الفصل الرابع

الاحتراق الداخلي والكهرباء

تحققت للمحرك البخاري الترددي الهيمنةُ على كل جوانب الصناعة والنقل خلال القرن التاسع عشر، ولكنه على الرغم من هذا بات واضحًا مع نهاية القرن أن هيمنته على القدرة التكنولوجية تواجه تحديًا قويًّا من جانب أشكال أخرى لعمليات تحويل الطاقة؛ فهناك أولًا التوربين البخاري الذي أثبت أن بإمكانه أداء وظائف على نحو أفضل من التصميمات الترددية التقليدية. ثم كان هناك محرك الاحتراق الداخلي الذي بدأ يبشر بالسيطرة على أسواق جديدة واسعة، يعجز المحرك البخاري عن أن يقدم بديلًا ملائمًا عنه. وظهرت خلال هذه العملية أشكال جديدة قادرة على منافسة البخار مباشرةً في مجالات استعمال كانت قد استقرت وتوطدت له. وثالثًا أن تيار الكهرباء الذي أصبح ميسورًا على نطاق واسع بدأ يكسر احتكار المحرك البخاري في الصناعة والنقل. (نعرف أن الكهرباء ليست في حد ذاتها محركًا أساسيًّا،١ نظرًا لأنها تستلزم عملية توليد ميكانيكية لإنتاجها، وهذا هو ما يتم عن طريق التوربينات المائية أو البخارية، ولكن الكهرباء حققت في مجالات استعمالها نتائج تمثل تحديًا خطيرًا جدًّا لتكنولوجيا البخار التقليدية.) وأخيرًا اكتُشف خلال القرن العشرين مصدر جيد للطاقة المستمدة من الوقود النووي، بيد أن هذه الطاقة يتعين لاستخدامها في مجالات كثيرة تحويلها إلى كهرباء عن طريق توربينات بخارية. والملاحظ أن تطور جميع هذه المصادر البديلة للطاقة جعل المحرك البخاري الترددي طرازًا باليًا من الناحية العملية، كما كان حافزًا لاستمرار الثورة في مجال تكنولوجيا الطاقة.

إن المبادئ الأساسية للتوربين البخاري معروفة منذ القِدم، والتي تتضمن توليد الحركة الدورانية عن طريق تأثير صدمة تُحدِثها نفثة بخار قوية في الجسم المتحرك (الدوار)، أو عن طريق رد فعل لنفثة بخار قوية يطردها الجسم الدوار. ويشبه الطراز الأول المعروف باسم «التوربين الدفعي» تشغيل ساقية سفلية الدفع. أما الطراز الثاني الذي يعمل طبقًا للمبدأ نفسه، مثل المرشة الدوارة لري الحدائق، فهو توربين رد فعلي. ولكن المشكلات المتعلقة بتحويل هذين المبدأين إلى وحدات كبيرة الحجم تعمل بقوة البخار كانت مشكلات جمة؛ ذلك لأنها أولًا تعتمد على إمداد ثابت من البخار عالي الضغط، ورأينا فيما سلف أن رواد القدرة البخارية في القرن الثامن عشر كانوا عازفين أو عاجزين عن توفير هذا بسبب قصور المراجل، وعندما أصبح البخار عالي الضغط ميسورًا بدا أن من الصعب التحكم بفعالية في الطاقة الصادرة عن دفقة البخار القوية، وظل الأمر كذلك إلى أن طُور التوربين المائي تطويرًا كافيًا بحيث وضحت هذه الآلية في التشغيل، وعلاوة على هذا أنه، حتى ذلك الحين، كان المحرك البخاري الترددي لا يزال في مراحله الأولى المذهلة، ويحقق مستوى أداء رفيعًا يتعين أن تتحداه أي تكنولوجيا جديدة. ونتيجة لهذا كانت عملية تطوير التوربين البخاري مصيرها التأجيل إلى حين حل جميع مشكلات التشغيل، ولم تحن هذه اللحظة إلا خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر.

والرجل الذي استحدث أول توربين بخاري عملي هو السير شارلس بارسونز، وحصل على براءة اختراعه العام ١٨٨٤م، عن توربين رد فعلي. ويمر البخار في هذا التوربين من خلال سلسلة من الدوارات Rotors لها جذع واحد، وتتصل بها سلسلة من الأرياش المروحية المثبتة، ويزداد حجم كل من الأجزاء المتحركة والثابتة على امتداد طول التوربين لتتناسب مع انخفاض درجة ضغط البخار عند التمدد، ويؤدي دفق البخار خلال التوربين إلى دوران الدوارات بسرعة عالية. وكان التوربين البخاري، شأنه شأن التوربين المائي، عبارة عن أنبوب مغلق تمامًا فيما عدا فتحات دخول وخروج البخار، ويوجد مكثف يساعد على دفق البخار خلال الأنبوب، ويسحب المكثف عادم البخار. وقَرَن بارسونز على الفور توربينه بمُولد كهربائي ليثبت أن الدوران عالي السرعة هو الوضع الأمثل لتحقيق أهدافه. وسرعان ما حدث تطوير لهذه الآلة لاستخدامها تجاريًّا في الصناعة الوليدة الخاصة بإمدادات الكهرباء، وأدى هذا مع نهاية القرن إلى شيوع استخدام التوربينات البخارية على نطاق واسع في محطات توليد الكهرباء.

وحتى ذلك الحين، أدخل بارسونز وغيره من المخترعين العديد من التحسينات ومظاهر الصقل على آلية التوربينات البخارية، مما أدى إلى زيادتها زيادة كبيرة من حيث الحجم والكفاءة. وواجهت بارسونز صعاب أساسية عند استخدام جهازه الأصلي المعتمد على الدفق المحوري. وهنا أجرى تجارب على تصميم آخر يعمل على أساس الدفق نصف القطري، حيث يتدفق البخار من المركز إلى المحيط خلال دوائر متحدة المركز من الدوارات والأرياش المروحية الثابتة. وهكذا أثبت إمكان استخدام مبادئ التشغيل نفسها، على الرغم من أن التعقيدات الميكانيكية التي واجهته أكثر من السابق. وأنتج المهندس السويدي «دي لافال» تصميمًا عالي الكفاءة لتوربين بخاري دفعي العام ١٨٨٩م، حيث يتجه بخار عالي الضغط خلال منفث أو مخرج مصمم تصميمًا دقيقًا، ويؤدي تجويفه المتزايد إلى تحويل طاقة ضغط البخار إلى سرعة اتجاهية، ويُنتِج دورانًا عالي السرعة للغاية. ويتكون الدوار من عجلة على حافتها أرياش محورية منحنية، وفُوَّهتها متجهة نحو البخار وموجودة داخل أنبوب بداخله مكثف يكثف عادم البخار المستخدم. وراج طراز توربينات دي لافال التي تدور بسرعات عالية جدًّا؛ نظرًا لأن طاقة البخار تُستنفد بالكامل في مرحلة واحدة، وكان يتعين تخفيف سرعته كثيرًا حتى يعمل بكفاءة. وصُممت فيما بعدُ توربينات دفعية تُقسِّم تمدُّد البخار إلى مراحل عدة، مما يهيئ كفاءة في السرعات المنخفضة.

وهكذا طرأت تغيرات سريعة على التوربين البخاري، واستمرت هذه العملية عقودًا عدة. مثال ذلك أن وحدة بارسونز الصغيرة للعام ١٨٨٣م، والتي تولد ١٠ أحصنة، نمت وتحولت إلى المولد التوربيني العملاق للتيار المتبادل المستخدم في محطات توليد القوى الحديثة، والذي يُنتِج حوالي ٦٠٠ ألف حصان من جزء ضئيل من حجم استهلاك الوقود في المحركات البخارية الأولى. ولم يكن التوليد الفعال للكهرباء هو الإنجاز الوحيد لتكنولوجيا التوربين البخاري. وسرعان ما أدرك بارسونز أن توربينه يمكنه، في حالة خفض سرعته بدرجة ملائمة، أن يكون أكثر المصادر كفاءةً لدفع حركة السفن. وترددت القيادة البحرية البريطانية في تصديق مثل هذا الاحتمال، بيد أن بارسونز استطاع أن يدفعهم إلى تغيير رأيهم هم ومهندسين بحريين آخرين من أنحاء مختلفة من العالم حين قدَّم برهانًا عمليًّا مثيرًا في أثناء الاستعراض العسكري بمناسبة اليوبيل البحري العام ١٨٩٧م؛ ذلك أن الزورق التجريبي، المسمى توربينيا Turbinia الذي يسير بقوة دفع توربيني، وثب سريعًا وسط السفن الأخرى التي بدت إزاءه كسولة، وانطلق بسرعة أذهلتهم؛ إذ بلغت سرعته ٣٤ عقدة. وذاع على مدى عقد واحد استخدام التوربينات البخارية لتوليد قوة الدفع لكل من السفن الحربية والتجارية. وبدأ هذا مع السفينة موريتانيا، التي استهلَّت إبحارها العام ١٩٠٦م، وهي مجهزة بتوربينات قوتها ٧٠ ألف حصان، وسرعتها ٢٧ عقدة. وبعد هذا أُبدلت بالتوربينات البخارية محركات الديزل لأداء أكثر المهام الخاصة بالدفع البحري، ولكن التوربينات البخارية ظلت مستخدمة ولا تزال في بعض السفن الكبرى.

والجدير ذكره أن المحرك داخلي الاحتراق، مثله مثل التوربين البخاري، له سوابق تاريخية منذ زمن طويل قبل تطوره ليمثل تحديًا قويًّا وناجحًا للمحرك البخاري الترددي في نهاية القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين. لقد لحظ المعلقون العلميون أن عمل البندقية هو في جوهره عمل المحرك؛ إذ يعتمد على إحراق الوقود الموجود في صورة بارود داخل أسطوانة (وهي هنا ماسورة البندقية) لتوليد حركة في القذيفة، فتسلك القذيفة سلوك الكباس داخل المحرك البخاري، ولكن الحركة هنا هي حركة أحادية الاتجاه، ولا يمكن تكرارها من دون إعادة حشو الوقود والذخيرة، ولكن عدم القدرة على تكرار الفعل تمثل عائقًا حاسمًا حال دون استحداث محرك أصيل يعمل بالبارود، ولكن تأكد تمامًا الإمكان النظري لمثل هذا المحرك «داخلي الاحتراق»، حيث يحترق الوقود داخل أسطوانة التشغيل بدلًا من الخارج، كما هي الحال في المحرك البخاري. وكان المخترعون على وعي بإمكانات هذا المحرك شريطة توافر الوقود الملائم.

وكان غاز الاستصباح هو الوقود الذي جعل من المحرك داخلي الاحتراق أداة عملية. وأول من استقطره من الفحم وليام موردوخ وكيل بولتون ووات، وذلك في تسعينيات القرن الثامن عشر، واستُخدم آنذاك لإضاءة مؤسسة سوهو في برمنجهام العام ١٧٩٨م، وسرعان ما زاد إنتاجه واستعماله، حتى إنه في منتصف القرن التاسع عشر كانت كل مدن بريطانيا صغيرها وكبيرها وكثير من مدن القارة الأوروبية وأمريكا مجهزة بوسائل إمدادها بغاز الاستصباح. ونعرف أنه في العام ١٨٥٩م تمكن المهندس الفرنسي لينوار من صنع محرك يشعل غاز الاستصباح فيه بشرارة كهربائية داخل أسطوانة أفقية، وبذا تدفع الأسطوانة الكباس مع استخدام حدافة لإعادة الكباس إلى طرف الإشعال الخاص بالأسطوانة. وكانت الماكينة شديدة الصخب وغير منتظمة الحركة وضخمة الحجم، ولكنها كانت تعمل، وأمكن تطويرها وتحويلها إلى محرك عملي. وتمثلت أهم مشكلاتها في مراحلها الأولى في صعوبة إشعال الوقود في اللحظة الصحيحة والدقيقة تمامًا، وكذلك في صعوبة توليد حركة منتظمة سلسة من الطبيعة العنيفة لشوط التشغيل. وعولجت المشكلة الأولى عن طريق إحلال العديد من الوسائل المختلفة، مثل الإشعال بلهب خارجي أو أنابيب ساخنة، غير أن التحسينات التي طرأت على البطاريات الكيميائية والتجهيزات الكهربائية شجعت على العودة إلى شرارة الإشعال، ومن ثم إلى نظام شمعة الإشعال، وهو نظام قادر على أن يوصل بالدقة نوع الشرارة اللازمة في اللحظة الصحيحة داخل دورة المحرك، وأصبح هذا هو النظام المعتمد عالميًّا.

وأمكن التوصل إلى الحركة المنتظمة السلسة عن طريق استخدام «دورة أوتو» التي وضع تصميمها المهندس الألماني إن إيه أوتو العام ١٨٧٦م. وتتألف الدورة من أربع مراحل؛ الحقن (ويُقصد به حقن الوقود داخل الأسطوانة) والضغط والإشعال وانبعاث العادم. وأثبت علم الديناميكا الحرارية، وهو علم جديد آنذاك، أن الوقود سوف يحترق على نحو أكثر فعالية إذا ما كان منضغطًا. وهكذا جعل أوتو الكباس يضغط الغاز في شوط العودة بعد أن أُدخل في الأسطوانة خلال الشوط الأول، بينما كان الكباس خارجًا من الأسطوانة. ويحدث الشوط الثالث — والذي يمثل مرحلة التشغيل الوحيدة من بين المراحل الأربعة — عند اشتعال واحتراق الغاز، فيدفع الكباس إلى الخارج مرة أخرى. وعند عودة الكباس في الشوط الرابع يكون قد استنفد الغاز المحترق من الأسطوانة، وبذا يتهيأ الوضع لإعادة الدورة، واستخدمت غالبية المحركات داخلية الاحتراق هذه الدورة. وطُورت الصورة الأبسط للمحرك «ذي الشوطين» لاستخدامه في محركات الدراجات، وغير ذلك من المهام البسيطة. وكان الاتجاه استخدام دورة أوتو في كل الأسطوانات، ولكن وضح أن المحرك يعمل على نحو أفضل في هذا التصميم حين تكون هناك أربع أسطوانات أو أكثر متزاوجة، وتكون كل أسطوانة مصممة لأداء مرحلة من الدورة في لحظة بذاتها. والملاحظ في أي محرك من هذا الطراز — الذي يمثل محرك السيارة الحديثة — أنه توجد دائمًا أسطوانة واحدة هي التي تزود بشوط القدرة مما يضمن الحركة المنتظمة السلسة للمحرك.

fig6
شكل ٤-١: تطور المحرك داخلي الاحتراق.

واستطاعت المحركات التي تعمل بالغاز أن تنافس بنجاح الطاقة البخارية بالنسبة لأداء كثير من المهام الخفيفة والمتوسطة على مدى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر؛ وذلك بسبب توافر غاز الاستصباح على نطاق واسع، علاوة على الميزة العملية، وهي عدم الحاجة إلى حجرة مرجل متقنة الصنع لرفع درجة البخار، وهو الشيء الضروري في المحرك البخاري، ولكن لم يتوافر إمكان واقعي لمنافسة البخار في أداء أغراض الحركة الانتقالية بسبب الطبيعة الثابتة للإمداد بالغاز. وطرأت ثورة على هذا الوضع نتيجة استعمال وقود بديل للمحرك داخلي الاحتراق، وهو زيت النفط ومشتقاته. والمعروف أن القار الطبيعي وزيوتًا أخرى مستخرجة من نباتات أو حيوانات كانت تُستخدم منذ زمن طويل في المصابيح، نظرًا لما تتميز به من خواص إضاءة، ولكن تطور المحرك داخلي الاحتراق فتح سوقًا كبيرة وجديدة لهذه الزيوت. كذلك فإن الاستهلاك المنتظم لاحتياطات زيت النفط، علاوة على الصناعة العملاقة المتخصصة في تكرير منتجات آبار النفط، أضحت جميعها من المظاهر الأساسية للتصنيع في القرن العشرين؛ ولهذا، فإن أنواع وقود الزيت لم تؤدِّ فقط إلى زيادة أوجه استعمال المحرك داخلي الاحتراق وتأكيد ملاءمته، بل إنها جعلتها أيضًا متنقلة؛ ذلك لأن إمدادات البترول (الجازولين) أو زيت البرافين (الكيروسين) أو زيت الديزل يمكن تعبئتها بسهولة في صهريج لإمداد المحرك بها. وأسفر هذا عن توسع هائل في إنتاج هذا المحرك الأساسي الذي أثر بعمق في كل جوانب الحضارة التكنولوجية الحديثة.

وفي العام ١٨٨٥م استخدم جوتليب ديملر في تسيير محرك داخلي الاحتراق البترول المتبخر أو الطيار، وهو أكثر منتجات صناعة تكرير البترول، خاصة سريع البخر، الذي كان يُعتبر في السابق نفاية خطرة. وبعد ذلك بفترة قصيرة ثَبَّت هذا المحرك في دراجة ليصنع بذلك أول دراجة تسير بمحرك. وفي العام نفسه استخدم مهندس ألماني آخر يدعى «كارل بنز» محركًا بتروليًّا أحادي الأسطوانة لتسيير مركبة ذات ثلاث عجلات، وبذلك أنشأ أول عربة لا تجرها خيل، وأول سيارة حقيقية. وتلقفت بلدان أخرى في غرب أوروبا وفي شمال أمريكا الفكرة بحماسة كبيرة، مثال ذلك هنري فورد أنجح أبناء الجيل الجديد من المخترعين أصحاب المشروعات الذي اقتحم صناعة السيارات، وأنشأ أول سيارة والمعروفة باسمه العام ١٨٩٦م. وحقق في العام نفسه مهندس السيارات البريطاني الجنسية انتصارًا كبيرًا بفضل إلغاء قانون «الراية الحمراء Red Flag Act» الذي كان يفرض عقوبة على جميع أشكال الدفع الميكانيكي للحركة على الطرق. وبحلول العام ١٩٠٣م أنشأ فورد «شركة فورد للسيارات» في ميتشجان، والتي حققت ازدهارًا واسعًا على مدى السنوات التالية. وتميز فورد بالسرعة في تبنِّي الاختراعات الواعدة، مثل بادئ الحركة الذاتي في العام ١٩١١م، والمعادن الجديدة، مثل فولاذ الفاناديوم الذي استخدمه في النموذج تي Model T لإنتاج المركبة تن ليزي Tin Lizzi؛ أشهر مركبات الإنتاج الكبير من السيارات، وأقام فورد من أجل هذه المركبة العام ١٩٢٣م خط التجميع المتحرك الجديد، الذي أدى إلى زيادة الإنتاج إلى أكثر من مليونَي سيارة في العام، وبذا سيطرت السيارة «موديل تي» على السوق العالمية. وتبنت مصانع السيارات الأخرى طريقة فورد على نطاق واسع، وأدت هذه الطريقة إلى تحول جذري وشامل في التنظيم الصناعي الحديث مثلما ساعدت منتجاتها على تغيير أسلوب الحياة.

وجدير بالملاحظة أن القطاع الأكبر من التكنولوجيا الأساسية للمحرك داخلي الاحتراق مأخوذ مباشرة من المحرك البخاري؛ إذ أفاد المخترعون من صناعة الأسطوانات المجوفة بدقة، والكباسات المحكمة تمامًا، والصمامات، وغير ذلك من المكونات. واستطاع المخترعون الذين استحدثوا التكنولوجيا الجديدة أن يستفيدوا من الخبرة العريقة المكتسبة في مجال صناعة المحركات البخارية. ووجد كثيرون من الصناع أن من اليسير جدًّا عليهم الانتقال من البخار إلى الاحتراق الداخلي استجابة لمتطلبات السوق المتغيرة. وهذه العملية التي تعتمد على استلهام الخبرة الأساسية من تكنولوجيا موجودة بالفعل يمكن اعتبارها نسخة مطبقة على نحو رائع من مفهوم «الترس والسقاطة»، حيث تتعلم التكنولوجيا الجديدة من أخرى مزدهرة سابقة عليها، ثم تحل محلها.

ومع هذا، نجد أن الاحتراق الداخلي في جوانب معينة، يختلف اختلافًا واضحًا ومهمًّا عن تكنولوجيا البخار. وهذا هو ما نجده مطلوبًا على وجه التحديد فيما يتعلق بمستوى الفهم العلمي من كل من المخترعين والصناع. لقد كان المحرك البخاري نتاجًا للتراث التجريبي للميكانيكيين العاملين في مجال الطواحين، إذ كانوا يلتمسون دائمًا تحسين الأداء عن طريق الاهتمام بتفاصيل الخبرة العملية، ولهذا كان رواد المحرك البخاري، كما رأينا فيما سبق، على ألفة بالمبادئ العلمية الحاسمة الخاصة بموضوعات الفراغ والضغط الجوي، وكانت هناك قلة من المهندسين الرواد من أمثال جيمس وات زملاء في الجمعية الملكية على دراسة جيدة بعلوم العصر، غير أن الأرجح أن تكنولوجيا البخار استمدت القليل من البحث العلمي، أو كانت كذلك حتى نهاية القرن التاسع عشر، ويمكن القول إنها أفادت العلم أكثر مما أفاد العلم المحرك البخاري، وسبب ذلك أنها اعتمدت على تأمل نظري في سلوك المحرك البخاري، وبخاصة في طريقة تحويله الحرارة إلى عمل، وهذا هو ما نهض بعلم الديناميكا الحرارية. إن العلم الجديد الذي اكتملت تفاصيله مع انتصاف القرن التاسع عشر أصبح مهمًّا لتطوير المحرك داخلي الاحتراق، وأصبح ضروريًّا وأساسيًّا في نهاية المطاف؛ ذلك لأن المحرك عالي الضغط الذي استحدثه رودولف ديزل العام ١٨٩٢م مبني تأسيسًا على المبدأ الرئيسي للديناميكا الحرارية، بحيث أصبح ممكنًا إحداث إشعال ذاتي في الوقود عن طريق الضغط الشديد المكثف. وكان لزامًا على ديزل أن يتغلب على عدد من مشكلات التشغيل الرهيبة قبل أن يحقق محركه نجاحًا تجاريًّا، ولكن أصبح المحرك المعتمد في العقد الثاني من القرن العشرين لإنتاج العديد من المحركات المتينة قوية الاحتمال للعمل في السفن والجرارات والحافلات العامة، ولا يزال يحقق المزيد من النجاحات الكبرى حتى يومنا هذا.

وكان طبيعيًّا أن نفترض أن المحرك الترددي داخلي الاحتراق سوف يفسح في الطريق ليحل محله تصميم قادر على توليد تأثير دوراني مباشر، تمامًا مثلما حل التوربين البخاري في جوانب كثيرة محل المحرك البخاري الترددي، ولكن التماثل الكامل بين الأمرين هو في الواقع أمر مضلل؛ ذلك لأن الوقود المحترق قد لا يولد بالضرورة التأثير نفسه الناتج عن تيار مائي أو بخاري. علاوة على هذا فإن بناء غرفة احتراق لإحراق الوقود يستلزم مواد أكثر قوة وصلابة من المواد المتاحة في السابق لدى مهندسي الاحتراق الداخلي، وذلك لكي تتحمل درجة حرارة عالية بشكل ثابت. بيد أن فرانك هويتل كان قد قطع شوطًا طويلًا في سبيل تحديد المبادئ الأساسية لمحرك توربيني غازي، وقتما كان تلميذًا صناعيًّا في سلاح الطيران الملكي خلال العشرينيات من القرن العشرين، واستخرج براءة اختراع لهذا الغرض العام ١٩٣٠م. واستشعر خيبة أمل إزاء عدم اهتمام الرسميين، وبسبب المشكلات المالية، مما دفعه إلى ترك العمل في المشروع، ولكن اقتراب الحرب العالمية الثانية أثار اهتمام الحكومة وأصبح بالإمكان تجميع فريق عمل في العام ١٩٣٦م. ودار أول محرك تجريبي العام ١٩٣٧م، وتوالت أعمال التطوير منذ ذلك التاريخ حتى نجحت صناعة أول طائرة نفاثة لتدخل الخدمة خلال المراحل النهائية من الحرب. وحتى ذلك الحين كانت هناك فرق عمل أخرى عاكفة على الفكرة نفسها. وكان الألمان هم أول من أدخلوا الطائرات النفاثة في الخدمة الفعلية.

وأصبح التوربين الغازي محركًا نفاثًا، ذلك لأنه في شكله الأساسي يولد قدرة عن طريق قذف تيار من الوقود المستهلك إلى خارج غرفة الاحتراق التي احترق فيها.

وتجري هناك حركة دورانية ولكن فقط لاستخدامها من أجل توليد ضغط الوقود قبل الإشعال. وتتابعت تصميمات أخرى، مثل المحرك المروحي التوربيني الذي يستهدف الاستخدام الكامل لهذا الأداء الدوراني لتدوير رفَّاص أو لتدوير عجلات، كما يحدث في بعض الحالات، مثل السيارات التجريبية. وهناك تصميمات تجريبية أخرى، مثل المحرك النفاث الضغاطي، الذي كان الهدف منه أن يحل محل الضاغط الدوراني، عن طريق الاعتماد على الضغط الطبيعي للسحب على السرعة، غير أن هذا الاستخدام استهدف أن يكون في الغالب قاصرًا على السرعات العالية، مثل الطيران على ارتفاع شاهق. والملاحظ أن الضوضاء والاستهلاك الكبير للوقود حالا دون استخدام التوربين الغازي في مجالات العمل في المواقع المنشأة على الأرض، ولكن انخفاض نسبة الوزن إلى القدرة جعل هذه التوربينات الشيء المثالي للطيران. وبالفعل أصبحت هي المستخدمة تقريبًا على النطاق العالمي في الطائرات الضخمة الحربية والمدنية.

وعلاوة على التوربين الغازي ظهرت بعض المحاولات الأخرى الأقل نجاحًا لتحويل المحرك داخلي الاحتراق إلى تأثير دوراني مباشر. وإحدى هذه المحاولات محرك وانكل المنكوب الذي قدمه صاحبه كوحدة لتوليد القدرة في السيارة، لاستخدامه في بعض السيارات الألمانية خلال ستينيات القرن العشرين. ويشتمل هذا المحرك على كباس دوراني وقطاع مثلث الشكل لقرص يدور بفعل تمدد الوقود المحترق الذي يضغط على كل من أوجهه الثلاثة على التوالي. وكان التصميم مدمجًا، ويعمل بطريقة جيدة إلى حد كبير، ولكنه واجه مشكلات بشأن تطويره، وثبت أن الجمهور لا يفضله مما دفع الشركة الصانعة إلى التخلي عن إنتاج السيارة على الرغم من تطوير المحرك لاستخدامه في استعمالات أخرى. ويمثل مآل هذا الاختراع الواعد تذكرة مفيدة بكل من المرونة الكبيرة وقابلية التكيف كصفتين يتميز بهما المحرك الترددي داخلي الاحتراق، وتذكرة أيضًا بخطر التنبؤ بالزوال التكنولوجي، إذ ثبت خطأ هؤلاء المعلقين الذين كانوا مقتنعين تمامًا بأن المحرك الترددي بلغ أقصى حدود التطوير والكمال، مثلما كانت حال كثيرين ممن كانوا على استعداد لكي يقولوا الشيء نفسه عن القاطرة البخارية في خمسينيات القرن العشرين، ذلك أن المحرك العياري الذي يدار بالبترول، وكذا المحرك العياري الذي يدار بالديزل، علاوة على التوربين الغازي، ظهرت لتكون لها الهيمنة بصورة مثيرة على النقل البري والبحري والجوي خلال القرن العشرين.

والمحرك داخلي الاحتراق، شأن المحرك البخاري من قبله، هو محرك حراري. والجدير بنا أن نشير على نحو عابر إلى أنه كانت هناك أشكال أخرى من المحرك الحراري التي لم تحظَ بنجاح كبير حتى ذلك الوقت، ولكن لا تبشر بإمكانات محتملة لاستعمالات جديدة في المستقبل. ولعل أهم هذه المحركات المحرك الذي يعمل بالهواء الساخن، واختُرع في فترة باكرة من القرن التاسع عشر، ويعتمد في أدائه لشوط التشغيل على تمدد الهواء الساخن مقابل كباس داخل أسطوانة. وبينما يظل أحد طرفَي الأسطوانة ساخنًا دائمًا بفعل مصدر خارجي للطاقة، فإن الهواء الساخن ينتقل بشكل متوالٍ إلى الطرف البارد بعد كل شوط، ثم يعود للتسخين ثانيةً لأداء الشوط التالي. وأنتج القسيس الاسكتلندي «روبرت سترلنج» محركًا من هذا الطراز صالحًا للعمل العام ١٨١٦م، وأضاف إليه جهازًا لتبادل الحرارة لتبريد وتسخين الهواء بالتناوب في أثناء مرور الهواء، وطرأت على المحرك الذي يعمل بالهواء الساخن إضافات مهمة لصقله وتعديله، وأثبت أنه مصدر مهم للطاقة في مجال الاستعمالات الصغيرة الحجم، مثل مراوح التدوير، ولكنه في الاستعمالات الأكبر حجمًا عجز عن منافسة المحرك البخاري. وبعد ذلك، أي في القرن العشرين، بدأ استخدام الطاقة الكهربائية، وحلت محل المحرك البخاري، وأصبحت هي السائدة حتى في مجالات الاستعمالات الصغيرة التي ازدهر فيها هذا المحرك، الذي تدهور حتى كاد يصل إلى نقطة التلاشي، ولكن لا نزال نجد بعض المتحمسين للمحرك الذي يعمل بالهواء الساخن، ولا يزال بالإمكان أن نجد له بعض الاستعمالات التجارية في تكنولوجيا الفضاء والطب.

وهناك محرك حراري آخر أثبت في القرن العشرين أنه يتمتع بخصائص وإمكانات مثيرة، ونعني به الصاروخ، إذ بعد أن كان مجرد لعبة صغيرة من ألعاب الأطفال تطور سريعًا خلال الحرب العالمية الثانية ليصبح وسيلة لحمل وإطلاق رأس حربية أو قذيفة متفجرة شديدة القوة، والتأثير إلى مدًى أبعد كثيرًا من مدى أضخم المدافع. ونذكر هنا تكنولوجيا سلاح في٢ V2-Weapon، ونذكر معه أيضًا «فيرنر فون براون» ومهندسين آخرين عكفوا على إنتاجه، وحصلت الولايات المتحدة بعد ذلك على هذا السلاح واستخدمته لاستكشاف إمكانات محرك الصاروخ كوسيلة للسفر عبر الفضاء. ويحمل الصاروخ مئونته من الوقود السائل الذي يمتزج ببعضه ويحترق داخل غرفة احتراق، وهكذا تتولد عن الصاروخ القدرة الكافية للانطلاق ذاتيًّا دون أن «يتنفس» هواء الغلاف الجوي. معنى هذا أنه — على خلاف المحرك داخلي الاحتراق بمختلف أشكاله التقليدية — يملك هذا المحرك القدرة على العمل في فراغ الفضاء الخارجي بعيدًا عن الغلاف الجوي المحيط بالأرض. وعكف مهندسو الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الاتحاد السوفييتي السابق على تطوير هذه الخاصية للإفادة بها في استكشاف الفضاء، وهكذا أصبح المحرك الصاروخي مسئولًا عن جانب من أهم الجوانب إثارة في تكنولوجيا القرن العشرين.
ونعود مرة أخرى إلى الأرض لنجد أن الكهرباء أصبحت في القرن العشرين مصدرًا هائلًا ومهمًّا للطاقة من أجل الأغراض الصناعية والمنزلية. وسبق أن أوضحنا أن الكهرباء لا تمثل محركًا أساسيًّا، إذ يلزم توليدها عن طريق مصدر آخر كيميائي أو ميكانيكي. وجاءت الخطوة الأولى في سبيل الحصول على تيار كهربي صالح للاستعمال مع مستهل القرن العشرين، عندما وضع عالم الفيزياء الإيطالي «فولتا» تصميمًا للبطارية Voltaic Pile، وهي عبارة عن عامود متراصٍّ من أقراص معدنية، يفصل بينها ورق مشرب ملوحة، يسبب تفاعلًا كيميائيًّا يتولد عنه تيار كهربي. وأجرى العلماء في أوروبا وفي أمريكا تجارب على هذا الشكل الجديد من الطاقة. وفي العام ١٨٣١م أثبت ميشيل فاراداي أن هناك إمكانات عملية للعلاقة بين الكهرباء والمغناطيسية تفيد في توليد الكهرباء ميكانيكيًّا مثلما تفيد في إنتاج محرك كهربائي. وكان المبدأ الأساسي لهذا بسيطًا للغاية؛ أوضح فاراداي وجود تيار تولد بالحث في ملف سلكي دار فيما بين قطبَي المغناطيس، وأنه بالتناوب كلما سرى تيار خلال هذا الملف فإنه ينحرف أو يدور حول نفسه بفعل المجال المغناطيسي. ولم تمضِ سوى بضعة عقود حتى أمكن الاستفادة بالكامل من نتائج هذه المكتشفات، إذ كان لا بد من حسم الكثير من مشكلات التصميم الميكانيكي قبل أن تشرع المصانع في إنتاج مولد صالح للاستعمال تجاريًّا، وهنا فقط أصبح استحداث المحرك الكهربائي مسألة واقعية. ولم نبلغ هذه المرحلة في ثمانينيات القرن التاسع عشر إلا حينما بدأ توماس إديسون في الولايات المتحدة، والعديدون من منظمي المشروعات الأوروبيين في تأسيس شبكات الإمداد بالطاقة الكهربائية. وتبين لإديسون بوجه خاص قيمة إمدادات الطاقة، على نحو يُعتمد عليه ويوثق فيه، كوسيلة لتسويق المصباح الكهربائي ذي الشُّعَيرة (السلك المتوهج) الذي ابتكره. وما إن أُسست الشبكة حتى أصبحت متاحة لاستعمالات أخرى، مثل توفير الطاقة لجهاز نقل يتحرك عن طريق الجر بالقوة الكهربائية. واستخدم إديسون التيار المباشر في المنشآت التي أقامها.

ولكن الكثير من مشروعات توليد الكهرباء في أمريكا وأوروبا آثرت التيار المتناوب (الترددي) الذي يعمل بفولتية عالية جدًّا، نظرًا لإمكان نقلها على مدى مسافات بعيدة. وانتهى الأمر بأن أصبح نظام التيار المتناوب هو المعمول به عالميًّا.

fig7
شكل ٤-٢: تطور الطاقة الكهربائية.
ولم تكد الكهرباء تصبح ميسورة بوجه عام، وتبين أنها ملائمة وصالحة بطريقة تفوق الوصف للاستعمال في مجالات عدة؛ حتى بدأ تطبيقها في مختلف أنشطة الصناعة والنقل والأغراض المنزلية، وأمكن صناعة وحدات مدمجة لتوليد الطاقة لاستخدامها في الصناعة بعد تركيبها فوق الماكينات. وحلت هذه الوحدات المدمجة محل المحركات البخارية الضخمة التي تعمل بواسطة سيور وأعمدة مناولة علوية، والتي كانت سائدة في المطاحن والورش خلال القرن التاسع عشر. وتمثلت النتيجة المباشرة لهذا في أن الصناعة أصبحت أكثر انتشارًا في مناطق عدة؛ نظرًا لأن مدرج طاقة الكهرباء امتد تقريبًا بغير حدود، ولم يعد رجال الصناعة بحاجة إلى أن يعطوا الأولوية لقرب المكان من مصدر الطاقة لاختيار موقع إقامة المصنع. وفي مجال النقل بدأ الأثر الأولي للكهرباء أكثر غموضًا، نظرًا لأن عربة الترام الكهربائية — بعد أن حققت نجاحًا مذهلًا لفترة قصيرة — بدت شديدة الضخامة ولا تتصف بالمرونة، مما جعلها تفقد القدرة على منافسة المحرك داخلي الاحتراق لتوفير وتيسير النقل داخل المدن. ومن ناحية أخرى سرعان ما احتكر النقل الكهربائي خدمات النقل في الأنفاق داخل العواصم الرئيسية في العالم الغربي. وأصبح لهذا الطراز نفوذه وتأثيره العميق في تطور المرور داخل الضواحي. وانتهى الأمر بأن أصبحت الكهرباء هي الأخرى بديلًا جذابًا عن البخار وعن الاحتراق الداخلي في خطوط السكك الحديدية عالية السرعة داخل المدن، على نحو ما نجد كمثال في فرنسا خط القطار السريع Train á grande vitesse (TGV)، ولكنها لم تكن بعد قد هيمنت على النقل البري على الرغم من الاهتمام الشديد بتحسين وتطوير بطاريات قادرة على تزويد مركبات البر بطاقة تهيئ لها إمكان أداء مماثل لقدرات السيارات.

وفيما يتعلق بالاستعمالات المنزلية أحدثت الكهرباء ثورة كاملة من جميع النواحي، بحيث أصبحت أمرًا مسلَّمًا به في الغالبية العظمى من منازل المجتمعات الصناعية المتقدمة. وها نحن نرى الإنارة والتدفئة والحرارة وتجهيزات المطبخ متاحة جميعها الآن بمجرد لمسة إصبع لمفتاح، وكذلك الحال بالنسبة لوسائل الغسيل والمكانس الكهربائية ومجموعة كبيرة أخرى من المهام المنزلية التي كانت أمرًا مرهقًا في السابق، وهناك أيضًا جميع وسائل الاتصالات والتسلية العامة. لقد باتت الكهرباء بوصفها هذا في البيت تؤثر تأثيرًا عميقًا في اتجاهات الناس بشأن الخدمة المنزلية على المسئوليات التقليدية لكل من الرجال والنساء، وليس لنا أن ندهش إذ نرى البلدان المتخلفة تتطلع يحدوها أمل في توفير الكهرباء في البيوت وسيلةً لإعفائها من الأعمال المنزلية الشاقة.

وإذا ما استعرضنا الثورة المستمرة في مصادر الطاقة منذ العام ١٨٥٠م سوف يثير انتباهنا أن العقدين الأخيرين من القرن الثامن عشر شهدا مجموعة مترابطة من الاختراعات المهمة، ثم مضى قرن تقريبًا من الاستقرار النسبي الذي أتاح فرصة استيعاب وإنضاج هذه الاختراعات. فهناك الفتوحات التكنولوجية في القرن التاسع عشر التي أنجزها بارسونز ودي لافال في مجال التوربينات البخارية خلال ثمانينيات القرن، وكذا ما أنجزه ديملر وبنز في عقد الثمانينيات، ثم ما أنجزه ديزل في التسعينيات من أجل تطوير المحرك داخلي الاحتراق، وإنجازات إديسون والمهندسين الأوروبيين من أمثال سيمنز وفيرانتي في مجال توليد واستخدام الطاقة الكهربائية خلال الثمانينيات. وكانت هذه الإنجازات جميعها البذرة الأولى الواعدة، بمعنى أنهم بذروا الحَب لينمو ويترعرع في صورة تقدم تكنولوجي على مدى عقود طويلة في المستقبل. وها هو واقع حياتنا في أواخر القرن العشرين شاهد على أننا لا نزال نولد الكهرباء معتمدين أساسًا على المولدات التوربينية البخارية، ولا تزال مركباتنا وسفننا تستمد طاقتها أساسًا من المحركات داخلية الاحتراق، وهو ما يؤكد الأهمية الفريدة لتلك الاختراعات.

وإذا كان تاريخ تكنولوجيا الطاقة في القرن العشرين تميز باستقراره فيما يتعلق بعملياته الأساسية، فإن هذا لا يعني ضمنًا أن الجديد من التكنولوجيا قليل. وواقع الحال أن عملية الاستيعاب أعقبتها حالة من النشاط والثراء في الموارد، وحدثت بعض التطورات شديدة الأهمية. نذكر كمثال الزيادة الهائلة في حجم الإنتاج والاستهلاك، إذ أمكن توليد كميات أكبر من الطاقة بواسطة توربينات أضخم حجمًا يجري تجميعها داخل منشآت أقل عددًا ولكنها أكثر كثافة. واستطاع إنتاج اقتصادات وفورات الحجم الكبير أن يشكل حافزًا قويًّا لمثل هذا التركيز والزيادة في الحجم. ثانيًا: أدت التعديلات في التصميمات إلى إدخال تحسينات مستمرة على الأداء عن طريق التغيير في تفصيلات نظام الأجهزة واستخدام مواد أفضل حالًا لتوافرها، علاوة على الملاءمة المطردة للحيلولة دون الفاقد، وكذا لتحسين الكفاءة. ونجد هذا واضحًا بشكل خاص في قصة النجاح المذهلة للمحرك الترددي داخلي الاحتراق على الرغم من أنه اضطُر إلى التسليم للتوربين الغازي الخاص بالطيران. ويصدق هذا أيضًا على عمليات الصقل والتشذيب التي أُدخلت على التوربينات البخارية والمولدات وعلى نظم الإمداد بالكهرباء وتصميم المحركات الكهربائية. والنتيجة أن كل جانب من جوانب شبكات الطاقة في تكنولوجيا القرن العشرين شهد عمليات تحسين مطردة في التفاصيل بغية تعظيم اقتصاد التشغيل إلى أقصى حد ممكن.

ثالثًا: على الرغم من أن محركات توليد الطاقة في المجتمع الحديث طرأ عليها تغير أساسي طفيف، فإنه حدثت تجديدات مذهلة في الوقود المستخدم لتوليد هذه الطاقة، ويمثل الوقود النووي أهم هذه الابتكارات. لقد اكتشف علماء الفيزياء النشاط الإشعاعي خلال تسعينيات القرن التاسع عشر، واكتشفوا البنية الأساسية للذرة خلال العقود التالية، ولكن ظل أكثرهم، وحتى الحرب العالمية الثانية، يتشككون في إمكان الاستفادة العملية من هذه المعلومات الجديدة. وأخيرًا بدأ مشروع مانهاتن، وبدأ السباق لصنع القنبلة الذرية، وأدى هذا إلى توفير الموارد اللازمة لبناء أول مفاعل ذري. وبلغت هذه الجهود ذروتها العام ١٩٤٥م، وهو ما تمثل في القنبلتين الذريتين اللتين أسقطتا فوق هيروشيما وناجازاكي. ومع عودة السلام تعززت الجهود والمحاولات لاستحداث استعمالات أكثر بنائية للطاقة الحبيسة داخل نُويَّات ذرات اليورانيوم والبلوتونيوم، وتحقق هذا بواسطة الحرارة المتولدة عن التحكم في الانشطار النووي داخل مفاعل ذري، والتي يمكن تحويلها إلى بخار ثم إلى كهرباء عن طريق المولدات التوربينية للتيار المتناوب العادية. وكان لا بد من التغلب على العديد من مشكلات التصميم الهائلة لضمان أمن وسلامة محطات القوى النووية الجديدة، وضمان الاعتماد عليها والثقة فيها، بيد أنها ومنذ الخمسينيات في القرن العشرين أصبحت هذه المحطات منشآت ملحقة بشبكات توليد الكهرباء، مما جعل الطاقة ميسورة لجميع المستهلكين في أوروبا وأمريكا الشمالية، ولكنها لا تزال غير شائعة بالدرجة نفسها في بلدان أخرى. ويرجع ذلك من ناحية إلى اعتبارات الأمن والرغبة في تقييد التكنولوجيا النووية وقصرها على القوى الكبرى، على الرغم من أن هذا لم يحلْ في الحقيقة دون إقامة محطات نووية في العديد من بلدان العالم الثالث. وأضحت هذه المحطات شائعة في بلدان أوروبا وخاصة في فرنسا، وهي البلدان التي تواجه نقصًا في الوقود الأحفوري؛ الأمر الذي شجعها على استخدام الوقود النووي.

وفي العقد الأخير ألقت سلسلة من الأحداث، وخاصة حادث تشيرنوبل في الاتحاد السوفييتي السابق، ظلالًا قاتمة على برنامج الطاقة النووية، مما جعل مستقبلها محفوفًا بالشكوك الآن. ولم يكفَّ المنتقدون للبرنامج عن الإشارة إلى أن الصناعة لم تتوصل بعد إلى الوسائل الكفيلة بالتخلص من النفايات المشعة. والآن وقد أنهى الجيل الأول من محطات الطاقة الذرية عمره الافتراضي، وبدأ الاتجاه إلى وضعها خارج الخدمة بدأت تظهر للعيان التكاليف الهائلة اللازمة لعملية الاستغناء عن خدماتها، وبدا واضحًا أيضًا مدى النتائج المروعة المحتمل وقوعها في مؤسسات معقدة التركيب مثل المحطات النووية، سواء بسبب قصور ميكانيكي أو بسبب خطأ بشري، وهي أمور لا يمكن أبدًا الحيلولة دون وقوعها. وهكذا يتوقف المجتمع الصناعي متأنيًا في محاولة لإعادة تقييم الآثار المحتملة لبرنامج يوفر مصدرًا بديلًا للطاقة صالحًا للاستعمال وللحياة، وأن العالم مصيره إلى استنفاد الوقود الأحفوري، بينما الطاقة النووية «نظيفة»، بمعنى أنها لا تلوث الغلاف الجوي أو البيئة بعادم الغازات. بيد أن مشكلة التخلص الآمن من النفايات المشعة تظل في نهاية المطاف عقبة كَأْداء وهائلة على طريق التوسع في الطاقة النووية.

وأخيرًا، يجدر بنا الإشارة إلى أن صناعة الطاقة النووية توفر قاعدة مهمة لإمكان بلوغ تلك الآفاق المثيرة لِلُّعاب من أجل الحصول على الطاقة عن طريق الالتحام النووي. ونحن نعرف أن جميع المحطات التقليدية للطاقة النووية تتألف أساسًا من مفاعلات نووية تهيئ لنا التحكم في الطاقة المتولدة بفعل حرارة الانشطار النووي في داخلها، ولكن إذا أمكن حث نُويَّات الذرة على الالتحام بدلًا من تحطيمها فسوف تنطلق منها طاقة هائلة على نحو ما يحدث في القنبلة الهيدروجينية، ومن دون أن يترتب على ذلك أي نفاية. علاوة على هذا سيكون بالإمكان أن نستمد المادة الخام من مياه البحر دون حاجة إلى تدخل مواد إشعاعية خطرة. وتنبني هذه العملية على نظرية عملية ورائعة، ولكن المشكلة أنها في التطبيق تستلزم حرارة أولية شديدة الارتفاع مثل تلك الحرارة المتولدة عن الانفجار النووي، وذلك للبدء في التفاعل. وأُجريت محاولات لتوليد هذا النوع من الحرارة داخل وسط محكم الغلق وخاضع للسيطرة، إلا أنها لا تزال حتى الآن مخيبة للآمال. ويبدو أن الاتجاه الأكثر إرواء للأمل في التطوير هو ذلك الذي يعتمد على توليد بلازما للجُزَيئات الذرية محصورة داخل أنبوب في شكل كعكة بفعل مجالات مغناطيسية تَحُول دونها والتَّماس مع أي سطح صلب. بيد أن علماء الفيزياء، وحتى أكثرهم تفاؤلًا، يعربون عن تنبؤ حَذِر بشأن إمكان هذه التجارب في الوصول إلى نتيجة عملية صالحة للتطبيق قبل فترة غير قصيرة من القرن الحادي والعشرين.

ويبدو في ضوء ما سبق أن المرجح هو أن تستمر السيادة لمصادر الطاقة التي هيمنت على التكنولوجيا طوال القرن الحالي، ونعني بها الكهرباء المتولدة ميكانيكيًّا من المولدات التوربينية للتيار المتناوب، ومن المحركات داخلية الاحتراق بمختلف أشكالها. ولكنها، مع هذا، رهن الوقود الأحفوري الذي يتضاءل الرصيد المتاح منه، فضلًا عما يسببه من تلوث في الجو بلغ مستوًى غير مقبول. ويبدو أن مصادر الطاقة البديلة غير قادرة الآن على إنتاج أي شيء نعتبره طاقة كافية تلبي حالة الجوع الشديد لدى المجتمعات الصناعية الحديثة لهذا المكوِّن الحيوي لرخائها. وتلوح بوضوح آفاق لزيادة إنتاج الطاقة من مصادر طبيعية، مثل الرياح وحركات المد والجزر والمياه. وقد يتهيأ إمكان إنتاج طاقة من هذه المصادر أكثر فعالية مما كانت عليه الحال بالنسبة لطواحين الهواء والمنشآت التي تعمل بطاقة مستمدة من المياه، وازدهرت على مدى القرن الثامن عشر.

وثمة مجال أيضًا يبشر بزيادة كبيرة في استخدام الطاقة الشمسية، سواء على هيئة التزود بالحرارة مباشرة من الشمس، أو في صورة طاقة من خلايا شمسية. وربما تعود الحياة من جديد إلى المحركات الأساسية التي كان مصيرها الإهمال، مثل المحرك الذي يدار بالهواء الساخن، أو تلك المحركات التي أصبحت بالية الطراز، مثل المحرك البخاري الترددي. وسبب هذا الاحتمال أن هذين المحركين وإن كانا محركين حراريين إلا أن أثرهما في تلوث الجو أقل ضررًا من التلوث الناجم عن المحرك داخلي الاحتراق، ولكن يبدو أن أيًّا من هذه المصادر البديلة للطاقة لن يكون متاحًا بصورة كافية قريبًا بحيث يجنبنا الوقوع في أزمة الطاقة التي بدأت تلوح في الأفق، وتنذر الحضارة الصناعية بأنها على الأبواب مع نهاية القرن العشرين. سواء أكانت هذه الطريق أم غيرها فإن الشيء المحتمل هو أن حالة الاستقرار النسبي لتكنولوجيا الطاقة التي حظي بها العالم على مدى القرن الحالي لا يمكن أن تدوم طويلًا.

١  المقصود بالمحرك الأساسي: المحرك الذي لا يحتاج إلى محرك يحركه. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤