الفصل الثالث

عصر الطاقة البخارية

من المسلَّم به أن التكنولوجيا معنية بدراسة التقنيات البشرية الخاصة بصنع وأداء الأشياء. ومن ثم فإن فهم الطاقة أو القدرة يحتل مكان القلب من التكنولوجيا، ذلك لأنها هي التي تهيئ للبشر القدرة على صنع وأداء أي شيء، ولهذا تحتل الطاقة مكانة واضحة جلية في تاريخ التكنولوجيا. ونعرف أنه في بداية التطور التكنولوجي كان المصدر الوحيد للقدرة هو عضلات الإنسان، كما أن قدرته على عمل واستخدام المصنوعات كانت مقيدة بحدود هذه القدرة، والمهارة الإنسانية. وبدأت تظهر تدريجيًّا مصادر لقدرات أخرى يجري استغلالها لتكون إضافة أو بديلًا من عضلات البشر. مثال ذلك الروافع البسيطة، مثل عصا الحفر أو الوتد الذي صممه الإنسان لزيادة القدرة على استخدام العضلات البشرية، وأمكن ترويض الحيوانات لحمل الأثقال، وجر الأدوات الضخمة الثقيلة، مثل المحراث. وأدرك الإنسان إمكان استخدام المصادر الطبيعية للطاقة — مثل الرياح والماء والمد والجزر — وذلك لأداء بعض الأعمال التي تستلزم جهدًا وتكرارًا، مثل طحن الحبوب، ولكن هذا الإدراك انطوى على فهم للعمليات الميكانيكية الأساسية، كما اشتمل على سلسلة من التقنيات الخاصة بالتشييد، واللازمة لبناء طاحونة جيدة وتزويدها بأسنَّة ملائمة، وكذا لطحن الأحجار. معنى هذا أن هذا التطبيق الناجح لأي فهم جديد لمصادر الطاقة يمكن أن يُرجأ لأجل غير محدد عند العجز عن تحويل هذه القدرة إلى صورة قابلة للاستخدام. وهنا يلزم توافر قدر من الخبرة الفنية لتحويل المعرفة إلى مصدر للطاقة يمكن التحكم فيه. صفوة القول أن تكنولوجيا القدرة معنية بتقنيات تحويل الطاقة. إننا نعيش في عالم يحيط به تيار دافق شاسع من الطاقة الطبيعية المستمدة من الشمس، مثل الضوء الذي يصدر عنها مباشرةً، أو حركات الهواء والمياه التي تتولد عن الشمس، أو مثل الطاقة الشمسية المختزنة في الصخور الكربونية في صورة وقود أحفوري، وإن أول مهام البراعة التكنولوجية البشرية هي اكتشاف سبل تحويل هذه الطاقة إلى أشكال قابلة لأن يستعملها ويتحكم فيها البشر.

fig4
شكل ٣-١: درجات الطاقة واستخدام الموارد الطبيعية للطاقة في الحضارة الغربية.
وبحلول العام ١٧٠٠م شهدت الحضارة الغربية تقدمًا جوهريًّا في اتجاه تسخير المصادر الطبيعية للطاقة، ولكن مع هذا ظلت عضلات البشر والحيوانات هي التي لها الهيمنة في غالبية مجالات الاستعمال الزراعي والصناعي. وهذا هو ما أطلق عليه فريد كوتريل اسم مجتمع الطاقة المنخفضة Low-energy society المستخدمة في جميع الأغراض العملية. إذ يعتمد هذا المجتمع أساسًا على المحولات الحيوانية للطاقة، حيث «تدرُّج الطاقة» شديد الارتفاع، بمعنى أن القدرة المتولدة يتعين استخدامها في أقرب الأماكن إلى مصدرها. وتتميز مثل هذه المجتمعات بدرجة عالية من الاستقرار الاجتماعي ومقاومة التغيير. وكانت هذه هي حال أوروبا حتى القرن السابع عشر، على الرغم من أنه قد بدأت تظهر بوادر مهمة تبشر بالتغيير في العصر الوسيط، ثم ازدادت قوة مع الثورات الفكرية والدينية في عصرَي النهضة والإصلاح الديني، وتجسدت أهم نتائج هذا التغيير في ميلاد العلم الحديث. وثمة عوامل تغيير أخرى اشتملت على التطور السريع للاقتصاد التجاري المرتكز على استغلال السفن الشراعية. وتُعتبر هذه السفن أول محولات للطاقة العالية High-energy converters، إذ كانت قادرة على حمل البضائع والركاب على مدى مسافات بعيدة مقابل قدر قليل من الجهد الإضافي. والمعروف أن السفن الشراعية ابتكرها الإنسان في العالم القديم، ونجد رسومًا لهذه المراكب في النقوش المصرية القديمة، وتمثل أول محاولات ناجحة من الإنسان لتسخير مصدر غير حيواني للطاقة. وبعد ذلك بزمن طويل — لعله في القرن الثاني عشر في ضوء حديثنا عن الحضارة الغربية — أمكن استخدام طاقة الرياح من أجل أعمال الطحن وغير ذلك من الاستخدامات الصناعية في أنحاء كثيرة من أوروبا منذ بداية القرن السابع عشر. وظهر هذا بوجه خاص في الأراضي المنخفضة، مثل هولندا، حيث يكون لهذه الطواحين دور مهم وأساسي لتصريف المياه الموجودة في البر.

ولكن تواكبت آنذاك طاقة المياه مع طاقة الرياح لاستخدامهما في المجالات الزراعية والصناعية التي تقصر دونها قدرة الإنسان أو الحيوان. وكانت السواقي معروفة منذ الإمبراطورية الرومانية على أقل تقدير، وإن لم يطرأ عليها تطور كبير حتى العصر الوسيط في أوروبا، وذاعت وانتشرت منذ ذلك التاريخ على ضفاف أغلب الأنهار والمجاري المائية سريعة الدفق الموجودة في أوروبا، وظلت على الدوام صغيرة، إذ كانت تستخدم السواقي التي تدار بالدفع السفلي (على الرغم من أفضلية السواقي الأفقية في بعض أنحاء أوروبا) مع أقل حد من تعشيق التروس لنقل الطاقة. وتكشفت براعة الإنسان العظيمة عند استخدام هذه السواقي في العمليات الصناعية، مثل عمليات تقصير المنسوجات، وسحق خام المعادن، ونشر الأخشاب، وتشغيل الآلات. علاوة على هذا فإنه بحلول العام ١٧٠٠م ظهرت الأدوات التي تُدار بقوة الدفع العلوي — حيث تتدفق المياه في الدلاء عند أعلى الساقية بدلًا من ريش الدفع الموجودة عند أسفلها — وشاع هذا النوع من السواقي الذي حقق فعالية أكبر كثيرًا من طراز الدفع السفلي. وظل الخشب مادة البناء العادية.

وكانت هذه المحاولات بالنسبة لطاقة الرياح والمياه من الأهمية بمكان، وأثبتت في الأقل ما يمكن أن يتحقق بفضل زيادة الإنتاجية والثروة، وحث هذا المبتكرين وأصحاب المشروعات على الْتِماس المزيد من مظاهر التقدم والنمو. غير أن تأثيرها كميًّا كان محدودًا وضئيلًا بالمقارنة مع اعتماد المجتمع شبه الكامل على القدرة البشرية والحيوانية لإنجاز البية الأغراض في الزراعة والنقل والأعمال المنزلية. وهكذا ظلت أوروبا حتى العام ١٧٠٠م من مجتمعات الطاقة المنخفضة، وتغير الوضع مع التصنيع الذي استلزم زيادة في الطاقة على مدى فترة محدودة لا تتجاوز بضعة عقود. وشجع التصنيع كذلك على سلسلة من الابتكارات التكنولوجية رغبة في توفير هذه الطاقة. وبدا واضحًا أن أي مصدر للطاقة يجري استحداثه لا بد أن تتوافر فيه ثلاثة معايير للوفاء بهذه المتطلبات الجديدة؛ أولًا: يتعين أن يكون متاحًا وميسورًا من حيث الحجم، ومن ثم لم تشهد هذه المرحلة تشجيعًا لمحولات الطاقة محدودة الحجم أو الهامشية. ثانيًا: يجب أن تكون طاقة يمكن الاعتماد عليها؛ نظرًا لأن عمليات تجفيف المناجم والإدارة السهلة للمصانع بدأت تعتمد اعتمادًا كليًّا على هذا النوع من الطاقة. وثالثًا: أن يكون بالإمكان الوصول إلى مصدر الطاقة بطريقة معقولة ماديًّا وفكريًّا، إذ يلزم الحصول عليها بسهولة، وأن يكون من اليسير نقلها وإعادة تجميعها والحفاظ عليها دون صعوبات يتعذر التغلب عليها. وأمكن استحداث وتطوير العديد من المصادر الجديدة للطاقة على مدى القرون الثلاثة التالية، والتي تفي بهذه المعايير.

وهكذا اقترن التحول إلى مجتمع عالي الطاقة باختراع المحركات الأساسية الجديدة، مثل المحرك الذي يعمل بالبخار، والمحرك داخلي الاحتراق، ولكن قبل أن تصبح هذه الوسائل الجديدة لتحويل الطاقة متاحة وميسورة؛ اتُّخذت خطوات كبيرة ومهمة في سبيل زيادة كفاءة طواحين الهواء وطواحين الماء، مثال ذلك طاحونة الهواء البريطانية في القرن التاسع عشر، التي تعمل بأرياش زنبركية يسهل التحكم فيها، وآلية التنظيم الذاتي عن طريق ذيل مروحي الشكل، علاوة على منظم بالطرد المركزي. وتُعتبر هذه الطاحونة في الأساس ناتجًا لعملية التصنيع المتقدمة، شأنها في هذا شأن مصنع النسيج المعاصر آنذاك وقتما طرأت تحسينات مهمة في أداء الدواليب الدوارة بالماء، بفضل التركيب المعدني والاهتمام الشديد بتدفق المياه وتنظيم عملية التدفق. والجدير ذكره أن التصنيع كان بإمكانه، حتى من دون المحرك البخاري، أن يحقق تقدمًا كبيرًا بفضل استخدام طاقة الرياح والمياه. وظلت طاقة الرياح وطاقة المياه تواصلان دورهما كجزء مهم من عملية التصنيع على مدى القرن التاسع عشر، ولكن المحرك البخاري هو الذي يمثل أروع برهان على وجود محول للطاقة يعمل بأسلوب جديد، وقادر على تحويل الحضارة الغربية إلى أول مجتمع عالي الطاقة في العالم.

وظهر المحرك البخاري في الحضارة الغربية مع نهاية القرن السابع عشر، وكان هناك مَن تخيَّله سابقًا في العصور القديمة على هيئة ما يُسمى المنفذ العوليسي أو منفذ الرياح Aeolipile، أو غير ذلك من تصورات وضعها هيرو السكندري، والتي تثبت المبدأ الأساسي لتوربين رد الفعل البخاري. وكانت هذه جميعها تُعتبر في زمنها مجرد لعب أطفال، ولم تتطور. ولكن القرن السابع عشر الذي شهد المقدمات الأولى للعلم الحديث، والمفعمة حيويةً ونشاطًا؛ جعل الفكر يتجه نحو الْتِماس وسائل للنهوض بسيطرة الإنسان على الطبيعة عن طريق زيادة قدرته على صنع وأداء الأشياء. وظهر على غير توقع اكتشافان وجَّها الأنظار إلى إمكان ابتكار محرك أساسي جديد عن طريق الإفادة من خصائص البخار «المرنة»؛ أولهما: اكتشاف أن للغلاف الجوي وزنًا يتغير بتغير الارتفاع عن سطح البحر. وثانيهما: اكتشاف أنه على الرغم من إصرار السلطات قديمًا على أن الطبيعة لا تعرف الفراغ، فإن بالإمكان ابتكار فراغ جزئي، سواء عن طريق استخدام مضخة هواء تفرغ الهواء بقوة، أو عن طريق تكثيف البخار داخل وعاء مغلق. وليس بإمكاننا أن نعرف عن يقين إلى أي مدًى كان مهندسو البخار في هذه الفترة الباكرة على أُلفة بهذه المبادئ العلمية الجديدة، ذلك لأن سافيري ونيوكومن، على سبيل المثال، لم يكونا معترفًا بهما كعضوين في المجتمع العلمي، ولهذا فإن المعلومات التفصيلية عن حياتهما نادرة، ولكن من الواضح أنهما كانا يعملان في بيئة بدأت تشيع فيها هذه المعارف وتصبح ميسورة لمن لديهم حظ من الذكاء والتعليم، ورغبة في الإقدام على المشروعات. ونظرًا لأن من نهضوا بهذه المحركات البخارية الأولى توافرت فيهم هذه الخصائص، فإن لنا أن نستدل من هذا على أن التأمل العلمي كان حافزهم في ذلك.
fig5
شكل ٣-٢: تطور طاقة البخار.

وأول محرك بخاري فعال صنعه توماس نيوكومن لضخ المياه خارج منجم فحم في منطقة دادلي وسط إنجلترا العام ١٧١٢م. وكان نيوكومن يعمل بالتجارة في السلع الحديدية التي يجلبها من دارتماوث في ديفون. ونحن نعرف أنه كان من المنشقِّين دينيًّا، وأنه كان يجيد القراءة والكتابة، وجاب البلاد طولًا وعرضًا، وهذه جميعها صفات تدعم افتراضنا بأنه على الأرجح شارك في مناقشات عن الطاقة البخارية وإمكان ابتكار فراغ. وقد كان هذا الأمر بمنزلة معلومات عامة على مدى العقدين السابقين بفضل منشورات نشرها دنيس بابين وغيره من الباحثين. وكان محرك دادلي ماكينة ضخمة أُنشئت داخل الحظيرة الخاصة بالمحرك، وتتكون آلية التشغيل من أسطوانة نحاسية عمودية مغلقة من أسفل، ومفتوحة من أعلى، وبداخلها كباس طليق الحركة، ويدخل البخار عن طريق غلاية أسفل الأسطوانة، وبعد أن يتكثف البخار تحت الكباس بفعل دفقة قوية أو نافورة مياه باردة ينشأ فراغ جزئي، وهنا يمكن للضغط الجوي أعلى الكباس أن يدفع الكباس إلى أسفل داخل الأسطوانة، وإذا ما وصلنا الكباس برافعة أو ذراع كبير دوَّار فإن حركة الكباس المتجهة إلى أسفل سوف تتحول إلى حركة متجهة إلى أعلى لقضبان الضخ عند الطرف الآخر للذراع، وهكذا يمكن رفع المياه من أي عمق تصل إليه القضبان. وكان ثقل قبضان الضخ آنذاك كافيًا وحده لاستعادة الكباس إلى قمة الأسطوانة ليبدأ المحرك شوطه الثاني.

وكان من الضروري إدخال كثير من التعديلات لصقل المحرك الضخم بغية تبسيط وسلاسة التشغيل. وهذا هو ما فعله نيوكومن في صورة صمامات تتحكم في فتحة دخول البخار وفي عدد آخر من الوظائف، بحيث تعمل الماكينة آليًّا عن طريق قضيب واصل من الذراع الدوار، وكذا عن طريق وسائل لإحكام غلق الأسطوانة وبداخلها الكباس حتى يمنع تسرب الهواء. وما إن أتم نيوكومن بناء هذه الآلة ونجح في تشغيلها حتى أثبتت قوتها وفاعليتها، وظهر أن بالإمكان الاعتماد عليها، ووضح على الفور أنها بوضعها هذا تلبي حاجة ماسة ومُلحة لمجتمع صناعي آخذ في التوسع، وأنها مضخة جيدة تفيد في تهيئة المناجم العميقة لتكون صالحة للعمل. وحيث إن نيوكومن من مواطني ديفون فلا بد وأنه استلهم في عمله حاجة بلده إلى مثل هذه المضخة في الأحياء الخاصة باستخراج القصدير والنحاس في جنوب غرب إنجلترا، ولكن كانت ثمة مشكلة نظرًا لأن المحرك يستهلك كمية كبيرة من الفحم كوقود للغلاية، وكان الفحم سلعة نادرة في هذه الناحية من إنجلترا، ولهذا نادرًا ما كان يُستخدم محرك نيوكومن في مجال استخراج المعادن من المناجم. ولكن الوضع في مناطق مناجم الفحم كان قصة أخرى، إذ كان الفحم متوافرًا هناك نسبيًّا علاوة على ميزة أخرى إضافية، وهي أن الغلاية يمكنها أن تعمل بكسرات الفحم الدقيقة الحجم أو تراب الفحم الذي يعتبره أصحاب الأعمال نفاية يجب التخلص منها. وهكذا شق محرك نيوكومن طريقه في حقول الفحم في أواسط إنجلترا وفي الأراضي الاسكتلندية المنخفضة، وخاصةً في منطقة الفحم المزدهرة الواقعة شمال شرق إنجلترا. وانتشر المحرك أيضًا حول مصبَّي نهر تاين ونهر وير شمال إنجلترا اللذين أصبحت لهما الهيمنة في سوق لندن، نظرًا لأنهما ييسِّران النقل النهري إلى العواصم. ولم يكد القرن ينتصف حتى ظهرت مئات المحركات من طراز نيوكومن التي تعمل في هذه المنطقة وحدها. وليس ثمة ما يبرر الشك في أن المحرك البخاري أصبح له بالفعل دور حاسم في الاقتصاد القومي البريطاني، بفضل إشباع الحاجة المتزايدة دومًا إلى الفحم.

وظهرت في هذه الأثناء استخدامات أخرى لمحرك نيوكومن، إذ كان مضخة مياه فعالة، ورُكِّب محرك في محطة مياه لندن خلال عشرينيات القرن ١٨، على الرغم من ارتفاع كلفة الوقود هنا، مما أفضى إلى التوقف عن استخدامه. والجدير ذكره أن ارتفاع نفقات الفحم جعلت أصحاب المناجم المعدنية في كورنوال وديفون يعزفون عن استخدام المحرك، غير أن منظم المشروعات السويدي مارتن تريوالد حمل الفكرة إلى السويد ليقيم أول محرك تجاري خارج بريطانيا في منجم حديد دانيمورا. واستشعر أصحاب مناجم المعادن الألمان في جبال هارتس وفي أماكن أخرى رغبة عارمة في الحصول على التكنولوجيا الجديدة، وتعهد بعض البريطانيين المتخصصين في تركيب المحركات بأداء هذه المهمة لهم. ومن أشهر هؤلاء المعروفين باسم صناع الطواحين الطوافين أو المتجولين أسرة هورنبلاور من كورنوول، وسافر واحد من هذه الأسرة ويدعى جوزيا هورنبلاور إلى أمريكا العام ١٧٥٣م، حيث ركب أول محرك بخاري في العالم الجديد في منجم للنحاس في نيو جيرسي. واستقر هورنبلاور هناك ليتولى عمل وتركيب محركات بخارية أخرى لاستخدامها في محطات مياه فيلادلفيا ونيويورك.

وهكذا انتشرت التكنولوجيا الجديدة بخطوات ثابتة في كل أرجاء الحضارة الغربية على مدى القرن الثامن عشر، حينما وجد أصحاب المشروعات المؤهلون الاعتراف بإمكاناتها، وحيث يمكن توفير الموارد اللازمة من رأس مال وأيدٍ عاملة لإقامة العتاد الضخم. ولم تكن عملية الانتقال هذه لتدعمها أو تعوقها تشريعات خاصة ببراءة الاختراع، والتي كانت موجودة آنذاك. حقًّا إن نيوكومن اضطُر إلى الْتِماس الحماية لابتكاره بموجب البنود العامة لبراءة الاختراع الممنوحة لتوماس سافيري العام ١٦٩٨م «لرفع المياه وتوفير الحركة لكل أنواع أعمال الطحن بواسطة القوة الدافعة للنار».

وهذا هو الحق الذي امتد بعد ذلك حتى العام ١٧٣٣م. ونعرف أن ابتكار سافيري بشأن جهاز يعمل عن طريق تكثيف البخار داخل أنبوب مغلق، ومن ثم سحب المياه إلى أعلى من عمق تحدده قدرة الضغط الجوي على رفع عامود المياه، وبعد ذلك يدفع المياه إلى مستوًى أعلى عن طريق توصيل البخار إلى الأنبوب بضغط كبير. واستُخدم هذا الاختراع في بعض الاستخدامات العملية المحدودة خاصةً في الظروف التي تستلزم الجزء الأول من الدورة، أي الجزء الذي يعتمد على تكثيف البخار والضغط الجوي، ولكن على الرغم من هذا لم يستخدم مجتمع المناجم محرك سافيري للهدف الذي أُنشئ من أجله.

ومع هذا فإن نجاح سافيري في الحصول على براءة اختراع جعل من الكياسة أن يعمل نيوكومن على الاتفاق معه، وهكذا يتسع نطاق الحماية ليشمل المحرك الجديد. وعندما توفي سافيري العام ١٧١٥م واصل أحد اتحادات رجال أعمال لندن دعمه لهذه الحماية، والاعتراف بحقوق الملكية الخاصة لجميع أنواع المحركات البخارية التي تقام في بريطانيا، إلى أن انتهت المدة القانونية لبراءة الاختراع العام ١٧٣٣م. وعمل قانون براءات الاختراع البريطاني إلى ملاءمة نفسه ببطء مع المفهوم الجديد لحماية الملكية الفردية للاختراعات، وكانت قضية سافيري بشأن براءة الاختراع سابقة مهمة في هذا الشأن. وحان الوقت المناسب تمامًا لكي يتحقق واحد من أهم العوامل الضابطة التي توطد دعائم إطار اجتماعي يحث على الابتكار، ولكن كانت الحماية التي يوفرها المجتمع حتى مطلع القرن الثامن عشر لا تزال أولية، بل كانت بدائية جدًّا في بقية أوروبا.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن ١٨ استهل المحرك البخاري تطوره المذهل، فقد ظل طوال القرن الأول تقريبًا من تاريخ ظهوره محركًا يعمل بالضغط الجوي أساسًا، بمعنى أن قدراته تأتيه من وزن الضغط الجوي المتلائم مع الفراغ الناشئ بسبب تكثيف البخار، وظل الوصف الشائع له في حقيقة الأمر أغلب هذه الفترة بأنه «المحرك الناري»، نظرًا لأن المشاهد غير المتمرس يظن أن «القوة الدافعة للنار» هي التي تمنحه القدرة. ولكن مع نهاية القرن بدأت التجارب الحذرة في استخدام خاصية تمدد البخار، مما أدى إلى إنجاز تطور جذري جديد للمحرك البخاري. وبدأ هذا التطور على يدَي جيمس وات، وهو الرجل الذي استطاع — على الرغم من أنه ليس مخترع المحرك البخاري — أن يصبح المساهم البارز في تطوير تكنولوجيا الطاقة البخارية. وكان وات حِرفيًّا اسكتلنديًّا وصانعًا لأدوات علمية. وبينما كان موظفًا لصيانة أجهزة المعامل في جامعة جلاسجو عكف على تطوير نموذج محرك نيوكومن بحيث يجعله يعمل بكفاءة، وأفضى تأمله الملهم لهذه المسألة إلى اختراع المكثف المستقل، واستخدمه بديلًا من الأسطوانة التي يجري تسخينها وتبريدها بالتبادل مع كل شوط من أشواط الكباس. وهكذا أصبح بالإمكان الحفاظ على الأسطوانة دائمة السخونة مع تكثيف البخار داخل أنبوب مستقل، أي داخل المكثف الذي أمكن الاحتفاظ به باردًا دومًا.

وصنع وات نموذجًا من المكثف المنفصل، وحصل على أول براءة له لحماية اختراعه في العام ١٧٦٩م. غير أنه واجه مشكلات هائلة في سبيل صناعة محرك بالحجم الكامل يجسد التصميم الجديد، ولم ينجح تمامًا إلا العام ١٧٧٥م عندما دخل شريكًا مع رجل الصناعة ماتيو بولتون من برمنجهام، ذلك أن ماتيو قدم رأس المال اللازم والخبرة الإدارية، وقدم علاوة على هذا قوة عمل من صناع مَهَرة قادرين على إنتاج أجزاء مصنعة آليًّا صناعة دقيقة، وتُعتبر ضرورية للإفادة إفادة كاملة من اختراع وات. واستفاد الشركاء من طريقة ويلكنسون الجديدة لتجويف أسطوانات الحديد الزهر، واستطاعوا كذلك الحصول على إذن بتحديد فترة اختراع وات حتى العام ١٨٠٠م. وأتاح لهم هذا احتكار إنتاج المحرك البخاري المتقدم على مدى الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وأنتجوا وباعوا خلال هذه الفترة قرابة خمسمائة ماكينة، ولهذا ليس بمستغرب أن نرى في هذا الإنجاز ابتكار الصناعة الهندسية الحديثة، وصناعة ماكينات معقدة على مستوًى عالٍ من الدقة، علاوة على التوزيع الضخم في أسواق مترامية الأطراف. ويحق لنا القول إن وات جاء والمحرك البخاري قطعة من عتاد ثقيل بطيء، ولكنه طوره ليتحول إلى منتج هندسي رائع دقيق.

واستطاع وات على مدى الخمسة والعشرين عامًا من تاريخ الشركة بينه وبين بولتون أن يُدخِل المزيد من التحسينات على المحرك البخاري. ونذكر من بين هذه الإنجازات ذات الأهمية الكبرى أنه نجح في تحويل المحرك بالضغط الجوي أو النار إلى محرك بخاري حقيقي بكل معنى الكلمة، إذ استخدم القدرة التمددية للبخار لتصل مباشرةً إلى الكباس. وتوصل إلى هذا أول مرة لأنه حين أغلق الأسطوانة للاحتفاظ بها في درجة حرارة عالية وثابتة في أثناء العمل؛ وجد من الضروري أن يأتي بشيء بديل عن وزن الضغط الجوي عند أعلى الكباس، ورأى أن بالإمكان أن يحقق هذا إذا ما سمح للبخار بالدخول، واستفاد من تمدده ليساعد الكباس على الحركة المنتظمة إلى أسفل. ولم يكد هذا يتحقق له حتى لم تبقَ أمامه إلا خطوة بسيطة نسبيًّا ليسمح بدخول البخار ثم يتكثف فوق وأسفل الكباس على التوالي، وبذا يحول الماكينة التي كانت تعمل بحركة واحدة إلى ماكينة مزدوجة الحركة، وهكذا أصبح المحرك في حركته أكثر كفاءة وسلاسة، كما أصبح بالإمكان تعديله لأداء حركة دائرية؛ بمعنى أن حركة الكباس البسيطة المتبادلة — والتي يمكن الإفادة منها مباشرةً أو عن طريق ذراع دوار لتحريك قضبان المضخة الخاصة بأي منشأة لضخ المياه — أصبح بالإمكان الآن تحويلها عن طريق مرفق أو ذراع تدوير لتوفير حركة دوارة، ومن ثم لدفع أي آلة وتحريكها إذا ما تسنى تشغيل عجلات أو بكرات، وبدا أن الترتيب العادي هو تركيب المرفق فوق محول الدولاب الرئيسي للحدافة، وهذا هو ما أصبح قَسَمة مميزة لجميع المحركات البخارية مزدوجة الحركة لضمان الدوران السلس للماكينة. وواجهت وات هنا مشكلة؛ ذلك أن مخترعًا آخر استخرج لنفسه براءة اختراع لمرفق مركب في محرك بخاري، وعلى الرغم من الشكوك في إمكان التثبت من صحة هذه البراءة قانونيًّا، فإن بولتون ووات كانا حريصين على تجنب أي دعاوى قضائية يمكن أن تلفت الأنظار إلى حقوقهما الخاصة في براءة الاختراع. واعتمد وات لذلك على براعته من أجل تصميم طرق بديلة لتحويل الحركة المتبادلة إلى حركة دوارة خاصة طريقة الشمس والكوكب، «للتعشيق» التي استخدمها في جميع الماكينات الدوارة التي تنتجها المؤسسة. ويتألف هذا الطراز من عجلة مسننة (الكوكب) ملحقة بطرف قضيب التوصيل من الذراع المثبت، بحيث يتحرك حول محيط دائرة عجلة مماثلة (الشمس) والمثبتة على جذع الحدافة، هنا ينقل «الكوكب» حركة الكباس بفعالية كبيرة إلى «الشمس» وتدور الحدافة.

وهناك اختراعان آخران اكتملت بهما عملية الصقل التي أدخلها وات على المحرك البخاري؛ الأول هو «الحركة المتوازية»، وهو عبارة عن ترتيب لعدد من القضبان الدوارة للحفاظ على حركة الكباس بحيث تظل متعامدة حتى وإن اتصل بطرف ذراع يتحرك خلال مقطع قوسي. وبدا وات مزهوًّا بهذا الاختراع بسبب أناقته الهندسية، وأصبح قَسَمة معيارية لجميع المحركات ذات الأذرع. والاختراع الثاني هو استخدام المنظم الذي يعمل بقوة الطرد المركزي للتحكم في المحرك البخاري، ويعتمد هذا التصميم على مبدأ أساسي هو استخدام أثقال تواصل تدويم حركة الدفع الأساسية للمحرك بغير التحكم في دخول البخار، ومن ثم تنظيم سرعة المحرك. ونعرف أن هذا المبدأ الأساسي ليس جديدًا، وسبق أن شاهدنا استخدامه في طواحين الهواء، غير أن وات استطاع بذكاء أن يعدله حيث يتحكم في سرعة محركاته التجارية التي تعمل بحركة دورانية، وأصبح اختراعه بذلك معيارًا مناسبًا لجميع المحركات التي من هذا النوع فيما بعد.

وكان إنجاز مبدأ الحركة الدورانية معروفًا من قبل في التوربين البخاري البدائي الذي صنعه هيرو السكندري، إذ سبق إنجازه بطريقة مباشرة أكثر مما هو عن طريق تحويل النشاط المتبادل في المحرك التقليدي. وطَبَعي أن المخترعين في القرن الثامن عشر، ومن بينهم جيمس وات، كانوا على وعي تام بهذه السابقة، وجاهدوا من أجل تكرارها على هيئة محرك بخاري كامل، ولكنهم لم يُوفقوا فيما سعوا إليه، فقد واجهتهم مشكلات ميكانيكية عدة، كان أخطرها في نظر وات الحاجة إلى توليد البخار تحت ضغط كبير يفوق كثيرًا طريقة توليد البخار المعتادة. والمعروف أن جميع المحركات البخارية في القرن الثامن عشر، باستثناء القليل جدًّا من نوع الأجهزة التي صممها توماس سافيري في فترة باكرة، كانت تعمل ببخار يزيد ضغطه قليلًا عن الضغط الجوي، وهذه السياسة الحذرة كان لها ما يبررها تمامًا إذا ما عرفنا حالة تكنولوجيا الغلاية المعمول بها آنذاك، وكيف أنها لم تكن تدعو إلى الاطمئنان. وهكذا كان لا بد لإنتاج النشاط الدوراني مباشرة من الطاقة البخارية أن ينتظر إلى أن يستحدث شارلس بارسونز وآخرون التوربين البخاري مع نهاية القرن التاسع عشر. وأصبح المهندسون، حتى ذلك الحين، معتادين على استخدام البخار بضغوط عالية، وكان لا بد من إدخال تحسينات على الغلايات البخارية بما يتناسب مع الوضع الجديد.

وعمل كل من بولتون ووات بدأب في ظل حماية براءة الاختراع الأصلي للعام ١٧٦٩م، حتى استطاعا أخيرًا تعويض الإنفاق الضخم الذي أنفقاه من مال وخبرة في سبيل إنجاز المحرك البخاري المتقدم، وازداد الطلب كثيرًا على المحركات. ونظرًا لأن غالبيتها من النوع الذي يتعين على وكلاء الشركة إقامته في موقع العمل، فقد وضعت المؤسسة نظامًا لسداد الأقساط تأسيسًا على كمية العمل الذي تقوم به الآلة. وتحول هذا الأسلوب فيما بعد إلى قضية مثيرة للاستياء فيما بين أصحاب الشركة وعملائهم. ومع هذا اتسع نطاق استخدام هذه المحركات في بريطانيا وفي خارجها، وإن تركزت أكثر في لندن وبرمنجهام ومانشستر وفي جنوب غرب إنجلترا، حيث أثبتت فعاليتها وتفوقها مما جعلها مقبولة في هذه المواقع التي كانت نفقات استهلاك الوقود الضخمة للماكينات من طراز نيوكومن تمثل عائقًا أساسيًّا. وهكذا كانت الشراكة مثمرة ومهمة إلى حد كبير، إذ أكدت قيمة محركهم البخاري في جميع مجالات الاستعمال الصناعي، كما أظهرت إمكاناته الواسعة التي اطلع عليها الزبائن في أنحاء كثيرة، ولكن بعض معاصريهما، وكذا بعض المؤرخين في مرحلة تالية، انتقدوا الضوابط الصارمة للحقوق الخاصة ببراءة اختراعهما لما فرضته من قيود على تطور تكنولوجيا البخار في تسعينيات القرن الثامن عشر، حيث كان هناك عدد من المخترعين الأكثر جسارة، والحريصين على إجراء تجارب على البخار عالي الضغط والتحرك بقوة دفع البخار، بيد أنهما وعلى الرغم من هذا النقد فإنه يعود إليهما الفضل في وضع أسس المحرك البخاري كمحرك أساسي متعدد الجوانب.

وبعد انتهاء الفترة القانونية لبراءات اختراع وات العام ١٨٠٠م أصبح الطريق مفتوحًا لسلسلة من التطورات الجذرية في تكنولوجيا البخار. وكانت أكثر هذه التطورات واجهت في السابق محاولات نشطة من جانب بولتون ووات لإعاقتها وتعطيلها أو على الأقل الامتناع عن تشجيعها عمليًّا. وأول هذه التطورات هو استخدام البخار عند درجات ضغط أعلى مما كان مستخدمًا عادة عند وات. وما إن تدعمت ثقة العاملين في الغلايات المتطورة التي شاع استخدامها حتى ظهرت ميزتها الكبرى، والتي تتمثل في إمكان استخدام قدرة البخار على التمدد بصورة أكثر كفاءة وفاعلية. وأجرى أوليفر إيفانس تجارب ناجحة على البخار عالي الضغط في الولايات المتحدة، بينما كان الرائد البريطاني للتشغيل عالي الضغط هو المهندس «ريتشارد تريفيثيك» من كورنوول. واستخدم هذا المهندس قدرة التمدد لحجم صغير من البخار عالي الضغط مقابل الفراغ الجزئي الناتج عن تكثيف البخار من الشوط السابق على الجانب الآخر من الكباس. وأصبحت الذراع الكبيرة المستخدمة في محركات الضخ تعرف باسم «المحركات الكورنوولية» Cornish engine.

ميزة أخرى للبخار عالي الضغط وهي أنه أصبح بالإمكان صناعة المحركات القوية بحيث تكون أصغر حجمًا، وأكثر إحكامًا من المحرك التقليدي ذي الذراع. وهيأ هذا إمكان إنشاء محركات مستديمة لنقل الحركة. وهناك أيضًا «وليام موردوخ»، وهو مخترع موهوب ووكيل بولتون ووات اللذين استخدماه لإنشاء محركات في كورنوول. وكان موردوخ قد برهن على إمكان جعل المحرك منخفض الضغط يتحرك ذاتيًّا، بيد أن هذا الجهاز كان ضخمًا. وعمد بولتون ووات إلى أن يَثنياه عن تطويره. وبقي على ريتشارد تريفيثيك أن يبرهن على أنه أصبح بالإمكان التحكم في حجم القاطرة عن طريق استخدام محرك عالي الضغط، وأن ينتج أول قاطرة بخارية عملية لاستخدامها على الخط الحديدي لمنجم في جنوب ويلز العام ١٨٠٦م، ولكنها فشلت على الرغم من نجاحها ميكانيكيًّا؛ نظرًا لأن الخط الحديدي في المنجم لم يكن قويًّا بما يسمح له بتحمل ثقل تشغيل القاطرات. وسرعان ما توالت التحسينات التي أُدخلت، وبحلول العقد الثاني من القرن التاسع عشر استُخدم محرك القاطرة البخارية لجر عربات نقل الفحم داخل المنجم، ولكن لمسافات قصيرة، وأمكن مع حلول العقد الثالث إنشاء خطوط أطول للجر بالبخار مسافات طويلة. وفي العام ١٨٣٠م كان افتتاح خط سكك حديد ليفربول ومانشستر إشارة إلى بدء «عصر السكك الحديدية» بمعناه الحقيقي. وهكذا كان المحرك البخاري عالي الضغط الذي يفرغ عادمه مباشرة في الغلاف الجوي دون حاجة إلى أي مكثف. وأدى هذا المحرك دورًا حاسمًا، وطرأت عليه تحسينات كثيرة متوالية ليحقق سرعات أعلى وأداء أفضل، وهكذا، إلى أن حلت محله محركات أكثر كفاءة في منتصف القرن العشرين.

وعلاوة على استخدام البخار عالي الضغط والمحرك البخاري المتحرك، شهد القرن التاسع عشر تحسنًا مستمرًّا على كل الجوانب المتعلقة بالطاقة البخارية تقريبًا. وساعد على دفع هذه العملية قُدمًا كلٌّ من التسليم العام بما للمحرك البخاري من قيمة واستعمالات متعددة، وكذا المنافسة الحادة بين أسواق مفتوحة إلى حد كبير، بحيث يتعين الإفادة من أي توفير في استهلاك الوقود وأي ميزة إضافية في أسلوب الأداء. واطردت عمليات الإبداع لصقل تصميم المحرك البخاري لتحقيق المزيد والمزيد من الكفاءة، حتى إن العاملين الفنيين المختصين بالمحرك، وكذا مستخدميه، كانوا دائمًا يتطلعون إلى التحسينات التي تعود عليهم بالفائدة. وتخلص شكل المحرك من أسلوب المحرك ذي الذراع الذي ساد في القرن الثامن عشر، وتعددت أشكاله الجديدة؛ حيث أصبحت الأسطوانات في وضع أفقي أو رأسي أو مائل، كما أصبحت جميع الأجزاء المتحركة مصنوعة من الحديد أو الصلب. وتطورت الصمامات من صمامات بسيطة منزلقة إلى أنواع أخرى، من بينها على سبيل المثال: صمامات كورليس Corlis valves، التي صُممت خصوصًا للتحكم الدقيق والقطع الفوري للبخار عن أسطوانة المحرك.

وكان أكثر الأمور إثارةً استخدام نظام التوصيل المركب خلال منتصف القرن التاسع عشر، الذي يمرر البخار عالي الضغط مرتين أو ثلاث مرات في خلال أسطوانات تعمل تحت ضغوط متناقصة، مما أفضى إلى ظهور كثير من الأشكال الجديدة؛ «توصيل مركب ترادفي» حيث توضع أسطوانة عالية الضغط خلف أسطوانة منخفضة الضغط، «وتوصيل مركب متقاطع» حيث توضع الأسطوانات موازية بعضها لبعض، وتوصيل معكوس رأسي، حيث يجري ترتيب الأسطوانات بشكل عمودي، الواحدة إلى جانب الأخرى، وكباساتها تدفع إلى أسفل نحو عمود مرفقي مشترك، وكانت هذه هي الأشكال الأكثر شيوعًا. وظهرت قرب نهاية القرن التاسع عشر الحاجة إلى محركات عالية السرعة تحرك مولدات الكهرباء، كما اتضحت المنافسة بشأن المحرك داخلي الاحتراق، وشجع هذا على المزيد من الاختراعات، من بينها المحركات ذات التزييت القسري المغلق التي تستطيع الدوران بسرعات عالية لفترات غير محدودة، وأيضًا المحرك البخاري أحادي اتجاه الدفق، الذي أمكن فيه التغلب على نقص الحرارة الناتج عن عكس اتجاه دفق البخار مع كل شوط من أشواط الكباس، عن طريق تغذيته من طرفيه خلال فتحات في منتصف الأسطوانة، ولكن كان المحرك البخاري الترددي قد بدأ آنذاك يفقد مكانه لمصلحة التوربين البخاري. وشرع المخترعون الأكثر خيالًا يوجهون اهتماماتهم نحو أمور أخرى.

وهكذا أصبحت السيادة والهيمنة للمحرك البخاري في القرن التاسع عشر، في الوقت ذاته الذي بدأ فيه الاهتمام بإنتاج الطاقة لاستخدامها في جميع أغراض الصناعة والنقل. وليس معنى هذا أن المحركات الأساسية أضحت طرازًا قديمًا مهجورًا تمامًا، إذ ظلت الطاقة المولدة من المياه ذات أهمية كبرى في بعض المجالات وفي عدد من العمليات، كما استجاب ميكانيكيُّو الآلات للضغط من أجل إنتاج سواقٍ عالية الكفاءة، وبارعة التصميم. ثم بدأ أخيرًا إنتاج التوربين المائي — الذي ظهر بأشكال عدة ومختلفة — والذي لا يزال يحقق خدمة كبيرة في مجال توليد الطاقة الكهربائية من القوى المائية أو الهيدروليكية. ونعرف أيضًا أن الطواحين التي تعمل بطاقة حركتَي المد والجزر أو طواحين الهواء ظلت مستخدمة طوال هذه الفترة، على الرغم من تناقص أهمية دورها، بيد أن المحرك البخاري — الذي عُني بتحسينه وات، وأصبح يعمل بالبخار عالي الضغط بفضل جهود كل من تريفيثيك وإيفانز — هو الذي أسر خيال المهندسين، واستطاع أن يفي بحاجة السوق من أجل محرك أساسي كفء ومتعدد الاستخدامات.

ولم يكد القرن ينتصف حتى أصبح المحرك البخاري الترددي راسخًا مستقرًّا باعتباره المنتج الأساسي للطاقة الصناعية، وباعتباره أيضًا مصدر قوة الضخ للمناجم ومحطات المياه، ثم علاوة على هذا وسيلة الانتقال بالسكك الحديدية في أنحاء العالم، وأخيرًا باعتباره القوة الدفعية لأساطيل السفن التجارية التي تضخمت أكثر وأكثر، وكانت قد بدأت تجرد الرياح من آخر وأحب معاقلها، ألا وهي السفن الشراعية.

وكان هذا إنجازًا ذا أهمية اقتصادية هائلة وإن لم يكن بمستطاعٍ تقديرُها، علاوة على تأثيره الخيالي العظيم. لقد أصبح تسخير البخار أكثر مكتسبات البشرية جسارة وجرأة من نار بروميثيوس، وفتح مجالات للثروات لا حدود لها، ولتقدُّم لا نهاية له. واستولت الفكرة على خيال فنانين عظام من أمثال جي إم دبليو تيرنر، على نحو ما يبين في لوحته «المطر والبخار والسرعة»، وكذا تنيسون، وكيبلنج وغيرهما ممن استخدموا صورة المحرك البخاري في قصائدهم. وكان للمحرك البخاري أثره العميق في المناظر الطبيعية، تَمثَّل في قاطرات السكك الحديدية ومداخن المصانع. ولكن بعض المعلقين نظروا إلى هذه التطورات بهلع، إذ رأوا فيها صورة لزحف «الطواحين الشيطانية المظلمة». بيد أن المزاج العام للرأي السائد خلال القرن التاسع عشر على نطاق الحضارة الغربية بدا مزاجًا متفائلًا إزاء ما سوف يحققه المحرك البخاري من ثروة ومنافع أخرى. ولم يخب رجاء البشرية تمامًا في هذه الآمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤