتطور الناجح للحلول التي أسهمت في حسم هذه الضغوط.

المرحلة الأولى، وهي ما قبل منتصف القرن التاسع عشر، حيث كانت السيادة للمدن الصناعية الجديدة، والتي أخذت في النمو سريعًا في بريطانيا وشمال أوروبا، وفي أنحاء من شمال شرق أمريكا؛ ذلك أن الصناعات القائمة على المؤسسات الصناعية، وتعمل فيها أعداد كبيرة من القوى العاملة، وتعتمد على القوة المحركة من المياه أو البخار اتجهت إلى التجمع حول المدن؛ لأن هذه المدن تمثل أساسًا للتوفير الاقتصادي من حيث الإمداد بالأيدي العاملة والتسهيلات اللازمة للوصول إلى الأسواق، فضلًا عن الحصول على الوقود اللازم. وعلى الرغم من أن بعض المجتمعات الصناعية لصناعات النسيج — مثل تلك المقامة في نيولانارك في اسكتلندا، أو مصانع ميريماك في نيو إنجلاند — ظلت داخل مناطق الريف مرتبطة بمصادر قوة المياه، فإن الموقع الطبيعي لأي مصنع كان في المدينة؛ ولذلك أعطى انتشار المصانع دفعة قوية لبناء المدن واتساعها، ولكن ظلت أغلب الضغوط التكنولوجية تعمل عملها في التأثير في حجم المدينة؛ إذ كان عمال المصانع مضطرين إلى العيش بالقرب من مصانعهم؛ ذلك لأن العمل يستلزم وقتًا طويلًا، مما يَحُول دون قطع مسافات بعيدة مشيًا على الأقدام للوصول إلى المصنع، ولم يَدُر بخَلَد أولئك الذين يعيشون على الكفاف إمكانُ وجود أي شكل من أشكال المواصلات، وعلاوة على هذا كانت الخدمات العامة من إمدادات المياه والتخلص من النفايات عند أدنى حد ممكن لها، وهو ما يستحيل على المدينة أن تتحمله. وأكَّد وباء الكوليرا أثر هذه القيود والضغوط، وهو الوباء الذي اجتاح مدن أوروبا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر. وحاولت بعض العواصم والموانئ الكبرى أو المراكز التجارية أن توفر تدابير إمدادات المياه، وأن تمهد طرقها وتوفر بعض أسباب الرفاه، ولكن — وعلى الرغم من هذا — بدا واضحًا تمامًا أن المدن الصناعية لا يمكنها أن تتوسع إلا إذا توافرت لها حلول دائمة تحسم هذه القيود التكنولوجية.

وبدأت الحلول تَتْرى خلال «المرحلة الثانية» للنمو الحضري، وهي المرحلة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى. وتمثل السكك الحديدية أهم قَسَمة بصرية مميزة لهذه المرحلة. وبدأت خطوط السكك الحديدية بطريقة فجة من حيث اتباع أنماط الاستيطان الحضري الموجودة في السابق، مع وصلات في شكل المدن، ولكن السكك الحديدية كانت أكثر من مجرد رمز لأسلوب جديد لحياة الحضر؛ إذ إنها وفرت وسائل نقل زهيدة نسبيًّا، واستطاعت بذلك أن تؤثر عمليًّا في معدل حركة التوسع الحضري، ومن ثم هيأت إمكانًا لزيادة عدد العاملين في المصانع وفي المكاتب للعيش في أماكن بعيدة إلى حد ما عن أماكن عملهم.

والمألوف أن خطوط السكك الحديدية التزمت طرقًا على طول الوديان الموصِّلة إلى مركز إحدى المدن، وأُقيمت سلسلة من المحطات على طول هذه الوديان قرب خط السكك الحديدية، مما سمح بقيام مستوطنات الضواحي. واقترنت هذه التطورات بجهود موازية استهدفت توفير المياه العذبة لجميع المنازل وبناء شبكة صرف وبالوعات. وسبق لنا أن عرضنا لأهمية هذه الخدمات العامة باعتبارها وجهًا للبنية الأساسية التكنولوجية؛ ولهذا نكتفي هنا بالإشارة إلى أنها أثرت تأثيرًا قويًّا في سبيل إزالة بعض القيود والضغوط الخطرة على عملية التوسع الحضري. وهناك خدمات عامة أخرى مثل صناعة إمدادات الغاز، ونشأت وتوسعت خلال هذه المرحلة أيضًا، ونشطت عملية تعبيد الطرق، وازدهرت عمليات التشييد والبناء التي تمثل قَسَمة حضرية، مثل دور الأوبرا وغيرها من مستلزمات الحياة المدنية التي تنافست مع بعضها لتوفير وسائل نقل محلية عن طريق تقديم أفضل خدمات في صورة الترام كمثال. وبدأ الترام في صورة خدمات من عربات تجرُّها الخيل، ولكن مع نهاية القرن التاسع عشر استخدم أغلبها وسيلة الجر الكهربائي لتشغيل ترام يعمل بقوة الكهرباء، ويصف هذه العرباتِ مؤرخٌ بقوله: «مراكب الجندول الشعبية»، وأفادت هذه كثيرًا في تيسير الحركة داخل المدن، كما شجعت على المزيد من التوسع.

وبدأت المرحلة الثالثة من النمو الحضري حوالي زمن الحرب العالمية الأولى، واستمرت منذ ذلك التاريخ، وتميزت بالزيادة المطردة في حجم المدن؛ مناطق حضرية تضخَّمت وتلاحمت مع بعضها وكأنها مجمع مدن، وأصبحت عاصمة البلاد، كما كانت في القرن التاسع عشر، مدينة ضخمة الآن مثل نيويورك أو طوكيو. وكانت القوة التكنولوجية الحافزة التي دعمت هذا التطور هي الطاقة المحركة بشكلَيها في القرن العشرين، ويمثلها المحرك الكهربائي، والمحرك داخلي الاحتراق. والمعروف أن الكهرباء حررت الصناعة من الاعتماد على قرب مورد الوقود؛ إذ أصبحت القوة المحركة متاحة الآن في أي مكان بفضل الشبكة الكهربائية. كذلك فإن المحرك داخلي الاحتراق حرر الصناعة من الاعتماد على السكك الحديدية والقنوات المائية لنقل الكميات الكبيرة من المنتجات والمواد الخام؛ إذ أصبح بالإمكان الآن نقلها من المصنع إلى المستهلك في شاحنات كبيرة تسافر عبر شبكة من الطرق السريعة. وأدى التحرر من هذه القيود التكنولوجية إلى ظهور العديد من المصانع بعيدًا عن مراكز المدن القديمة. وهيأت السيارة قدرة غير مسبوقة على انتقال الرجال والنساء، وبذا أصبح بإمكانهم اختيار المكان الذي يسكنون فيه بعيدًا عن مكان العمل، ويقطعون رحلة العمل يوميًّا بسياراتهم. أما من لا يملكون سيارة أو لا يرغبون في قيادتها وسط زحام مرور العاصمة فإن هناك خدمات القطارات الكهربائية السريعة والباصات.

وتمثَّل مجمل تطورات القرن العشرين في أن أصبحت المدن أكثر اتساعًا وأكثر أهميةً مما كانت عليه في السابق. وها نحن الآن نرى غالبية الناس في البلدان الصناعية المتقدمة هم من سكان المدن، ونسبة كبيرة من سكان البلدان الأقل تقدمًا يعيشون أيضًا في عواصم ومدن كبرى. ومع تعاظم المدن تأكدت الحاجة إلى نظام شامل لتخطيط المدن. وهناك بالطبع تراث عريق ومتميز لتخطيط المدن يرجع تاريخه إلى العالم القديم، وعاد ليظهر في القرن الثامن عشر. وظهرت خلال القرن التاسع عشر أمثلة كثيرة لعمليات تخطيط جزئي، خاصةً تخطيط المناطق الصناعية، ولكن لم يكن هناك تصور كامل عن خطة شاملة للحياة الحضرية على الرغم من أن باريس أُعيد بناؤها بالكامل في ستينيات القرن التاسع عشر بناءً على تعليمات نابوليون الثالث، ولكن ظهر في أواخر القرن التاسع عشر رواد لمفهوم تخطيط المدن، من أمثال أبينيزر هوارد في بريطانيا الذي شرع في إعداد مخططات لطراز جديد تمامًا للتطور الحضري. وألَّف هوارد دراسة عما سماه «المدن البساتين»، ووضع تصورًا عن جميع الوظائف الضرورية لحياة المدينة التي تجري داخل بيئة جديدة تُصمَّم بدقة واهتمام. وكان له أتباع كثيرون خلال القرن العشرين، وقاموا بمحاولات دَءوبة لضبط عملية الانتشار العشوائي للمدن. وعمدوا إلى خلق بيئة شاملة موحدة والحفاظ على ما تبقى من الريف، وضمان الحركة السلسة الانسيابية للمرور. وأصبحت هندسة المرور بوجه خاص مظهرًا أساسيًّا من مظاهر تخطيط المدن، وذلك لسبب عملي تمامًا هو أن اختناق المدن زاد بطريقة مزعجة مع زيادة أعداد السيارات؛ ولهذا أصبح لازمًا تهيئة المساحات التي تسمح بتدفق حركة المرور في حرية وسهولة. ومعنى هذا توفير طرق صالحة للسيارات داخل المدن التي كانت في السابق غير ملائمة لمن يعيشون في بيئة حضرية.

وأصبحت حياة المدينة قَسَمة مهيمنة ومميزة للمجتمع الحديث، وتكشف بذلك عن علاقة وثيقة بين التكنولوجيا والناس، وتتجلى هذه العلاقة ذاتها داخل البيوت حيث يعيش الناس. ويكفي أن نلقي نظرة على تنظيم البيت وتجهيزاته حتى نرى هذا واضحًا، ونرى البيت مُجهَّزًا بالكثير من التكنولوجيات المتاحة، ابتداءً من المفتاح الذي نضغط عليه ليعمَّ الضوءُ الغرفةَ، أو مفتاح تشغيل العديد من المعدات المنزلية على اختلاف أنواعها، وحتى التجهيزات وألياف النسيج وأجهزة التسخين والتهوية، وأدوات التسلية مثل الفيديو والهاي فاي. وإذا نظرنا إلى هذا التحول الذي طرأ على البيئة المنزلية على مدى القرن الأخير نجده من أكثر التغيرات عمقًا، والذي نسجته التكنولوجيا الحديثة. ولعلنا نأخذ هذا مأخذ التسليم لا لشيء إلا لأننا أَلِفناه كجزء من نسيج خبرتنا الشخصية المباشرة. وهذا واقع يدعو إلى الرثاء لأن هذا التحول أسهم إسهامًا قويًّا في تحرير الحياة الحديثة.

وإن مفهوم التحرر Liberalization مفهوم متكافئ الضدين، ولكنه مهم للغاية ووثيق الارتباط جدًّا بالتطورات التكنولوجية التي عرضنا لها في هذا الفصل، والجديرة بأن نضعها في هذا الإطار. والفكرة صعبة لأنها تتضمن دائمًا التحرر من شيء ما، والذي يمكن أن يتغير بتغير الزمان والمكان؛ ولهذا فإن الأوضاع المقبولة والعادية في قرن ما تبدو نوعًا من الفرض القسري الغشوم على المرء في قرنٍ تالٍ. وكذلك الحال بالنسبة للعلاقات الاجتماعية التي تبدو صحيحة بين الطبقات أو بين الجنسين في بلد ما يمكن أن نجدها موضع إدانة واتهام، وأنها انتهاك للحرية أو مناهَضة للمساواة بين الجنسين في بلد آخر. وهذا من شأنه أن يجعل أي تعميم بشأن الحرية أمرًا محفوفًا بالأخطار على الرغم من أن أهمية الحرية في حياة المجتمعات الحديثة لا يدانيها شك. ولنا أن نؤكد بقدر كبير من اليقين، فيما يختص بالعلاقة بين التكنولوجيا والناس، أن مناخ الحرية الاجتماعية شرط ضروري لتشجيع المبتكرين، ولضمان حصولهم على جزاء ابتكاراتهم، ويفيد مناخ الحرية أيضًا في ضمان شيوع وتطور الابتكارات لتصبح تجديدات ناجحة. علاوة على هذا فإن الليبرالية في صورة مجتمع مفتوح نسبيًّا، حيث يمكن مناقشة الأفكار والسياسات فيه مناقشة بنَّاءة، تمثِّل عاملًا مهمًّا لضمان أن الابتكارات التكنولوجية تُنظَّم على الوجه الصحيح، وذلك للحيلولة دون أسباب المعاناة البشرية أو منعًا لحدوث تدمير للبيئة.

لذلك فإن ما نريد أن نشير إليه هو أن التجديد التكنولوجي ينزع إلى تغيير العلاقات القائمة، وغالبًا ما يحدث هذا في اتجاه وضع جديد أكثر حريةً من سابقه. هذا على الرغم من أنه أحيانًا يُفضي إلى أسلوب قائم على الفرض والإلزام حتى ليذهب ظن البعض إلى أن الوضع الجديد غير مُستصوَب شأن الأوضاع السابقة العاطلة من الحرية، والتي تم التخلص منها. مثال ذلك أنه في الوقت الذي حطمت فيه السيارة ووسائل الاتصال الإلكترونية الكثير من الحواجز بين الطبقات، فإننا نجد أسلحة الحرب التكنولوجية الحديثة تهدد الناس بنظام استبدادي أشد طغيانًا من أي نظام مسبوق. وبينما استطاع كلٌّ من الهاتف والآلة الكاتبة والدراجة — وكذا وسائل توفير الجهد داخل البيت، والتي أشرنا إليها — أن يسهم بدور مهم في تحرير المرأة من عبودية الواجبات والمهام المنزلية، فإن كثيرين من المراقبين في المجتمعات الحديثة لا يزالون تحت سطوة مشاعر عميقة بعدم المساواة بين الجنسين، رسَّخ بعضَها الانحيازُ التعليمي التقليدي الذي يُلقِّن الفتيان فهمًا عن التكنولوجيا أفضل مما هو متاح للفتيات.

وأيًّا كانت مشكلات التعميم فقد يكون من الصواب القول إن غالبية الناس في البلدان الصناعية المتقدمة، إذا ما عقدوا مقارنة بين أنفسهم وبين آبائهم، أو بين أنفسهم وبين أقرانهم في البلدان الأقل تقدمًا، فإنهم يشعرون بأنهم أكثر حرية. وعلى الرغم من كل الدلالات المتناقضة فإن القسط الأكبر من الحرية مُستمَد من الكفاءة التكنولوجية، أي قدرتها على النقل والاتصال والإنتاج والإمتاع بالنسبة للمرء والناس بعامة. وسواء أكان الناس مُهيَّئين أم لا للإفادة بهذه التسهيلات ليكونوا أكثر استنارة أو ليكونوا معنويًّا أحسن حالًا وأكثر تفوقًا، فإن هذا يثير قضايا عميقة الأهمية والدلالة تتجاوز نطاق دراستنا هذه. ويكفينا هنا أن نقرر أن ثمة علاقة حميمية وحاسمة بين التكنولوجيا والحرية، والتي من دونها لن يتسنَّى للناس الإفادة بها. وبات لزامًا أن تترسخ هذه الحرية وتأخذ صيغة تشريعية إنسانية ومؤسسية بين الفرد والدولة، وهذا هو موضوعنا في الفصل التالي.

١  هنا يكشف المؤلف عن انحياز غربي لا تدعمه نظريات الثقافة، وليس الأمر قدَرًا محتومًا على ثقافة دون أخرى، وإنما يمكن القول إن الثقافة الاجتماعية في ظروف تاريخية تطورية بذاتها، ولعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية ومؤسسية؛ تعزز استعداد المجتمع للخروج على التقليد وطرح فكر جديد، وابتكار ثوري، وفي ظروف أخرى تمثل بيئة محبطة لكل عوامل الابتكار والتجديد. فهكذا كانت أوروبا في العصور الوسطى، بل قبل الوسطى أيضًا، ثم تغيرت مع ميلاد العصر الحديث عبر معاناة وصراعات مُرة، بل دموية. إذن ليست خاصية الإبداع في الحضارة الغربية ضاربة بجذورها في التاريخ كما يقول، وإنما تحولات اجتماعية تاريخية تخلق بيئة جديدة وإنسانًا جديدًا وعقلًا جديدًا وثقافةً جديدة، ومن ثم الإنسان/المجتمع الباحث المبتكر في تفاعل حي وقبول لتحديات الحياة. والغريب أن المؤلف نفسه ألمحَ إلى ذلك في حديثه عن الصين في ظل سلطة كبار موظفي الدولة ومؤسساتها وعلاقاتها، وهو ما يصدق على كل المجتمعات. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤