الفصل الرابع عشر

الطريق إلى النجوم

فكرة التقدم لم تَعُد ذائعة في القرن العشرين مثلما كانت في القرن السابق؛ إذ راج حتى سنوات الحرب العالمية الأولى افتراضٌ بأن العالم يسير قُدمًا وباطراد نحو عالم أفضل. وأصبحت فكرة التقدم المادي والمعنوي على طريق الوصول إلى مستوًى أرقى من الإنجازات البشرية؛ من المُسلَّمات إزاء النجاحات العدة في مجال التصنيع لزيادة الإنتاجية، وارتفاع مستوى المعيشة في ارتباط بمظاهر التقدم في الديمقراطية الليبرالية، والشعور بالنشوة إزاء التوسع عندما أكدت الدول الأوروبية وشمال أمريكا تفوقها التكنولوجي على البلدان الأقل تقدمًا. وتجلَّت فكرة التقدم في عبارات كثيرة تضمَّنتها الثقافة الأدبية للقرن التاسع عشر، وعزَّزها تبنِّي العلم لنظرية التطور كبرهان مقنع يقدم لنا الدليل والحُجة. وأصبح بالإمكان التعبير بصورة مقنعة عن التاريخ البشري في ضوء الداروينية الاجتماعية التي تقرر أن البقاء للأصلح، أي للأفضل؛ لأنه استطاع أن ينجح في صراعات الحياة، ومن ثم يمتد به البقاء. والحقيقة أن هذا لم يكن بالدقة هو المعنى الذي قصد إليه العالِم الحَذِر والمدقق شارلز داروين، ولكنه معنًى غير ذي صلة بالموضوع؛ ذلك أن نظريته عن التطور عبر الانتخاب الطبيعي تُشكِّل تعبيرًا مجازيًّا عن حتمية التقدم البشري. ووجد الرأي العالم الغربي في فكرة التقدم ما يرضيه فكريًّا. وأكثر من هذا أن مذهب المادية التاريخية الدينامية الذي قال به كارل ماركس تتردد فيه الكثير من أصداء هذا الافتراض العام عن حتمية التقدم.

ولكن هذه النزعة التفاؤلية انصبَّت عليها لعنة أهوال حرب الخنادق في الحرب العالمية الأولى، وأكدت الخسائر الجسيمة في الأرواح، وعبثية الصراع أن التقدم لم يَعُد شيئًا نأخذه مأخذ التسليم. وشهد العالم عقب ذلك معاناة تمثلت في نُظم الحكم الشمولي الشيطانية، ومحارق النازية ضد شعوب بريئة في أثناء الحرب العالمية الثانية. وواجه العالم منذ العام ١٩٤٥م خطر الإبادة النووية، وأدى كل هذا إلى الجزم بالموقف الساخر من فكرة التقدم، وبدا واضحًا أن النوع البشري تخلى عن ترف الاعتقاد بالتفوق المعنوي الذي لا يقبل التحدي إزاء أشكال الحياة الأخرى، وإنما يبدو — على الأصح — نوعًا مغايرًا للآخرين، وقادرًا على القتل والتدمير بغية اللذة في التدمير. وأُسقطت تلك العظات المعنوية الرفيعة التي ترددت في بلاغة خطاب الزعماء الدينيين والسياسيين خلال القرن التاسع عشر، حين تحدثوا عن «رسالة الرجل الأبيض»، وعن الخصائص الحضارية المميزة للثقافة الغربية؛ إذ لم يَعُد ممكنًا الآن الاعتقاد بأن كل الأمور سوف تتآزر بالضرورة للعمل معًا من أجل خير ومصلحة البشرية.

ومع هذا كله، فإن فكرة التقدم تتضمن ما يستحق أن نستخلصه ونستردُّه ثانيةً. وعلى الرغم من الأحداث المفجعة التي شهدها القرن العشرون، وجعلت البشرية تفيق من أوهام مثل الظن بقابلية البشر بلوغ حد الكمال المعنوي والأخلاقي، فإن هناك الكثير من الإنجازات المادية المثيرة التي تُمثِّل نوعًا من التقدم، فنحن لا نستطيع أن ننكر أهمية الإنجازات المادية التي تحققت حتى الآن، وكفلت زيادة الإنتاجية بفضل النجاحات الأولى لعملية التصنيع، وأسهمت على نطاق واسع في تحسُّن نوعية الحياة للغالبية من أبناء المجتمعات الغربية. حقًّا إنها تمثل تقدمًا حيويًّا للغاية من حيث قدرة الناس على صنع وعمل أشياء كثيرة، وتُثبِت بحكم وضعها هذا أن ظروف الثورة التكنولوجية لا تزال نشطة وفاعلة إلى أبعد الحدود، أو بعبارة أخرى إن أدوات التكنولوجيا ميسورة اليوم أكثر من أي وقت مضى لكي تتمكن المجتمعات البشرية بفضلها من أن تعالج مشكلات الفقر المتوطِّنة، ونقص إنتاج الغذاء، والمظالم الاجتماعية وما شابه ذلك. وكما سبق أن لاحظنا، فإن من طبيعة المعضلة التكنولوجية أن تجعل التكنولوجيا نفسها شرطًا لا غنى عنه، بينما تفرض في الوقت ذاته أشد الأخطار على الوجود البشري ذاته، ولكن اطراد التقدم التكنولوجي هيَّأ على أقل تقدير إمكان التخلص من عواقب المعضلة. ونعود لنقول إن المسألة هي أولًا وأساسًا وَقْف على الابتكار الإنساني؛ ابتكار الحلول لحسم مسألة ما إذا كان الجيل الراهن من أبناء البشر قادرًا على الاستجابة للتحدي من واقع الالتزام بمسئولية رسالة يؤديها؛ لذلك فإن التقدم، وإن كان حقيقةً وقعة في ضوء الوجود المادي، فإنه واقع متحيِّز مُغرِض، ويقتضي التزامًا بشريًّا نشطًا لكي يغدو التزامًا فعالًا بعامة وللجميع.

وحرصنا طوال صفحات هذا الكتاب على استكشاف عمليات الثورة التكنولوجية التي أَفْضت إلى تحول المجتمعات الأوروبية بصورة مطردة خلال القرون الأخيرة. وكان التحول مظهرًا من مظاهر تحول الثورة التكنولوجية، بمعنى أن الحافز العام والمستمر للتغيير كان دائمًا الدمج التكنولوجي بين الاكتشاف العلمي والابتكار التقني. وليس هذا إنكارًا لوجود قوًى اجتماعية أخرى قوية ومؤثرة، مثل الضغط الشعبي والصراع الطبقي، والنزعة القومية التي تؤكد هي الأخرى على التكنولوجيا، ولكن المعنى الذي قصدناه يتضمن النظر إلى تطور العالم الحديث بأسلوب خاص مميز، من شأنه أن يعطينا تفسيرًا لنمط هذه التطورات، ويكون مقنعًا أكثر من أساليب المعالجات التاريخية التقليدية.

وتجلَّت هذه الخاصية الفريدة للموقف الراهن مع كل مرحلة من مراحل دراستنا التحليلية؛ إذ لا نجد على الإطلاق قبل ذلك وصفًا لشروط المعضلة التكنولوجية على النحو الموجود في الفصل الأخير. والمعروف أن المجتمع البشري بعد آلاف السنين من التطور حقق في القرن العشرين درجة غير مسبوقة من الاعتماد على التكنولوجيا، وتوافرت له قدرة غير عادية لتدمير نفسه. وهذا وضع فريد بالنسبة للحضارة الغربية؛ ذلك لأنه لم يحدث قط أن تهيأت في السابق لعمليات الثورة التكنولوجية في أي مجتمع بشري قدرةٌ على التأثير الشامل على نحو ما هو حادث الآن. ونحن لا نجد مجتمعًا آخر تهيأت له السيادة على عمليات التصنيع بمثل هذه الصورة لإنتاج الثروات الضخمة. ولا نجد أي سوابق تاريخية لإنجازات الغرب في مجالَي النقل والاتصالات. وإن تسليمنا في القرن العشرين بواقع تسهيلات الطيران والسفر عبر الفضاء، والاتصالات الفورية بين كل أنحاء العالم، إنما هو دليل على أننا إزاء خبرة معاصرة تتصف بالجِدَّة المذهلة، وتؤكد الحاجة إلى توخي الحذر الشديد عندما نستخلص منها دروسًا تاريخية أو نبني عليها توقعاتنا. لقد دخل العلم ساحات بحث جديدة عن النفس والعقل، مثلما دخل ساحات جديدة تتعلق بالأوضاع المادية، ومن ثم لم يَعُد صوابًا الآن الكثيرُ من الأسس التقليدية التي نَركَن إليها عند إصدار حكم تاريخي، كأن نبحث عن سوابق ملائمة. وهذا لا ينفي إمكان استمرار عدد من المُحدَّدات المعروفة لنا.

وتأتَّى لنا أن نضع حدودًا واضحة ومميزة لدراستنا؛ نظرًا لأن الثورة التكنولوجية حدثت في مجتمع بذاته، وعلى فترة زمنية معروفة، ولكن لا تزال المنطقةُ التي شملتها الثورة والدراسة شاسعةً، لذلك لا نجد معنًى للقول إنها دراسة شاملة وافية، وإنما هي على الأصح تخطيط أو مسح عام في محاولة لإبراز القَسَمات الرئيسية، ومحاولة استبيان العلاقات بينها. ولا ريب في أن هذه المعالجة يشوبها بعض النقص، وهذا بديهي ليس بحاجة إلى بيان، ولكن من الأهمية بمكان في ضوء ظروفنا أن نحدد الطبيعة العامة للمشهد، فهذا أهم الآن من قضاء وقت طويل مع التفاصيل. وإذا لم نخرج بنمط واضح من الدراسة فقد تيسر لنا على أقل تقدير عدد من الأفكار الأساسية والغالبة التي تشير علينا بالنهج الذي نَستنُّه عند التأويل. وهكذا عمدنا في استطلاعنا إلى بيان الجوانب الرئيسية للتطور التكنولوجي — مصادر القوة، واستخدام هذه القوة المحركة وصولًا إلى الصناعة التحويلية، والنقل والاتصالات والمرافق، وأثر التحول التكنولوجي في الناس كجماعات وأفراد — وتهيأت لنا مرارًا، بصدد هذا الاستطلاع، مناسبات لرصد العلاقة الوثيقة بين التحول التكنولوجي والظروف الاجتماعية التي أحاطت به.

وعمدنا بوجه خاص إلى التأكيد على أهمية توافر بيئة قابلة للابتكار التكنولوجي، وحددنا خصائص هذه البيئة، وقلنا إنها تتألف من «حزمة» أو «توليفة» وعلى أساس نسبي من الليبرالية والتسامح وتشجيع الفردية. وأكدنا على أن لحظة الابتكار التكنولوجي هي في جوهرها لحظة إبداع بشري، وحيث إنها كذلك فإنها في نهاية المطاف غير قابلة للتنبؤ بها أو التحكم فيها، ولكننا لاحظنا مرات ومرات أنه فور ظهور الابتكار إلى الوجود حتى يتبين لنا أن عمليات الابتكار والتطور التي يتحول من خلالها وبواسطتها الابتكار إلى تقنية ناجحة؛ إنما هي عمليات مشروطة في أساسها بالمنبت والبيئة، وأن النجاح إلى حد كبير رَهْن توافر موارد اقتصادية ومهارات حرفية، وعوائد ملائمة لمنظمي المشروعات مثلما هو رهن البراعة التقنية. علاوة على هذا فقد استهوتنا بشكل خاص آلية «السقاطة والترس المسنَّن»، أو التطور المتداخل الذي يشبه أسنان التروس في ترابطها وتدرجها، والتي تَظهر بين الحين والآخر كآلية فاعلة مؤثرة فيما بين التطورات التقنية المتزامنة. وهكذا فإن ظهور ابتكار ناجح في مجال ما يمكن أن يُشكِّل دافعًا نافعًا يستحثُّ تطورًا آخر مغايرًا. مثال ذلك الطريقة التي خَلَقت بها التكنولوجيا الناضجة للقوة المحركة البخارية أساسًا آمنًا لتكنولوجيا جديدة، هي تكنولوجيا الاحتراق الداخلي. أو مثال آخر؛ الطريقة التي أفادت بها شبكة توزيع القوى المحركة الكهربائية في ظهور وتطور صناعة الإلكترونيات؛ إذ يوضح لنا هذا طبيعة العلاقة المشتركة، ويفيد بأن ثمة قَسَمة حاسمة تميز البيئة الملائمة، ألا وهي قابليتها للخبرة التِّقانية ذات الصلة وانفتاحها عليها. ويلزم عن هذا أن الصورة المجازية لآلية الترس والسقاطة لا تَصدُق فقط على المصنوعات ذاتها، حتى وإن أكدت هذه أوضح نقاط التشابك بين القديم والجديد من أشكال التطور، ولكنها تَصدُق بالقدر نفسه أيضًا على الوسط الاجتماعي حيث يحدث التشابك؛ تعليم الصناع البارعين المعنيِّين بالصناعة، وقدراتهم على التواصل فيما بينهم، ودرجة التحكم في هذا التواصل من جانب العوامل الاجتماعية أو المتطرفة أو التشريعية أو السياسية.

وعلى الرغم من أن بالإمكان وضع تحديد عام لهذه الحزمة من العوامل التي تؤلف بيئة اجتماعية ملائمة للابتكار التقني فإننا اعترفنا بأن وجودها ليس جوهريًّا لتحديد استخدام التكنولوجيا، واعترفنا أيضًا بأن بعض الانتهاكات المروعة للاستخدامات التكنولوجية وقعت عندما امتلكت النُّظم الدكتاتورية الوحشية الوسائل التقنية، وسخَّرتها لأهدافها الخاصة الشريرة. وأفضى بنا هذا إلى التفكير في ضرورة توافر شكل ما لمجتمع عالمي له سلطات دولة عالمية من شأنها رصد وقوع مثل هذه الانتهاكات، وأيضًا تعميم الوسائل اللازمة للحيلولة دون تكرارها، وأعربنا عن أملنا — إذا ما تيسر اتخاذ إجراء للحماية الذاتية الجمعية عن طريق نظام دولي — في أن يصبح بالإمكان التصدي لمشكلات الانفجار السكاني، وعدم التكافؤ في الثروات بين الأمم، وهي مشكلات تمثل خطرًا على الاستقرار العالمي. وحيث إن الابتكار الثقافي رهن، في نهاية المطاف، بالفرد فقد أقررنا أيضًا بأن أي مواجهة متضافرة للمعضلة التكنولوجية رهن بالفرد كذلك؛ ولهذا فإن العامل الضروري هنا هو الحافز الإنساني، وإن أوضحنا ما يكتنفه من شكوك. ونعود ثانيةً لنطرح السؤال؛ بعد أن يتحقق لنا موضوعيًّا الهدف الذي حدده بيكون للإنسان، وهو السيطرة على الطبيعة، يغدو السؤال: ما الهدف الذي نريد أن نسخِّرها من أجله؟

ثمة إجابات كثيرة محتملة على هذا السؤال، ولكنها تتوزع بين فئتين عامتين؛ إجابات تنصبُّ على اختيار أهداف قصيرة الأمد للمتعة والسعادة، وإجابات تؤكد على أهداف بعيدة المدى مع الاستعداد للتخلي عن مكاسب مباشرة لمصلحة منافع أعظم آجلة. وتنزع النظرة قصيرة المدى إلى تعزيز التكهنات المتشائمة لدعاة الحتمية التكنولوجية؛ نظرًا لأن أصحابها يُفيدون من الفرص المتاحة للانغماس في المُتع الذاتية التي هيَّأتها لهم الثورة التكنولوجية دون أي محاولة لتوجيه مسارها. وهكذا، فحين تنعدم المبادئ الأساسية لعملية السيطرة والتحكم فإن قوة الدفع للتطور التكنولوجي يكون لها منطقها الخاص. ولكن نجد من ناحية أخرى أن النظرة طويلة الأمد تحدد أهدافًا خاصة للتطور التكنولوجي، وتحاول التحكم في التكنولوجيا في توافق مع هذه الأهداف، وتستلزم هذه الأهداف الالتزام والتفاني وصدق العزم من جانب الأطراف المعنيَّة، وقد تكون أهدافًا خادعة على نحو ما كانت البرامج السياسية الكثيرة للمجتمعات الطوباوية. والجدير ذكره أن قوة الدفع في مثل هذا الاتجاه ليست بالأمر الهين اليسير؛ ذلك لأن دعامتها الوحيدة ثقة في المستقبل مع درجة من نكران الذات وضبط النفس في الحاضر، ولكننا نُولِي أهمية قصوى للسعي الجاد في سبيل الاهتداء إلى مخرج حقيقي ننجو به من مأزق المعضلة التكنولوجية، وأن تتوافر عوامل التشجيع على ذلك. ونؤكد بوجه خاص أننا لكي نواجه المستقبل بأمل حقيقي حريٌّ بنا أن نتحلى بإحساس بأن التكنولوجيا لها رسالة إنسانية.

وتتضمن الرسالة الإنسانية للتكنولوجيا ثقة في الرشاد والإبداعية الإنسانيَّين. وتهدف الرسالة إلى توجيه موارد الثروة التكنولوجية صوب حل المشكلات الاجتماعية، مثل مشكلة الانفجار السكاني، وتفاوُت ثروات الأمم، ولكنها تفعل ما تفعل على افتراض أن الإنسان موجود بهدف السعي الجاد للمعرفة والْتِماس الحكمة التي هي ثمرة ذلك السعي. ونعرف أن بحوث البشرية الْتِماسًا للمعرفة في ذاتها ولمعرفة الكون مهمةٌ لا نهائية؛ ولذلك فإننا نستطيع أن ننهض بمهام بناء مصيرنا كنوع بشري قادر على تحصيل المعارف الجيدة والإفادة بها، ولكن شريطة أن ننهض أولًا بحل مشكلات المعضلة التكنولوجية المُلِحة والمباشرة. وثمة مشروعات مهمة وجاهزة الآن، وتحظى بقدر من الاهتمام، نذكر منها: مشروع الطاقم الوراثي «الجينوم» البشري لرسم خريطة البنية الوراثية للحياة البشرية، ومشروع تكنولوجيا الإلكترونيات الدقيقة وأشعة الليزر. وهناك أيضًا مشروع النهوض بالثروة الخضراء وتطويرها بهدف تحسين إنتاجية المحاصيل، والثروة الحيوانية، واكتشاف سبل لزراعة وحصد غلات الصحراء وقيعان الأرصفة القارية للمحيطات، والبحث عن طريقة للاندماج النووي وغيرها من موارد الطاقة غير الملوِّثة، والقائمة طويلة لا تنتهي. وبعد هذا كله هناك قَدَر الإنسانية في أن تستكشف الكون، وهذا هو أعظم أهداف الرسالة التكنولوجية، سواء من حيث نطاقها أو من حيث ما تنطوي عليه من إمكانات لإغناء الخبرة البشرية.

وإن أي فكرة عن «غزو الفضاء» هي ضرب من الخداع، لأن الفضاء المحيط بالكون المشاهَد رَحْب جدًّا، بحيث لا يمكن أن تتأتَّى القدرة لنوع الإنسان العاقل الضعيف أن يهزمه، ولكن لهذا السبب أيضًا يتعيَّن استكشافه، ثم إن وسائل النهوض بهذا الاستكشاف أصبحت متاحة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، في تزامن واضح مع اللحظة التي اشتدت فيها حِدة المعضلة التكنولوجية. ونعرف أن خيال الإنسان، حتى قبل أن تتهيأ له هذه الوسائل، تجاوز أقطار الحياة الأرضية، فهناك جول فيرن الذي تخيَّل مدفعًا عملاقًا قادرًا على أن يطلق قذيفة فائقة السرعة، بحيث يمكنها الإفلات من جاذبية الأرض في رحلة إلى القمر. واقترح إتش جي ويلز استخدام دهان مضاد للجاذبية لتحقيق الهدف ذاته. وها نحن الآن طرحنا جانبًا المدفع العملاق كوسيلة لحل المشكلة التقنية الخاصة بالانطلاق إلى أجواز الفضاء، كما أن الدهان المضاد للجاذبية لم يبتكره أحد بعد، واستطعنا أن نتجاوز عتبة السفر عبر الفضاء بفضل تكنولوجيا الصواريخ، خاصة الصواريخ متعددة المراحل. وترجع جذور الصاروخ إلى عمل نظري اقترحه العالم الروسي كونستانتين تسيولكوفسكي، وإلى عدد من التجارب الفاشلة في أمريكا وأوروبا، وشارك فيها علماء من أمثال إتش جودارد، والعالم الألماني المولود في رومانيا هيرمان أوبيرت في النصف الأول من القرن العشرين. وهذا هو السلاح في٢ المعروف باسم «سلاح الانتقام الثنائي» الذي طوَّره هتلر في الحرب العالمية الثانية. وكان هناك فريق من المهندسين البارعين يعملون تحت إشراف فرنر فون براون في منطقة بينيموند على جزيرة يوزدوم في بحر البلطيق. واستحدث هذا الفريق صاروخًا ينطلق بقوة دفع ناتجة عن احتراق الكحول والأكسجين السائل، وبلغ الصاروخ ارتفاعًا تجاوز المائة ميل، وكان باستطاعته أن يحمل رأسًا محشوًّا شحنةً مروِّعة شديدة الانفجار لقصف لندن وأهداف أخرى في جنوب شرق إنجلترا، ولكن الحرب انتهت قبل أن تكتمل كل الإمكانات الخاصة بهذا الصاروخ، غير أن الخبرة انتقلت (ومعها فون براون) إلى أمريكا، وكذا إلى الاتحاد السوفييتي السابق، وهكذا أَرْست هاتان القوتان العُظمَيان الأساسَ لبرامج تطوير الصواريخ.

وهكذا جاء ميلاد عصر الفضاء، وهكذا أيضًا بدأ سباق الفضاء، وأجرى علماء التكنولوجيا العسكرية في كلٍّ من أمريكا وروسيا تجارب على ما تبقى من سلاح الانتقام في٢. وشَرَعوا في وضع تصميمات لصواريخ متعددة المراحل خلال العقد التالي للحرب العالمية الثانية، بينما وقف كُتَّاب الخيال العلمي في خط مُوازٍ للابتكارات المذهلة يتأملون الإمكانات المتاحة بفضل التكنولوجيا الجديدة. وتصوَّر آنذاك أرثور سي كلارك في بريطانيا التفاصيل التقنية لشبكة اتصال عبر الأقمار الاصطناعية. وفي الرابع من أكتوبر العام ١٩٥٧م استقبل الأمريكيون برعب شديد إطلاق الروس للقمر سبوتنيك١، وهو أول قمر اصطناعي أمكن وضعه بنجاح في مدار حول الأرض. كان القمر مجرد كرة صغيرة تحمل حزمة من الأدوات وزنها ٨٣كجم، تُصدِر لاسلكيًّا صوتًا متتابعًا «بيب» إلى من يتابعون القمر على الأرض وينصتون إلى الصوت الصادر عنه، ولكنه أيضًا كان علامة على امتلاك الروس ناصية التقنيات اللازمة لسرعة الإفلات من جاذبية الأرض بواسطة صاروخ يحرق مرحلتين أو ثلاث مراحل على التوالي. ورصدت الولايات المتحدة على الفور موارد مالية ضخمة لِلَّحاق بهذه المبادرة الروسية، ولكن كان لا بد أن يمضي عقد كامل لكي يتحقق هدفها هذا، وإن ظلت الهيمنة للتكنولوجيا الروسية آنذاك.

ويمكن وصف سباق التسلح بقولنا إنه مر بمراحل زمنية ولكنها متداخلة؛ حيث انتصر الروس خلال المرحلتين الأُوليَين، بينما انتصر الأمريكيون في المرحلتين التاليتين. وعُنِيت المرحلة الأولى بزيادة إطلاق الصواريخ لوضع أقمار اصطناعية أكبر حجمًا وأكثر تعقيدًا في مدار حول الأرض، كما عُنِيت أيضًا باستكشاف استخداماتها المحتملة في الاتصالات اللاسلكية والأرصاد الجوية، والمسح الطوبوغرافي والجيولوجي، ورصد المعلومات العسكرية. وتميزت المرحلة الثانية بأنها مرحلة رحلات فضاء مأهولة تحمل رُواد فضاء. وبدأت برحلة رائد الفضاء السوفييتي يوري جاجارين في ١٢ أبريل ١٩٦١م، والدوران في مدار حول الأرض في مركبة الفضاء فوستوك١، وأثبتت رحلته السيطرة على مشكلات معقدة تتعلق بانعدام الوزن والعودة الآمنة عبر الغلاف الجوي للأرض. وتَبِعتها سلسلة من رحلات الفضاء للاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية تكررت فيها تقنيات الالتقاء والالتحام في الفضاء. واتجهت تكنولوجيا الفضاء الروسية آنذاك إلى التخصص في بناء محطات فضاء أكثر تعقيدًا، بحيث يستمر رُواد الفضاء في أداء مهامِّهم لمدة تصل إلى العام في مرحلة واحدة والقيام بعمليات إنشائية خارج المحطة.

وعُنِيت المرحلة الثالثة باستكشاف القمر، وفيها تقدمت أمريكا أخيرًا على التكنولوجيا الروسية، ولكن المرحلة بدأت بإنجاز روسي آخر بإطلاق لونيك١ في ٢ يناير العام ١٩٥٩م، وكانت هذه أول مركبة فضائية تُفلِت من مجال جاذبية الأرض، وتمر في طريقها إلى جانب القمر لتدخل مدارها حول الشمس. وعرف الإنسان لأول مرة خلال هذه الرحلة صورًا عن الوجه الآخر من القمر المتجه دائمًا بعيدًا عن الأرض بحيث لا نراه. وكشفت الصور عن مجموعات نمطية من فُوَّهات البراكين، وعدد من «البقاع الداكنة» الناعمة أقل من الموجود على الجانب المرئي لنا. وصورت الرحلات التالية سطح القمر، ودارت حوله في ٣ فبراير العام ١٩٦٦م، وهبطت بعد ذلك هبوطًا ناجحًا سلسًا، ولكن الأمريكيين كانوا حتى هذه اللحظة في موضع اللحاق، ويُجْرون عمليات بارعة للتصوير الفوتوغرافي لسطح القمر طبقًا لبرنامجَيهم «رانجر» و«أوربيتر» Ranger & Orbiter، وفي ٢ يونيو العام ١٩٦٦م هبطت مركبة الفضاء الأمريكية سير فويور١ على سطح القمر. وتزايد آنذاك وباطراد حجم وقوة عمليات إطلاق الصواريخ. وبحلول أواخر السبعينيات نجحت الولايات المتحدة في إطلاق الصاروخ العملاق ساتورن-في الذي يبلغ ارتفاعه ١٠٨ أمتار. وهكذا تهيأت للولايات المتحدة فرصة الشروع في إطلاق سلسلة أقمارها أبولُّو التي تحمل كبسولات مصمَّمة لنقل ثلاثة رواد فضاء إلى القمر والعودة بهم، بدلًا من محولة هبوط الثلاثة معًا والعودة من على سطح القمر. كان مقررًا لها أداء مناورة معقدة وبارعة بحيث تهبط مركبة وينطلق الجزء العلوي حاملًا اثنين من رواد الفضاء لِلَّحاق بالعضو الثالث من الفريق، الذي بقي وحده في مدار حول القمر داخل المركبة الأم. ونجحت الخطة نجاحًا باهرًا في ٢٠ يوليو العام ١٩٦٩م، عندما خرج نيل أرمسترونج وإدوين ألدرين من المركبة القمرية الملحقة بمركبة الفضاء أبولُّو٢، وكانا بذلك أول اثنين من البشر يطآن بأقدامهما سطح القمر. وتمت بعد ذلك خمس حالات هبوط ناجحة أخرى على سطح القمر، ومحاولة واحدة فاشلة (أبولُّو١٣ التي نجت في اللحظة الأخيرة من كارثة محقَّقة عندما انفجرت خزانات الوقود بها)، وبعد ذلك توقف البرنامج. ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أسباب اقتصادية؛ نظرًا للتكلفة الهائلة التي يتكلفها برنامج بعثات الفضاء. ويكشف هذا أيضًا عن حقيقة، مُؤدَّاها أن برنامج الفضاء السوفييتي لم يبذل أي محاولة لمنافسة الأمريكيين في عمليات استكشاف القمر بواسطة مركبات فضاء مأهولة.

وبينما كانت هذه المراحل الثلاث مستمرة بدأت المرحلة الرابعة غير المحددة النهاية لاستكشاف الفضاء، وذلك باستخدام المركبات الفضائية لبحث ودراسة الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية وخارجها. وكان كوكب الزهرة (فينوس) أول ما اتجهت إليه الأنظار باعتباره الأقرب إلى الأرض. وأُطلقت سفينة الفضاء الأمريكية مارينر٢ في ٢٧ أغسطس العام ١٩٦٢م، ومرَّت بالقرب من فينوس في ديسمبر من العام نفسه. وأعقبتها رحلات عدة بمركبات فضائية أخرى روسية وأمريكية، انطلق بعضها إلى مدار حول كوكب الزهرة، وهبط بعضها الآخر على سطحه. وأثبت مجموع نتائج هذه الرحلات الاستطلاعية بما لا يدع مجالًا للشك أن كوكب الزهرة يحيط به غلاف غازي لا يتلاءم أبدًا مع الحياة المعروفة لنا على سطح الأرض، وأن درجة حرارة سطح الكوكب ٩٠٠ درجة فهرنهايت، وهو ما يعني أن أي مجسات لدراسة سطح الكوكب لن تعمل إلا فترة قصيرة جدًّا. ومع هذا استمرت دراسة القَسَمات المميزة لسطح كوكب الزهرة الذي تحيط به دائمًا سحابة تَحُول دون رصدنا له، وأنجزنا حصادًا وافرًا من المعارف العلمية عن الكوكب، وعن آليات الغلاف الغازي المحيط به.

وتُجري الولايات المتحدة، وحدها حتى الآن، عملياتِ استكشاف لكوكب المريخ بواسطة سلسلة من رحلات الفضاء للمركبة مارينر ومجسات الفضاء فايكنج. وسبق أن أرسل السوفييت مجسات فضاء في اتجاه كوكب المريخ، ولكنها فشلت في العمل بصورة مُرْضية. وفي العام ١٩٦٥م انطلقت سفينة الفضاء مارينر٤ ومرَّت بجانب الكوكب، وأَجْرت مسحًا فوتوغرافيًّا أوليًّا، وعرضت اكتشافًا مذهلًا يبيِّن أن الجزء الأكبر من سطحه يماثل إلى حد كبير صورة فُوَّهات البراكين الكثيفة الموجودة على سطح القمر، ولكن بدا الأمر أقل مدعاة للدهشة عندما اكتشف العلماء أن سطح الكوكب عطارد وأسطح غالبية الكواكب الأخرى المحيطة بالكواكب العملاقة متماثلة من حيث العلامات المذكورة. وتحقق العلماء من أن المجموعة الشمسية في عهدها الأول تساقطت عليها بالضرورة كُتل من الفضاء الخارجي، ولكن الشواهد الدالة على ذلك مَحَتها العواصف النشطة. ويحيط بالمريخ غلاف غازي رقيق، ومن ثم فإن حركة العواصف حوله ضعيفة. وهذا هو السبب في أن آثار القصف الفضائي لم تُمحَ تمامًا. وظل الأمل يراود العلماء حتى العام ١٩٦٧م في العثور على شكل من أشكال الحياة، وذلك عندما أُطلقت سفينة الفضاء فايكنج، وهبطت على سطح كوكب المريخ لالتقاط صور وإجراء تحليلات كيميائية لعيِّنات من التربة. وكان البرنامج يهدف إلى تسجيل وجود مواد عضوية أو بقايا لمواد عضوية فوق سطح الكوكب، ولكن الاختبارات واجهت مشكلات ميكانيكية، وإن جاءت النتيجة سلبية. وهكذا وضح أن المريخ — شأن الزهرة — لا حياة فيهما، ولكنهما لا يزالان يستحوذان على اهتمام العلماء.

وبحلول ثمانينيات القرن توقف عمليًّا سباق الفضاء؛ ذلك أن الروس ركزوا على برنامج شاق يهدف إلى تعزيز قدرة التحمل عند رواد الفضاء الروس، وذلك ببقائهم فترات طويلة في محطات الفضاء مير. ووجَّه الأمريكيون بعض اهتمامهم لإقامة محطة فضاء دائمة في مدار حول الأرض، ولكن وُضع البرنامج على الرف بسبب كلفته الباهظة، علاوة على أنه غير عملي، غير أن وكالة الفضاء الأمريكية ناسا التي لم تفتأ تتلقى دعمًا كبيرًا من دافع الضرائب الأمريكي ركزت بدلًا من ذلك على وضع تصور لطريقة اقتصادية أكثر، ومن ثم خصصت مواردها لإطلاق مكوك الفضاء، وصُممت هذه المركبة الفضائية بحيث يمكن إطلاقها كصاروخ، ثم تتخلص من خزانات الوقود الفارغة قبل الدخول في مدارها، ثم تعود إلى الغلاف الجوي بوسائل تكفل التحكم في عملية الهبوط، ولكن المكوك كشف عن كثير من المشكلات الحادة، غير أنه عمل بعد ذلك بطريقة سلسلة، وأدى مهام ذات شأن كبير كمركبة فضائية تعمل بانتظام وفي غاية المتانة. وظل كذلك إلى أن وقعت كارثة المكوك شالنجر الذي انفجر في الجو بعد إطلاقه في ٢٨ يناير العام ١٩٨٦م، وأدى إلى مصرع ملَّاحيه السبعة، وكانت هذه الحادثة ضربة قاسية اهتزت معها ثقة الأمريكيين في برنامجهم الفضائي، مما أتاح الفرصة لتطور تكنولوجيات الصواريخ التقليدية الروسية، وبرنامج الصاروخ آريان الأوروبي، بل برنامج الفضاء الصيني، ولكن يبدو يقينًا الآن أن المستقبل على المدى الطويل لاستكشاف الفضاء سوف يعتمد على تقنية المكوك القابل للاستعمال مرات عدة، مما يجعلنا نعتقد أن مثابرة الأمريكيين على هذه التقنية سوف تُكلَّل بالنجاح، وتحقق نتائج مثمرة.

وفي هذه الأثناء أفادت مركبات الفضاء في متابعة عديد من مسارات البحوث المتباينة والمشجعة، وأمكن إجراء مسح منهجي للكواكب القريبة من المركز ورسم خريطة لها، علاوة على دراسة المجالات المغناطيسية والتيارات الشمسية المكوَّنة من جُسيمات متأيِّنة. وعندما اقترب المذنَّب هالي من الشمس العام ١٩٨٦م، قاطعه المجسُّ جيوتو الذي مرَّ عند رأس المذنَّب تمامًا، وأرسل عددًا من الصور التي تكشف عن طبيعة بنيته. وأطلق تليسكوب الفضاء هابل العام ١٩٩٠م. وعلى الرغم من مشاعر الإحباط الأولى بشأن دقة المرايا الرئيسية العاكسة، فإنه بدا بعد ذلك واعدًا بالكثير، وأرسل عمليًّا معلومات عن أجرام سماوية بعيدة لم يكن بإمكان الإنسان رصدها من على سطح الأرض بسبب الكميات الهائلة من الإشعاعات الضوئية التي يمتصها الغلاف الجوي للأرض. ونفَّذ رجال الفضاء الروس برنامجًا صارمًا يعتمد على عمليات فضائية مأهولة استهدفت اختبار قابلية الجسم البشري للتكيف مع رحلات الفضاء الطويلة، وكان الهدف المقصود من وراء ذلك القيام برحلة إلى المريخ إذا ما أمكن التغلب على جميع المشكلات.

fig35
شكل ١٤-١: استكشاف المجموعة الشمسية (المدارات والكواكب ليست مرسومة وفق مقياس رسم واحد).

ولعل أكثر الخطوات الأولية إثارةً التي مهدت لكي يأخذ الإنسان طريقه إلى النجوم تمثلت في مهام مجسات الفضاء العميق فوياجير١، وفوياجير٢. وأَطلقت هذين المجسين وكالةُ الفضاء الأمريكية ناسا العام ١٩٧٧م. وأمضى المجسان اثني عشر عامًا في استكشاف الكواكب العملاقة الموجودة خارج المجموعة الشمسية، وأرسلا صورًا مذهلة عن هذه الكواكب والأقمار التابعة لها. ووصلت أول الأمر في العام ١٩٧٩م صور عن كوكب المشترى وغلافه الغازي العاصف، ومجاله المغناطيسي القوي، وعن هالة كوكبية رقيقة لم تكن معروفة من قبل، علاوة على مجموعة من الأقمار المتنوعة بصورة مثيرة ابتداءً من القمر «جانيميد» المليء بفُوَّهات البراكين، والقمر أوروبا المغطَّى بطبقة من الثلج، وحتى الجحيم البركاني للقمر «يو»، وهو القمر الأقرب إلى المركز. وفي العامين ١٩٨٠م و١٩٨١م مرَّت المركبتان فوياجير١ وفوياجير٢ بالقرب من كوكب زحل، وأعطَيَتا شواهد مثيرة عن بنية مجموعة الهالات المحيطة به، وسرب الأقمار التابعة له. وانحرفت المركبة فوياجير١ عمدًا بعيدًا عن مستوى المجموعة الشمسية بغية المرور بالقرب من القمر تيتان؛ أكبر أقمار زحل. وتبيَّن أن هذا القمر يحيط به غلاف غازي سميك من غاز الميثان، مما يجعله في حالة إظلام تام. وواصل المجسُّ فوياجير٢ رحلته إلى أعماق الفضاء، ومر في العام ١٩٨٦م بالقرب من الكوكب أورانوس ورصد الهالات الرقيقة المحيطة به ومجموعة الأقمار التي تدور حوله في مدارات منحرفة غريبة. وفي العام ١٩٨٩م مر المجسُّ بالقرب من الكوكب نبتون؛ آخر أهداف رحلته، وتبيَّن أنه كوكب أزرق مثير يحيط به غلاف غازي نشط، ويدور حوله أكبر الأقمار تريتون الذي كان أكثر إثارةً للدهشة؛ ذلك لأنه هنا على حافة المجموعة الشمسية يوجد عالم يحيط به غلاف غازي رقيق، وثورة بركانية نشطة فوق سطحه. وكانت هذه هي نهاية ملائمة لرحلة أثبتت القوة السحرية للتكنولوجيا وتطورها الفائق، والتي أيضًا غيرت تمامًا من معارفنا العلمية عن عوالم المجموعة الشمسية.

ومع هذا لم يكن كل ما سبق إيذانًا بختام الرحلة؛ إذ إن المجسَّين فوياجير١ وفوياجير٢ لا يزالان منطلقَين في رحلتهما خارج المجموعة الشمسية بعد أن زادت سرعتهما بفضل المجال المغناطيسي لكلٍّ من الكوكبَين العملاقَين عندما مرَّا بهما. ويحمل المجسَّان رسائل مشفرة لأي كائنات عاقلة تصادفهما في وقت ما، وفي مكان ما مستقبلًا، بينما الرحلة ماضية في طريقها عبر الفضاء بين النجوم، ولكن خروجهما عن نطاق المجموعة الشمسية يمثل نهاية هذه المرحلة من استكشاف الفضاء. وهكذا اكتملت الخطوات الأولى، واغْتَنت بفضلهما كثيرًا معلوماتُنا عن المجموعة الشمسية، وانفتحت مجالات مثيرة للبحث والدراسة خلال الفترة المقبلة. ولقد انتهى سباق الفضاء، وأصبح لزامًا أن نتطلع إلى الأمام بغية التعاون الوثيق بين العناصر المشاركة الرائدة في مجال استكشاف الفضاء ضمانًا لتوفير أكثر الجهود والمناهج فعالية لهذه الدراسة؛ إذ تنتظرنا هناك على الطريق المُوصِّل إلى النجوم بعضُ الأهداف العظمى المنوطة بالرسالة التكنولوجية؛ مفاتيح ومعلومات أساسية لفهم طبيعة الكون، وبنية المادة، وأصل الحياة، ومعنى الزمان. ونحن على يقين — إذا ما التزمنا مواصلة الجهد البحثي بدقة ويقظة — من أننا سوف نتلقى صورًا لحياة عاقلة. وإنها لمهمة ساحرة آسرة، وجديرة بأن نرصد لها جميع الموارد اللازمة التي هي في مقدور البشرية من عقل وروح.

والجدير ذكره أنه كانت هناك اعتراضات كثيرة على هذا البرنامج الخاص باستكشاف الفضاء، وليس من الحكمة في شيءٍ النظرُ إليها وكأنها أمر تافه أو غير ذي شأن. كان هناك أولًا اعتراض أثار صخبًا شديدًا، ويتعلق بكلفة بحوث الفضاء، ولكن حريٌّ أن نلحظ أن دافع الضرائب الأمريكي صاحب صوت ديمقراطي، وهو الذي يتحمل أي عبء جديد، وقد عانى طويلًا معاناةً مذهلة فيما يتعلق بالإنفاق في هذا المجال، ولكن النقد أجبر المسئولين على وضع القضايا الاقتصادية في الحسبان. ومن هنا ظهرت محاولات لتطوير مكوك قابل للاستعمال مرات ومرات بدلًا من إطلاق صاروخ باهظ التكلفة ليتبدد تمامًا بعد مرة واحدة، وأُسدل الستار على البرنامج في لحظات النُّدرة المالية الحادة. ولاحظ المعارضون أيضًا أن برنامج وكالة الفضاء ناسا أصبح وثيق الارتباط بالنفقات الدفاعية، وأنه عند التفكير الجاد في مبادرة الدفاع الاستراتيجي (المعروفة باسم حرب النجوم) بدت هذه العلاقة وثيقة جدًّا بالفعل. وبات واضحًا أن سباق التسلح إجمالًا هو في النهاية امتداد للحرب الباردة ونتاج لها، لذلك فإنه حين خفَّت حِدة هذا النزاع العام ١٩٩٠م بدأ التفكير في الحد من الالتزام ببحوث الفضاء. ولعل أقوى الاعتراضات وأكثرها تعبيرًا هو الحُجة الداعية إلى توفير أموال برنامج الفضاء لاستخدامها في أعمال ذات نفع فوري ومباشر، مثل تخفيف حدة الجوع والفقر في العالم. ونحن ندرك عن يقين أن مواصلة بحوث الفضاء لا تقوم أبدًا مبررًا لعدم تطوير برامج إنسانية أيضًا. الأمران ضروريان، وكلٌّ منهما يدعم الآخر، بل أهداف كلٍّ منهما من الناحية المثالية أهداف واحدة، وهي السعي لضمان بقاء النوع البشري بفضل اكتساب أكبر قدر من المعارف التي تتوافر لنا من خلال فهم أكثر عمقًا لطبيعة الكون.

وهكذا، فعلى الرغم من تعقُّد عمليات الثورة التكنولوجية، وما أثارته من مشكلات تتحدى الإنسانية، والتي تمثلت في صورة المعضلة التكنولوجية؛ فإن هذه الثورة فتحت آفاقًا لحلول ممكنة من شأنها، إذا ما التزمنا بها، أن تحدد لنا الاتجاهات والأهداف التي ييسرها لنا إمكان حسم المشكلات المباشرة للعالم الحديث، وأن نستلهم الرسالة الإنسانية للتكنولوجيا التي تُيمِّم بنا بحزم صوبَ المستقبل وآفاق النجوم. إن وَضْعنا التاريخي منوط بمسئوليات هائلة، بيد أن جيلنا محظوظ إذ يعيش عند مُفترَق طرق فريد غير مسبوق في الخبرة البشرية. فالآفاق — على الرغم من جميع الأخطار — رحبة وعظيمة ومفعمة بالأمل. ونحن نعرف أن التنبؤ بالمستقبل ليس عمل المؤرخين، ولا حتى مؤرخي التكنولوجيا، ولكن هذه هي الخاصية الفريدة المميزة للوضع العالمي في نهاية القرن العشرين؛ إذ إن القسط الأكبر من الإنجازات إنما تحقق، وخلال فترة زمنية قصيرة، بفضل الذكاء التكنولوجي. وهذا هو ما يبرر بعض المحاولات التي استهدفت التنبؤ بالمستقبل. وأيًّا كان ما سيحدث خلال العقود القليلة القادمة، فإن الشيء المؤكد أن الثورة التكنولوجية سوف تستمر في إحداث تأثيرها المذهل، وستكون لها نتائج بعيدة المدى بالنسبة لكوكبنا، وبالنسبة للبيئة واستمرارية حياة البشرية. وختامًا، فإن نجاحنا أو عدم نجاحنا في ضمان اطراد بقاء البشرية على قيد الحياة إنما هو رهن استعدادنا من أجل اطراد البحث الْتِماسًا للمعرفة والفهم، وهذا كله نابع من طبيعة الروح التي نلتزم بها في معالجة مهامَّ عظيمةٍ وهائلة تختص بالتعليم، وفيما نبذله من جهد شاق لجمع الشواهد والبيِّنات، وفي الالتزام بتقييم حكيم حصيف نختار على هَدْيه ما هو صواب دون الخطأ. إن البحث الْتِماسًا لمعرفة الذات — شأنه شأن الرحلة عبر الفضاء إلى النجوم — لا نهاية له، ولكن خبرة الثورة التكنولوجية هي التي جعلت كلًّا من الرحلة والبحث أمرَين جديرَين بكل اعتبار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤