الفصل الثامن

النقل من القاطرة البخارية إلى الصاروخ

تكشف النظرة التطورية المتداخلة لتاريخ التكنولوجيا عن أنه حين تنضج مرحلة ما من التكنولوجيا، فإنها تمهد الأرض لكي تظهر ابتكارات جديدة تتجاوز ما سبقها. ونجد هذا واضحًا بجلاء في العديد من الأحداث الرائدة في تاريخ النقل في العالم الحديث. فالملاحظ أن الطريقة التي بُنيت بها القنوات المائية أعطت خبرة باتت تشكل أساسًا مهمًّا للتطورات التالية في هندسة السكك الحديدية. وسوف نبحث الآن نقلة أخرى أكثر أهمية وحسمًا، حسب المقاييس الكمية والكيفية، في المنحنى الصاعد لقدرات البشر على الانتقال، وعلى نقل بضائعهم وحاجياتهم، ونعني بذلك التحول من شبكة نقل يهيمن عليها المحرك البخاري إلى شبكة نقل يمثل فيها محرك الاحتراق الداخلي والكهرباء المصدرين المباشرين لتوليد القوى. وبدأت هذه النقلة في القرن التاسع عشر، ولكن القطاع الغالب منها اكتمل خلال القرن العشرين، ويجسدها ظهور السيارة والطائرة باعتبارهما الشكلين الرئيسيين للنقل. وطَبَعي أن لم تَختفِ القوى البخارية؛ إذ ظلت لها أهميتها الكبرى في صورة توربينات بخارية تولد الكهرباء، ولكن الملاحظ أنها في تطبيقاتها العملية في مجال النقل حل محلها بالكامل تقريبًا نظام الاحتراق الداخلي والكهرباء. وسوف يستعرض هذا الفصل التطبيق العملي لهذه الابتكارات في مجالَي شبكة السكك الحديدية والنقل البحري، ثم نعقب على هذا بتحليل أثر التكنولوجيا الجديدة في أكثر أشكالها تخصصًا، وهي السيارة والطائرة.

استمرت شبكة السكك الحديدية العالمية في النمو على مدى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكانت القاطرة البخارية آنذاك هي المصدر العام لتوليد القوى المحركة في هذه الشبكة. ولعل الاستثناء الوحيد الذي له قدر من الأهمية هو إدخال نظام الجر الكهربائي في عدد من الخطوط القصيرة في أماكن محدودة واستعمالات خاصة، ولكن تزويد القاطرات بتيار كهربي خلق نوعًا من الأخطار الأمنية الجديدة، ومن ثم أخَّر أي عملية تستهدف التحول العام إلى الكهرباء، ولكن وضح أن الكهرباء بالنسبة لأغراض معينة، مثل استخدام خطوط السكك الحديدية تحت الأرض في المدن الرئيسية، كان لها مزايا عدة وهائلة تفوق القاطرة البخارية التقليدية التي تنفث دخانًا. وهكذا استُخدمت الكهرباء في لندن لتشغيل الخط الرئيسي خلال تسعينيات القرن التاسع عشر، ولكن ظل البخار هو صاحب السيادة في الخطوط الرئيسية القائمة آنذاك، ولم يواجه تحديًا جادًّا إلا خلال السنوات فيما بين الحربين العالميتين، ولكن ظهر اتجاه لترشيد ودمج الشبكات القومية، ويرجع هذا من ناحية إلى تدابير الطوارئ في الحرب العالمية الثانية، كما يرجع من ناحية أخرى إلى نقص ربحية السكك الحديدية خلال سنوات ما بين الحربين. وأخذ هذا التعديل في بريطانيا شكل دمج قانوني لشركات السكك الحديدية الموجودة آنذاك، وعددها ١٢٣ شركة، أُدمجت في أربع مجموعات، ثم أصبحت جميعها بعد ذلك خاضعة لإدارة الدولة في العام ١٩٤٨م. وصادفت سكك حديد الجنوب تشجيعًا لاستحداث خدمة كهربية مباشرة منخفضة الفولتية في خطوط الضواحي في لندن، وذلك باستعمال قضيب ثالث مشحون بالكهرباء يكون حاملًا للتيار الكهربائي اللازم، ولكن ظل هذا الخط هو الحالة الوحيدة التي خرجت فيها بريطانيا عن سيادة البخار في السكك الحديدية حتى النصف الثاني من القرن العشرين.

وحدث في مناطق أخرى، خاصة في الولايات المتحدة حيث زيت الوقود متوافر وزهيد، أن حُوِّل عدد من خدمات الخطوط الأساسية إلى نظام الجر بمحرك الديزل، وظهر هذا النظام منافسًا خطيرًا للبخار خلال تلك السنوات. وبعد الحرب العالمية الثانية شرعت مؤسسات السكك الحديدية القومية الأوروبية في تجديد نفسها، وهنا وقع اختيارها على الكهرباء مصدرًا للقوى المحركة وأداةً للجر، مع استخدام تيار متناوب عالي الفولتية يسري في خطوط مُعلقة. واستخدمت هذا النظامَ أغلبُ خدمات السكك الحديدية السريعة الجديدة، مثل القطار الفرنسي فائق السرعة TVG والقطار الياباني المعروف باسم «القذيفة». ومدت الجهات المسئولة للقطار الفرنسي فائق السرعة خطًّا يصل مداه إلى مئات الأميال مع تجهيزات تسمح بالحركة فائقة السرعة دون توقف. واتجهت السكك الحديدية البريطانية إلى إنتاج وحدات ديزل متعددة ومتقدمة للعمل في الخدمة السريعة، ولكنها عمدت حتى هنا، وبقدر ما تسمح المنشآت، إلى تطبيق نظام الجر الكهربي مع استخدام الكابل المعلق. وعلى الرغم من استبعاد البخار من خدمة السكك الحديدية في جميع بلدان غرب أوروبا وأمريكا الشمالية، فإنه من المسلَّم به أن شبكات السكك الحديدية التي تعمل بنظام الجر بمحرك ديزل أو كهربائي لا تزال أساسية في عالمنا الصناعي الذي يزداد ازدحامًا باطراد؛ ذلك أن هذا العالم تزداد حاجته إلى السرعة الفائقة في النقل داخل المدن، وكذا لنقل السلع بكميات كبيرة وكفاءة عالية.

ومع تطور شبكة السكك الحديدية شهد النقل البحري في الوقت نفسه توسعًا هائلًا، وتحولًا مكثفًا على مدى المائة والخمسين عامًا. وحريٌّ بنا أن نذكر أن البحر ظل على مدى قرون هو الشكل الذي يمكن للإنسان أن يتعامل معه كوسيلة للنقل الفعال على مدى مسافات طويلة. والمعروف أن غرب أوروبا استحدث السفينة كأداة حرب وأداة نقل بضائع، ونذكر هنا السفن التجارية التابعة لشركة الهند الشرقية، وسفن البحرية القومية التي كانت تمثل في مطلع القرن التاسع عشر ذروة التطور التكنولوجي في ضوء القيود التي تفرضها قوة الريح كقوة محركة، وعلاوة على بناء السفن من الخشب. وطَبَعي أن استخدام البخار كقوة دفع للسفن، والتحول إلى الحديد والصلب في بناء السفن أدى إلى تحول عميق في التكنولوجيا البحرية، سواء بالنسبة للسفن الحربية أو التجارية. وبعد جهود تجريبية عدة في بريطانيا وفرنسا بدأت أول سفينة بخارية دائمة في الإبحار على صفحة مياه نهر هدسون العام ١٨٠٧م، بقيادة الأمريكي روبرت فولتون الذي استخدم محرك بولتون ووات. وبعد ذلك بسنوات قليلة، أي في العام ١٨١٢م بدأ هنري بيل الاسكتلندي في تشغيل خط ناجح للبواخر على نهر كلايد عملت فيه باخرته كوميت. وكانت جميع هذه السفن البخارية تدفعها دواليب ذات أرياش (رفَّاصات)، والتي يمكن أن نعتبرها تعديلًا ملائمًا لتكنولوجيا الدولاب المائي الشائع (الساقية). ولم تحدث أي زيادة ملحوظة في حجم البواخر على مدى ثلاثة عقود؛ ذلك لأن الحجم الكبير كان يضيف مشكلات هائلة بشأن تخزين الوقود؛ ولهذا رُئي أنها غير عملية إلا للعمل عند مصبَّات الأنهار أو في مياه البحر قرب الشواطئ. ومع هذا بُنيت بواخر صغيرة كثيرة للعمل معديات لمسافات قصيرة، وسفن لأداء مهام محددة وإن جازفت بعضها بمحاولة القيام برحلات طويلة.

fig31
شكل ٨-١: خطوط سكك حديدية قابلة للامتداد (المصدر C. European) Brian R. Mitchell Historical (Statistics 1750–1975).

ولكن لم يتسنَّ التغلب على مشكلات النقل لمسافات طويلة بالبواخر إلا في العام ١٩٣٨م، عندما شرعت شركة البواخر الغربية العظمى في تشغيل خدمة عبر الأطلسي مُستخدِمةً أول باخرة ضخمة صمَّمها آي تي برونيل وبناها في بريستول. وكانت هذه السفينة لا تزال من الخشب يدفعها دولاب ذو أرياش (رفَّاص)، ولكن برونيل أجرى عملية حسابية صحيحة تفيد أن حجم الفراغ اللازم لحمل الوقود سوف يقل في تناسب مع الحجم الكلي كلما زاد حجم السفينة. والنتيجة أن السفينة وصلت إلى نيويورك بعد إبحارها من بريستول ولا تزال تحمل كمية من الفحم المتبقي في مخزن الوقود. وأدى نجاح هذه التجربة إلى فورة في الطلب على بناء البواخر. وكان برونيل جاهزًا لبناء سفينة مماثلة لتلك التي قطعت الرحلة إلى نيويورك، ولكنه بدلًا من هذا بنى سفينة ليست فقط أكبر حجمًا من سابقتها، بل هي الأولى المصنوعة من الحديد، وكذلك هي الأولى التي تستخدم نظام الدفع المروحي. وطَبَعي أن سفينة تشتمل على كل هذه الابتكارات المذهلة لا بد أن تواجهها مشكلات عدة، ولكن الشيء الجدير بالانتباه حقًّا بشأن هذه السفينة أنها تغلبت على جميع المشكلات حتى إنها ظلت تعمل زمنًا طويلًا، ثم عادت إلى بريستول موطن بنائها وميلادها لتبقى ذخرًا وتراثًا مميزًا. وقامت هذه السفينة بأولى رحلاتها عبر الأطلسي العام ١٨٤٣م، وعملت بنجاح كبير من ليفربول إلى نيويورك ثم بعد ذلك إلى أستراليا.

واتجه برونيل إلى تصميم باخرة ثالثة تحمل اسم SS Great Eastern. وحاول هنا حل مشكلة بناء سفينة قادرة على حمل وقودها في رحلة تدور حول رأس الرجاء الصالح في الطريق إلى الهند ثم الشرق الأقصى. وتصوَّر، وصولًا إلى هدفه، بناء سفينة طولها ٦٠٠ قدم مع إزاحة ٢٢٥٠٠ طن مياه، وبذا تكون أكبر من أي سفينة أخرى بُنيت خلال القرن التاسع عشر، وجهَّزها بهيكل حديدي مزدوج مع مجموعتين من المحركات البخارية بحيث تدفع إحدى المجموعتين مروحة مفردة، وتمد الثانية بالقوة المحركة مجموعة ضخمة من الرفَّاصات. واستهدف بهذه الازدواجية أن يهيئ للسفينة أقصى قدر ممكن من القدرة على المناورة في مواجهة أي ظروف تفرضها منشآت المرفأ، ومهما كان ارتفاع المياه إذا ما كانت حمولتها صغيرة. وثبت نجاح التصميم؛ إذ إن السفينة إس إس جريت إيسترن أثبتت، على الرغم من حجمها الهائل، قدرتها على القيام بمناورات شديدة الدقة مما جعل منها مثلًا أعلى لسفينة مخصصة لمد الكابلات في أعماق البحر. وكان هذا، من وجهة نظر تجارية، الشيء الوحيد الذي أنجزته؛ إذ سرعان ما تبيَّن أن السفينة كبيرةُ الحجم جدًّا في ضوء حركة النقل اللازمة في منتصف القرن التاسع عشر. علاوة على أنها كانت أقل كفاءة من السفن الصغيرة التي بدأت الخدمة خلال الوقت نفسه، ومجهزة بمحركات مركبة.

وقامت السفينة جريت إيسترن بباكورة رحلاتها فور وفاة برونيل الذي وافته المنية مبكرةً في العام ١٨٥٩م. وبحلول هذا التاريخ بدأت سفن جديدة تطبق نظام التوصيل المركب كوسيلة لزيادة كفاءة محركاتها البخارية مُستخدِمةً البخار مرتين داخل أسطوانتين متتابعتين؛ إحداهما ذات ضغط عالٍ، والأخرى ذات ضغط منخفض. وسبق أن استُخدم هذا النظام في كثير من المحركات البخارية في المصانع الكبيرة، ولكنه واجه مشكلات بشأن ملاءمته للتصميمات المدمجة الصغيرة التي تلائم الاستعمالات البحرية مع ما يترتب على هذا من زيادة ضغط الغلايات، ولكن لم تكد عملية التحول تبدأ حتى ظهر أن غالبية المحركات غير المركبة عديمة الكفاءة ومضيعة للجهد؛ لهذا سرعان ما تم التخلي عنها. وهكذا لم تعمر السفينة جريت إيسترن طويلًا كسفينة لمد الكابلات. وبدأ مستقبل الملاحة البخارية يعتمد على الكفاءة أكثر من الحجم؛ ولهذا تم تجاوز المحركات المركبة لتحل محلها محركات ثلاثية التمدد، وذلك في سبعينيات القرن التاسع عشر، وهنا يمر البخار خلال ثلاث أسطوانات ذات ضغوط متوالية الانخفاض. وكان من المعتقَد نظريًّا إمكان تركيب أي عدد من الأسطوانات، وبالفعل رُكبت بضعة محركات رباعية التمدد لأغراض ملاحية بحرية، ولكن ثبت عمليًّا أن المفقود من التبادل الحراري والاحتكاك جعل أي إضافة جديدة ذات أثر هامشي بالنسبة لكفاءة العمل. وهكذا أصبح المحرك ثلاثي التمدد هو المعيار بالنسبة للاستعمالات البحرية إلى أن استُخدم نظام التوربين البخاري.

واستطاعت البواخر بفضل ابتكارات برونيل أن تنتزع من السفن الشراعية القدر الأعظم من حركة نقل البضائع والركاب عبر شمال الأطلسي. هذا علاوة على أن بداية استخدام المحركات ثلاثية التمدد جعل البواخر منافِسة للسفن الشراعية، حتى بالنسبة للطرق الطويلة الممتدة من بلدان الشرق الأقصى، مثل طرق تجارة الشاي مع الصين، وهي التجارة التي احتكرتها السفن الشراعية. نعم لم تكن البواخر المحسَّنة قادرة على السفر بسرعة السفن الشراعية، ولكن لم تكد قناة السويس تُفتتح في العام ١٨٦٩م حتى أصبح بإمكانها استخدام طريق أقصر كثيرًا من الطرق التي تستخدمها السفن الشراعية التي كان يتعين عليها أن تتوقف حينًا أو تهدئ من حركتها في البحر الأحمر. هذا علاوة على أن السفن البخارية حققت ميزة موضوعية نظرًا لقدرتها على تحديد مواعيدها بدقة، والاعتماد بثقة كبيرة عليها. وهكذا انعقد لواء النصر بالكامل لمصلحة البخار على الشراع مع نهاية القرن التاسع عشر.

ولكن لم تَدُم طويلًا فرحة مُلاك السفن التي تعمل بمحركات بخارية ترددية ثلاثية التمدد؛ ففي تسعينيات القرن التاسع عشر ظهر التوربين البخاري ليمثل أقوى شكل لقوة الدفع البحري خاصة في الاستعمالات الضخمة. وأكد شارلس بارسونز أن بإمكان التوربين أن يحقق سرعات أعلى من أي محرك بخاري ترددي معروف، وأثبت ذلك عن طريق اليخت البخاري التجريبي الذي يملكه ويحمل اسم «توربينيا». وأثار هذا اليخت حماسة من شاهدوه في يوبيل العرض البحري العام ١٨٩٧م. ولم يكد يمضي عقد حتى استخدم كونارد التوربين البخاري لتسيير سفينة جديدة تحمل اسم إس إس موريتانيا، والتي أقلعت العام ١٩٠٦م بتوربينات قوتها ٧٠ ألف حصان، وبسرعة ٢٧ عقدة. والجدير ذكره أن أساطيل العالم كانت آنذاك في وضع منافسة شديدة استعدادًا لحرب وشيكة، وأدى هذا الوضع إلى التحول السريع إلى التوربينات البخارية لتسيير السفن الكبيرة، وجُهزت غالبية الجيل التالي من السفن الضخمة بمثل هذه التوربينات. واستمر استخدام المحركات ثلاثية التمدد في السفن متوسطة الحجم على مدى سنوات ما بين الحربين، ثم بدأت تواجه تحديًا من جانب المحركات داخلية الاحتراق. وكان رودولف ديزل قد استحدث شكلًا جديدًا من أول محرك صنعه وهو محرك حارق زيتي عالي الانضغاط، وأعدَّه خصوصًا للعمل في الغواصات، ولكن سرعان ما ثبت أنه يمثل وحدة قوًى محركة رائعة لأي سفينة صغيرة أو متوسطة، وطُوِّر بعد ذلك ليمثل تحديًا واضحًا للتوربين البخاري حتى في أضخم مجالات الاستعمال البحري. وهكذا أضحت جميع السفن الضخمة تعمل بقوة الديزل.

وشهد النقل البحري تحولًا في مجالات أخرى مثلما حدث في وحدات القوى المحركة. وسبق أن أشرنا إلى استخدام الحديد والصلب في بناء السفن؛ الحديد في أربعينيات القرن التاسع عشر، والصلب عندما أصبح ميسورًا بكميات كبيرة خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وأدى هذا التحول إلى نقل عمليات بناء السفن من مناطق مصبَّات الأنهار المليئة بالأحراج، ومن الموانئ التقليدية المجاورة، إلى مناطق أخرى سهلة الوصول إلى مصانع إنتاج الحديد والصلب. وأصبحت صناعة السفن إحدى الصناعات الثقيلة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأفران الحديد ومناجم الفحم والهندسة الميكانيكية. وأصبحت العملية الأساسية فيها، وهي بناء هيكل السفينة وإنشاءاتها العلوية، عملية تستلزم قوًى عاملة مكثفة، فضلًا عمَّا تثيره من جلبة؛ إذ كانت تضم جيوشًا من عمال البرشمة الذين يُحدِثون ضجة تُصِم الآذان، ولكن تغيَّر هذا كله بعد الحرب العالمية الثانية مع استخدام نظام اللحام الذي جعل من عمليات بناء السفن عمليات هادئة نسبيًّا، ولكن بحلول هذا الوقت حدثت تغيرات هيكلية أخرى في السوق المحلية أدت إلى نقص مفاجئ في الطلب على السفن الجديدة، ومن ثم دخلت الصناعة في حالة هبوط امتدت زمنًا طويلًا. وأحد أسباب هذا الهبوط هو توقف خطوط نقل المسافرين بعد التحول إلى خطوط الطيران الأسرع كثيرًا. وسبب ثانٍ هو المنافسة من جانب ترسانات بناء السفن في البلدان النامية التي استطاعت أن تبني حاملات صهاريج وحاويات بتكلفة أقل من تكاليف بنائها في الغرب، ولكن في جميع الأحوال لم تشهد الصناعة نهاية التحولات الكاسحة التي أثَّرت في النقل البحري على مدى فترة القرن ونصف القرن الأخيرة.

يكاد يكون من المستحيل التفكير في المحرك داخلي الاحتراق دون أن نفكر في السيارة أو الطائرة. ولدينا فعلًا السبب الذي يبرر لنا الإشارة إليهما عند الحديث عن ذلك النمط الجديد جذريًّا الذي تحولت إليه شبكات النقل العالمية في القرن العشرين، ولكن هذه الاختراعات جديرة بأن نفكر فيها لذاتها وفي ضوئها. إن الشيء الحاسم فيما يتعلق بالسيارة هو أنها أَحْيت بعد مواتٍ شبكاتِ النقل البري — التي ذَوَت إثر منافسة السكك الحديدية — ومن ثم أَفْضت إلى زيادة شاملة في التسهيلات اللازمة لنقل الأشخاص ولحركة البضائع بما يتناسب مع راحة وموقع العملاء. واستمرت صيانة الطرق حتى مع تدهور خدماتها، وتحملت السلطات المحلية والقومية القسط الأكبر من هذه المسئولية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبات من المسلَّم به بعد إصلاحات نابوليون الأول أن كثيرًا من الطرق الأوروبية طرق ذات أهمية استراتيجية، ومن ثم جرت صيانتها رغبةً في تيسير الحركة السريعة للجيوش عند الضرورة. وهكذا توافرت شبكة من الطرق التي يمكن الاعتماد عليها بعد تجربتها. ولا ريب في أن الحافلات البخارية تطورت في بريطانيا خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر على يد كل من والتر هانكوك وسير جولد سوارتي جورني وآخرين، وتحولت إلى شبكات نقل دائمة، ولكن الجمع بين المشكلات الميكانيكية، والتعارض بين الاهتمامات الخاصة بمسئولية كل من السكك الحديدية والطرق زادا من صعوبة هذا التحول. وتناول التشريع البريطاني هذه المشكلات بأن حظر على أي عربة ميكانيكية التحرك بأسرع من سرعة المشي على قدمين فوق الأرض. هكذا نجد في الوقت الذي تطورت فيه محركات الحرب بالبخار، بل الهراسات التي تعمل بالبخار؛ لم تُبذل أي محاولة لتحدي هيمنة السكك الحديدية عن طريق خدمة نقل سريعة.

ولكن تجدد الأمل في الاهتمام بوسائل النقل البري الميكانيكية، وحدث هذا في صورة رِدة مفاجئة إلى قوة الحركة البشرية في صورة الدراجة. وسبق هذا اختراع عربة يد ثلاثية العجلات توافرت بها إمكانات جيروسكوبية، أي إمكانات حفظ الموازنة الآمنة فوق دولابين دوارين. وبحلول ثمانينيات القرن التاسع عشر شاع استخدام الدراجة العادية ومعها أنواع أخرى تشتمل على عجلات ذات أحجام مختلفة، وكانت الدراجة الآمنة ذات عجلتين متساويتين يتحكم فيهما كابح (فرملة) من السلك، ومثبَّت على محملين كرويين بحيث يمكن تحريك ودفع العجلة الخلفية بدواستين وسلسلة أو جنزير من المحور المركزي، ويلتفُّ حول العجلتين إطاران بهما هواء مضغوط، وإطار معين الشكل من الفولاذ الأنبوبي. وتطورت الدراجة سريعًا لتصبح النمط المعياري السائد في القرن التالي. وتكفي هنا الإشارة إلى الدراجة باعتبارها نتاج الصناعة الهندسية التي نضجت وشرعت في البحث عن الوفاء بالطلب المتزايد من العميل من أجل وسيلة نقل شخصية سهلة وملائمة. وقد لا يساورنا شك كبير في أنها أعانت الناس، خاصةً الشباب والنساء، على الارتحال خلال مسافات أوسع نطاقًا من السابق. وهكذا تولَّد مطلب جديد من أجل مزيد من الحرية مستقبلًا.

ولن يساورنا شك أيضًا في أن السيارة أفادت فائدة موضوعية من الدراجة السابقة عليها، ليس فقط من حيث خلق سوق لزبائن محتملين، بل أيضًا من حيث الخبرة الميكانيكية؛ ذلك أن صناعة السيارة استخدمت أيضًا قدرًا كبيرًا من تقنيات صناعة وتشكيل الدراجة. ونلاحظ في حالات كثيرة أن المؤسسات التي كانت تصنع الدراجات هي ذاتها تحولت إلى صناعة محرك السيارة. وأيًّا كانت الطبيعة الدقيقة في هذه العلاقة المشتركة فإن السيارة يقينًا اقتفت أثر الدراجة. ونذكر هنا اثنين من المهندسين الألمان لا يعرف أحدهما الآخر، استطاعا تعديل وملاءمة محرك بنزيني يعمل بنجاح بالنسبة للمركبات البرية؛ فقد أنتج جوتليب ديملر أول دراجة بخارية تعمل بمحرك، كما أنتج كارل بنز أول سيارة بمحرك، وأنجز الاثنان إنتاجهما العام ١٨٨٥م. وإن النظر إلى هذه الاختراعات على أنها استلهمت مجموعات من أجزاء موجودة في السابق ليس من شأنه مطلقًا أن ينقص من أصالتها؛ ذلك أن المركبة البرية، سواء كان يجرها حصان أو قوة بشرية، كانت لها في السابق الغلبة والسيادة على سوق مهمة. وجدير بالملاحظة أن المحرك داخلي الاحتراق الذي جاءت هندسته حسب نموذج المحرك البخاري استمر في التطور باطراد منذ أن اخترع لينوار المحرك داخلي الاحتراق العام ١٨٥٩م. وكانت الخطة هي محاولة الجمع بين الاثنين، ولكن لوحظ أن الاحتراق الداخلي كلما ظل معتمدًا على غاز الاستصباح كوقود له ظل مرتبطًا بمصدر الإمداد، وهو عادة مصانع إنتاج الغاز، ولكن التوصل إلى الوقود الزيتي فتح الطريق إلى الوصول إلى محرك داخلي الاحتراق وقادر على التحرك، وحمل تموينه من الوقود داخل صهريج فوق المركبة. وكان المحرك البنزيني تحديدًا له كاربوريتور (اخترعه فيلهلم مايباخ الذي كان يعمل مع ديملر) يرش الوقود قبل حقنه إلى داخل الأسطوانة. وتحقق بفضل هذه الآلية وجود محرك متعدد الاستعمالات وملائم لتثبيته في المركبات البرية والدراجات.

وسرعان ما تحقق هذا الأمل؛ إذ نجح ديملر وبنز، حيث أخفق الآخرون، في عمل التوافقات اللازمة. وتلقَّف رجال الصناعة نجاحهما في إنتاج أول «مركبة لا يجرها حصان». وانتشر إنتاجهما سريعًا، واستثمره رجال الصناعة خاصةً في ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، ولكن كانت الاستجابة الأولى في بريطانيا أبطأ كثيرًا، وسبب ذلك — من ناحية — الارتباط القوي بالمحرك البخاري هناك، ثم — من ناحية أخرى — القيود التشريعية المفروضة على المركبات البرية التي تسير بقوة دفع ميكانيكية، ولكن تعديل القانون في العام ١٨٩٦م مكَّن المهندسين ورجال الصناعة في بريطانيا من أن يلحقوا بموجة صناعة السيارات. ومع مطلع القرن العشرين لمعت كل الأسماء المشهورة من الجيل الأول في صناعة وإنتاج السيارات؛ ديملر وبنز في ألمانيا، وبيجو وبانهارد-ليفاسور ورينو في فرنسا، وأولدز وفورد في أمريكا، وروفر ولانشستر ورولز رويس في بريطانيا. وشرع دنلوب وميشلان في إنتاج إطارات الهواء المضغوط، وأنتج بوش وديلكو ولوكاس المكونات الكهربائية. واختفت النماذج الأولى من العربة ذات العجلات الثلاث التي تسير من دون حصان، وأخذت السيارة شكلها المعياري فوق أربع عجلات متماثلة الحجم، والمحرك في المقدمة لينقل قوة الدفع من خلال صندوق تروس (جيربوكس) تداويرية فوقية، إلى مجموعة تروس تفاضلية فوق المحور الخلفي. ووُجِّهت السيارة بواسطة عجلة عند المقعد الأمامي، وجُهِّزت بكابحة (فرملة) عن طريق أسطوانات فوق العجلات ذات الكابح السلكي وسندات محمل كريات، وإطارات الهواء المضغوط مثلها مثل الدراجة. وصُنع بدن السيارة من هيكل فولاذي، وتتصل التركيبات الكهربائية ببطارية، ومن بينها عملية إشعال المحرك. ويتألف المحرك غالبًا من محرك بنزيني رباعي الأشواط، ويعمل وفقًا لدورة أوتو رباعية الأشواط، هذا على الرغم من وجود محركات ثنائية الأشواط ولكنها أصبحت هي المحركات المعيارية للدراجة البخارية. ثم صُنعت بعد ذلك محركات ديزل زيتية داخلية الاحتراق ذات أحجام صغيرة مما جعلها منافسة لاستعمالها في السيارات.

وتمثل هذه السيارة النموذجية القَسَمة البارزة المميزة لتكنولوجيا النقل البري في القرن العشرين. وطرأت عليها تغيرات لا حصر لها من حيث الشكل والحجم، والمحركات المثبَّتة في مؤخرة السيارة، والمحركات المستعرضة، ومحركات وانكل (وهو محرك ذو كبَّاس دوَّار حظي بشهرة محدودة خلال ستينيات القرن العشرين)، ومحركات ذات توربينة غاز مستوية، ولكن النموذج الأساسي الذي استقر في مطلع القرن لا يزال دون تغيير، وأصبح له تصميم مستقر بصورة ملحوظة، ونال هذا النموذج شهرة واسعة، مما يعني أنه أصبح يمثل صناعة مهمة واسعة النطاق، ومن ثم ملائمًا لتكنولوجيا الإنتاج الكبير. وأثبت هنري فورد أن عملية صناعة وتجميع السيارة برُمَّتها يمكن إنجازها ضمن عملية واحدة متكاملة بطريقة دقيقة، بكل ما تشتمل عليه من أدوات آلية مصمَّمة خصوصًا لذلك، وسير التجميع المتحرك. وظهر أول إنتاج كبير لسياراته من خطوط الإنتاج التي أنشأها في دير بورن في ميتشجان العام ١٩٠٣م، وبدأ العام ١٩٠٨م في صنع نموذجه المعروف باسم «النموذج تي» الذي أنتج منه ١٥ مليون وحدة حتى العام ١٩٢٧م.

ويمثل رخص الثمن سر نجاح فورد وغيره من رواد صناعة السيارات الذين اقتدوا به في غرب أوروبا والبلدان الأخرى؛ إذ لكي نبرر الإنتاج الكبير كان لا بد أن تصبح السيارة في حدود الإمكانات المالية للناس الذين صنعوها والذين يؤلفون هم وأترابهم في الصناعات الأخرى السوق المحتملة. وأثر هذا تأثيرًا قويًّا في الأجور وعلاقات العمل، كما أثار الانتباه إلى عدد من الأمور الدقيقة الخاصة بإدارة العاملين في مجال الصناعة. ولفتت الأنظار كذلك إلى وسائل الارتفاع بمستوى السمعة، وإلى طرق بارعة في الإعلان لدى المنتجات المنافسة. وهكذا أصبحت السيارة قَسَمة شائعة مميزة لمجتمع القرن العشرين، وغيرت معالم الحياة في المدينة والريف، كما هيأت الإمكانات للسفر من أجل العمل في أماكن قاصية أو لقضاء وقت الفراغ. ونضجت تكنولوجيا السيارات سريعًا وفي وقت مبكر، واستقرت على مدى القرن بصورة غير مسبوقة، ولم تظهر حتى أواخر القرن العشرين أي وسيلة أخرى منافسة. حقًّا إن حدوث ارتفاع كبير في أسعار وقود البنزين من شأنه أن يشجع على استحداث بدائل أخرى غير المحرك داخلي الاحتراق كأداة دفع، مثال ذلك استعمال محركات كهربائية أو محركات بخارية. والمعروف أن كلًّا من الكهرباء والبخار كانا قد وفَّرا الفرصة لمنافسة قوية لغير مصلحة المحرك البنزيني في مطلع القرن العشرين، غير أن الحاجة إلى حمل كميات من البطاريات أو حمل وحدة لتوليد البخار أضعفت هذا التحدي، ولكن تغير الظروف خاصة مظاهر القلق بشأن البيئة الآن، فيما يتعلق بانبعاث الغازات الملوثة، يمكن أن يهيئ فرصًا جديدة، ولكن أيًّا كان مصدر توليد الطاقة فإننا لا نرى ما يشير إلى احتمال نقص شعبية السيارة كوسيلة نقل شخصية بكل ما توفره من أسباب الراحة.

وتمثل الطائرة ثاني الانتصارات التكنولوجية العظمى التي حققها المحرك داخلي الاحتراق في القرن العشرين، فها هنا، وللمرة الثانية، نلحظ أهمية كبرى في تلاقي العديد من خطوط التطور؛ خبرة أجيال عدة من الملاحين الجويين الذين اقتفوا أثر النجاح الذي حققه الأخَوان مونتجولفاير في التحليق بالبالونات منذ العام ١٧٨٣م (من الأهمية بمكان هنا ذكر أن كلًّا من البالونات التي تُدار بالهواء الساخن والبالونات الممتلئة بالغاز إنما استلهمت البحوث العلمية المعاصرة بشأن تكوين الغلاف الغازي للكرة الأرضية والغازات المختلطة به). ونذكر أيضًا من التطورات الأخرى اكتشاف مبادئ علم الديناميكا الهوائية على أيدي رُواد من أمثال جورج كايلي، وملاح الطيران الشراعي أوتو ليلينتال، وكذلك تطور محركات البنزين التي تميزت بخفة الوزن والاعتمادية، ولكن الطائرة اشتملت أيضًا على عناصر جديدة مذهلة. ونذكر أن أول رحلة طيران أمكن التحكم فيها بنجاح قام بها الأخَوان رايت في ديسمبر ١٩٠٣م، وتُعتبر هذه الرحلة لحظة من اللحظات النادرة في تاريخ التكنولوجيا؛ إذ تمثِّل إنجازًا لمفهوم جديد تمامًا، لقد استوعب الأخَوان ويلبور وأورفيل رايت خبرة الماضي نظريًّا وعمليًّا، ولكنهما مع هذا حَرصا على رصد الطريقة التي امتلكت بها ناصية التحليق والطيران في الجو طيورٌ مختلفة، مثل طائر النورس وغيره، وعَمدا بنجاح إلى محاكاة هذه الطيور، وأضافا شيئًا مميزًا ومختلفًا عن أي شيء آخر لم يحدث من قبل؛ ذلك أنهما لم يكتفيا بالتحليق فقط، بل أضافا القدرة على التحكم في طيرانهما. واقتضى الأمر مرور بعض الوقت قبل أن يشيع هذا الإنجاز، وسبب ذلك احتفاظ الأخوين بهذا الإنجاز سرًّا إلى حين تأكيد حقهما في براءة الاختراع، ولكن بحلول العام ١٩٠٨م شاهد تحليقَهما عديدٌ من الأوروبيين والأمريكيين الراغبين في أن يصبحوا طيارين ويعتزمون تحقيق رغبتهم. وبدأ هؤلاء في محاكاة الأخوين، علاوة على العمل على تحسين التصميمات الفنية. وكانت هذه هي الحال تحديدًا في فرنسا، حيث اكتسب رُواد من أمثال هنري فارمان ولويس بليريوت خبرة كبيرة من محاولات الطيران، علاوة على قيام عديد من أصحاب المصانع باستحداث محركات واعدة، ولكن هذا لا ينفي أنه كان هناك رُواد بريطانيون وألمان نشطوا في هذا المضمار. وكانت النتيجة أنه أُجريت تجارب على مدى ست سنوات لبناء أنواع مختلفة من هياكل الطائرات، من بينها طائرات أحادية السطح، مثل تلك الطائرة التي عبر بها بليريوت القنال الإنجليزي العام ١٩٠٩م. وأُجريت كذلك تجارب لإنتاج محركات هوائية، مثل المحرك الدوَّار الذي لقي رواجًا كبيرًا على مدى سنوات عدة؛ ذلك لأنه عن طريق تدوير الأسطوانات بالمروحة أحدث تبريدًا ذاتيًّا. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى العام ١٩١٤م لم يكن معروفًا بدقة وبشكل مباشر طبيعة ونوع الدور الذي يمكن أن تؤديهما الطائرة أكثر من كونها وسيلة رصد واستكشاف. ولكن التطور السريع في الحرب الجوية كان حافزًا قويًّا جدًّا لصناعة الطائرات. وأدت هذه الحاجة إلى غربلة جميع الجهود الرائدة، وفرز أهم وأقوى التصميمات وأقدرها على أداء مهام متعددة، ولم يكد العام ١٩١٨م يحل حتى ظهرت إلى الوجود صناعة مهمة للطائرات في جميع البلدان المحاربة، وأُنتجت مجموعات متنوعة من الماكينات ذات قوة دفع عالية، وهياكل معدنية لعمل طائرات مقاتلة وقاذفة، وأيضًا لعمل طائرات نقل.

والمعروف أن الاستخدامات المدنية لا يمكنها أن تواكب مباشرةً منتجات هذه الصناعة؛ لهذا نلحظ نقصًا في الإنتاج، وتبديدًا للخبرات فور انتهاء الحرب. غير أن تحويل الطائرات الحربية القاذفة إلى طائرات لنقل الركاب سرعان ما أثبت إمكان إنشاء خطوط للطيران المدني، وظهرت بوضوح حاجة لا تشبع إلى السرعة في الانتقال، مما أكد لأصحاب المصانع أن ثمة أسواقًا مضمونة. وهكذا ظهر جيل جديد من الخطوط الجوية التي صُممت خصوصًا للوفاء بمتطلبات نقل الركاب، واحتل مكان الريادة في هذا التطوير رجال صناعة أمريكيون من أمثال دوجلاس وبوينج. وتميزت الطائرات الجديدة بأنها طائرات أحادية السطح، وجناحها السفلي من المعدن بالكامل، ولها محركان أو أكثر. وظلت الطائرات ثنائية السطح هي المعيار السائد طوال الحرب. ولكن توافر هياكل معدنية أقوى وأكثر صلابة سمح بتصميم أجنحة مفردة مثبَّتة بكابول في جزع الطائرة، ويتميز بتحسينات مهمة في الأداء الخاص بالديناميكا الهوائية، ومع بداية الحرب العالمية الثانية أصبح مثل هذا الطيران مهيَّأ ليحل محل الأساليب القديمة في تأدية الأغراض العسكرية.

وأصبحت الخطوط الجوية المدنية مستقرة تمامًا بحلول العام ١٩٣٩م، خاصةً داخل القارة الأمريكية، حيث توجد بها سوق مزدهرة للنقل فائق السرعة فيما بين المراكز الحضرية التي تفصل فيما بينها مسافاتٌ واسعة، ولكن على الرغم من هذا التقدم ظلت الطرق العابرة للمحيطات خارج نطاق قدرات الطائرات ذات القواعد الأرضية، ومع هذا كانت تقوم بها طائرات بحرية. وجرَت أيضًا خلال فترة الحرب محاولات لم تُكلَّل بالنجاح في سبيل تطوير مناطيد قابلة للتوجيه لخدمة طيران الركاب لمسافات طويلة، ولكن التجارب البريطانية والألمانية على السواء انتهت إلى مأساة قبل الحرب العالمية الثانية؛ إذ توقفت جميع التجارب الجديدة بسبب الحرب، وعندما استُؤنفت ثانيةً، بعد توقف أعمال الحرب، كان قد ظهر جيل جديد من الطائرات الضخمة، خاصةً طائرات ذات أربعة محركات، ومشتقة من قاذفات القنابل التي أثبتت نجاحها في زمن الحرب، ودخل هذا النوع خدمة الطيران عبر الأطلسي، وسرعان ما أصبحت شائعة جدًّا. وهكذا فإن خدمات الخطوط البحرية عبر المحيطات التي استأثرت في السابق بهذه الخدمة بدأت تواجه منافسة حادة، وأخذت رحلاتها المنتظمة تختفي تدريجيًّا بحلول خمسينيات القرن العشرين، وأصبحت الطائرة في هذا الوقت الوسيلة التي لا غنى عنها لجميع أشكال نقل الركاب والبريد لمسافات طويلة، وكذلك لنقل سلع ذات طبيعة خاصة.

وفي هذا الوقت أيضًا حدث تطور آخر كان القولَ الفصل لتأكيد موثوقية وكفاءة النقل الجوي عبر مسافات طويلة، ونعني بذلك إقرار استخدام التوربين الغازي بدلًا من المحرك الترددي التقليدي. والتوربين الغازي أو النفَّاث، كما شاع عنه في الحديث الدارج، لا يزال محركًا داخلي الاحتراق ويستهلك وقودًا زيتيًّا، غير أنه يعمل وفقًا لأسس مختلفة تمامًا عن الأسس التي يعمل بها المحرك الترددي؛ إنه مثل التوربين البخاري يولد حركة دورانية مباشرة تدفع توربينًا يضغط الوقود قبل الإشعال، ويدفع عامود دوران المروحة في حالة عمل التوربين وفق تصميم المحرك المروحي التوربيني، ولكن في الحالة الأكثر شيوعًا للمحرك النفَّاث فإن دافع الحركة يتولد من عملية طرد الوقود المحترق. وكانت إمكانات هذا المحرك معروفة نظريًّا منذ وقت طويل، ولكن درجات الحرارة العالية المتولدة عنه حالت دون بناء نموذج ناجح، وظل الوضع على هذه الحال إلى أن أمكن استحداث سبائك جديدة لصناعة أرياش التوربين والغلاف المحيط به. ولم يكد هذا الإنجاز يتحقق حتى بدأت الاستعدادات لتجهيز تصميمات عدة في ظروف من السرية والكتمان؛ نظرًا لقرب اشتعال الحرب العالمية الثانية. وحصل فرانك ويتيل على أول براءة اختراع بريطانية، وقاد فريق بحث ناجحًا داخل المملكة المتحدة. وكانت هناك فرق بحث أخرى تعمل داخل ألمانيا وفي بلدان أخرى.

وهكذا مع نهاية الحرب، دفعت كلٌّ من ألمانيا وبريطانيا بأول تصميماتهما للتوربين النفاث إلى الخدمة العملية، وجاء في وقت متأخر جدًّا، بحيث إنه لم يؤثر كثيرًا في الجهود الحربية، ولكن بدأ استخدامه بعد ذلك في أغلب الاستعمالات العسكرية؛ نظرًا لما أثبته من تفوق في الأداء من حيث السرعة والقوة. إن أعظم ميزات المحرك النفاث بالنسبة للطائرة هو أنه يهيِّئ للطائرة نسبة عالية من القوة بالقياس إلى حجمها، مما يعوض كثيرًا مما يحدث من ضوضاء واستهلاك كبير للوقود. وثمة ميزة أخرى أنه يمكِّن الطائرات من السفر بأسرع من سرعة الصوت، وهذه قدرة متاحة الآن لكثير من الطائرات الحربية، وإن كانت الطائرة الكونكورد الإنجليزية-الفرنسية هي الوحيدة التي استخدمت هذه السرعة لنقل الركاب. ومع هذا فإن جميع طائرات الركاب الكبيرة تستخدم الآن المحركات النفاثة، وتركز الاهتمام على تطوير الطائرة الجامبو التي تتميز بقدرتها على حمل مئات عدة من الركاب في رحلات طويلة بدلًا من السرعات غير العادية. واشتركت في صنع هذه الطائرة بضع شركات كبرى، نذكر منها الشركة الأمريكية العملاقة بوينج التي انعقدت لها الريادة العالمية في هذا المجال، وتتمتع بشهرة واسعة.

وهكذا قام المحرك النفاث بدور مهم في سبيل «ترويض» النقل الجوي، بحيث أصبح الطيران ميسورًا للجميع، بل لا يمكن لأحد أن يستغني عنه في السفر عبر مسافات طويلة. ويظهر المحرك النفاث في صورة واحد من أهم التطورات التكنولوجية البارزة خلال الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من أن المحرك اختُرع قبل الحرب فإنه من غير المشكوك فيه أن ضغوط المنافسة في زمن الحرب بين القوى المتحاربة هي التي أَفْضت إلى إقراره واستخدامه بسرعة، كوحدة معيارية لتوليد قوًى للطائرات، وكانت الحرب أيضًا هي المسئولة عن تطورات أخرى في فن الطيران، خاصةً فيما يتعلق بشكل الطائرة العمودية أو الهليكوبتر، وأيضًا ابتكار «أسلحة الانتقام» المعروفة باسم في١ وفي٢ V1 & V2 التي تشبه المحرك النفاث، وكان تصوُّر الطائرة الهليكوبتر سابقًا على الحرب، وأُجريت تجارب عدة على تصميمات مختلفة؛ من ذلك تصميم معروف باسم أوتوجيرو Autogiro، أي: لطائرة ترتفع وتهبط عموديًّا، واشتمل التصميم على محرك معياري ودافع يولد حركة أمامية تجعل الجناح يتحرك حركة دورانية، وبذلك ترتفع الطائرة إلى أعلى. ولكن تطوير التصميم الحقيقي للطائرة الهليكوبتر حدث في الولايات المتحدة على يد إيجور سيكورسكي، وجاء هذا التطوير متأخرًا جدًّا، حيث لم يكن له تأثير كبير في مجريات الحرب. ويشتمل هذا التصميم على جناح دوار بقوة دفع، وله ريشتان أو أكثر، علاوة على دوار صغير للدفع الرافع عند الذيل على زاويتين قائمتين مع دوار الدفع الرافع الرئيسي، وذلك لحفظ توازن عزم الدوران، ويساعد على التحكم في الطائرة. وشاع استخدام الطائرات الهليكوبتر منذ ذلك التاريخ في الأغراض العسكرية (وذلك لقدرتها على الإقلاع والهبوط رأسيًّا، علاوة على قدرتها العالية على المناورة)، ولكنها في مجال الخدمات المدنية ظلت محدودة الاستعمال على الرغم من أنه لا غنى عنها للخدمة في مجالَي النفط والطوارئ. وهناك تقنية أخرى بديلة للإقلاع الرأسي، وهي المعروفة باسم «الوثبة النفاثة» Jumping-jet، والتي تستخدم قوة الدفع المباشرة إلى أسفل في المحرك النفاث، ولكنها تستهلك كمية كبيرة من الوقود، مما أدى إلى قَصر استعمالها على طيران قتالي من نوع خاص.
أما القنبلة الطائرة في١ V1 أو التي تُسمى باسم حشرة «ليث عفرين»، أو سباع النمل Doodle bug، وكذا الطائرة «القنبلة» الصاروخ في٢ V2؛ فقد استُخدمتا بفعالية كبيرة ضد الحلفاء قرب نهاية الحرب العالمية الثانية. وكانت الطائرة في١ في جوهرها صورة من صور الطائرة من دون طيار، والمدفوعة بتوربين نفاث. أما الطائرة في٢ فكانت شيئًا جديدًا تمامًا إلى حد كبير؛ لأنها اشتملت على جوانب من تكنولوجيا الصاروخ الذي لم يكن قد أُنتج بعد. حقًّا لقد كانت هناك مركبات صاروخية أولية، مثل السيارة أو الطائرة المدفوعتين بالصاروخ في مرحلة تجريبية، ووضعت ألمانيا تصميمهما في عشرينيات القرن العشرين، ولكن القدرة على الارتفاع مائة ميل أو أكثر ثم الهبوط فوق هدف بعيد مع رأس متفجر هو الإنجاز المهم جدًّا والجديد. ومن حسن حظ الحلفاء أن القوات الألمانية لم تتمكن من استخدام هذا السلاح بالكامل قبل أن تضع الحرب أوزارها. وحصل الأمريكيون بعد الحرب على التقنيات الخاصة بالصاروخ، والذي أصبح فيما بعد أساس برامج الفضاء لدى القوتين العُظمَيَين. وهكذا أصبح الصاروخ — باعتباره جانبًا من جوانب رحلات الطيران عبر الفضاء بقيادة الإنسان — جزءًا من تطور النقل الحديث. هذا وإن كان من الملائم أن نُرجِئ التفكير في هذا إلى حين إلقاء نظرة أكثر شمولًا على أهمية الملاحة الفضائية.
ولكن جدير بنا، في ختام عرضنا لموضوع تكنولوجيا النقل، أن نلحظ أنه كانت هناك تطورات أخرى كثيرة خلال القرن العشرين لا تزال بحاجة إلى إنجاز بعد استكمال إمكاناتها، ونذكر من بين هذه التطوراتِ الحوامةَ hover craft، وهي ماكينة تسير على الأرض والماء فوق مخدة هوائية، ورائد صناعتها في الخمسينيات سير «كريستوفر كوكيريل»، وهي من أكثر التطورات إثارة؛ ذلك أن الحوامة تولِّد مخدة هوائية تطفو فوقها وتندفع ذاتيًّا فوق سطح الأرض أو البحر. ويتميز هذا الابتكار بأن له إمكانات نظرية هائلة بالنسبة إلى المعديات والرحلات النهرية، ولكن لم يتسنَّ له بعدُ إمكانُ إزاحة الوسائل التقليدية ليحل محلها في هذا المضمار، بيد أنه تم تطبيق جزئي لهذا الابتكار في صورة المركبة المعروفة باسم «الهيدروفيل» التي صُممت بحيث تكشط سطح الماء، وهي أكثر شيوعًا. ولا تزال هناك إمكانات للاستعمال في المستقبل بحيث يمكن أن تحل هذه المركبة محل السيارة، ومن ثم تجعل مهمة صيانة الطرق البرية وطرق السيارات شيئًا عفَّى عليه الزمن. وهناك إمكانات أخرى مماثلة تُهيِّئها سيارة الحث الخطِّي linear induction، حيث يحل التأثير الكهرومغناطيسي محل المخدة الهوائية للحوامة ما يسمح لقاطرة بأن تطفو فوق قضبان، ولكن البحث في هذا لم يحقق بعدُ سوى تقدم ضئيل خلال العقدين الأخيرين.

وتظل بعد هذا حقيقةٌ مؤكدة، وهي أن تكنولوجيا النقل حققت تقدمًا هائلًا على مدى القرن العشرين. وليس من الحكمة في شيء، إزاء هذا التقدم الكبير أن نظن أن عمليتَي الابتكار والصقل قد انخفض إيقاعهما. حقًّا ثمة أسباب تبرر لنا القول بأن عملية التطور سوف تستمر وتطرد، حتى إن لم يَحنِ الأوان بعدُ لتحديد الاتجاهات المحتملة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤