الفصل السادس

عصر الإنتاج الكبير

تزايدت باطراد القوة الدافعة للتحول التكنولوجي لعمليات الإنتاج خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن حدث تحول عميق في محور اهتمام الصناعة ومراكز تجمعها. وكانت الدوافع السياسية للتوسع هي دائمًا الأسواق المتنامية لجميع أنواع المواد الخام والسلع المصنعة، التي أدت بدورها دائمًا إلى تعزيز عمليات تطوير تقنيات الإنتاج الكبير وتوفير الكهرباء كمصدر لتوليد الطاقة المحركة. وأفضى هذا إلى أن انتشرت سريعًا عملية التصنيع بعيدًا عن مراكز الإنتاج التقليدية، وزاد نطاق الإنتاج مما أدى إلى إحداث تحولات هيكلية مهمة داخل عملية التصنيع. هذا علاوة على الحاجة إلى توافر منظمات معقدة ذات كفاءة تكون لها الإدارة والسيطرة. وشجع هذا على استحداث نظام «الإدارة العلمية»، واقتضى هذا التطور بالمقابل التقدم على المنافسين الفعليين أو المحتملين. ودفعت هذه الحاجة جميع المنظمات المذكورة نفسها إلى استثمار المزيد من الموارد في عمليات البحث والتطوير.

وبينما تميز التوسع في الإنتاج قبل العام ١٨٥٠م بخاصية ظهور نظام المصنع فإن التوسع المستمر تميز بعد ذلك بخاصية التعديلات التنظيمية، وأصبحت هي الخاصية البارزة رغبةً في الوفاء بالحاجة إلى الإنتاج الكبير. وليس معنى هذا أن تطوير المصنع لم يكن عملية ذات أهمية بعد العام ١٨٥٠م، ولا أن الإنتاج الكبير لم يكن له وجود قبل هذا التاريخ، إذ استمرت عمليات تشييد المصانع الضخمة على الرغم من أن التحول من الطاقة البخارية إلى الكهرباء أدى إلى نشوء صناعات كثيرة جدًّا في أماكن متناثرة، واقترن هذا بزيادة مطردة في استحداث وسائل النقل البرية. زد على هذا أن المصانع الحديثة أنظف كثيرًا من سابقتها التي كانت تنفث دخانًا كثيفًا وتغرق المناطق المجاورة بعادمها دون أي قيود. واتجهت المصانع الحديثة إلى أن تتألف من مبانٍ أكثر ملاءمة للظروف والزمن — إذ أقيمت مقصورات أو سقائف خاصة من أجل الأداء الكفء للعمليات ذات الخصائص المميزة، ولضمان راحة العاملين فيها، وبحيث يمكن تعديلها أو إبدالها سريعًا — وهكذا أمكن الحد كثيرًا من أثرها في البيئة المحيطة. ولكن قد يكون صحيحًا أيضًا القول إن المصنع ظل هو الوحدة الأساسية للصناعة الإنتاجية الحديثة، وإن الشكل الأساسي له تبنته عمليات أخرى مثل الزراعة.

ويكشف هذا فيما يتعلق بموضوع الإنتاج الكبير عن الاستمرارية أكثر مما يكشف عن قطيعة بين ما كان قبل العام ١٨٥٠م، وما جاء بعده. ودون الحاجة إلى الرجوع إلى أكثر من مطلع القرن التاسع عشر نلحظ أن مجموعة الماكينات التي وضع تصميمها سير مارك برونيل، والتي رُكبت في ورش هنري مودسلاي لإنتاج كميات ضخمة من الكتل الخشبية اللازمة لأشرعة سفن الأسطول البريطاني؛ كانت بادرة واضحة استبقت تقنيات الإنتاج الكبير، إذ اشتملت على أكثر من أربعين ماكينة، لكل منها وظيفة مخصصة في تشكيل أو تجميع أجزاء معينة من كتلة خشبية واحدة. وتمثلت نتيجة هذا العمل المتضافر في زيادة ناتج الكتل المصنعة مع توفير قدر كبير من جهد العمل اللازم، وتهيأت عمليًّا جميع عناصر عملية الإنتاج الكبير الحديث فيما عدا خط التجميع المتحرك اللازم لإحداث ربط متبادل بين ماكينة وأخرى.

ولم يكد القرن ينتصف حتى حظيت الفكرة بالاهتمام وبدأ تنفيذها، ففي المعرض الكبير المنعقد العام ١٨٥١م، والذي كان يمثل من نواحٍ كثيرة مدى الإنجاز البريطاني الذي تحقق باعتبار بريطانيا «ورشة العالم» في الصناعة الإنتاجية، بات واضحًا إمكان تجميع أجزاء القصر البلوري في هايدبارك خلال فترة وجيزة بصورة مذهلة عن طريق صب قطع حديدية متماثلة المقاييس، وإنتاج كميات لم يسبق لها مثيل من ألواح الزجاج، ولكن المعرض ذاته كان ساحة لعرض الأعاجيب المذهلة للإنتاج الكبير، خاصةً في مجال الأسلحة الصغيرة والآلات الزراعية من إنتاج المصانع الأمريكية لحساب السوق المحلية والتي انتشرت داخل أنحاء القارة. وفي خلال بضعة عقود أصبحت صناعة المسدسات والبنادق وآلات الحصاد والدِّراس قَسَمة مميزة للصناعة الأمريكية. واشتهرت هذه الصناعة باسم «النظام الأمريكي»، وإن انطوت التسمية على بعض الخطأ. واشتملت على إنتاج أجزاء معيارية متماثلة المقاييس تصنع وفقًا لمبدأ إمكان إبدالها وتغييرها ببعضها، بحيث يمكن تغيير أي قطعة أصابها كسر أو عطب بقطعة أخرى بديلة في سهولة ويسر. وسرعان ما أصبح هذا النظام ذاته مطبقًا في مجال صناعة ماكينات الخياطة، والآلات الكاتبة وغير ذلك من المعدات الآلية اللازمة للاستخدام في المنزل أو المزرعة أو المكتب. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحتكر هذا النظام، فإنه مما لا شك فيه أنها كانت الرائدة للعالم في استغلال مزايا إنتاج الجملة النسقي، وانتزعت المبادرة من بريطانيا ومن غيرها من الأمم الأوروبية في عمليات التصنيع. ومن ثم يُعتبر هذا تطورًا ذا أهمية حاسمة في تاريخ التكنولوجيا.

لم يصبح الإنتاج الكبير لقطع غيار الآلات ممكنًا إلا مع تطور العدد اللازمة للماكينات التي يمكنها أن تنتج الأجزاء اللازمة وفقًا لمعايير الدقة والموثوقية. كانت مهارات الحرفي الهندسي تعتمد تقليديًّا على أهليته وتدربه وعدده الشخصية، وثمة شهادات كثيرة على تميز هذه المهارات وروعتها بين رواد التصنيع في أوروبا وأمريكا. وكان هؤلاء الحرفيون — إذا ما توافر لهم الوقت والموارد اللازمة — قادرين على صناعة آلات معقدة، مثل المحركات والقاطرات البخارية الأولى، وعلى تشييد المصانع، بيد أن إنتاجيتهم كانت محدودة للغاية، ولم يكن بالإمكان زيادتها إلا عن طريق مكننة بعض مهاراتهم، أي الإفادة بهذه المهارات عن طريق استخدام الآلات. ويمكن أن نعبر عن هذا بكلمات أخرى فنقول إن جزءًا من المهارة في استخدام عدد وأدوات الحرفي تمثَّل في ضرورة نقل هذه المهارة إلى الآلات، واستلزم هذا بناء ماكينات لصناعة قطع غيار للآلات تكون أفضل من كل ما كان متاحًا في السابق. وكان هنري مودسلاي رائدًا في أداء هذا الدور، إذ أصدر مودسلاي على أن تكون جميع أجزاء الآلات في مصانعه مصنوعة من المعدن، وأدخل تحسينات عليها، من ذلك صناعة السنادة المنزلقة للمخرطة، وصناعة الأدوات الأساسية للماكينات من المعدن، واستطاع بذلك أن ينتج مستويات جديدة من التميز في تكرار أدوات ميكانيكية ذات مواصفات واحدة دقيقة. وتوفي مودسلاي العام ١٨٣١م، ولكن مصنعه المقام في لامبث استطاع حتى هذا التاريخ أن يفيد باعتباره قاعدة لتدريب جيل من المهندسين الميكانيكيين، من أمثال روبرتس ونارمث وويتوورث الذين واصلوا تطبيق منهج مودسلاي بنجاح كبير. واستطاع هذا الجيل صناعة عدد آلية حديثة.

وعندما بدأ الصناع الأمريكيون في تطوير إمكان لصنع أجزاء آلية يمكن إبدالها ببعضها بالكامل؛ اكتملت لديهم البنية التحتية التي تشكل الأساس اللازم لصناعة الإنتاج الكبير في صورة خط من عدد آلية متعددة الاستعمالات، وأخرى محددة الاستعمالات، مثل المخارط وماكينات الحفر، وماكينات التفريز وماكينات القشط، وماكينات لأداء عدد كبير من العمليات المخصصة الأخرى. وكان كل ما فعلوه في هذا الصدد هو تحسين وتشذيب عدد كبير من الماكينات، وذلك — كمثال — عن طريق إضافة برج دوار يهيئ إمكانًا لاختيار أدوات القطع فوق ما أصبح يُعرف باسم المخرطة البرجية. وعمدوا كذلك إلى تطبيق هذا على نطاق واسع في مجال الصناعة النظامية لأجزاء الآلات المتخصصة والتي يمكن تجميعها أخيرًا في صورة المنتج النهائي. وجاءت الخطوة الكبرى التالية في مجال تطوير نظم الإنتاج الكبير مقترنة بتطبيق تقنيات خط التجميع والذي جسدته المنشأة الضخمة لصناعة السيارات التي أنشأها هنري فورد في ديترويت مع مطلع القرن العشرين. وطَبَعي أن مثل هذه التقنيات لا تلائم سوى السلع الاستهلاكية المنتجة بكميات كبيرة مثل السيارات، ولكنها أقل ملاءمة من حيث التطبيق بالنسبة لبناء السفن، كمثال، أو حتى بالنسبة لصناعة الطائرات. ولكن التفكير الكامن وراء مثل هذه المؤسسات المخصصة للإنتاج الكبير تضمن ما يشبه قفزة كمية في فلسفة التنظيم الصناعي، إذ اقترن بشكل وثيق بظهور الإدارة العلمية مما هيأ له، بحكم طبيعته هذه، إمكان النفاذ في مفاهيم القرن العشرين الخاصة بالصناعة الإنتاجية، واشتمل هذا التفكير على دلالات ضمنية تتعلق بجميع جوانب الثورة التكنولوجية. وسوف يكون ضروريًّا أن نتناول هذه الدلالات بتفصيل أكثر، ولكن من المفيد قبل هذا أن نستعرض عددًا من الجوانب الأخرى الخاصة بالصناعة الإنتاجية على مدى قرن ونصف منذ العام ١٨٥٠م.

لاحظنا الدور الاستراتيجي الذي لعبه الإنتاج الكبير من الحديد في الصناعة وفي المجتمع قبل العام ١٨٥٠م. والملاحظ حتى ذلك الحين أن سبائك الحديد المكربن والصلب — على الرغم من أهميتها لصناعة أجهزة القياس بالغة الدقة، والأدوات التي تستلزم حدودًا قاطعة صلبة — ظلت بديلًا باهظ الكلفة بالقياس إلى الحديد الذي كان متوافرًا بكميات قليلة نسبيًّا عن طريق الإنتاج على دفعات في عمليات البواتق أو السمنتة. وبدأ تحول في الصناعة الثقيلة للحديد والصلب العام ١٨٥٦م على يدَي هنري بسيمر بفضل اختراعه للمحول الذي يجسد طريقة لإزالة الكربون من خام الحديد المنصهر بواسطة إطلاق دفعات هواء قوية خلاله، وأدت هذه الطريقة إلى إنتاج شكل من الفولاذ الطري بكميات كبيرة لأول مرة، وواجهت هذه العمليةَ مشكلاتٌ حادة خلال السنوات الأولى، خاصةً بعد فشلها في إزالة العناصر غير المرغوب فيها من الحديد داخل المحول، ولكن أمكن إيجاد حلول لتلك المشكلات، واتجه منظمو المشروعات إلى إيجاد طرق بديلة لإنتاج الفولاذ بكميات كبيرة، ومن ثم وضعوا تصميمًا ناجحًا لأسلوب المجمرة المكشوفة، والتي يمكن التحكم فيها بدقة أكبر مما هي الحال بالنسبة لمحول بسيمر، فضلًا عن إمكان ملاءمتها بسهولة لاستخدام الحديد الخردة. وانتشرت الطريقتان مع نهاية القرن التاسع عشر وشاع استعمالهما في جميع صناعات الحديد والصلب في أوروبا وأمريكا الشمالية. وحل الصلب محل الحديد في غالبية الاستعمالات المخصصة للماكينات، علاوة على استعماله في أغراض إنشائية كثيرة، مثل بناء السفن وخطوط السكك الحديدية. وقادت صناعة الحديد والصلب البريطانية الجهود على طريق هذا التحول، ولكن سرعان ما اقتفى أثرها رجال الصناعة في فرنسا وبلجيكا وألمانيا والولايات المتحدة. ومع حلول مطلع القرن العشرين استطاعت ألمانيا بفضل التمركز المكثف لصناعتها الثقيلة في منطقة الرور، وأمريكا بفضل ما حققته من تطورات عظيمة حول منطقة بيتسبرج وغيرها؛ أن تلحقا ببريطانيا في إنتاج الصلب، وأصبح الصلب في واقع الأمر المعدن الشائع والمهيمن في العالم الغربي.

ولكن أصبحت معادن أخرى ذات أهمية كبرى في اقتصاد المجتمعات التي يتطور نشاطها التصنيعي بسرعة كبيرة في القرن العشرين. مثال ذلك أن أصبحت للنحاس أهمية كبرى في الصناعات الهندسية الكهربائية بسبب قدرته العالية على التوصيل. وشاع استخدام القصدير في حفظ الطعام عن طريق صنع رقائق من الصلب المغطاة بطبقة من القصدير، والتي يمكن درفلتها ثم سدها بإحكام لتشكيل علبة الصفيح شائعة الاستعمال. ومع اكتشاف واستغلال مستودعات النحاس المتوافرة بسهولة في أمريكا، والقصدير في ماليزيا، والذي يمكن استخراجه عن طريق تقنيات الحفر المكشوف؛ انخفضت كثيرًا أهمية المناجم العميقة التقليدية الموجودة في كورنوول وديفون بسبب الارتفاع الكبير لكلفة استخراج المعدن منها، ولكن ظلت عمليات استخراج المعادن العميقة مهمة، خاصةً بالنسبة لاستخراج الذهب في جنوب أفريقيا وفي غيرها. واطرد الطلب العالمي على الذهب كقاعدة للعملات القومية، وأدت زيادة الطلب العالمي إلى اندفاعات عدة في حدة الطلب على الذهب في كاليفورنيا وأستراليا وجنوب أفريقيا، وضمن هذا تواصل التقنيات المستخدمة في كورنوول وديفون، ولكن مع مزيد من الصقل والتشذيب، مثل استخدام الحبل الفولاذي للرفع، وعمليات الثقب بالهواء المضغوط ومحركات الرفع بالطاقة الكهربائية وماكينات التهوية.

وجرى استغلال معادن أخرى جديدة، أهمها الألومنيوم، وعلى الرغم من انتشار هذا المعدن على نطاق واسع فإنه لم يكن بالإمكان استخراجه من خام المعدن إلا بصعوبة شديدة، وذلك قبل اكتشاف طريقة التحليل الكهربائي (الإلكتروليتية) العام ١٨٨٦م في كل من فرنسا والولايات المتحدة، وأدت هذه الطريقة إلى إنتاج هذا المعدن بكميات كبيرة وزهيدة نسبيًّا. وكانت هذه الطريقة تستهلك كميات ضخمة من الكهرباء، لذلك اتجهت المسابك الكبرى لصهر الألومنيوم إلى أن تقام بالقرب من مواقع توليد الكهرباء بكميات وفيرة، مثل جبال الألب في فرنسا ومرتفعات اسكتلندا. وشاع استخدام الألومنيوم للأغراض الميكانيكية والإنشائية، وغالبًا ما كان هذا المعدن بديلًا من الصلب حين تكون خفة وزن المعدن نسبيًّا ميزة مطلوبة في الصناعة، مثل صناعة هياكل الطائرات وغيرها من أنواع المحركات.

واطرد التوسع في استخراج واستخدام المعادن على مدى القرن التاسع عشر، مما أثار جزعًا حقيقيًّا بشأن استنفاد المستودعات المتاحة خلال المستقبل المنظور، ولكن الملاحظ أن استخراج الفحم انخفض، وكان للفحم — كما رأينا — دور حاسم كوقود للمحركات البخارية في المراحل الباكرة من التصنيع السريع، وبلغ ذروة غير مسبوقة في بريطانيا وفي بلدان غربية أخرى وقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، ولكن منذ ذلك الوقت نقص استخدام المحرك البخاري، وارتفع معدل استخدام المحرك داخلي الاحتراق بدلًا منه، وترتبت على هذا زيادة كبيرة في إنتاج المازوت مما أدى في النهاية إلى انكماش سوق الفحم وإلى الحد من استخراجه. واستمرت عمليات استخراج الفحم كصناعة مهمة، واستخدمت فيها — شأن عمليات استخراج المعادن الأخرى — تقنيات الكهرباء وغيرها من التقنيات الجديدة، ولكن صناعة استخراج الفحم أضحت أصغر حجمًا، وأكثر محدودية مما كانت عليه منذ ثمانين عامًا مضت، وأدى هذا إلى خفض الضغط على احتياطيات الفحم، على الأقل بالنسبة للبلدان المتقدمة. وشجع الوضع الجديد على تركيز جهود استخراج الفحم من حقول أكثر إنتاجية، وإزالة بعض الآثار الاجتماعية والمادية المتخلفة في المناطق التقليدية لاستخراجه في السابق. وتتجه مجتمعات استخراج المعدن الآن إلى أن تكون أصغر حجمًا وأضعف سياسيًّا مما كانت عليه في العقود السابقة من القرن، ولكنها كانت أيضًا أقل عزلة، وأفضل اندماجًا في الحياة العامة للمنطقة المحيطة بها.

بدأ الفحم يؤدي دورًا مهمًّا في الصناعات الكيماوية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سواء في أشكالها التقليدية، مثل صناعة الخزف والزجاج، أو في الصناعة الكيماوية الثقيلة الجديدة لإنتاج الأحماض والقلويات بكميات كبيرة لأغراض الاستخدام الصناعي. والجدير ذكره أن الفحص العلمي لقار الفحم المتبقي كأحد متخلفات وحدات إنتاج الغاز في المدن دفع إلى تطور جديد تمامًا هو إنشاء صناعة كيميائية عضوية تنتج مجالًا واسعًا من المواد التي بشرت بتحويل كثير من جوانب الحياة والمجتمع. واهتم الأمير ألبرت بذلك، مما دفعه إلى تعيين صديق ألماني يدعى إيه دبليو فون هوفمان مديرًا مسئولًا عن الكلية الملكية للكيمياء في أربعينيات القرن التاسع عشر. وهوفمان واحد من تلامذة عالم الكيمياء الألماني العظيم فون ليبيج. واصل هوفمان في وظيفته الجديدة دراسته عن المشتقات التي يمكن الحصول عليها من قار الفحم، وحث طلابه على دراسة الفرع الجديد من الكيمياء الذي عُرف آنذاك باسم كيمياء المركبات الكربونية أو الكيمياء العضوية. وكان من بين الدارسين طالب يُدعى دبليو إتش بيركين الذي حصل على درجة الامتياز لأنه أجرى أول تطبق عملي مهم للكيمياء العضوية عن طريق إنتاج صبغة اصطناعية. حدث هذا العام ١٨٥٧م، إذ حاول وفشل مرات إلى أن نجح في إنتاج الكينين من مركب أنيلين مشتق من قار الفحم. واكتشف عرضًا بعد محاولاته هذه أن المادة التي عزلها هي صبغة لون بنفسجي زاهٍ شديدة الفعالية، وسرعان ما تلقفتها المصانع لأغراض الصناعة. وهذه هي أول سلسلة من الأصباغ الاصطناعية التركيبية التي حلت محل كميات كبيرة من الأصباغ الطبيعية في صناعة النسيج في بريطانيا.

وبعد هذا النجاح المبدئي في بريطانيا، شهدت ألمانيا قدرًا كبيرًا من تطور صناعة الأصباغ التركيبية، وحققت الكيمياء العضوية إسهامًا مهمًّا في سبيل نهضة هذه الدولة (الأمة الجديدة) لتكون القطر الصناعي المهيمن في أوروبا حتى إنها فاقت بريطانيا في مجالات عدة قبل نهاية القرن التاسع عشر، وجرت عمليات تحليل لمادة أخرى شائعة، هي السليلوز من لب الخشب أو من مواد خضرية أخرى، وأفضى هذا إلى تطورات ثلاثة بارزة في الصناعة الكيميائية العضوية؛ المواد شديدة الانفجار، والمنسوجات الصناعية، واللدائن أو البلاستيك. أمكن صناعة المواد شديدة الانفجار من مركبات حامض النيتريك مع مادة السليلوز، وأدى هذا إلى تغير طبيعة الحرب، حتى كان من الملائم وصف الحرب العالمية الأولى بأنها حرب رجال الكيمياء. وأمكن إنتاج ألياف النسيج الاصطناعي عن طريق مركب من خليط سليلوزي مع مواد مختلفة تزيده صلابة. وأصبح هكذا بالإمكان صناعة خيوط شديدة الدقة واستعمالها باسم الرايون أو الحرير الاصطناعي. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر بدأ تسويق هذا النوع من الحرير الاصطناعي لمصانع النسيج لخلطها عادةً بألياف طبيعية. وأخيرًا بدأ استخدام النايلون والمجموعة وثيقة الصلة من الألياف الاصطناعية. وبات معروفًا أن هذه المواد الجديدة أقوى من الألياف الطبيعية، ولها استعمالات عدة أكثر منها. وحريٌّ أن نُمايِز بين البلاستيكات الاصطناعية واللدائن الطبيعية، مثل: المطاط الذي شهد تطورًا صناعيًّا كبيرًا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكانت اللدائن أو المواد البلاستيكية الاصطناعية الجديدة تصنع أول الأمر من أخلاط سليلوزية عن طريق إضافة مواد تكسبها صلابة، ومع نهاية القرن استُخدم السليليويد لصناعة كرات البلياردو وياقات القمصان الرجالي وأفلام التصوير. وفي العام ١٩٠٧م أنتج الكيميائي البلجيكي إل إتش بايكلاند مادة صمغية عن طريق خليط من الفورمالدهايد والفينول. وتبين أنه عند تسخين هذا الخليط يمكن تشكيله في صورة مادة صلبة تُعرف في السوق باسم الراتنج الصناعي أو الباكلايت، وتتميز هذه المادة بخواص عازلة رائعة مما أدى إلى شيوع استخدامها في التركيبات الكهربائية.

والجدير ذكره أن المذياع (الراديو) في أول عهد صناعته استُخدم له غطاء أو هيكل عازل من الباكلايت بهدف جذب العملاء المحليين.

بدأت الصناعة الكيميائية العضوية ببحث ودراسة مشتقات قار الفحم، ولكنها بدأت في القرن العشرين تعتمد اعتمادًا مكثفًا على منتجات صناعة النفط. والجدير ذكره أن مادة القار أو البيتومين معروفة منذ أقدم العصور كمصدر لزيت الإضاءة، ولكن في العام ١٨٥٠م فقط عرفت البشرية لأول مرة أول بئر أمكن بنجاح استخراج موارده المطمورة تحت الأرض من الزيت أو النفط الخام، وذلك في الولايات المتحدة، وهكذا بدأت تظهر إلى الوجود صناعة النفط، ولكن الحرب الأهلية الأمريكية أرجأت تطويره، ولم تبدأ المحاولات المنظمة لاستخراج المادة الجديدة بكميات كبيرة إلا بعد استقرار الأوضاع هناك، وسرعان ما نمت وتطورت صناعة كبيرة مهمة تستخدم خطوط الأنابيب وأجهزة التقطير البسيطة لاستخلاص الأجزاء المطلوبة (أجزاء من الزيت الخام التي تتبخر في درجات حرارة معينة). وبدأ الموزعون يُعِدون المادة المستخرجة في براميل لنقل وحدات إنتاج الغاز إلى الحضر، ولهذا كانوا بحاجة إلى إضاءة بالليل، ومن ثم رحبوا بمادة الكيروسين الجديدة كبديل عن الشمعة أو الفتيل التقليدي.

واستُخلص الكيروسين (أو البارافين حسب الاستعمال اللغوي في الإنجليزية) من الجزء الأوسط من الزيت عند تقطيره. وساد الظن حينًا من الزمن أن الجزء الأكثر قابلية للتطاير، وهو الجازولين (أو البترول باللغة الإنجليزية البريطانية) هو أحد المخلفات التي تنطوي على قدر من الخطورة، ولكن استخدام المحركات داخلية الاحتراق لتزويد وسائل النقل بالقوة المحركة غيرت كل هذا الاعتقاد؛ ذلك لأن الصفات والخصائص التي تجعل من الجازولين مادة شديدة الخطر — وهي خفة الوزن وقابلية التطاير وسرعة الاشتعال — كانت هي ذاتها الخصائص المثالية التي دعت إلى استخدامه في محركات القاطرات. وهكذا، وبحلول ثمانينيات القرن التاسع عشر أطلَّ فجر حقبة تطور مذهلة في مجال صناعة النفط مقترنة بشيوع السيارة، ثم الطائرة بعد ذلك، علاوة على استخدامات أخرى كثيرة للمحركات التي تعمل بوقود زيتي، وكذلك الغلايات التي طُورت معها. وشهد العالم في مختلف الأنحاء جهودًا مكثفة بحثًا عن احتياطيات النفط المطمورة تحت الأرض. وأقيمت مشروعات دولية عملاقة بهدف استثمار هذه الموارد وتحويل منتجاتها إلى مواد قابلة للاستعمال على نطاق واسع ومتعدد الأغراض. وترتبت على هذه الصناعة نتائج وآثار سياسية واجتماعية عميقة. مثال ذلك أنها تسببت في حدوث توتر دولي في الشرق الأوسط، وحققت فجأة وفرة وثراء لبعض المناطق في العالم التي كانت تعاني فقرًا شديدًا، وأدت أيضًا إلى ظهور حركة نقل هائلة لكميات كبيرة من النفط، خاصةً عن طريق البحر بواسطة ناقلات النفط عندما كانت خطوط الأنابيب البرية غير مجدية اقتصاديًّا. وأنشئت محطات تكرير هائلة تقوم بأعمال التقطير الكيميائي، ولإنتاج مشتقات النفط اللازمة. وينتج النفط — علاوة على زيوت الوقود الضرورية — مشتقات أصبحت حيوية لصناعة اللدائن (البلاستيك) بأنواعها المختلفة، وكذلك الألياف الاصطناعية والمبيدات الحشرية، والمخصبات والصيدلة. وتعتمد الصناعات الكبرى المنتجة لهذه السلع على مواد قاعدية الزيت، مما أدى إلى زيادة هيمنة الصناعات البتروكيماوية، وما يتبعها من منشآت تكرير تقوم بعملية تكسير خام الزيت بالتقطير التفاضلي، علاوة على عمليات معقدة خاصة بالهندسة الجزيئية لتحضير هذه المواد لتكون جاهزة للعملاء.

والملاحظ أن المجموعة الوحيدة من الصناعات التي يمكن مقارنتها من حيث الأهمية بالصناعات البتروكيماوية على امتداد الفترة منذ ١٨٥٠م؛ هي تلك الصناعات المقترنة باستخدام الكهرباء. وليس من اليسير أن نعقد هذه المقارنة نظرًا لأن الكهرباء أحدثت أثرًا عامًّا فاق كثيرًا أثر الصناعات الكيميائية، ذلك أن كل امرئ تأثر بها نظرًا لأن استخدام الكهرباء لأغراض الإضاءة علاوة على استخدامات توليد القوى على نطاق صغير كان شائعًا وعامًّا في المجتمعات الغربية الحديثة، ولكن كانت هناك أيضًا صناعات هندسية كبيرة ومزدهرة اقترنت بتوليد الكهرباء، وبصناعة المحركات والقاطرات الكهربائية وغير ذلك من معدات، ولكن لعل أهمها وأكثرها حسمًا تمثَّل في انتشار صناعة الإلكترونيات التي بدأت في صورة متواضعة مع إنتاج الراديو والصمامات الثرميونية (أو الأيونية الحرارية) في العقد الثاني من القرن العشرين، واتسعت هذه الصناعة بصورة هائلة مع ظهور أجهزة التليفزيون والكمبيوتر والآلات الحاسبة التي شاعت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وأصبح لدى كل قطر غربي معادل لما يعرف في الولايات المتحدة باسم «وادي السليكون» في كاليفورنيا، وهو منطقة تضم كثيرًا من المصانع الحديثة أغلبها مصانع متوسطة الحجم، وتستخدم جميعها عاملين على درجة عالية جدًّا من المهارة لصناعة أجهزة إلكترونية شديدة التعقيد، أو إعداد برامج كمبيوتر لتسويقها. والجدير ذكره أن تحديد موقع هذه الصناعات جاء عادةً بناءً على عوامل غير اقتصادية، مثل صلاحية المناخ أو القرب من المدن الجامعية. هذا على الرغم من اعتبار توافر شبكات النقل الجيدة وغير ذلك من خدمات عامة مطلوبة أمرًا مسلمًا به.

هذه المجتمعات من المشروعات المرتكزة على الإلكترونيات تجمعت على جوانب طرق السيارات أو أطراف مدننا الجامعية، وقد أصبحت من أهم السمات المميزة للتطورات التي شهدتها الصناعة والمجتمع في أواخر القرن العشرين، وإذا ما قارناها بما كان يسمى «المصانع الشيطانية السوداء» في المراحل الأولى من عصر التصنيع، نجدها أماكن صحية وجذابة للعيش والعمل فيها، ولعلها تمثل نوعًا من الساحات الصناعية التي تنزع المجتمعات الصناعية إلى تعميمها، خاصةً مع تعاظم الاهتمام بالبيئة والرغبة في تجنب تلويثها، مما جعل حتى المنشآت الصناعية القديمة تواجه ضغوطًا من أجل تحسين أدائها وصورتها العامة، بيد أن الكثير من هذه الصناعات القديمة — مثل الحديد والصلب، وتشكيل المعادن، واستخراج الفحم، والكيماويات الهندسية والثقيلة — لا تزال صناعات لا غنى عنها للإنتاج في القرن العشرين. هذا علاوة على أن أكثرها، كما شاهدنا، حقق تقدمًا مذهلًا خلال هذه الفترة، ولكن كم هو عسير أن نخفف من الأثر البيئي الناجم عن عمليات الاحتجار (استخراج الحجارة من المحاجر) واستخراج المعادن من المناجم! بل إن الصناعة البتروكيماوية لها مشكلاتها في هذا الصدد نظرًا لأنها تعالج بعض المواد شديدة السمية؛ ولهذا تكون الحوادث التي تقع من جرائها شديدة الخطر. وعلى الرغم من هذه المشكلات فقد شهدت العقود الأخيرة تحسنًا عامًّا في المعايير البيئية، حتى وإن لم يكن ثمة سبب واضح يدعو إلى الرضا والتسليم بما تم حتى الآن. هذا مع ملاحظة أن الصناعة لا تزال في البداية تمامًا في محاولة التلاؤم مع آثار المطر الحمضي واحترار الكرة الأرضية. ولكن من المسائل المثيرة للقلق فيما يتعلق بضيق أفق الاتجاهات الحديثة أن أكثر الأساليب السيئة في الاستعمالات الصناعية التي عالجها الغرب تتكرر الآن ثانيةً في البلدان النامية.

ويمكن أن نلمس التئام أكثر العوامل التي تؤلف المشهد الصناعي الحديث، وتفرض مشكلات بيئية خطرة في أقدم الصناعات قاطبةً، وهي تلك المتعلقة بإنتاج الغذاء والشراب، ذلك أن الزراعة في البلدان المتقدمة واجهت عمليات الترشيد نفسها التي تميزت بها التنظيمات الكبرى الأخرى في القرن العشرين، إذ شاع استخدام الوسائل الآلية لتوفير جهد العمل ابتداءً من الجرارات وحتى ماكينات الحلب الكهربائية، هذا بينما وُسعت الحقول لتتلاءم مع استخدام ماكينات الحصد وغيرها بصورة أكثر فعالية مما كان سائدًا في الحقول التقليدية الصغيرة التي كانت يعمل فيها مزارع أو فلاح أجير. وجرى تطهير الأرض بالمبيدات الحشرية وتخصيبها بالمخصبات الاصطناعية، وكلتاهما تبيعهما المؤسسات الصناعية الكيماوية بأسعار عالية، وكلتاهما تسببان مشكلة تتعلق بتلوث البيئة مما يؤثر في الحياة البرية وفي إمدادات المياه. وعلى نحو متعمد طُبقت الطرق المتبعة في المصانع في مزارع تربية الماشية عن طريق استخدام بطاريات الدجاج وفي مَرْبى الخنازير ووحدات تربية الأبقار. وعلى الرغم من خفض قوة العمل في المزارع الحديثة فإن التكاليف والتعقيدات التنظيمية المتبعة في النظام الحديث ثبت أنها شديدة التعقيد بالنسبة إلى بعض الزراع التقليديين من أنصار الأسلوب العتيق؛ مما أدى إلى ظهور ضغوط من أجل الضبط الإداري على نطاق واسع، ولا ريب في أن إنتاجية المزارع الحديثة زادت. ويدور خلاف حول مدى ضرورة تلك الأساليب لضمان إمدادات الغذاء والشراب اللازمَين لاستمرارية حياة جيدة، ولكن مما لا شك فيه أن هذا كله يمثل إنجازًا له كلفته، سواء بالنسبة للبيئة، أو بالنسبة للعلاقة الحميمية التي تربط الإنسان بالعالم الطبيعي، نظرًا لما ينطوي عليه من أخطار تلوث حقيقية وجادة.

وهنا، كما في أي مكان آخر، تظهر الثورة التكنولوجية في صورة مختلفة حسب المنظور الذي يُنظر إليها من خلاله، إذ من وجهة نظر الغالبية الساحقة من سكان العالم يتعين النظر إلى الإنتاجية العالية للزراعة في المجتمعات الغربية وكأنها تمثل ترفًا فائقًا لا مثيل له. وليس من الملائم — حتى تُتخذ خطوات جادة لسد الهوة الماثلة في المستويات النسبية للمعيشة — النظر إلى زيادة الإنتاج باعتبارها مشكلة في الصناعات الزراعية الغربية، ولا أن ننتقد المحاولات اليائسة (وربما المضللة) لزيادة إنتاجية الزراعة في البلدان النامية عن طريق الإسراف في اجتثاث النباتات من الأرض، أو التوسع الشديد في اجتثاث أشجار الغابات. والخلاصة أن الصناعات الزراعية جزء من مشكلة عالمية تستلزم حلًّا عالميًّا.

والمعروف أن المرافق اللازمة لنقل الغذاء إلى مسافات طويلة كانت متوافرة منذ العام ١٨٥٠م، وأخذت في الازدياد باطراد، ولكنها حتى ذلك الحين تكاد تكون قاصرة على نقل الغذاء المنتج في بلدان المحيط من المجتمع العالمي إلى أنحاء مختلفة من أوروبا وأمريكا الشمالية، وأدى النقل بالجملة عن طريق السكك الحديدية والسفن التجارية إلى توفير الحبوب الأمريكية لأوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وتطورت مع الزمان تقنيات التجميد بصورة فعالة منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، واستُخدمت هذه التقنيات في ترابط مع خدمات السفن التجارية الموثوق بها لنقل اللحوم ومنتجات الألبان والفواكه الطازجة من الأرجنتين وأقاصي الأرض إلى أوروبا. وتطورت وسائل التعليب وأصبحت على قدر كبير من الكفاءة خلال منتصف القرن التاسع عشر بغرض توسيع السوق لمنتجات لحوم البقر الأمريكي وغيره من المواد الغذائية. وثبت حديثًا جدًّا أهمية وجدوى حفظ المواد الغذائية عن طريق التجميد السريع وتجفيفها في حالة تفريغ عالية freeze-drying وتعريضها للإشعاع، وتكاد تكون هذه هي الطريقة المتبعة الآن في العالم الغربي.
fig8
شكل ٦-١: مؤشرات الإنتاج: الفحم وخام الحديد والطاقة الكهربائية (الإحصاءات من Brian R. Mitchell, European Historical Statistics, 1750–1975).

وأسوةً بما حدث بالنسبة لغالبية جوانب الصناعة الإنتاجية منذ ١٨٥٠م، اقترنت الزيادة الكمية في إنتاج المواد الغذائية والمشروبات بتحول كيفي مقابل لها في طبيعة التنظيم اللازم للوفاء بمتطلبات التوسع في السوق. والخلاصة أنه حدث تحول في هيكل الإدارة، الأمر الذي يستحق أن ندرسه ونفكر فيه باعتباره جزءًا من عملية التصنيع في العالم الحديث. ويعود تاريخ نشوء الإدارة الحديثة إلى ما قبل العام ١٨٥٠م بزمن طويل، فقد ظهرت تنظيمات صناعية كبرى خلال القرن الثامن عشر، مثل مؤسسة صناعة الأواني الفخارية، أو مَسْبك سوهو، وكلاهما يملكهما ويديرهما ماثيو بولتون، الذي أعطى اهتمامًا كبيرًا لجانب الفعالية التنظيمية وإزالة المخلفات، وكفالة رفاهة عماله، واستبق في هذا بعض الجوانب التي تتعلق بتطوير المهارات الإدارية التي شهدناها في مشروعات تالية، ولكن كانت هذه التنظيمات — شأن جميع المنظمات المماثلة في بريطانيا — عبارة عن شركات خاصة تخضع لإدارة مباشرة وتوجيه مستمر من مالكيها. هذا باستثناء المشروعات الخاضعة لإشراف الحكومة، مثل أحواض السفن الخاصة بالبحرية، إذ كانت كبيرة جدًّا، ولكن ظلت خاضعة للاتجاهات الإدارية التقليدية.

وظهرت الشركات الكبرى المسموح بها قانونًا، وتوسعت توسعًا كبيرًا مع بداية استخدام السكك الحديدية. وطبقت بريطانيا منذ خمسينيات القرن التاسع عشر النص القانوني العام بشأن المسئولية المحدودة للشركات العامة، وأدى هذا كله إلى تغيير نطاق العمليات مما كان يعني أنه أصبح لازمًا الآن استخدام المديرين، ولم يكن المديرون يملكون المؤسسات التي يديرونها لمصلحة ملاك الأسهم حتى وإن كانت لهم حصة من أسهمها خاصة بهم، وإنما جرى استخدامهم كموظفين برواتب لأداء وظائف متخصصة، ولمالكي المؤسسة حق فصلهم، سواء أكان المالكون هم أصحاب الأسهم، أم شركة عامة، أم الدولة (في حالة حوض السفن أو مؤسسة عسكرية) دون أن يؤثر هذا بالسلب في وحدة وتكامل المشروع، وأصبح هؤلاء المديرون تدريجيًّا أكثر أهمية في مجال الممارسات الصناعية في بريطانيا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. هذا على الرغم من أن المديرين الملاك مثل «جون براون» في مجال صناعة الصلب، و«وليام ليفر» في مجال صناعة الصابون حرصوا على أن تكون لهم اليد الطولى والهيمنة، ولكن زاد حجم المؤسسات الرائدة زيادة كبيرة، وأدت هذه الزيادة إلى ضعف الروابط الفردية والأسرية تدريجيًّا خلال القرن العشرين، وأصبح المديرون خاضعين للشركات الكبرى. وحدث تطور مماثل في قارة أوروبا وفي شمال أمريكا وإن بدأ متأخرًا عن ذلك قليلًا في بريطانيا، ثم تطور سريعًا فيها، ونعني بذلك أن المشروعات الكبرى، مثل مشروعات أسرة كروبس لصناعة الصلب في ألمانيا، أو مشروعات هنري فورد لصناعة السيارات في أمريكا بدأت منذ مطلع القرن العشرين تتحول بشكل فريد إلى شركات كبرى خاضعة للإشراف الإداري، وتضم مجموعة كبيرة من الوحدات الأصغر حجمًا. ومن دواعي السخرية أن كروبس وفورد طبَّقا الكثير من الاستراتيجيات الإدارية رغبةً في الحفاظ على توسعهما الطاغي.

وسوف نتناول في موضوع آخر الدلالة الاجتماعية لتطبيق النزعة الإدارية فيما يتعلق بالحرفانية والتدرب على المهارات الإدارية، ولكن من المُستصوَب هنا أن نلحظ الأهمية الكبرى للتنظيم الإداري فيما يختص بنمط تطوير الصناعة الإنتاجية الحديثة. لقد بدأت تتولد عن التفكير الإداري «فلسفة» خاصة بالصناعة مع مطلع القرن العشرين من خلال عمل المهندس الأمريكي فريدريك دبليو تايلور، الذي نشر رسالته المعنونة «الإدارة العلمية» العام ١٩٠٦م، وخصص هذه الرسالة أساسًا لما أصبح يُعرف بعد ذلك باسم «دراسة الزمن والحركة»؛ مهارة تنظيم القوى العاملة على نحو يكفل الوصول إلى أقصى قدر من الفعالية، ومن ثم إلى أقصى إنتاج مربح، وحققت هذه الطريقة نجاحًا مذهلًا، وطبقتها بحماسة مشروعات أمريكية كثيرة، لعل أبرزها شركات هنري فورد الذي استخدم تنظيم خط التجميع وفقًا لمبادئ صارمة في دراسة العمل. ولا غرابة في أن نكتشف أن تايلور وفورد كانا صديقين شخصيين، وكانا أيضًا صديقين لتوماس إديسون المخترع الرائد الذي استبقت معامل بحثه بعض التدابير التي أوصى بها تايلور. وأمكن بسهولة تطعيم النزعة الإدارية الأمريكية بالنزعة الفردية الأمريكية التقليدية.

واتجهت تنظيمات إدارية كثيرة إلى تبنِّي طرق تايلور خلال العقدين الأولين من القرن العشرين. وسرعان ما بات واضحًا أنها لا تحل جميع مشكلات الإنتاج الصناعي حلًّا كاملًا وشاملًا على نحو ما أكد أنصارها في أول عهدها. وأصبح من المسلَّم به بوجه خاص أن طرق دراسة العمل تفتقر إلى درجة من الصقل والتدقيق نظرًا لأنها اعتبرت العمال مجرد وحدات إنتاج؛ لهذا أدت تلك الطريقة إلى معارضة القوى العاملة، وبات من غير المفيد تطبيقها بعد مرحلة بذاتها. واكتشف باحث أمريكي جديد هو إلتون مايو دور العنصر البشري في المعادلة الإدارية، وهو ما عُرف بعد ذلك باسم تجربة هاوثورن Hawthorne Experiment، وهو اسم المؤسسة الصناعية الأمريكية التي أُجريت فيها الدراسة، وتوصل مايو إلى نتيجة مذهلة في ظاهرها، وهي أن الناس يعملون على نحو أفضل إذا ما تعاملنا معهم باعتبارهم أشخاصًا مسئولين نستشيرهم، ومشاركين في تحسين كفاءة العمل الصناعي، وكان لهذا أثره الكبير في التفكير الإداري خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن. وسرعان ما طبقت الشركات الأكثر تقدمًا هذا النهج الجديد في استراتيجية عملها.

وإن كلًّا من مبدأ دراسة العمل، ومبدأ الاهتمام بأن يكون العمال عنصرًا ضمن أسباب نجاح المشروع يدخلان الآن ضمن الممارسة الإدارية حسبما تقضي التطورات الأحدث عهدًا، وأُحييت هذه التطورات في صورة من البنيوية، بمعنى أن الاتجاه هو النظر إلى التنظيم ككل شامل، والتخطيط من أجل الوصول إلى أكثر مظاهر «التدفق» فعاليةً للوظائف والمسئوليات في كل أنحاء بنية التنظيم. ويذهب الرأي في الفلسفة الإدارية الراهنة إلى أن من الأهمية بمكان وضع خطة للإدارة، واستخدام مؤشرات أداء عند كل مستوًى من مستويات العمل، مع تدابير تكفل سرعة معالجة أي مشكلة، ورصد بلوغ أو عدم بلوغ أهداف الإنتاج المرسومة. وهكذا تعتمد الإدارة في نهاية الأمر على الخصائص المميزة للقائمين عليها والممارسين لها، ولن تكون قط كاملة تمامًا، ولكن من المُستصوَب تأكيد أن تقنيات الإدارة الحديثة المطبقة في مجال الصناعة في العالم الغربي حققت مستوًى عاليًا من الفعالية الشاملة، وأثبتت هذه التقنيات بصورة مذهلة أن التنظيمات الضخمة يمكن تشغيلها بفعالية وكفاءة وبصورة إنسانية، شأن ما كان الحل بالنسبة لأي شركة تقليدية صغيرة. وحددت النمط الصناعي المهيمن الذي يطبقه الإنتاج الصناعي الحديث على اختلاف صوره.

ولكن هذا النمط له جانب جدير بأن يحظى منا باهتمام خاص، ونعرضه كحاشية لمناقشتنا السابقة لموضوع تطور إدارة المؤسسات، ونعني به الاعتراف بحاجتنا المستمرة لدراسة منتج التنظيم، أو ما أصبح معروفًا باسم «البحوث والتطوير Research and Development»، ذلك أن أي رجل بعيد النظر مسئول عن تنظيم أعمال شركة تقليدية صغيرة لا بد أن يشاركنا هذا التصور، وسبق أن ذكرنا بعضهم من أمثال جوزيا ويدجوول وماثيو بولتون اللذين أبديا اهتمامًا نشطًا بهذا الرأي، ولكن القليلين منهم هم من تتوافر لديهم الموارد التي تهيئ لهم إمكان النهوض بعمل ما على نطاق موضوعي. والملاحظ أن المشروعات الصناعية لم تبدأ إلا في أواخر القرن التاسع عشر في اتخاذ محاولة منهجية لتوفير التسهيلات اللازمة لإقامة معامل البحوث واستخدام الخبراء العلميين المتميزين لإنجاز هذا الهدف. ونعود لنقول إن توماس إديسون هو الذي أكد فعالية وكفاءة منظمة البحوث التي تلتزم نظام بحث منهجي ودَءوب لدراسة تطور المنتج. واشتهر إديسون بأنه «ساحر مينلو بارك» وذلك بعد أن شيد معامل البحوث الخاصة به في نيو جيرسي.
إن مشروع المعدات الكهربائية والإلكترونية الذي أُقيم تأسيسًا على المصباح الكهربائي الذي اخترعه أديسون، وكذا الفونوغراف — جنرال إليكتريك — كان من أسبق المؤسسات الأمريكية التي أقامت معامل ضخمة للبحوث، ولكن سرعان ما حذت حذوها شركات أمريكية أخرى، من بينها شركة الاتصالات السلكية واللاسلكية الأمريكية A.T. and T التي أُسست لاستثمار اختراع بيل للتليفون. وعملت هذه الشركة على تطوير معامل بيل حيث اخترعت الترانزستور العام ١٩٤٨م، ونجد في بريطانيا أيضًا عددًا من المؤسسات لها سجل متميز في هذا الاتجاه، على الرغم من أن بريطانيا ظلت زمنًا تلتزم أسلوبًا أكاديميًّا نمطيًّا لمعاقبة رجال الصناعة لعدم اهتمامهم بالبحوث. ونذكر هنا أعمال روبرت هادفيلر وجهود شركات الصلب في شيفيلد من أجل دراسة واستغلال سبائك صلب جديدة، والتي حظيت أخيرًا باهتمام وموافقة الأوساط الأكاديمية.

والجدير ذكره أيضًا مبادرة شركات الكيماويات البريطانية مع مطلع القرن العشرين.

واقع الحال أن تنظيم البحوث والتطوير بلغ الآن مستوًى عالي الكفاءة وبات أمرًا مقررًا في كل أنحاء العالم حيث توجد مشروعات صناعية كبرى. ويمثل هذا المنهج في التنظيم عنصرًا لا غنى عنه لإنجاز الشركة، وأصبح جزءًا لا يتجزأ من الأهداف الإدارية في التنظيمات الحديثة المعنية بالإنتاج الصناعي، وثبتت جدواه الكبرى في سبيل تأكيد دينامية الإنتاج الكبير والنمو الصناعي المطرد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤