الفصل الثاني عشر

التكنولوجيا والدولة

حين نَصِف الإنسان، رجلًا كان أو امرأة، بأنه حيوان اجتماعي فإن المقصود أنه يعيش بطبيعته في مجتمع، وأنه من دون هذه العلاقة ستصبح الحياة كما قال ووصفها هوبز بكلماته الشهيرة «كريهة ووحشية وقصيرة»، ومن ثم فإن الحياة البشرية برُمَّتها تسير داخل شبكة من العلاقات الاجتماعية. وتنقسم هذه الارتباطات إلى فئتين؛ إلزامية وطوعية. والملاحظ أن الغالبية من العلاقات الاجتماعية هي علاقات طوعية حيث لنا أن نختار، نظريًّا على الأقل، ما إن كان لنا أن ننتمي أو لا ننتمي إلى دُور العبادة أو النقابات أو جمعيات الحفاظ على البيئة أو نوادي التنس. أما المجتمعات الإلزامية فهي قليلة العدد، ولكنها ذات شأن حاسم. وثمة اثنان منها فقط؛ الأسرة التي نولد في كنفها وتعطينا توجهنا العرقي والثقافي، دون أن يكون لنا خيار في هذا، والدولة وهي المسئولة عن الحفاظ على القانون والنظام داخل مجتمع إقليمي معين، كما تعمل على ضمان تلاحُمه في مواجهة أي عدوان من الخارج. ونؤكد ثانيةً أن ليس لنا خيار بشأن الدولة التي نولد في نطاقها. وهكذا تُستقطَب المجتمعات البشرية إلى جماعات تدافع عن نفسها، وهي الدول، حتى إن اخترنا يومًا التخلي عن تبعيتنا لدولة ما إنما يكون لننقل التبعية إلى دولة أخرى. ولا معنى على الإطلاق لوجود إنسان بلا جنسية لا ينتمي إلى دولة ما؛ ولهذا تُعتبر الدولة شكلًا من أهم أشكال المجتمع، ولها إمكاناتها الهائلة في أن تُحسِن أو أن تسيء استخدام التكنولوجيا.

ونذكر أولًا أن الدولة تخضع هي الأخرى لنوع القيود والضغوط التكنولوجية نفسه فيما يتعلق بالحجم حتى أثَّرت في نمو المدن؛ فالسلطة الفعالة للدولة من أجل الحفاظ على القانون والنظام وتطوير وسائل الدفاع الضرورية ضد أي عدوان محتمل، إنما تحددها كفاءتها التكنولوجية لكي تزيد من عدد قوات الشرطة والجيش وتزودهم بالمعدات، وكذا كفاءتها في نقل هذه القوات بسهولة إلى أي مكان مطلوب، وكفاءتها في توفير الاتصالات مع هذه القوات في أثناء عملياتها.

والجدير ذكره أن الإمبراطورية الرومانية توافرت لديها شبكة طرق برية متميزة، وتنظيم سياسي عالي المستوى، ومع هذا اضطُرت إلى أن تعاني من هذه القيود إلى أقصى حد؛ إذ كثيرًا ما اضطُرت جيوشها إلى أن تحارب خارج حدود سلطة إدارة الإمبراطورية؛ ولهذا بدأت هذه الجيوش تعمل وكأنها دول داخل الدولة، ومن ثم أصبحت تشكل تحديًا لعوامل تلاحُم الإمبراطورية، وهو ما عجزت عن مقاومته في نهاية الأمر. ومع انهيار السلطة الرومانية في غرب أوروبا ارتدَّت المنطقة إلى شكل أبسط من المجتمعات بعدما أدخل الغزاة التيوتونيون نظام ولاياتهم القَبَلية القائم على العصبية العائلية، والذي أصبح يمثل الشكل الأصلي والأساسي لتنظيم الولاية.

واستعادت المنطقة تلاحمها السابق بعد طرد جحافل الغزاة بفضل زيادة رخاء وقوة المجتمعات المستقرة. هذا على الرغم من أن هذه المجتمعات لم تندمج معًا في دولة واحدة، مما كان له أثره الواضح في تطور الحضارة الغربية. معنى هذا أن الغرب، على عكس الحال بالنسبة للحضارتين المصرية والرومانية، كان يفرز دائمًا خليطًا كبيرًا من البلدان المختلفة، والتي أمضت غالبية أيامها في تنافس واضح بعضها مع بعض، بيد أن هذه المنافسة ذاتها هيأت للغرب إمكان الوصول إلى أساليب بديلة للحكم مثلما هيأت إمكان تطور تقاليد حق الاختلاف والتسامح والليبرالية، وحفَّز هذا التنوعَ أيضًا التنافسُ في مجال التكنولوجيا.

كان لدينا فيما سبق ما يبرر رصد أهمية توافر المناخ الليبرالي في عمليات التطور التكنولوجي، وحريٌّ بنا الآن أن نشير إلى أن نطاق هذا المناخ الليبرالي كان جزءًا لا يتجزأ من العلاقة بين الدول الكثيرة المتنازعة داخل الحضارة الغربية، وليس معنى هذا أنه كان مقصودًا مُتعمَّدًا؛ ذلك أن العلاقات بين البابوية والإمبراطورية، أو بين الكاثوليك والبروتستانت، أو بين أحد الملوك ومنافس له يدَّعي حقه في العرش لا تكشف عن شيء يماثل ما يعرفه العالم الحديث من ليبرالية ديمقراطية، ولكن الانهماك في هذه النزاعات بين الدول في الغرب، أو في كثير غيرها مما له طبيعة شخصية أو عصبية، خلق تراثًا لرأي أكثر حرية وحق الرأي في الاختلاف والتعبير عن نفسه، بل شجعه على ذلك إذا ما كان قادرًا على دعم مصالح طرف أو آخر في هذه النزاعات، خاصةً إذا ما تعلق الأمر بإمكان تحقيق رخاء تجاري أو كفاءة تكنولوجية. وهكذا نجد أن مجموعة العوامل المميزة والجوهرية الفنية بدأت تتشكل كما بدأت الدول في أوروبا تضعها في الحسبان أكثر فأكثر.

وكان من بين السبل التي الْتَمستها الدول لتشجيع التكنولوجيات التي يمكنها أن تهيئ لها ميزة على منافسيها؛ أن منحت المخترعين حق الاحتكار بما يكفل لهم جزاءً ماليًّا لقاء أفكارهم. وتجلى هذا أولًا كوسيلة لدعم التجارة والصناعة عن طريق حماية مشروعات بذاتها في مجال التوسع التجاري. مثال ذلك التجارة عبر البحار مع جزر الهند الشرقية، أو جلب حرفيين أجانب لاستخراج النحاس من المناجم الإنجليزية. وتعدَّل المفهوم بطريقة ملائمة بحيث يمنح المخترع براءة اختراع، مما يهيئ له فرصة تحقيق عائد مالي مقابل استثمار أفكاره، وبذلك يكون للمخترع وحده حق الاستفادة باختراعه خلال فترة محددة. والملاحظ أن النظام في بريطانيا كان معقدًا وباهظ الكلفة خلال القرن الثامن عشر؛ ولهذا عجز كثيرون من المخترعين عن تحمل نفقات وأعباء الحصول على براءة الاختراع، أو آثروا الاحتفاظ باختراعهم سرًّا، ولكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى أن عددًا من رجال الصناعة المتمرسين من أمثال بولتون ووات عَرفا كيف يفيدان جيدًا من هذا الوضع لحماية براءة اختراعهما للمحرك البخاري الذي ظل سرًّا لهما على مدى ربع قرن، ولكن أصبح الوضع بعد ذلك أكثر بساطة وأقل كلفة، مما هيأ الفرصة للمزيد والمزيد من المخترعين لكي يفيدوا من الحماية التي تكفلها لهم براءة الاختراع. واستحدثت غالبية البلدان الصناعية في أوروبا وشمال أمريكا نظمًا مماثلة خلال القرن التاسع عشر. وبدأت براءات الاختراع تكتسب اعترافًا دوليًّا، وإن استطاعت بعض البلدان أن تستغل ثغرات في نص التشريع، ولكن أهم شيء من وجهة نظرنا بالنسبة لنظام براءة الاختراع ليس نطاق النظام أو فعاليته، بل وجوده في حد ذاته الذي يعبر عن الإقرار بحق الفرد، وبأنه جدير بهذا الحق، ومن ثم فهو عنصر عالي القيمة من بين مجموع العناصر التكنولوجية.

وبحلول القرن الثامن عشر بدأت تخف بعض القيود التقليدية على التطور التكنولوجي، ونخص بالذكر هنا التفوق في بناء السفن الشراعية وصناعة المدفع، مما مكَّن دولًا أوروبية كثيرة من تكوين إمبراطوريات مهمة فيما وراء البحار. ومن دواعي السخرية أنه بينما ظل النقل البري داخل أوروبا بدائيًّا إلى أقصى حد كانت السفن الشراعية للبرتغال وإسبانيا وفرنسا وهولندا وإنجلترا والسويد تَمخَر أسرابًا طويلة عبر محيطات العالم، واستطاعت هذه البلدان إنشاء محطات ومستعمرات تجارية لها على شواطئ الهند والعالم الجديد، ولكن تعذر عليها كثيرًا الاختراق والتوغل إلى داخل القارات فيما وراء قواعدها. ومن المُسلَّم به أن الإسبان حاولوا بكل الطرق أن يفعلوا ذلك في أمريكا الوسطى بفضل الشجاعة الفريدة للغزاة الإسبان وقسوتهم الوحشية، ثم علاوة على تحالف الحظ معهم؛ إذ وجدوا سكان البلاد الأصليين وقد أعاقتهم الانقسامات والخرافات، ولكن ظل هذا الوضع استثناء إلى أن حظي البريطانيون بميزات مماثلة خلال غزوهم الهند في نهاية القرن الثامن عشر. وبعد ذلك بدأ المستوطنون الأوروبيون يتوافدون أفواجًا لم تنقطع. وتكدس المستوطنون الأوروبيون كما تكدست قوة السلاح الناري، وهكذا تهيأ إمكان ضم الجزء الأكبر من المناطق غير الاستوائية في العالم تدريجيًّا منطقة بعد أخرى. وفي شمال أمريكا أخذ المستوطنون هذه المهمة على عاتقهم بعد أن طردوا السلطة الاستعمارية البريطانية، ولكن كان على القوى الاستعمارية أن تنتظر فترة أطول لضم المناطق الاستوائية في العالم، وذلك إلى حين توافر الأدوات التكنولوجية الملائمة، خاصةً البواخر الصغيرة الحجم والموثوق بها، بحيث تكون قادرة على الملاحة عبر الأنهار وسط الغابات الاستوائية. هذا علاوة على الحاجة إلى توافر عقاقير مثل الكينين لمقاومة الملاريا التي كانت سلاح الموت ضد الرجل الأبيض. وحين توافر هذا كله — فضلًا عن التطور المستمر الصاعد للسلاح الأوروبي، وزيادة شبكات السكك الحديدية عبر القارات — استطاع الدخلاء اختراق جميع القارات وإخضاعها لأوروبا.

وبدأت الدول الأوروبية في القرن السادس عشر عمليات تكوين إمبراطوريات لها فيما وراء البحار، وذلك في وقت كانت هذه الدول المعنية لا تزال في حقيقتها منتَجًا للتنظيمات الأسرية في العصر الوسيط، على الرغم من أن الإصلاح الديني البروتستانتي أضاف إلى الوضع بعد ذلك بُعدًا آخر للصراع الديني. حقًّا لقد بدأت هذه الدول آنذاك في التفكير في نفسها باعتبارها «أُممًا»، ولكن الأمر استغرق زمنًا طويلًا إلى أن نضج وساد المفهوم الحديث بكل مقوماته عن الدولة-الأمة، ولكن الثورة الفرنسية العام ١٧٨٩م وجهت ضربة قوية اهتزت لها أركان مبدأ الشرعية الأسرية، وقدمت مبدأ أكثر قوة، وأصبحت لهذا المبدأ السيادة في السياسة الأوروبية، ألا وهو صوت الشعب. بدا التعبير أول الأمر تعبيرًا مُبتسَرًا على لسان العامة، ولكنه تدريجيًّا ازداد وضوحًا وتماسكًا، وأصبحت له دلالته الواضحة كتعبير عن الحركات الجماهيرية الشعبية في القرن التاسع عشر التي اتجهت غالبًا نحو أهداف قومية، وتمخض هذا عن نتيجة محددة، وهي أن أصبحت دول أوروبا دولًا-أممًا، ومن ثم عَدَّلت من أهدافها وفقًا لمقتضيات الوضع الجديد، وظلت على حجمها زمنًا وإن أصبح بعضها أكبر حجمًا، كما لم تخفَّ حدة التنافس فيما بينها، بل ربما زاد التنافس حدةً في بعض الأحيان، ولكن الشيء الجديد هو تبنِّي الدول الأوروبية لمواقف قومية فيما يتعلق بلغاتها وأصولها العرقية وتراثها الثقافي، وظل التنافس فيما بينها حافزًا للتطور التكنولوجي مع فارق وحيد؛ أنه يخدم اليوم تطلعات قومية.

ولنا عودة إلى موضوع المساهمة المتميزة للتكنولوجيا في الحرب بين الدول-الأمم المتنازعة، ولكن من المهم هنا أن نلحظ أن التطورات التكنولوجية خدمت دائمًا النزعة القومية في مجالات أخرى. والجدير ذكره أن الإزالة العملية لكل القيود التكنولوجية المفروضة على توسيع الدولة بسبب طبيعة وسائل النقل والمواصلات الحديثة، ووسائل توليد القوى المحركة ساعد على دعم النزعة القومية، وأشبع أسباب الخُيَلاء الإمبراطورية. ووَضَعت هذه الوسائلُ أيضًا في خدمة الحكومات قوًى هائلة للسيطرة على المعلومات والدعاية، مما ساعد على خلق رأي عام ساكن راضٍ بالواقع. وبدا واضحًا أننا عَبَرنا العام ١٩٨٤م دون أن يصدق الكابوس الذي تنبأ به جورج أورويل والذي أنذر باتخاذ إجراء مروع من جانب الهيمنة الشاملة للدولة ضد الشعوب، عن طريق «أجهزة دعاية جديدة والتحكم من بعد» وغير ذلك، ولكن الواضح بالنسبة لبعض المجالات أن القوى المتاحة للدول-الأمم للإرهاب أو خداع المواطنين أضحت أكثر إزعاجًا من تلك التي تصوَّرها أورويل. وأصبحت اليقظة ضد تزايد عمليات الإخضاع القومية أمرًا حيويًّا بالنسبة لأي مجتمع صحي.

إن مفهوم الصحة الاجتماعية من شأنه أن يثير تساؤلات كثيرة ما لم نحدده بوضوح. وهدفنا هنا أن ننقل فكرة توافق الرأي الاجتماعي القائم على درجة عالية من المشاركة في عمليات اتخاذ القرار، سواء قرار الدولة أو قرار مستويات مباشرة أكثر تختص بالنشاط الاجتماعي، أو بعبارة أخرى، إننا نتحدث عن الديمقراطية، على الرغم من سوء استخدام هذه الكلمة واختلاف معانيها باختلاف الناس، والتي تعني أن يكون «الحكم بواسطة الشعب» عنصرًا فعالًا على وجه اليقين في هذه المشاركة؛ إذ من دون ذلك سوف ينتهي الأمر بأن تكون السيطرة الاجتماعية حكرًا بين أيدي أصحاب الثروة أو الخبرة العملية، وهو ما يُوهِن «سلطة الشعب» إذا كان لها وجود، لذلك فإننا نُسلِّم هنا كبَدَهية بأن أحد شروط الصحة الاجتماعية يوفر شكلًا ديمقراطيًّا للحكم الذي يدعمه مستوًى عالٍ من المشاركة الشخصية، ونُسلِّم هنا أيضًا بأن هذا الوضع يعني ضمنًا سيادة القانون بطريقة واضحة لا لبس فيها، حيث تتحدد قوانين الدولة بناءً على عملية عامة مُعترَف بها لصياغة القوانين، والتي تتضمن أحكامًا بتغيير القانون، والذي يخضع له جميع أبناء المجتمع دون استثناء.

وإذا اتفقنا على أن هذا تعبير منصف عن نوع الحكم الذي يتضمنه مصطلح «الديمقراطية»، وأن هذه الشروط إجمالًا أكثر استصوابًا ومعقولية من أي تدبير اجتماعي آخر، ومن ثم فهي السبيل الذي يصل بنا إلى أقصى قدر من المجتمع الصحي، إذن سيكون يسيرًا علينا أن ندرك أن لهذا كله نتائجه المهمة بالنسبة للتكنولوجيا، وذلك لأسباب عدة، منها أولًا أن موارد التكنولوجيا الحديثة تهيئ قوًى هائلة، وتضعها في خدمة الدولة الديمقراطية لتوصيل المعلومات ولتشجيع المشاركة، ولكن هذه الموارد ذاتها يمكن أن تتوافر لأشكال حكم أخرى وتستخدمها لأغراض أقل استصوابًا على نحو ما شاهدنا في مثال الدعاية القائمة على تعصب قومي. وثمة أمثلة كثيرة على دكتاتوريات القرن العشرين البغيضة، وما أكثرها، وأكدت هذه الأمثلة إلى أي حد أساءت السلطات استخدام قوى التكنولوجيا، وهذا النوع من الحكم هو الذي يشكل مادة الكابوس الذي حدَّثَنا عنه أورويل. ولعل من الحمق أن ننكر أن التكنولوجيا يمكن أن تستخدمها الدول بكفاءة عالية جدًّا على الرغم من أنها دول لا تحكمها توجهات أو نوايا ديمقراطية، ومن ثم يتعين علينا التزام الحذر السياسي اليقظ ضد هذه الانتهاكات. ويكفي هنا أن ندرك أن مثل هذه الانتهاكات غريبة على مفهوم الثورة التكنولوجية الذي عرضناه في كتابنا هذا؛ إذ إن هذه الثورة جزء مكمِّل لمجموعة عوامل، من بينها أن السياسة جزء لا يتجزأ، وشرط لازم للتحرير وسيادة الليبرالية التي هي الطريق إلى الديمقراطية. وإذا كان ثمة خطر حقيقي داهم يتمثل في تسخير التكنولوجيا لأغراض مناهِضة للحرية والليبرالية فإن نجاح هذا لن يفضي فقط إلى تدمير الديمقراطية، بل أيضًا تدمير الثورة التكنولوجية كما نفهمها. وإن مثل هذه النتائج تعني ضمنًا انهيار بنية المجتمع الحديث وتفكُّك نسيجه، وهو ما يعني نذيرًا أسود لمصير المجتمع العالمي كله.

وإذا كان علينا ألا نقلل من هذه الأخطار، فإننا نؤكد مجددًا أن الدول الديمقراطية الليبرالية الحديثة يمكنها أن تتخذ إجراءات وقائية للحيلولة دونها، والتي تشتمل — من بين ما تشتمل — على اعتراف بدور التكنولوجيا. وتمتد هذه التدابير الوقائية إلى مجالات التربية والتعليم والعلم والثقافة والحرب، وحريٌّ أن نتناول كلًّا من هذه على حِدَة؛ فالملاحظ بالنسبة للدور التكنولوجي في التعليم أنه لم يحظَ بتقدير دائم، ولكن تزايدت أهميته باطراد خلال القرنين الأخيرين؛ إذ كان التصور حتى القرن الثامن عشر أن التعليم نظام يخص الصفوة، ويهدف إلى تثقُّف عقول أبناء الطبقة الحاكمة عن طريق تعليمهم الكلاسيكيات، وكذلك وبنسبة محدودة النظرية الرياضية. أما اكتساب المهارات، سواء من أجل الحصول على عمل أو للإشباع الشخصي؛ فقد كانت المجتمعات تعتبره غير ذي صلة بالنظرية أو بالممارسة التعليمية، لذلك لم يكن هناك تخصص رسمي له. وكان المتوقع أن المهارات التقنية بخاصة تُكتسَب خلال الممارسة العملية، مثال ذلك أن المهارات التقليدية القديمة، مثل مهارات البنائين والنجارين وصانعي البراميل والحدادين وصناع الأدوات والأوعية المعدنية، فقد تواضع المجتمع على أن يكتسبها المرء من خلال نظام التلمذة الصناعية، ويقضي هذا النظام بأن يلتزم التلميذ بناءً على عقد بالتلمذة على يد المعلم فترة تمتد سنوات عدة يكون من المتوقع أن يتعلم خلالها التلميذ الحرفة. ويدفع آباء التلاميذ ثمنًا مقابل ميزة تعلم التلميذ كلًّا من التدرب على المهنة والانضمام إلى طائفة الحرفيين.

ومن الأهمية بمكان أن نعترف بأن نظام التدريب عن طريق التلمذة الصناعية ظل ناجحًا على مدى قرون طويلة، وكان يمثل خلال هذه الفترة الشكل الوحيد المتاح للتعليم التكنولوجي. وليس لنا أن ندهش، إزاء هذا التراث الطويل العريق، حين نعرف أن المحاولات التي استهدفت في العصر الحديث تغيير هذا النظام التعليمي، وإبداله بنظام مؤسسي اجتماعي واجهت مقاومة أول الأمر، ولكن الواقع أنه بحلول القرن التاسع عشر، إن لم يكن قبل ذلك، اتخذت عدد من الحرف الأساسية، مثل العمارة والجراحة، خطوات تهدف إلى تحسين وتنظيم عملية تعليم الملتحقين بها لتعلم المهارات الخاصة بالحرفة؛ ذلك لأن التلمذة الصناعية لم تعد ملائمة للوفاء بحاجة المجتمع الجديدة للتعليم الفني؛ إذ زادت حاجة المجتمع نتيجة لزيادة حركة التصنيع. وتغيرت التلمذة الصناعية نوعيًّا نتيجة تطبيق اختراعات تكنولوجية واكتشافات علمية جديدة. مثال ذلك أن ظهور السكك الحديدية وشيوعها خَلَق حاجة إلى عدد من المهندسين أكثر من طاقة نظام التلمذة الصناعية السائدة آنذاك. كذلك فإن المجالات الجديدة، مثل الكهرباء والكيمياء العضوية، وهي مجالات تولي أهمية كبرى للخبرة التكنولوجية ليست من المجالات التي يمكن تعليمها عن طريق التلمذة الصناعية؛ لأنها تتجاوز خبرة الممارسين العمليين لها.

وكان حل هذه المشكلات وغيرها من المشكلات ذات الصلة هو استحداث نظام للتعليم التكنولوجي في المدارس والمعاهد والجامعات. ولسوء الحظ أن تعايَشَ بصعوبة هذا النظامُ أول الأمر مع التقاليد القديمة في الممارسة التعليمية، ولكن تُمُثِّل واستُوعِب آخر الأمر في صورة مزيج دائم ومعقول. وكانت الحاجة إلى ذلك واضحة البرهان. وعندما تبيَّن أن المؤسسات التعليمية القائمة عاجزة عن التلاؤم مع الجديد؛ خُطِّط لهيئات جديدة بديلة. وقادت الدولة الفرنسية الطريق إلى التجديد بعد الثورة العام ١٧٨٩م؛ إذ أنشأت المدرسة الفنية متعددة التخصصات «البوليتكنيك»، وأعقبتها بروسيا بأن أنشأت معاهد رفيعة المستوى للتعليم التكنولوجي. وتبنَّت معاهد «المنحة الأرضية» Land-Grant Colleges في الولايات المتحدة موضوعات تقنية عند تأسيسها في الولايات الجديدة. وقامت السويد أيضًا بدور رائد في مجال التعليم التكنولوجي في جامعتها التي أُسست العام ١٨٢٩م، واتخذت لنفسها اسم التاجر الاسكتلندي وليام كالمرز الذي وهب منحة إنشائها، ولكن ظلت بريطانيا وحدها متشبثة بطرق التعليم التقليدية على الرغم من أن نجاح التصنيع البريطاني في مطلع القرن التاسع عشر رآه البعض حُجة قوية ضد التغيير، كما أن النزوع القوي في منتصف القرن إلى تطبيق مبدأ حرية العمل Laissez Faire في التعليم وفي غيره من إدارات السياسة العامة، قضى على أي إمكان لقيام مبادرة من جانب الدولة. ومع هذا اضطُرت بريطانيا أخيرًا إلى الإقرار بحاجتها إلى التغيير، وهو ما أكدته النجاحات الملموسة التي حققتها البلدان المنافسة في النصف الثاني من القرن. وشرعت بريطانيا في وضع مقررات دراسية جديدة، وأقامت مؤسسات جديدة احتل التعليم فيها مكانًا بارزًا. وهكذا مع نهاية القرن أصبحت كل دولة في العالم الغربي ملتزمة بالتعليم التكنولوجي، وأقامت له المؤسسات الملائمة حتى وإن تضمن هذا تغيير التصور العام عن دور الدولة والوفاء بالالتزامات التعليمية الموضوعية التي لم يكن بمقدور الإدارات السابقة النهوض بها. وأصبح التعليم الفني، بناءً على ما سبق، جزءًا لا يتجزأ من جهود الدولة.

وكان من مظاهر اكتساب التعليم التكنولوجي صبغة رسمية متزايدة باطراد تزايُدَ الطابع المهني المتخصص. والملاحظ أنه قبل أن تتخذ أي دولة إجراءاتها المسئولة بشأن التعليم، شرعت جماعات من أصحاب المهارات في التخصصات التكنولوجية الجديدة في تشكيل جمعيات تعبر عن مصالحهم خاصة عن طريق ضبط وتنظيم الانضمام إلى صفوفهم. ووضعت هذه الجمعيات من أهدافها أيضًا تعويض النقص في المنشآت التعليمية الرسمية، عن طريق تطبيق نظام التعليم الذاتي لأعضائها من خلال المناقشات، وفي وقت ساعات الراحة والمرح. ويُعتبر المهندسون البريطانيون مثالًا رائعًا للتعبير عن هذا الاتجاه. فبعد أن كان من المتعذر وجود فريق مُعترَف به قبل منتصف القرن الثامن عشر بدأ عدد قليل منهم يطلقون على أنفسهم اسم «المهندسين المدنيين»، وذلك عن رغبة واعية في تمييز أنفسهم عن المهندسين العسكريين الذين كانوا مشهورين اجتماعيًّا. واستطاعوا بفضل قيادة جون سميتون تشكيل «جمعية المهندسين المدنيين» العام ١٧٧١م، لتكون على هيئة نادٍ للرجال مع القيام ببعض الوظائف المهنية المنوطة بها. وبعد جيلَين، أي في العام ١٨١٨م تزايد عدد أبناء المهنة الوليدة زيادة كبيرة قمينة بأن تنشئ منظمة مهنية كاملة الحقوق والواجبات تحت اسم «مؤسسة المهندسين المدنيين»، وتولى رئاستها توماس تلفورد. وصاغت في عهده ميثاقها الملكي العام ١٨٢٨م، ثم أصبحت النموذج الذي تحتذيه مؤسسات هندسية مماثلة في بريطانيا وفي أنحاء الإمبراطورية البريطانية، وفي الولايات المتحدة. ولم تكن الدولة مسئولة عن إنشاء هذه المؤسسات وما شابهها، مثل هيئة المهندسين المعماريين، أو الملاحظين المعماريين أو غيرها من الجماعات المهنية الجديدة، ولكن الدولة اتجهت في القرن التاسع عشر إلى النظر إليها نظرة رضًا وإقرار بها باعتبار أنها تمثل توسعًا وامتدادًا للنظام الاجتماعي القائم على الاعتماد على النفس، ورأت فيها أمرًا مُستصوَبًا. وهكذا ترسَّخ نظام التخصص المهني وأصبح موضع ترحيب اجتماعي عام كمنتج مشتق من التكنولوجيا الحديثة، وعمد هذا النظام في الغالب الأعم إلى خلق علاقة حميمية مع تعليم الفريق المتخصص المعني، ليقدم إسهامًا موضوعيًّا من أجل ظهور صفوة من الطبقة المسئولة عن الإدارة.

وتوازى نمو النشاط التكنولوجي في العالم الحديث مع نمو العلم في ترابط وثيق بين الاثنين، ولكن يتعين الإقرار بأن الاثنين ظاهرتان متمايزتان وإن ارتبطا بعضهما ببعض، كما لاحظنا في مُستهَل هذه الدراسة؛ فالعلم معنيٌّ بالمعرفة وبفهم طبيعة البشر في بيئتهم، بينما التكنولوجيا معنيَّة بصنع وعمل الأشياء، أي معنية بالطريقة التي يغير بها البشر بيئتهم. وإذا كانت التكنولوجيا قديمة قِدَم النوع البشري فإن الخبرة العلمية اعتمدت على مهارات تعلم الكتابة والحساب؛ ولهذا فهي حديثة نسبيًّا وليست أسبق من الحضارات الباكرة. واتجه العلم والتكنولوجيا إلى التطور مستقلَّين عن بعضهما نظرًا لتباين الخصوصيات الاجتماعية؛ فمن المُسلَّم به أن العلم عمل الفئات المتعلمة سواء أكانوا رجال دين أم رجال إدارة عليا، أو أرستقراطية، بينما اقترنت التكنولوجيا بالحرفيين والعمال والعبيد. ولم يبدأ التقارب بين البحث العلمي والمهارات العلمية إلا في المجتمع الأوروبي الغربي في العصر الوسيط، عندما تهيأت له ظروف تتَّسم بقدر ضئيل من الانفتاح، وتجلى هذا في عديد من مظاهر التقدم المهمة في مجالَي ضبط الوقت والملاحة. وأُسست الجمعية الملكية العام ١٦٦٢م، كما أُسست خلال هذه الفترة تقريبًا مؤسساتٌ علمية قومية مماثلة في بلدان أخرى، وشجع على هذا ما أكده الكشف العلمي من فائدة مرجوَّة، أو بعبارة بيكون الشهيرة أن الكشف العلمي استهدف «زيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة». وطَبَعي أن اختراعات مثل اختراع المحرك البخاري ما كان له أن يتحقق دون تطور العلاقة الخصبة بين العلم والتكنولوجيا.

ولكن الملاحظ خلال القرنين الأخيرين أن هذه العلاقة أصبحت أكثر توثقًا وتكافلًا مع اطراد مظاهر الاعتماد المتبادل بين العلم والتكنولوجيا. مثال ذلك أن النجاح الهائل للمحرك البخاري حفَّز أهل الفكر إلى استكشاف طبيعة العمليات داخل المحرك الحراري، وإلى تطوير نظريات الديناميكا الحرارية، التي حققت إسهامًا مثيرًا في مجال الفيزياء الحديثة. وأدى التقدم في فهم هذه الظواهر بدوره إلى حفز مهندسين من أمثال رودولف ديزل إلى تطوير المحرك داخلي الاحتراق بفضل تصوره النظري عن محرك عالي الانضغاط. وحدثت تطورات مماثلة في فروع أخرى للعلم والتكنولوجيا، كان أوضحها في العلاقة بين علم الكهرباء والهندسة الكهربائية، وكذا بين علم الكيمياء وتكنولوجيات الهندسة الكيميائية والصيدلة. وسبق أن أشرنا إلى الدلالات الضمنية لهذه الرابطة الوثيقة المتزايدة في ضوء الإجراءات التعليمية، إنها إجمالًا زيادة اعتماد التكنولوجيا على النظرية العلمية، وفَهْم أن هذا أدى إلى زيادة الحاجة إلى تعليم رسمي مؤسسي في هذه المجالات، ولكن لا يزال كلٌّ من النشاطَين محتفظًا بهويته المميزة. ونذكر بوجه خاص أن تطور المعرفة العلمية ينزع إلى التحرك في طفرات أو «نقلات للإطار الفكري»، بينما الخبرة التكنولوجية يغلب عليها الطابع التراكمي في صورة آلية متدرجة ومتشابكة، ولكن ثمة أسباب عملية وجيهة تبرر لنا معالجة كلٍّ منهما على حِدَة.

شجعت الدول الحديثة التعليم الفني وأحاطت برعايتها التكافل بين العلم والتكنولوجيا. وأفاد هذا كثيرًا في خلق وتعزيز ظروف الحراك الاجتماعي بحيث أصبح الأفراد واعين بالفرص المتاحة أمامهم لتحسين أوضاعهم، ومدركين أن لكل امرئ دوره الشخصي الموضوعي والمهم، وبذلك رسخت الدول أسس الديمقراطية الليبرالية. ويَصدُق الشيء نفسه إلى حد كبير على علاقة الدولة والعديد من الأنشطة الثقافية العامة، مثل الآداب والفنون والدين والرأي العام. وليس من المطلوب ولا المُستصوَب أن تتدخل الدولة على مستوًى كبير في هذه المجالات. ولعل الأصوب أن الدولة التي تنزع إلى التسامح ستحقق الكثير في سبيل النهوض بالمزايا والمغانم المحتملة للتطور التكنولوجي، أكثر من دولة تنزع إلى توجيه مسار التحول الثقافي بأسلوب قائم على العدوان أو عدم التسامح، أو بعبارة أخرى إن المحاولات التحكُّمية من جانب الدولة بفرض رقابة صارمة على الفنون أو إيثار عقيدة دينية على حساب عقائد أخرى، أو صب الرأي العام في قوالب يصوغها الإعلان والدعاية بإمكاناتهما الطاغية، إنما هي محاولات غير مُستصوَبة. وليس هذا فقط لأنها ستؤدي إلى تقويض أساس الديمقراطية الليبرالية، بل أيضًا لأنها سوف تستنزف مناهل النشاط الفني التكنولوجي. وحريٌّ بنا أن نتذكر أن منابع الإبداع التكنولوجي ذات الثراء والخصوبة إنما تستمد طاقتها من احتياطيات القوة الإبداعية نفسها التي تحفز الجوانب الأخرى للنشاط الثقافي، ومن ثم فإن تقييد أحدهما يعني تقييد الآخر.

والعلاقة الوثيقة بين التكنولوجيا والإبداع الثقافي واضحة على جميع المستويات. حقًّا إن التكنولوجيا لم يكن لها بروز واضح في الأدب التقليدي في أوروبا وشمال أمريكا، ولكن ثمة أُلفة متزايدة بين الأدب والتكنولوجيا العالية في صورة الخيال العلمي. وإذا كنا لا نزال ننظر إلى القدر الأكبر من هذا النوع من الأدب باعتباره أدب العامة، فإن بعضه يخلق تيارًا من الكتابة الجيدة التي تستحق أن نأخذها مأخذًا جادًّا باعتبارها شكلًا من أشكال الأدب، ومجالًا للتأمل المهم في جوهر المجتمع التكنولوجي. ولقد استطاعت التكنولوجيا في مجال الفنون البصرية أن تُحدِث تأثيرًا امتد زمنًا طويلًا، وذلك في مجال الفن المعماري لمحطات السكك الحديدية وفي الجسور الخرسانية، وأيضًا في حركات فنية، مثل الانطباعية، وحركة الفن الجديد، والتكعيبية. ولكن تأثير الموسيقى أقل وضوحًا، هذا على الرغم من أن الموسيقيين المُحدَثين يغتنمون الفرص التي هيأتها لهم التقنيات والآلات الجديدة لتوسيع نطاق عملهم، ولتسجيل وعمل توليفات من إبداعاتهم. وهناك أيضًا ظاهرة موسيقى البوب، فإنها تقدم صورة مُضخَّمة قوية ولكنها متوازنة لجماهير عريضة من المستمعين، وتمثل تعبيرًا واضحًا ومميزًا عن هذه العلاقة، كما تثير العديد من المسائل المهمة عن الضبط الاجتماعي. فإن كانت مصلحة المجتمع تقتضي ممارسة قدر من الضبط بشأن مواعيد ومواقع احتفالات البوب، فسوف يكون خطأً شنيعًا استخدام هذا الحد الأدنى من السيطرة كوسيلة لتوجيه شكل هذه الأحداث أو جَعْل السيطرة عليها أمرًا مستحيلًا. إن العلاقة غالبًا هي علاقة حساسة، ولكن المثل الأعلى هنا كما في أي مكان آخر هو الحد الأدنى من تدخل الدولة، والحد الأقصى من حرية الفرد في التعبير.

ويَصدُق الشيء نفسه على العلاقة بين التكنولوجيا والدين. حقًّا إننا للوهلة الأولى لا نرى رابطة واضحة بينهما، لقد كان الدين تقليديًّا موضوع اهتمام كبير ونشاط مُكثَّف من جانب الدولة التي اعتادت توجيه المواطنين إزاء التزاماتهم في الوقت الذي تحظر فيه أي رؤًى بديلة، ولكن جميع دول العالم الغربي تخلت تمامًا الآن عن موقف التدخل في الدين، حتى وإن وجدنا بعضها يحتفظ بما يشبه الكنيسة القومية. وأثبتت الخبرة المُرة أن التسامح هو العلاقة الوحيدة التي يمكن دعمها واستمرارها بأريحية وسعادة بين المعتقدات الدينية التي تبدو في ظاهرها متباينة. وهذا درس له دلالاته بعيدة المدى بالنسبة للإبداعية الثقافية وللديمقراطية الليبرالية وللمجتمع التكنولوجي. علاوة على هذا فإن الدين معنيٌّ بأهداف وغايات الحياة البشرية، ومن هنا نجد تجاوبًا وثيقًا بينه وبين الأوضاع المادية التي هيَّأتها ووفَّرتها التكنولوجيا. إن التكنولوجيا يمكنها أن تحقق ثراء ماديًّا أو دمارًا ماديًّا، وهذا من شأنه أن يفرض مشكلات يتعين على جميع الأديان في عالمنا الحديث أن تنظر إليها نظرة جادة للغاية. ونعود لنقول إن هذا يقتضي بالضرورة بيئة تسودها روح التسامح الاجتماعي.

fig34
شكل ١٢-١: العلم، انفجار المعرفة منذ العام ١٨٠٠م.

مجال آخر للتحول الثقافي العام، هو الرأي العام، وله أهمية كبرى في أي مجتمع ديمقراطي. إنه يمثل مجالًا لتوافق المشاعر بين قطاع بارز ومُهيمِن في المجتمع، ويعني ضمنًا قدرًا من المشاركة من جانب جميع أبناء المجتمع في عمليات اتخاذ القرار، وليس من الملائم على سبيل المثال الحديثُ عن رأي عامٍّ داخل دولة دكتاتورية حيث جمهرة الناس لا يستشيرهم أحد في أيٍّ من أمور السياسة العامة، وليس من الملائم كذلك الحديثُ عن رأي عامٍّ في مجتمع عاطل من وسائل الاتصال التي تصوغ الرأي العام وتعبر عنه. والمعروف أن التكنولوجيا الحديثة حين وفرت وسائل الاتصال السريعة والسهلة من خلال الكلمة المكتوبة والاتصالات اللاسلكية، فإنها أسهمت إسهامًا بارزًا في تطوير رأي عام أصيل داخل المجتمعات الغربية. واستطاعت التكنولوجيا بذلك أن تؤدي دورًا في تعاظم المؤسسات الديمقراطية، ومن ثم في دعم وتعزيز قيام مجتمع صحي بكل ما تعنيه هذه العبارة.

وحريٌّ بنا أخيرًا أن نتدبر العلاقة بين التكنولوجيا والدولة فيما يتعلق بموضوع الحرب؛ إذ إن هذا مجال له أهمية قصوى لتماسُك، بل لبقاء الدولة، وأسهمت التكنولوجيا فيه إسهامات مبرزة ومتزايدة باطراد. لقد كان هدف الدول دائمًا منذ قديم الزمان امتلاك أسلحة تَفُوق ما تملكه الدول المنافسة كمًّا وكيفًا. وسبق أن لاحظْنا كيف أن المدافع والسفن الشراعية مكَّنت الدول الأوروبية من أن تؤسس إمبراطوريات بحرية شاسعة ابتداءً من القرن السادس عشر، ورأينا أيضًا كيف أن التحسينات التالية في مجال التكنولوجيا هيأت لهذه الإمبراطوريات الأوروبية فرصة للتوسع خلال القرن التاسع عشر، ولكن سادت بين الدول القومية في أوروبا الحديثة حالةٌ من شبه التوازن التكنولوجي؛ نظرًا لأن كل دولة ناضلت من أجل أن تكون ندًّا لمنافسيها فيما يملكونه من أسلحة، بل أن تتفوق عليهم. وأفضى هذا إلى خلق حالة دائمة من سباق التسلح حتى وإن خفَّت حدة المنافسة بين حين وآخر مع نقص مشاعر العداء بين المتنافسين الرئيسيين. وتسارع سباق التسلح من ناحية أخرى مع نشوب حرب، أو بسبب الخوف من حرب وشلكة. وهنا يجب البحث عن أسلحة أضخم وأفضل حتى وصل الأمر إلى نسب كبيرة جدًّا، مما أدى إلى استهلاك القدر الأعظم من فائض ثروة المجتمعات المتورطة في الصراع. ونجد هذه العملية واضحة خلال القرن التاسع عشر، ولكنها زادت حِدَّة خلال القرن العشرين بسبب عوامل عدة.

وكان العامل الرئيسي في ذلك هو زيادة العلاقة الوثيقة بين الابتكارات التكنولوجية وأهداف الحرب أو قابلية هذه الابتكارات للتعديل والملاءمة بحيث تفي بأهداف الحرب؛ إذ وقتما كان المحرك البخاري هو القوة التكنولوجية المهيمنة لم يكن واضحًا آنذاك، وعلى مدى بضعة عقود، كيف يمكن تعديل هذا المحرك سريع العطب ليكون صالحًا لاستعمالات حربية. ويتعين في الحقيقة النظر إلى المحرك البخاري باعتباره واحدًا من أهم الابتكارات نفعًا للإنسان؛ إذ لم يكن له أكثر من دور مساعد للقوات البرية. ومن المُسلَّم به أنه أحدث أثرًا كبيرًا في الحرب البحرية؛ لأنه حول المعارك التقليدية التي كانت تدور بين سفن شراعية كثيفة التسليح، إلى اشتباكات سهلة الحركة نسبيًّا بين سفن تعمل بقوة دفع الرفَّاصات. والمعروف أن السفن التي تعمل بدولاب ذي أرياش (الرفَّاص) كانت دائمًا عرضة للأعطال بحيث لا تستهوي القوات البحرية لاتخاذها سفنًا حربية مثالية، ولكن لم يكد الرفَّاص يصبح هو الشكل الأفضل للدفع البخاري حتى حدث تحول سريع إلى السفن الحربية البخارية، كذلك مع التحول إلى التشييد بالحديد والصلب، ومع استخدام المدفعية الثقيلة المثبتة في أبراج متحركة، وتطلق القذائف المتفجرة Shells بدلًا من كرات المدفع التقليدية Cannon ball؛ بدأ التحول إلى السفينة «المدرعة»، والمدرعة طراز من سفينة مصنوعة من الصلب، وتنطلق بسرعات عالية بواسطة توربينات بخارية، ومُجهَّزة بتصفيح ثقيل وقوة نيران رهيبة. واكتملت عملية صنع المدرعة قُبَيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، ومع اندلاع هذه الحرب كانت القوات البحرية الأوروبية الرائدة في حالة توازن قلق، ومن ثم كان كل طرف حريصًا على كشف أوراقه؛ ولهذا لم تقم القوات البحرية إلا بدور صغير في العمليات القتالية، ولكنها برزت وأكدت أهميتها فقط في حرب الغواصات، وذلك بفضل المحرك داخلي الاحتراق والكهرباء اللذين زوَّدا الغواصات بالقوة المحرِّكة.

بيد أن أهم إسهامات التكنولوجيا في حرب القرن التاسع عشر لم تكن في مجال المحركات الأساسية، بقدر ما كانت في مجال العمليات الكيميائية، خاصة استحداث وتطوير المتفجرات الشديدة؛ إذ كان بالإمكان صناعتها في أشكال مناسبة للخراطيش، مما شجع على تطوير البندقية التكرارية والمدفع الآلي، وكذلك القذائف التي تطلقها مدافع كبيرة جدًّا. ويمكن استخدام هذه المدافع في المعارك البحرية والبرية، ونجد أثر ذلك واضحًا في عمليات القصف الكاسحة التي تسبق أي تقدم محتمل لحرب الخنادق التي سحقت إقليم الفلاندرز في شمال أوروبا فيما بين العامين ١٩١٤م و١٩١٨م. وأصبح إنتاج هذه المتفجرات من أجل الاشتباكات العسكرية صناعة مهمة في جميع بلدان أوروبا، مما يبرر وصف الحرب العالمية الأولى بأنها «حرب الكيميائيين». وطَبَعي أنها كانت أكثر من ذلك، ولكن الاعتماد الكبير على الإنتاج الكيميائي كان على وجه اليقين أحد المحاور التكنولوجية لهذا النزاع.

ونجد الابتكارات المهمة الأخرى في الحرب العالمية الأولى مُستمَدة من المحرك داخلي الاحتراق، وأولها الدبابة، وهي مركبة ثقيلة مسلحة ومجهزة بحصيرتين مزنجرتين (مجنزرتين) يُمكِّنانها من اختراق الأراضي الوعرة، ثم الطائرة التي ظهرت، كما رأينا، في الوقت المناسب لملاءمتها للأعمال العسكرية، وسرعان ما هيأت مسرحًا جديدًا للعمليات القتالية، هو مسرح الحرب الجوية. واستُخدمت الطائراتُ الأكبر حجمًا طائراتٍ قاذفةً، على الرغم من أن حمولتها من القنابل كانت قليلة، وكفاءتها الهجومية الجوية محدودة جدًّا. وكان الدور الأكثر فعالية وكفاءة للطائرة هو الاستطلاع والعمل كوسيلة لتوريط تشكيلات العدو في معارك بين الطائرات المقاتلة. وعملت في هذه الأثناء أيضًا في الخطوط الخلفية الشاحناتُ والسيارات، وأسهمت إسهامات مفيدة في الحرب؛ إذ كانت عاملًا مكمِّلًا للسكك الحديدية في توفير ونقل الإمدادات والتموين والتعزيزات العسكرية، علاوة على خدمات الإسعاف. وهكذا كانت الحرب حافزًا قويًّا حثَّ على إنتاج هذه الماكينات الجديدة، ومن ثم ساعدت على خلق صناعات كبرى لتحل محل وحدات الإنتاج الأساسية الصغيرة والمتجزئة التي كانت النمطَ العادي السائد في السابق.

وإذا كان تشخيص الحرب العالمية الأولى بأنها حرب «الكيميائيين» تشخيصًا مقبولًا، فإن الحرب العالمية الثانية يمكن اعتبارها حرب «الفيزيائيين»؛ إذ بينما هيمنَ على تكنولوجيا النزاع الأول إنتاجُ المتفجرات الشديدة، فإن مسار الحرب العالمية الثانية حدَّده الرادار، وهو تقنية مسح إلكتروني حققت ميزة حيوية للسلاح الجوي الملكي في معركة بريطانيا. وأسهمت في تحديد مسار الحرب أيضًا ماكيناتُ التشفير المعقَّدة وحل الشفرات، مما هيأ للمخابرات دورًا حيويًّا، ومهَّد السبيل للحاسب أو الكمبيوتر الإلكتروني. وأخيرًا تحقق الانتصار والفوز بالحرب على ساحة الشرق الأقصى بفضل نجاح علماء الفيزياء في تطوير قنبلة ذرية خاضت المعركة الفاصلة لمصلحة الحلفاء. وهذه الابتكارات امتداد وتطوير لنظريات فيزيائية معقدة لم تكن بصعوبة معروفة قبل الحرب، وكان تحويلها إلى عتاد هندسي للاستخدام في محطات الرادار والطائرات يستلزم تخصيص موارد هائلة من رأس المال والقوة العاملة البشرية الماهرة، وأيًّا كانت حدود هيمنة هذه الابتكارات فقد كانت جزءًا من التطور التكنولوجي السريع الذي أنضجته الحرب؛ إذ نجد من بين هذه التطورات الأخرى المحرك النفاث والطائرة الهليكوبتر وأسلحة الانتقام في١ وفي٢. ونخصُّ بالذكر هذا السلاح الانتقامي الأخير، وهو القنبلة الصاروخية التي كانت نذيرًا بتطبيق تقنية ثورية جديدة، من شأنها أن تفتح حدود الفضاء خلال العقود التالية للحرب. أضف إلى هذا تسارع إنتاج المضادات الحيوية، مثل البنسلين وتطوير المبيدات الحشرية، مثل اﻟ «دي دي تي» من بين سلسلة من التقنيات الجديدة الأخرى. وفي ضوء كل ما سبق يمكن اعتبار الحرب العالمية الثانية حربًا غنية جدًّا بالابتكارية التكنولوجية.

وثمة سبب مهم لثورة الابتكار التكنولوجي في الحرب العالمية الثانية، هو أن الدول المتحاربة بذلت جهدًا نشطًا في سبيل النهوض بما يُعرف باسم «البحوث والتطوير» R&D؛ ذلك أن الحرب، ولأول مرة، جعلت من الابتكار مسألة مُلِحة بالنسبة للدولة، واستطاعت الأمم — نتيجة هذا الشرط التكنولوجي — أن تتبارى في سبيل الابتكار أو الهلاك. واستشعر الحلفاء قلقًا من أن هتلر ربما كان عاكفًا على إنتاج قنبلة ذرية، وكان هذا القلق حافزًا قويًّا للعمل، ومبررًا لرصد نفقات هائلة لإنجاز مشروع مانهاتن الذي اعتمد عليه الحلفاء لإنجاز مشروعهم للتطوير الذري. ولم يكن ثمة مبرر لهذا الالتزام الشديد من جانب المستويات العليا بعد ذلك لولا الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، التي أرغمت القوتين العُظمَيَين على مواصلة استثماراتهما الضخمة من الموارد في مجال البحث والتطوير في مجال الأسلحة المعقدة. وهكذا تحدد الدرس الذي تعلمناه من الحرب الحديثة، وهو أن لا مَنجاة لأمة تهمل التكنولوجيا بعد ذلك، وأنه ما دامت المنافسة مستمرة على أعلى المستويات بين الأمم فسوف يظل لزامًا عليها رصد الموارد الضخمة لتطوير الأسلحة، على الرغم من كل ما يحمله هذا من آثار اقتصادية وسياسية شديدة الوطأة على المجتمع كله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤