الفصل الخامس

ظهور المصنع

من أهم القسمات المميزة للعالم الحديث قدرة المجتمعات البشرية على زيادة إنتاجيتها، وزيادة نسب السلع المنتجة قياسًا إلى الحجم الكلي للسكان. ويمكن القول بالمعنى الحرفي والمجازي على السواء إن هذه المجتمعات اكتشفت الطريقة التي تجعل ورقتَي عشب تنموان، بعد أن كانت ورقة واحدة فقط هي التي تنمو قبل ذلك، بما يعني أنها ضاعفت بصورة هائلة إجمالي ثروة المجتمع. ولا يتضمن هذا أي إشارة إلى جانب العدالة أو الإنصاف في توزيع الثروة بين أبناء المجتمع، وإنما لا يعدو كونه معالجة إجمالية عامة للواقع المحوري للحياة الحديثة؛ إننا أنجزنا معدلات إنتاج متزايدة من الطعام وغيره من السلع المادية، والتي جاوزت — حتى الآن في الأقل — مجرد مواكبة معدل النمو السكاني. ويتمثل جوهر هذا الإنجاز في توافر سيل من الأدوات التقنية نابع من المصادر الجديدة للطاقة التي تميزت بها الماكينات وتجهيزات الإنتاج الضخم. ويعبر هذا بمعنًى إيجابي للغاية عن إنجاز ثورة تكنولوجية.

ويعتبر الغذاء أهم السلع الاستهلاكية قاطبة، والسبب واضح وأساسي، وهو أن المجتمعات من دونه تفقد حيويتها وتهلك جوعًا، ولهذا اعتاد الناس عن حق وصف الخطوات الأولى لتسريع عمليات إنتاج الغذاء بأنها «الثورة الزراعية». هذا على الرغم من أنه لا يكون ذا قيمة ذاتية أو معنًى إلا حين يتم داخل إطار أوسع من عملية التصنيع حيث لا يمثل الغذاء سوى جزء، بيد أنه جزء حاسم. وأصبح مألوفًا النظر إلى مجمل عملية التصنيع باعتبارها «ثورة صناعية»، ولكن ثمة كثير من المشكلات العملية والمفاهيمية بشأن هذا المصطلح، خاصة إذا ما طبقناه بدقة وصراحة، إما على الزمن أو على فترة بذاتها أو على المكان، إذ إنه هنا يحتفظ بقدر من الفائدة العامة من حيث كونه وصفًا لمجمل العملية الجارية، والتي تعنينا هنا في مجال التحول الصناعي.

والجدير ملاحظته أن الثورة الزراعية التي بدأت في غرب أوروبا خلال القرن الثامن عشر كانت في المحل الأول تحولًا سياسيًّا أو إداريًّا قبل أن تكون مَجلًى لتميز الابتكار الثقافي. لقد حفز إليها قصور الأنماط التقليدية من الحيازة العقارية والتنظيم الزراعي، وعجز هذا الوضع عن الاستجابة للتحدي الذي تفترضه السوق المتنامية، فالمعروف أن الزراعة المكشوفة، والمجتمع القائم على أشكال القِنانة قد أوفت جميعها بالحاجات المادية لسكان أوروبا ابتداء من عصر المستوطنات التيوتونية في القرنين الخامس والسادس الميلاديين، بيد أنها أضحت عاجزة عن الوفاء بالحاجات المتزايدة للاقتصاد «الميركانتيلي» أو التجاري المتوسع باطراد في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وحدث التغير على وجهين؛ إما تغير تدريجي بنائي عن طريق تطويق الأراضي الزراعية وهجرة السكان إلى الحضر حيث المدن المتزايدة، على نحو ما جرى في بريطانيا، أو تغير فجائي عاصف على نحو ما حدث في الثورة الفرنسية التي قامت بإعادة توزيع شامل للأراضي على المزارعين.

وأُلغيت القِنانة من أماكن أخرى في أوروبا بمعدل ثابت ومطرد لتحل محلها أشكال أخرى من التنظيم الزراعي أكثر توجهًا نحو قطاع الأعمال. ولم يكد هذا الشكل من التنظيم يأخذ سبيله إلى التطبيق في بريطانيا أولًا، ثم بعد ذلك، وعلى نحو تدريجي، في باقي أنحاء أوروبا، حتى أصبح بالإمكان إدخال تكنولوجيات جديدة في مجال الزراعة. واتصفت الابتكارات التقنية أول الأمر بالبساطة، إذ بدأت في صورة تحسينات على المحراث والمعدات الأساسية، ولكن حدثت بعض الابتكارات المهمة في مجالَي آلات البِذار والدِّراس. وظل المجال محدودًا فيما يتعلق بالوصول إلى مصادر جديدة للطاقة حتى القرن التاسع عشر، وقتما بدأت جهود صادقة العزم من أجل استخدام المحركات البخارية في المزارع البريطانية، ونجحت هذه المحركات بوجه خاص في المزارع الكبيرة حيث الأراضي الإنجليزية المنخفضة، مثل أراضي نورفولك، إذ أمكن الوصول بماكينات الحرث البخارية إلى درجة الكمال هناك؛ ذلك أن هذه الأراضي كانت تستلزم محركًا بخاريًّا للعمل في حراثة الحقول. ونظرًا لكبر حجم الماكينة وثقل وزنها فقد كان من المستحيل نقلها فوق عربة عبر الحقل، لهذا كان ضروريًّا إنشاء قواعد يمكن استخدامها لجر المحراث منها عبر الحقل بواسطة سلك من الصلب. وبدا هذا النظام مثيرًا للملل، وإن عمل على نحو جيد في الحقول الواسعة، واستخدمته أنحاء كثيرة في غرب أوروبا حتى نهاية القرن التاسع عشر. وأُجريت آنذاك بعض التجارب على عدد من أشكال الملفات الكهربائية، غير أن هذه، وكذا تقنيات الحرث بالمحركات البخارية، سرعان ما انهارت أمام منافسة الجرارات «التراكتورات» التي تعمل بالمحركات داخلية الاحتراق.

وظهرت خلال المراحل الأولى من الثورة الزراعية تقنيات أخرى أهم من المكننة، خاصة ما كان يتعلق منها بتحسين المحاصيل والثروة الحيوانية، فقد تطورت طرق الدورات المحصولية في هولندا خلال القرن السابع عشر، وأمكن بفضل هذا زراعة أكثر الأراضي الصالحة للزراعة طوال العام بدلًا من زراعتها مرة واحدة كل ثلاثة أعوام. وطبقت إيست إنجليا هذه الطرق وقتما بدأ تطبيقها في أنحاء أخرى، كما دخلت زراعة محاصيل جديدة مجلوبة من العالم الجديد، مثل البطاطس. وأصبح المزارعون العاملون في المزارع المسيَّجة قادرين الآن على التحكم في تربية ماشيتهم، مما شجعهم على تجربة تنشئة أنواع جديدة من البقر والأغنام والخنازير والخيل لمواجهة الطلب المتزايد للسوق التي تتسع باطراد على أنواع مختلفة من الغذاء والصوف والخيل. واستطاع رجال من أمثال روبرت باكويل، وهو مزارع من المناطق الوسطى في إنجلترا، أن يحرز تقدمًا مذهلًا في هذه المجالات، وأثارت هذه الإنجازات انتباه المجتمع الزراعي في كل أنحاء بريطانيا، فكانوا يراقبونها باهتمام ويعمدون إلى محاكاتها، وسرعان ما انتقلت هذه التقنيات لاستخدامها في نيو إنجلند وفي غرب أوروبا.

وأصبحت المزارع النموذجية دعاية رائدة للممارسات الزراعية الجديدة في بريطانيا خلال منتصف القرن التاسع عشر، وتحولت بهذا إلى مزارع مسيَّجة بالكامل لحساب مالك أو مستأجر واحد يستخدم فريقًا قابلًا للتغيير من الأُجراء العاملين تحت إشرافه وتوجيهاته، وكانوا عادة يمتلكون بنايات تقام في الغالب بترتيب محدد حول فناء مزود بأجهزة لتوصيل المياه، ومحرك آلي متنقل يعمل بالبخار لتزويد الآلات الزراعية بحاجتها من الطاقة المحركة. واهتموا أيضًا بتصريف المياه الزائدة من الأراضي المنزرعة، وحرث التربة وتمهيدها في مواعيد منتظمة. وتوفر المروج الخضراء العشب الجاف طعامًا للحيوانات في الشتاء، كما يُجز الصوف بصورة منتظمة من ماشية المقاطعة. ويعتبر هذا النمط من المزارع نتاجًا مباشرًا للثورة الزراعية، وشاع تمامًا منذ العام ١٨٥٠م، حتى لنراه في كل أنحاء البلاد، وتميز قبل كل شيء بربحيَّته التي هي سبب نجاحه، وأفاد منه ملاك الأراضي والمستأجرون البريطانيون، إذ استطاعوا بفضله أن ينعموا بحياة هنيئة، وظلوا كذلك على أقل تقدير إلى أن ظهر منافس جديد له هو مزارع أخرى أوسع وأضخم في العالم الجديد، وبدأت منتجات هذه المزارع الجديدة من الحبوب واللحوم تصل إلى السوق البريطانية منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر، وكان هذا إيذانًا بنهاية عصر الرخاء لسنوات «الزراعة التقليدية التي بلغت ذروتها»، وأدى إلى الإسراع بحقبة ممتدة من الاضطراب لاءمت خلالها المزارع البريطانية نفسها مع الوضع الجديد. وأوضح هذا الاضطراب إلى أي درجة كانت الزراعة متكاملة ومندمجة في عملية التصنيع في العالم الغربي، ولم يكن هناك على الإطلاق أي دعوة للارتداد إلى شكل أكثر بدائية في الزراعة.

ومثلما تجاوب إنتاج الغذاء لمطالب التصنيع، كذلك كانت حال صناعات التعدين والصناعات الاستخراجية، ذلك أن بعض هذه الصناعات، مثل صناعة استخراج المعادن في ساكسوني وسلوفاكيا لها تاريخ قديم جدًّا. والملاحظ أنها بحلول منتصف القرن السادس عشر كانت قد بلغت درجة من التعقد، تبرزها بوضوح دراسة عظيمة ألفها مهندس التعدين الألماني أجريكولا Agricola، الصادرة تحت عنوان De re metallica، وتشتمل الدراسة على كثير من النماذج الخشبية التفصيلية للأدوات والعمليات المستخدمة في هذه الصناعة. ونظرًا لأن الأسواق ظلت صغيرة نسبيًّا، وتحدُّ منها مشكلات المواصلات، فإن إنتاج هذه الصناعات الاستخراجية كان إلى حد كبير نشاطًا هامشيًّا للغالبية العظمى من المجتمعات البشرية. واعتاد الناس النظر إلى عمال المناجم باعتبارهم جماعات بشرية نائية أو منزوية بعيدًا، يعيشون في ظل ولاية قانونية استثنائية خاصة بظروفهم المميزة، ولكن زيادة الطلب وتحسن مرافق النقل جعلا مجتمعات التعدين وأنشطتها تندمج أكثر فأكثر في علاقاتها ببقية المجتمع الكبير، وأصبح السكان بعامة يعتمدون أكثر فأكثر على ما ينتجونه، ولكنهم أصبحوا كذلك أكثر وعيًا بما يصيب البيئة التي صنعوها من إفساد وانتهاك.

كانت هذه هي حال صناعة استخراج الفحم، وكان استخدام الفحم وقودًا واحدًا من أهم القسمات التي تميزت بها حركة التصنيع الغربية في باكر عهدها. وثمة شواهد قليلة من العصر القديم تشير إلى استخدام الفحم في الحضارتين الرومانية والصينية، ولكن يمكن القول إن الاستخراج الجاد للفحم كوقود بدأ لأغراض عملية في أواخر العصر الوسيط لأوروبا، ثم توسع النشاط كثيرًا بعد ذلك. وكانت المناجم الأولى حفريات ضحلة موجودة في مواقع تظهر فيها كميات الفحم واضحة للعيان وبكميات كبيرة على السطح، ولم يكن مجديًا — إلا في النادر — تتبع أعراق الفحم إلى الأعماق ما دام بالإمكان الحصول على كميات وفيرة منها بسهولة قرب السطح، وكان النظام المتبع في حقول الفحم الأولى هو إنشاء صفوف من «الحفر المستديرة» مقتفية أثر صفوف كتل الفحم البارزة، والاسم هنا مشتق من المساحة المقسمة إلى خطوط عرضية، ويمتد فيها العمل داخل قاع مدخل قصير للمنجم، ويودع الزائد من أنقاض حفر هذه المناجم في حلقة تحيط بفتحة مدخل المنجم، وهكذا يتخلف عن الحفر المستديرة بعد تركها ساحة مليئة بالحفر، وأكوام الركام المستديرة.

واستخدم الفحم بكميات كبيرة أول الأمر وقودًا للأغراض المنزلية خاصة في المدن الناشئة، والتي أخذت تتزايد باطراد في شمال أوروبا بعد أن أصبح الخشب شحيحًا نسبيًّا. وبحلول القرن السادس عشر تبين أن شحن كميات كبيرة منه من حقول الفحم في تونيسيد إلى لندن عمل يحقق ربحًا وفيرًا. وكان الظن أن الفحم غير ملائم لكثير من العمليات الصناعية، مثل تنقية المعادن، نظرًا لأن مشتقاته المشوبة بالدخان تلوث الخامات المعدنية التي تُشكَّل، ولكن بدأت تظهر الخامات المعدنية التي تجري معالجتها. مثال ذلك أن الفحم أصبح وقودًا مهمًّا في صناعة الصابون والزجاج والورق والخزف، وأصبح توافر الفحم في مناطق بذاتها يُعتبر سببًا قويًّا في تطوير هذه الصناعات في أماكن استخراجه. وخير مثال على هذا تمركز صناعة الخزف البريطاني حيث توجد مصانع ستانفورد شاير للأواني الخزفية في منطقة فايف تاونز، إذ كان من بين العوامل المؤثرة وجود الفحم محليًّا، وتوافر صلصال جيد، علاوة على تطور نظام ملائم للنقل.

لهذا كان الفحم مع مستهل الثورة الصناعية قد استقر كوقود مهم، وبدأ يحل باطراد محل وقود الخشب للأغراض الصناعية والمنزلية. وأدى دخول قوة البخار إلى زيادة الحاجة إلى الفحم، لهذا أصبحت زيادة الطلب على إنتاج الفحم أحد أهم المؤشرات الدالة على زيادة التصنيع. معنى هذا أن تقنيات التعدين الباكرة التي تتسم بالبساطة أضحت قاصرة عن مواكبة الطلب المتصاعد، ومن ثم بدأ البحث عن موارد جديدة من الفحم علاوة على استنفاد الموارد القائمة. واتجه البحث إلى حفر مداخل المناجم إلى أعماق أبعد غورًا بحثًا عن أعراق فحم ذات قيمة عملية. وساعد المحرك البخاري كثيرًا في هذا الصدد، إذ أمكن بفضله ضخ الماء الزائد على الحاجة لتصفيته خارج المناجم. وكانت المشكلة هي أن مداخل المناجم بدت أشبه بالآبار مما يستلزم النفاذ إلى سطح المياه الجوفية لتجميع المياه، والحقيقة أن التقنيات اللازمة لذلك تشبه في كثير من خصائصها تقنيات حفر الآبار، لهذا كان عدم توافر مضخة ذات كفاءة من شأنه أن يحد للغاية من القدرة على استخراج الفحم. والعكس صحيح، إذ إن توافر مضخة تعمل بالبخار وتضخ الماء باستمرار يجعل بالإمكان حفر مداخل المناجم إلى أعماق لم تكن تخطر بالبال قبل ذلك، ومن ثم استخلاص كميات كبيرة جدًّا من منجم واحد للفحم.

وكانت هناك عوائق تقنية أخرى تعوق استخراج الفحم من المنجم تشبه عائق الماء الزائد، مثال ذلك طرق تقطيع الفحم التي ظلت بدائية بصورة مذهلة حتى مطلع القرن العشرين، إذ كان الاعتماد الأساسي حتى هذا الوقت على قدرة عضلات الإنسان على استخدام المعول والجاروف. كذلك كان نقل الفحم وتلف الأنفاق مشكلة مستمرة إلى أن أصبح بالإمكان استخدام جرارات ميكانيكية وسيور الناقلات، وهو ما أُنجز — كما نلاحظ للمرة الثانية — في مطلع القرن العشرين. ونذكر علاوة على هذا رفع الفحم إلى سطح الأرض، وكذلك نقل عمال المنجم بأمان من وإلى منطقة العمل، إذ اعتمد هذا كله على بداية استخدام السلك الصلب لمحركات الرفع في منتصف القرن التاسع عشر. ولكن ظلت حتى ذلك الحين أشد العقبات في مناجم الفحم هي العقبة الناشئة عن احتمالات حدوث انفجارات قاتلة بسبب غاز الفحم، وكذا الغبار الناجم عن عملية استخراج الفحم، والذي يحدُّ بصورة خطرة من إمكان الإضاءة لعمال المناجم في وقت لا يجدون فيه من سبيل للإضاءة الصناعية إلا عن طريق إحراق الودك (الشحم الحيواني) والشموع. ومن هنا جاء الاهتمام الشديد باستحداث مصباح آمن يمكن عن طريقه عزل الفتيلة المشتعلة عن الاتصال المباشر بالبيئة المحيطة القابلة للانفجار. ويُعزى التقدم في هذا الصدد لكل من سير همفري دافي وجورج ستيفنسون، والذي كان دون ريب نعمة حظيت بها صناعة التعدين ابتداء من عشرينيات القرن التاسع عشر وما بعد ذلك.

ولكن هل ينبغي النظر إلى هذه التطورات التقنية وإلى غيرها باعتبارها مظاهر نعمة أم لا بالنسبة لعمال المناجم أنفسهم؟ الإجابة عن السؤال أشد صعوبة. لقد نمت وتزايدت مجتمعات مناجم الفحم سريعًا للزيادة الهائلة في الطلب على الفحم، واستمرت هذه الزيادة طوال القرن التاسع عشر حتى بلغت ذروتها قرابة العام ١٩١٤م. وتألفت هذه المجتمعات أساسًا من عمال زراعيين مطرودين، ومن جماعات أخرى من المهاجرين، ولهذا كانت هذه المجتمعات تفتقر إلى تقاليد الاستقلال التي اكتسبها عمال مناجم التعدين على مدى قرون طويلة، واعتادوا العيش في مساكن فقيرة، معزولة في الغالب عن المجتمعات الأخرى، ومحرومة من الكثير من أسباب الراحة التي تعرفها المدينة المنظمة تنظيمًا جيدًا. وواضح من ظروف العمالة التي يخضعون لها في ظل نظام رأسمالي غير مقيد أنهم كانوا عادة يتقاضون أجورًا هزيلة، وفريسة للاستغلال. ويكفي القول إنه كان مقبولًا عمل النساء والأطفال في المناجم، إلى أن صدر تشريع يقضي بتدخل السلطات الحاكمة وحظر مثل هذه الممارسات في منتصف القرن التاسع عشر. ولقد كان العمل شاقًّا وقذرًا وخطرًا ومحفوفًا بين حين وآخر بأحداث مروعة. وزادت احتمالات هذه الحوادث والأخطار مع التحسينات التقنية التي ضاعفت من كثافة عمليات استخراج الفحم دون أن يقابل هذا اهتمام بأمن ورفاه العمال. ولا ريب في أن الزيادة الهائلة في إنتاج الفحم كانت واحدة من أهم وأبرز مظاهر عملية التصنيع في شمولها. ولكن إذا نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر أولئك المعنيين أكثر من غيرهم بإنتاج الفحم — أعني العمال العاملين في هذه الصناعة — فإننا نقول إن أحدًا منهم لم يكن يشعر بالمنافع العائدة من هذا النجاح.

والملاحظ أن الصناعات التقليدية لاستخراج المعادن لم تقدم سوى إسهام مباشر ضئيل جدًّا لصناعة استخراج الفحم، بل وتوارت في ظل صناعة استخراج الفحم خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بيد أنها ظلت مهمة بصورة حاسمة للعديد من الاقتصادات الإقليمية، كما أن المواد الخام التي تنتجها — مثل القصدير والنحاس والرصاص والزرنيخ وغيرها بما في ذلك الذهب والفضة — أسهمت إسهامًا مهمًّا في عمليات التصنيع. ونظرًا لأن هذه المعادن مرتبطة أساسًا بصخور أقدم وأصلب من معايير الفحم، فقد كانت تُستخرج عادة من مناطق المرتفعات النائية عن مراكز التجمع السكاني. ونجد أصدق مثال على هذا في بريطانيا في مناجم كورنوول وديفون للقصدير والنحاس. وثمة تشريع خاص صادر بشأن مناطق استخراج القصدير من محاكم العصر الوسيط يدعم عزلها عن المجتمعات الأخرى. وها هنا، على عكس الأمر بالنسبة لمناجم الفحم، قُلدت وطُورت تقنيات الزراعة بما في ذلك العمليات التفصيلية لطحن خام المعادن وتنقيته لاستخلاص أكبر كمية ممكنة من المعدن النقي. وباستثناء مشكلة التخلص من المياه الزائدة، والتي حلتها الصناعة بفضل المحرك الكورنوولي البخاري الذي ذاع استعماله في كل مكان، فإن مشكلات استخراج المعادن كانت مختلفة عن مشكلات استخراج الفحم. ونذكر بوجه خاص أنه لم يكن هناك من يقلقه أمر الغازات المتفجرة، ولكن التعامل مع الصخور الصلبة كان أشد صعوبة بالمقارنة بصخور حقول الفحم اللينة الهشة، وأدى هذا إلى استحداث نظم ثقب الصخور، والتي بلغت ذروتها في طريقة الثقب بقوة الهواء المضغوط بواسطة ضاغط (كومبرسور) مركزي، وكذا استخدام المتفجرات على نطاق واسع لحلحلة الصخور. ولكن إذا ما نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر اجتماعية نقول إن عمال المناجم العاملين في مناجم الصخور الصلبة كانوا أفضل حالًا بنسبة صغيرة من عمال مناجم الفحم خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ونظرًا لأنهم كانوا بوجه عام يعملون في مناطق نائية فقد كان لهم نصيب من فقر بيئة العمل التي يعملون فيها.

وكان الحديد هو المعدن الأهم في الثورة الصناعية. ويوجد خام الحديد في مناطق واسعة، في الصخور الصلبة واللينة على الرغم من أنه حتمًا آخر المعادن التي أمكن تشغيلها وتشكيلها بصورة شاملة. وغالبًا ما كان البحث عنه يتم باستخدام تقنيات التعدين السطحي على نحو ما يحدث في حقول اللورين. ولكن أضخم التغيرات التي طرأت على صناعة الحديد — باستثناء الزيادة الهائلة في مستوى العمليات — إنما تمثلت في عمليات معالجة الخام لاستخلاص الحديد، وكذا في طرق معالجة المعادن بعد ذلك لإنتاج الحديد والصلب. وكانت العملية التقليدية «المباشرة» لإنتاج حديد مطروق أو مُطوَّع تتم عن طريق فرن صغير يوقد بالفحم الحجري ويُعرف باسم فرن تطويع الحديد. وانتقل هذا الفرن إلى أوروبا في أواخر العصر الوسيط مع إدخال فرن الصهر العالي، وهو بناء حجري تظل به درجة الحرارة عالية لمدة شهور دون انقطاع داخل فرن الفحم الحجري المشتعل، عن طريق استخدام منفاخ يعمل بقوة الماء، ثم يُستخلص الحديد من داخله مصهورًا لإنتاج كتل من حديد الزهر. وهذا نوع من المعدن يتصف بالصلابة ولكنه هشٌّ سهل الكسر، ومن ثم يستلزم معالجة أخرى لمزيد من التنقية لتحويله إلى حديد مُطوَّع. وتعرف هذه الطريقة الأخرى بالعملية «غير المباشرة» بالمقارنة مع الحديد المطروق الذي يُنتج مباشرةً من فرن تطويع الحديد الصغير.

وشهدت الثورة الصناعية سلسلة التغيرات المهمة التالية، وارتبطت هذه التغيرات بالتحول إلى أنواع وقود الفحم. وبدأ إنتاج الحديد أول مرة من فرن صهر يعمل بالفحم الكوك على يد «إبراهام دربي» رئيس ورشة لصهر الحديد في كولبروك ديل العام ١٧٠٩م، إذ مع التوسع في الطلب على الحديد خلال القرن الثامن عشر انضم آخرون من منظمي الأعمال إلى عملية البحث عن فحم جيد من نوع الكوك لكي يتخذوه نموذجًا يعملون مثله. واستمر استخدام الفحم الحجري في بعض أفران الصهر النائية في أوروبا وأمريكا الشمالية، ولكن بحلول منتصف القرن التاسع عشر تم التحول بالكامل إلى فحم الكوك. ونظرًا للصفات الجيدة لفحم الكوك أصبح بالإمكان إقامة أفران صهر أكبر حجمًا، كما أمكن تطبيق نظام دفعة الهواء الساخن مسبقًا «فرن تسخين الهبوب» مما زاد من إنتاجية وكفاءة الصناعة. كذلك فإن الانتقال إلى أنواع وقود الفحم أدى إلى نقل أفران الصهر العالية حرفيًّا من مناطق الأدغال إلى مناطق حقول الفحم، حيث تجد دعمًا بفضل السوق الكبيرة وقوة العمل علاوة على قربها من الصناعات الأخرى. وأصبح الحديد، خاصة الحديد الزهر، متاحًا في كل أنحاء العالم لاستخدامه على نطاق واسع في أغراض البناء والتشييد، مثل الطواحين والجسور المقاومة للاحتراق، وكذلك لأغراض منزلية، مثل أدوات الطبخ. ولا ريب في أن توافر الحديد الزهر بسهولة ويسر وبسعر زهيد كان من أهم المظاهر المميزة لحركة التصنيع السريعة في القرن التاسع عشر.

وفي هذه الأثناء كانت عمليات المعالجة الأخرى للحديد والصلب تتحول لمواجهة الطلب الزائد من السوق. وأصبح بالإمكان إعادة تسخين وتنقية الحديد الزهر عن طريق «التسويط» (بمعنى تحريك الحديد المصهور مع خَبَث مُؤكسَد لجعله سهل التشكيل)، وذلك لإنتاج حديد مطروق أو مُطوَّع. ويسَّر هذا زيادة كميات المادة ذات النوعية الجيدة لصناعة الحواجز والقضبان والألواح والأسلاك. وأصبح بالإمكان (بفضل عمليات جديدة اخترعها «هنري كورت» وحصل على براءة اختراعها في ثمانينيات القرن الثامن عشر) استخدام أنواع وقود الفحم لعمليات التسويط داخل فرن عاكس، حيث تمر الغازات الساخنة في داخله فوق — وليس خلال — الحشوة. معنى هذا أنه أصبح بالإمكان نقل أجهزة التنقية، مثل أفران الصهر العالية، إلى مناطق حقول الفحم، ونجحت عملية هنتسمان Huntsman’s Process في صناعة فولاذ البواتق عن طريق عمل الأشابة أو الخليط من الحديد والكربون، بعد خلطهما بنسب محسوبة بدقة، وحفظه داخل أوانٍ من الخزف، وكان معنى هذا أن أصبح بالإمكان صناعة هذا الفولاذ في فرن يعمل بالفحم، وأمكن بالمثل في منتصف القرن الثامن عشر ملاءمة عملية السمنتة أي كربنة الفولاذ لتقسية القضبان باستخدام الفحم الحجري لإنتاج فولاذ منقط، ولم تكن هذه بعد عمليات كبيرة الحجم لإنتاج الفولاذ بوفرة، ولكن الفولاذ بدأ على الأقل يتوافر على نطاق واسع لاستخدامه في صناعة أجزاء الماكينات ولأغراض أخرى تستلزم مواصفات خاصة من الصلابة والاحتمال طويل الأمد. علاوة على هذا فإن هذه العملية، شأن العمليات الأخرى الخاصة بالحديد، عززت الانتقال إلى مناطق حقول الفحم بكل ما ترتب على هذا من زيادة في الطلب والإنتاجية. وهكذا فإنه مع منتصف القرن التاسع عشر بدأت تترسخ صناعة قوية للحديد والصلب معتمدة على وقود الفحم، وأصبحت هذه الصناعة قوة فعالة في التحول الاقتصادي في أوروبا؛ في منطقة الرور في ألمانيا، ومنطقة لو كروسو في فرنسا، وحول منطقة لييج في بلجيكا، وانتشر بخاصة في بريطانيا، في مناطق الوسط وجنوب يوركشاير وجنوب ويلز ولانكشاير. وبدأ إنتاج كميات هائلة من سلع الحديد من كل الأنواع والأنماط التي يمكن تصورها. وإن القصر البلوري؛ هذا الصرح الفاخر الذي صنعته بريطانيا العام ١٨١٥م من الحديد والزجاج ليكون معرضًا ضخمًا تحج إليه أفواج من العالم، يُعتبر رمزًا معبرًا تمامًا عن عمليات التصنيع والتكنولوجيا التي جعلت ثورة التصنيع الحديثة أمرًا ممكنًا.

وتجلت بوضوح خلال هذه الفترة في صناعات إنتاجية أخرى روح الابتكار النشطة التي أنعشت صناعات الحديد والصلب. ولدينا بالفعل السبب الذي يدعونا إلى ملاحظة التطورات في صناعات الزجاج والخزف، وكانت هاتان الصناعتان تمثلان مدًى واسعًا من العمليات التي كان فيها للتفاعلات الكيميائية دور حيوي. وجاءت جميعها استجابةً لطلب متزايد من السوق، واستجابةً لفرص مهيأة لمنتجات جديدة. والملاحظ أن بعض هذه الصناعات، شأن صناعة الآنية، هي صناعة قديمة جدًّا، وشهدت تقنياتها الأساسية تطورات ضئيلة، ونجد في هذه الحالة تشكيل الصلصال على دولاب دوار بعد اختباره بحذر ودقة، وصناعة مزيج جيد منه، ثم حرقها في الأفران. وهناك صناعات أخرى، مثل صناعة الزجاج التي حققت مستوًى رفيعًا من المهارة التكنولوجية في «البندقية» وانتشرت من هناك إلى مختلف أنحاء أوروبا، واستؤنفت هذه الصناعة من جديد في إطار الحضارة الغربية في أواخر العصور الوسطى. ونذكر أيضًا صناعات أخرى، مثل صناعات البارود والورق والنحاس الأصفر (وهو خليط من النحاس الأحمر والزنك). والمعروف عن يقين أن غالبية هذه الصناعات دخلت من الصين إلى أوروبا في العصر الوسيط وإن ظلت خطوط النقل التكنولوجي مجهولة لنا حتى الآن. والشيء المؤكد تمامًا أن الخزف عالي الجودة هو ابتكار صيني، وعرفت أوروبا كيف تنتجه بعد عمليات محاكاة تتسم بالدأب والمثابرة لعينات من الخزف الصيني، ويرجع الفضل في هذا إلى عدد من الحرفيين الغربيين الذين نجحوا في مهمتهم أولًا في «درسدن»، ثم بعد ذلك في بريطانيا، حيث حقق وليام كوك أول نجاح له في هذا الصدد خلال ستينيات القرن الثامن عشر، إذ استطاع كوك عن طريق استخدام الطَّفل الصيني المعروف باسم «الكاولين» وإحراقه في درجات حرارة عالية أن يحدث التحول الكيميائي اللازم لكي ينتج خزفًا نصف شفاف.

وتتسم جميع هذه العمليات، بدرجة ما، بأنها ذات طبيعة كيميائية، وتعبر عن ثقة تتزايد باطراد في قدرة الصناعة على إحداث تحولات كيميائية معقدة ومعالجتها، وحفزتها أيضًا عمليات التصنيع خلال القرن الثامن عشر مما أدى إلى زيادة حجمها زيادة موضوعية خاصة في بريطانيا التي كانت مجالًا واعدًا بأعظم الجزاء لكل تجديدات ممكنة في مجال تنظيم المشروعات. علاوة على هذا إن بريطانيا كانت لها وقتذاك الريادة في تطوير حجم هائل من الصناعة الكيميائية، وإنتاج كميات كبيرة من الأحماض والقلويات لاستخدامها في صناعات أخرى، وأُنتجت هذه المواد آنذاك بكميات صغيرة فقط لاستعمالها في أغراض المعامل الخاصة عادةً بالصيادلة والصباغين. ولكن في منتصف القرن الثامن عشر حصل رجل الصناعة الاسكتلندي جون رويبوك على براءة اختراع العملية المعروفة باسم «طريقة القيعان الرصاصية»، المستخدمة في تحضير حامض الكبريتيك على نطاق كبير. والمعروف أن هذا الحامض له استخدامات كثيرة من بينها إنتاج كربونات الصوديوم، وهو القلوي المفضل لصناعة الصابون. وابتكر العالم الفرنسي لو بلانك عملية لإنتاج الصودا بكميات كبيرة، ولكن جهوده لتطوير العملية في فرنسا أحبطتها الثورة الفرنسية، ولهذا شرع في تطوير اختراعه في بريطانيا حيث أصبحت له جذور راسخة هناك، وهذه عملية ضارة؛ إذ تنتج كميات كبيرة من العوادم الضارة بالصحة وبالطبيعة، ولهذا اقترنت الصناعات الكيميائية الثقيلة بإتلاف مساحات واسعة من المناطق، إلى أن فُرضت قيود على مثل هذه الأنشطة.

وأدى التطور السريع لصناعة المنسوجات في إنجلترا إلى زيادة الطلب على الكيماويات بكميات كبيرة، وأضحت صناعة الأقمشة الصوفية هي قلعة الرخاء الصناعي والتجاري في بريطانيا منذ العصر الوسيط، واستخدمت هذه الصناعة المواد الكيميائية من أجل تنظيف وتبييض وصبغ الألياف الصوفية، علاوة على احتياجات أخرى، وكانت أغلب هذه الكيماويات هي مواد كيماوية طبيعية، من بينها البول البشري، والشب، والأصباغ النباتية. ولم يألُ المسئولون عن الصناعة جهدًا لمواكبة النمو المتسارع في صناعة الأقمشة الصوفية وتطوير وتوفير الكيماويات اللازمة، غير أن زيادة إنتاج المنسوجات الأخرى، مثل الحرير والأقمشة القطنية والكتانية أدت إلى زيادة الضغط على المصادر الطبيعية للكيماويات، مما ساعد على تشجيع التوسع في تلك الصناعة. والجدير ملاحظته أن شيوع وانتشار أحدث هذه المنسوجات، ألا وهي المنسوجات القطنية، أثار مشكلات خاصة تتعلق بالابتكار والملاءمة في بريطانيا خلال القرن الثامن عشر، ذلك أن القطن نبات شبه استوائي، وتم استيراده للأسواق البريطانية نتيجة لازدهار التجارة مع بلدان الشرق الأوسط، ومن بينها مصر، وهي موطن زراعته. وطَبَعي أن التحقق من إمكان استخدامه لإنتاج ألياف رفيعة دقيقة وقوية الاحتمال، وملائمة لاستعمالات عامة ومحلية واسعة النطاق للغاية، كل هذا ساعد على النهوض السريع بصناعة المنسوجات القطنية، وأضحت هذه الصناعة من أهم وأنجح الصناعات خلال القرن الثامن عشر حتى أصبحت سمة مميزة للثورة الصناعية، لذلك نجد أن أجيالًا متعاقبة من الكتب الدراسية تعرض هذه العملية باعتبارها بداية لمتتالية من الابتكارات الميكانيكية التي حولت صناعة السلع القطنية من صناعة محلية إلى سلسلة كبيرة ومتكاملة من العمليات الإنتاجية التي تقوم بها مصانع عدة. وتشير الكتب الدراسية إلى أن هذا كله بدأ في منتصف القرن الثامن عشر عندما ابتكر جيمس هارجريفس دولاب الغزل الذي يسَّر على العامل غزل خيوط كثيرة في وقت واحد. واخترع ريتشارد آركرايت «إطار الغزل»، وهو آلة لسحب ولَي ألياف الخيط ولفها في لفافات حول عمود، كما اخترع صمويل كرومتون المغزل الآلي. وساعد هذا على «مكننة» عملية الغزل مع استخدام قوة المياه أو البخار كقوة محركة.

وتمثل أهم حافز لتسارع عملية الغزل في واقع أن هذه الصناعة كانت تستلزم تشغيل أكثر من اثني عشر مغزلًا من أجل توفير حاجة نساج واحد لكي يواصل عمله. معنى هذا أنه كان هناك ما يشبه عنق الزجاجة في مجال صناعة الغزل، ولكن نجاح آلات الغزل الجديدة أدى إلى أن انتقل عنق الزجاجة في مجال الإنتاج إلى صناعة النسج والتشطيب، بحيث أصبحت هاتان الصناعتان تعانيان ضغطًا يحفز إلى تصنيعهما. ونذكر بداية أنه في ثلاثينيات القرن الثامن عشر ظهر اختراع المكوك الطائر أو السريع الذي اخترعه جون كاي، ولكنه سرعان ما توارى عن الأنظار نظرًا لأن النساجين لم يكونوا آنذاك بحاجة إلى تسريع إنتاجهم، ولكنهم عادوا إليه الآن بعد أن ظهرت الحاجة إليه، وشرعوا في استخدامه أول الأمر. وأمكن توفير وسائل آلية لدفع المكوك إلى الحركة وسط النول، وبذلك استطاع النساجون الإفادة باختراع كاي الجديد للعمل بسرعة أكبر. وظهر النول الآلي الذي اخترعه إدموند كارترايت الذي أغنى الصناعة عن الحاجة إلى أن يعمل فرد من النساجين على كل نول. وأمكن بذلك استخدام بطارية أو مجموعة من الأنوال وتشغيلها بقوة الماء أو البخار. وفي أثناء ذلك أُدخلت الماكينات لتجهيز القطن الخام لأغراض الغزل، ولطباعة أنماط ملونة لتكون خيوطًا جاهزة حسب الطلب للتصنيع. وهكذا أضحت عملية صناعة القطن برمتها صناعة آلية بعد إزالة جميع الاختناقات والعقبات على مدى عمليات الإنتاج.

وتقدم لنا عمليات التحول في صناعة الأقمشة القطنية في بريطانيا فيما بين خمسينيات القرن الثامن عشر وثلاثينيات القرن التاسع عشر؛ صورة واضحة وبارزة عن توالي الاختناقات، ذلك لأنها توضح كيف أن عملية التحديد في مجال تنظيم المشروعات، إذا ما توافرت الظروف الملائمة، سوف تنتقل من عملية إلى أخرى في محاولة لتأمين زيادة إجمال الإنتاجية. وليس ضروريًّا الإشارة إلى أن هذه العملية نادرًا ما تكون ظاهرة للعيان بهذا القدر من الوضوح أو على هذا النطاق الواسع، ذلك لأن عوامل كثيرة خاصة بقوة الاستمرار الصناعي (القصور الذاتي الصناعي) أو التدخل الاجتماعي – السياسي، يمكن أن تفسدها بسهولة، ناهيك عن افتقار المشتغلين في هذا المجال لعنصر المبادرة. ولكن نظرًا لأن صناعة المنسوجات القطنية كانت وقتذاك صناعة جديدة تمامًا فإنها لم تواجه قيودًا أو عقبات. هذا علاوة على أن الصناعة الوليدة اجتذبت عددًا من رجال الصناعة ذوي الكفاءات المتميزة، وعلى استعداد لاقتناص فرص زيادة الإنتاج إلى أقصى طاقة. وتمثلت النتيجة في تحول هذه الصناعة خلال جيل واحد من صناعة منزلية ذات إنتاجية صغيرة يقوم بها العمال أفرادًا مستقلين إلى صناعة داخل مصانع متمركزة في المدن، مثل لانكشير. وتحقق هذا فور انتهاء الاعتماد على الماء كقوة محركة، واستخدام البخار بدلًا منه على نطاق واسع. وظهرت في هذه المناطق صورة جديدة تمامًا للحياة؛ مصانع كبرى ذات مداخن ترتفع إلى عنان السماء تنفث دخانًا أسود، وظهرت مدن مؤلفة من بيوت ذات شرفات لعمال هذه المصانع. نعم، لم يكن منظرًا جميلًا جذابًا ولكنه تعبير عن النمو الاقتصادي والنشاط الصناعي الدينامي. وامتدح العالمون من رجال الاقتصاد هذا الوضع ورأوا فيه مصدر قوة للثروة القومية، واستهوى الكثيرين من رجالات الفن والأدب والشعر، وعبروا عن ذلك بسلسلة من الصور الفنية ابتداءً من شارلس ديكنز في روايته «الأزمة الصعبة»، وحتى المشاهد السخامية لمدينة سالفور عند لوري التي صدرت في ثلاثينيات القرن العشرين. صفوة القول أن المشهد العام هو مشهد القطن صاحب الجلالة الملك، ذلك الإنجاز الذي يتعين النظر إليه باعتباره واحدًا من أهم قسمات الثورة الصناعية البريطانية.

من أجل هذا كله نرى أن الكتب الدراسية أخطأت حين طابقت بين الثورة الصناعية وتحول صناعة القطن، إذ على الرغم من أهمية صناعة القطن، دون أي شك، فإنها لم تكن سوى جزء واحد من عملية تحول أكبر وأشمل داخل الحضارة الغربية. وسبق لنا أن أشرنا إلى آثارها بالنسبة لعدد من الصناعات الإنتاجية الرئيسية. وسوف نقول المزيد عن دلالتها الاجتماعية الضمنية. بيد أن الاكتفاء بتركيز الاهتمام على صناعة القطن وإغفال كل العوامل الأخرى يعني أن فهمنا للعملية في شمولها بعيد عن جادة الصواب، ويؤدي هذا النهج بوجه خاص إلى أن تبدو لنا عملية التصنيع كأنها أحداث مفككة عرضية، إذ يوحي بأنها بدأت بداية مفاجئة مع اختراعات الغزل في منتصف القرن الثامن عشر، وبلغت نهاية محددة مع اكتمال عملية تحول صناعة القطن في حوالي العام ١٨٣٠م، ولكن الواقع أن البداية حدثت في بيئة تأثرت تأثرًا عميقًا بالتحولات في الزراعة واستخراج الفحم والصناعة الثقيلة، وجاءت النهاية في وقت كان أثر السكك الحديدية لا يزال في أولى مراحله التي بدأت المجتمعات تشعر به، ومع بداية اكتشاف الخصائص الميكانيكية للقوى الكهربائية في إطار هذه العملية، لذلك ليس واقعيًّا مطلقًا أن نأخذ صناعة القطن على علاتها ونقتصر عليها وحدها لتحديد التأريخ الزمني للثورة الصناعية. ولعل النظرة التأريخية الصحيحة أن ننظر إلى التصنيع باعتباره عملية تحول مستمرة، وأن القطن كان عاملًا من بين عوامل أخرى كثيرة أحدثت تحولات كبرى.

هناك نقطة أخرى جديرة بالنظر لكي نضع صناعة القطن البريطانية في مجال رؤية أفضل، ونعني بها التفاعل بين التحول في الصناعة والتطورات في مجال الصناعات النسيجية الأخرى، إذ كانت صناعة الأقمشة الصوفية أعرق وأضخم من صناعة الأقمشة القطنية خلال القرن الثامن عشر. وتجلى هذا أيضًا في ضخامة حجم الاستثمارات في المباني والمعدات والقوى العاملة الماهرة، إذ كانت في مجال صناعة الصوف أكثر منها في صناعة الأقطان. وكانت هذه العوامل ذات قيمة كبيرة بالنسبة للصناعات القطنية وهي لا تزال في المهد، كما أنها تعني أن قدرًا كبيرًا من البنية التحتية اللازمة لتطور صناعة جديدة كان مكفولًا ومتوافرًا في مكان الإنتاج، بيد أنها تعني أيضًا أن القصور الذاتي للتقليد والممارسات الراسخة جعلت التجديد في مجال صناعة الصوف أصعب منه في مجال صناعة وليدة. ولكن تحت تأثير حافز التحول السريع في صناعة الأقطان تهيأت الصناعة الأقدم لمواجهة سلسلة مماثلة من التجديدات، مثال ذلك استخدام الماكينات، مثل المغزل الآلي الذي صُمم أصلًا لصناعة الأقطان. ونتيجةً لهذا شهدت صناعة الأقمشة الصوفية بفرعَيها (الخيوط القصيرة والطويلة وهذه تحتاج إلى معالجة خاصة مختلفة عن الخيوط القصيرة وأكثر تحملًا) عملية مكننة وتمركز داخل مصانع كبرى وإن كانت أقل وضوحًا مما هي عليه في الصناعة القطنية. وبالمثل اكتسبت صناعتا الحرير والكتان، ولكن على نطاق أضيق، خصائص الصناعة الآلية السائدة آنذاك. والحقيقة أن صناعة الحرير لها حق الزعم بأنها أول من أُنشئت مناطق صناعية لإنتاجها في بريطانيا، ذلك لأن الأخوين جون وتوماس لومب أقاما مصنعًا يدار بقوة الماء على ضفة نهر ديروينت في دربي العام ١٧١٧م، وبلغ طول هذا المصنع خمسمائة قدم، وارتفاعه خمسة أو ستة طوابق، ويمكن اعتباره أول مصنع يُصمم ليضم سلسلة من الماكينات التي تدار آليًّا بالقوى المحركة، وكانت الماكينات في هذه الحالة هي ماكينات لتشكيل الحرير. وهذه صناعة لها أسرارها التي حصل عليه الأخوان لومب من إيطاليا، وأقاما مصنعهما رغبةً في الاحتفاظ بابتكارهما خشية الاستراق والتقليد. وأقيمت بعد ذلك مصانع كبرى مماثلة من أجل الصناعة الكتانية، وضمت ماكينات الطرق المستخدمة آنذاك لطرق الألياف التي صُنعت بمطارق لكي تكتسب لمعانًا.

وإذا كان لنا أن نتحدث عن أي صورة اقترنت بصناعة المنسوجات الجديدة فإنها صورة المصنع، بمعنى بناية ضخمة، متعددة الطوابق، مشتملة على ماكينات تدار آليًّا بالقوى المحركة. وكانت هناك بالفعل قبل ذلك أمثلة لصناعات إنتاجية على نطاق واسع، مثل بعض عمليات استخراج المعادن وتشكيل الحديد، والتي سبق أن أشرنا إليها. مثال ذلك أن ماثيو بولتون شيد مؤسسة ضخمة تضم مهندسين وحرفيين في برمنجهام، وجهزها بمعدات مثالية لصناعة محرك وات البخاري. وأدار وليام شامبيون مصانع ضخمة للنحاس في منتصف القرن الثامن عشر في وارملي قرب بريستول، واستخدم فيها أكثر من ألف نسمة، وربما استخدم العديد من أحواض السفن القائمة آنذاك، وربما أعدادًا أكثر من ذلك من الأيدي العاملة، ولكن المصنع كان شيئًا مختلفًا، إذ يمثل المصنع نظام المكننة أكثر مما يمثل أسلوب الصناعة اليدوية الحرفية، كما يمثل أسلوب القوى المائية والبخارية أكثر مما يمثل القوى اليدوية أو العضلية. ويمثل المصنع أولًا وقبل كل شيء بيئة منظمة ومنضبطة في إدارة العمل، ولكن العازفين عن المصنع أو الخائفين من نتائجه رأوا فيه «الشيطان الأسود»، ولكن منظمي المشروعات الذين استثمروا أموالهم في إقامة المصانع رأوا فيها ضمانًا يكفل لهم الإشراف الدقيق على تجهيزاتها باهظة الكلفة، كما تهيئ لهم فرصة الإفادة بإنتاجها إلى أقصى حد. ورأى العمال الممثلون لقوة العمل في المصانع أنها تكفل لهم سبل العيش والرزق مما يجعلهم ممتنين لها، ولكنها فرضت عليهم نظامًا يقتضي جهدًا شاقًّا متواصلًا وانحلالًا مروعًا. ولكن المصنع أصبح يمثل للجميع وسيلة لخلق الثروة، ولهذا بقي بوضعه هذا قَسَمة مميزة للتصنيع الحديث. وهكذا كان ظهور نظام المصنع وجهًا محوريًّا لعمليات الصناعة الحديثة.

عمدنا في هذه المعالجة لموضوع التصنيع حتى العام ١٨٥٠م إلى التأكيد على بريطانيا، وذلك لأسباب وجيهة؛ ذلك أن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانا بعد كل شيء الفترة التي قادت فيها بريطانيا العالم في مجال تطوير العمليات الصناعية، إذ أيًّا ما كان المعنى الذي نقصده من عبارة «الثورة الصناعية» فإن هذه العبارة على وجه اليقين اكتسبت أهم خصائصها الحاسمة في بريطانيا خلال هذه الفترة. وإن الأسباب التي هيأت لبريطانيا أن تحتل موقع الصدارة والأولوية هي في الغالب الأعم أسباب ضربة حظ، إذ من المحتمل أن كان يبدأ التصنيع في مكان آخر في الغرب، إذ لولا ظروف وملابسات سياسية واجتماعية معاكسة لبدأ التصنيع في فرنسا التي كانت آنذاك أغنى بلد في أوروبا، والرائد الثقافي الغني بالمعارف، ولكن الصناعة الفرنسية عملت في ظل قيود لنظام ملكي عتيق إلى أن أطاحت به الثورة الفرنسية، ولكن الثورة ذاتها دفعت بالتصنيع الفرنسي إلى الوراء عقدين من الزمان. وهكذا أضحت بريطانيا بفضل مجتمعها المفتوح على نحو أفضل من سواها، وبفضل نطاقها التجاري الأكثر حرية، ونطاقها الصناعي، كل هذا هيأ لها الحوافز الضرورية لبناء المشروعات وتقديم الجزاء الوافي للابتكار الناجح الذي عزز عملية التسارع الحاشد لعمليات التصنيع التي نعالج موضوعها هنا.

وحثت الأقطار الأخرى في أوروبا وشمال أمريكا خطاها بغية اللحاق ببريطانيا عقب أن وضعت الحرب النابوليونية أوزارها وانتهت العام ١٨١٥م، ولكن بريطانيا كانت آنذاك قد توافرت لها موضوعية أسباب الريادة، لهذا لم تشعر إلا بعد العام ١٨٥٠م بمنافسة غرمائها، وظلت بريطانيا حتى العام ١٨٥٠م برضاء وموافقة الجميع «ورشة العالم». وانعقد في العام ١٨٥١م المعرض الكبير الذي كان بمنزلة احتفال جدير بهذا الدور المهيمن لبريطانيا في الثورة الصناعية. ولا ريب في أن الجمع بين تطور الفحم والحديد والبخار والقطن معًا صاغ صورة جديدة، حيث بدا المصنع القَسَمة الأهم والأكثر إثارة. لقد كان المصنع شاهدًا على ظهور نمط جديد للنشاط الصناعي المتآزر والواسع النطاق بما له من طاقة مذهلة لخلق الثروة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤