الفصل التاسع

الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات

إذا كان النقل معنيًّا بحركة السلع والناس، فإن الاتصالات هي وسيلة الناس لنقل الأخبار والمعلومات والتعليمات فيما بينهم. وشهدت تكنولوجيا النقل، كما أسلفنا، تطورًا حاسمًا منذ منتصف القرن الثامن عشر. وبدأ تحديث الاتصالات في فترة متأخرة شيئًا ما، في منتصف القرن التاسع عشر، على الرغم من أن التحولات التكنولوجية كانت في كل مرحلة تحولات كاسحة ومذهلة، شأن ما حدث في مجال النقل. حقًّا كانت هناك مقدمة مهمة للتحولات الحديثة تمثلت في صورة اختراع الطباعة بأحرف متحركة في القرن الخامس عشر. وكان هذا ابتكارًا ذا أهمية كبرى في الحضارة الغربية؛ إذ أدى إلى رواج الكتب، وما لهذا من نتائج تمثلت في انتشار المعلومات الأدبية والعلمية، ولكن لم يحدث تحول ذو بال بالنسبة لجوانب الاتصالات المباشرة إلا في القرن التاسع عشر. وتحسنت عملية تنظيم الخدمات البريدية في أنحاء كثيرة من أوروبا في توافق مع تشييد طرق جيدة، واستحداث مركبات برية موثوق بها. كذلك نهضت الاتصالات العسكرية خلال الحرب النابوليونية بفضل إنشاء شبكات الإبراق بالملوحة أو السيمافور فيما بين لندن وموانئ الساحل الجنوبي (ولا يزال الاسم السائد حتى اليوم «تل الإبراق» (التلغراف) في المناطق الجنوبية، وهو اسم مشتقٌّ من عمليات الإبراق بالسيمافور). ولكن أهم التطورات اعتمدت على الفهم العلمي لطبيعة الكهرباء، وهو ما لم يحدث إلا خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وكان ابتكار التلغراف الكهربي هو أول تطبيق عملي لهذه المعارف، ثم تبعه — على التوالي — «التليفون» أو الهاتف، والراديو والتليفزيون، ثم الحاسب الإلكتروني «الكمبيوتر». وسوف نستعرض في هذا الفصل مراحل تحوُّل الاتصالات الحديثة، واضعين في الاعتبار طبيعة العلاقات التطورية المتداخلة فيما بينها، ودلالاتها المعقدة بالنسبة للحياة خلال القرن العشرين.

وسبق أن لاحظنا أن الكهرباء أصبحت مصدرًا ميسورًا لتوليد القوى في مطلع القرن التاسع عشر، ثم في فترة تالية بعد اكتشاف ميشيل فارادي للعلاقة بين الكهرباء والمغناطيسية التي أدت إلى ابتكار الدينامو. وتبيَّن إمكان إحداث انحرافات لإبرة عن طريق تمرير نبضة كهربائية في سلك — وهو استخدام آخر للعلاقة المغناطيسية الكهربية — وهو ما أدى إلى ابتكار التلغراف الكهربي. ودخل كلٌّ من دبليو إف كوك وسي هويتسون في شراكة لتطوير هذا النظام العام ١٨٣٦م، وحصلا على براءتهما الأولى في العام التالي. وسرعان ما تبنَّت شركات السكك الحديدية القومية الجديدة تلغرافهما الكهربي ذا الإبَر الحارفة؛ وسبب ذلك رغبة هذه الشركات في تحسين وسائل إعطاء الإشارات نظرًا لارتباط هذا بشكل مباشر بأمان السكك الحديدية. وعلى الرغم مما يتصف به جهاز كوك وهويتسون من بطء، فإنه كان ملائمًا لصندوق الإشارات الميكانيكي الذي كان مُستخدَمًا آنذاك. ويعتمد هذا الجهاز على شفرة معقدة؛ ولهذا قام الأمريكي صمويل مورس بوضع تصميم لشفرة فعالة تتألف من النقطة والشرطة، وصدر بشأن هذا التصميم قانون الولايات المتحدة للعام ١٨٤٣م الذي أعطى مورس صلاحية إقامة أول نظام تلغرافي هناك، وأدى بالفعل وظيفة تواصلية حيوية خلال غزو غرب أمريكا.

وفي هذه الأثناء كانت أوروبا أدركت سريعًا الأهمية التجارية للتلغراف الكهربي كوسيلة لنقل المعلومات المهمة فيما بين أسواق واسعة مستقلة بعضها عن بعض، أو بين أسواق الأوراق المالية. وكوَّن كوك وهويتسون «شركة التلغراف الكهربائي» التي كانت مسئولة عن بناء خطوط تلغراف على امتداد أربعة آلاف ميل في بريطانيا خلال ست سنوات. وفي العام ١٨٥١م بدأ أول كابل تلغرافي ممتد عبر القنال الإنجليزي يحقق الاتصال الفوري المباشر بين مجتمعات رجال الأعمال في لندن وباريس. وأصبحت جميع عواصم أوروبا خلال خمس سنوات على اتصال كامل بعضها ببعض. ولم تقتصر هنا فائدة نظام الاتصالات الجديدة على المعلومات الخاصة بالتجارة والأعمال؛ ذلك أن وكالات أنباء مثل رويتر ظهرت إلى الوجود لتستثمر هذه الإمكانات، علاوة على عديد من الصحف مثل التايمز التي كانت تتباهى باستعدادها لتبنِّي أي تقنيات جديدة؛ إذ لجأت إلى استخدام هذه التكنولوجيا لتلقِّي التقارير من مراسليها. والجدير ذكره أن أنباء حرب القرم في منتصف خمسينيات القرن كانت تُنقل فورًا بواسطة الكابل إلى لندن، كما أن حالة السخط العام بسبب سوء استعدادات القوات البريطانية لظروف الحرب أدت على الفور إلى سقوط الحكومة. وفي العام ١٨٧٠م استطاع رئيس بروسيا فون بسمارك أن يحرر برقية من ملك بروسيا، مما أثار غضب الفرنسيين، وعجَّل بالحرب الفرنسية البروسية، وهو ما كان يسعى إليه.

وأخذ نطاق التلغراف الكهربي يتسع باطراد بفضل مد كابلات عبر المحيط. وتم بنجاح، بعد إخفاقات عدة، مدُّ أول كابل بواسطة السفينة العملاقة جريت إيسترن إس إس العام ١٨٦٦م. وكانت هذه السفينة الضخمة من نواحٍ كثيرة مشكلة خطيرة بالنسبة لمن بنوها، وكذا للقائمين على تشغيلها، ولكنها أثبتت أنها السفينة المثالية الملائمة تمامًا لعملية مد الكابلات، سواء لقدرتها على حمل الكابل اللازم كله بكامل أطواله، أو لقدرتها الفائقة على المناورة. وواصلت هذه العملية عبر المحيط الهندي، بحيث لم يحل العام ١٨٧٢م حتى أصبح بإمكان عمدة لندن أن يتبادل التهاني التلغرافية مع عمدة أديلاد. وهكذا أصبحت المدن البعيدة على اتصال فوري مباشر مع عواصم العالم القديم. نعم كانت الاتصالات فِجة ولكنها أساسية، وقد اختُزلت إلى شفرات في شكل نقط وشرطات يشوبها تجزيع، ولكنها كانت فعالة بدرجة ملحوظة بحيث لم يكن يدور بخيال أحد أن العالم كبير جدًّا إلى هذا الحد. واعترفت الحكومة البريطانية بأهمية شبكة التلغراف الكهربي بحيث إنها مهَّدت لكي تعهد بها إلى مكتب البريد العام ١٨٦٨م.

وسرعان ما بدأ استثمار إمكان تسخير شبكة التلغراف لنقل الكلام على نحو مباشر. وكان الابتكار الحاسم هنا هو اكتشاف وسائل تسجيل الصوت على تيار كهربائي، وهذا هو ما فعله ألكسندر جراهام بيل العام ١٨٧٦م. وبيل هو ابن مهاجر اسكتلندي، كان يعمل في بوسطن معالجًا لمشكلات النطق والكلام، ومن ثم كان معنيًّا بالأطفال الصُّم ليعلمهم الكلام. واستخدم بيل معارفه بشأن السمعيات لوضع طريقة لنقل الكلام عبر السلك، ولكن — وكما يحدث في التاريخ دائمًا حينما تكون هناك حاجة واضحة إلى شيء ما — يظهر أن هناك كثيرين يعملون للوصول إلى الهدف ذاته. واستطاع أحدهم، وهو أليشاجراي، أن يتقدم بطلب للحصول على براءة الاختراع بعد بضع ساعات فقط من بيل. علاوة على هذا، كان مطلوبًا اختراع آخر للمكبر الصوتي «الميكروفون» الكهرومغناطيسي، والذي ابتكره دي إي هوغيس بعد ذلك بعامين ليكتمل الهاتف «التليفون» الحديث؛ ذلك لأنه من دون جهاز التكبير كان تيار الصوت الناتج عن جهاز بيل ضعيفًا جدًّا عند الاتصال عبر مسافة طويلة. وهكذا كان هذا الاختراع يمثل نجاحًا كبيرًا، وبذا تهيأت شركة بيل للهاتف لكي تصبح واحدة من أضخم المشروعات في العلم، وكان الأمريكيون متعطشين جدًّا لتطوير شبكة هاتف تعمل على نطاق البلاد باتساعها لتَفِي بأغراض اتصالات مراكز ورجال الأعمال، وأيضًا الاتصالات الشخصية، ولكن هذا المشروع نفَّذته أوروبا بحماسة أيضًا؛ ففي بريطانيا خَطَت الحكومة خطوة جادة في هذا الاتجاه؛ إذ أَوْلت المسئولية إلى مكتب البريد العام لاستكمال غالبية الشبكة الوطنية اللازمة. وبحلول العام ١٩٥٨م توافَر لدى مكتب البريد العام البريطاني حوالي ٧ ملايين هاتف، أي ما يعادل تقريبًا هاتفًا لكل سبعة أشخاص في بريطانيا، ولنا أن نقارن هذا بحوالي ٦٧ مليون هاتف في الولايات المتحدة وقتذاك، حيث كان بها هاتف لكل اثنين ونصف من السكان.

وجاءت الطفرة التالية في تطوير الاتصالات أكثر إثارة؛ ذلك لأنها أَفْضت إلى التخلي عن شبكة الأسلاك المتصلة بعضها ببعض وصولًا إلى اتصال «لا سلكي». وأفاد الاتصال اللاسلكي من بحوث قام بها علماء نظريون خلال القرن التاسع عشر، نذكر منهم بوجه خاص عالم الفيزياء الاسكتلندي جي كلارك ماكسويل، الذي اكتشف العلاقات بين الضوء والظواهر الكهرومغناطيسية في سبعينيات القرن التاسع عشر، وأدى إلى تنبؤات عن جدوى استخدامها في نقل الرسائل، وأُكدت تنبؤات ماكسويل العام ١٨٨٥م بفضل تجارب الأستاذ الألماني هيرتس الذي أنتج تيارًا كهربائيًّا داخل دائرة توالَفَت مع دائرة إرسال وإن كانتا منفصلتين. وتابع علماء آخرون هذه الأبحاث، ولكن الأمر ظل متروكًا إلى أن أتى المهندس الإيطالي جي ماركوني الذي كان يعمل في بريطانيا بالتعاون مع مكتب البريد العام، وصنع تلغرافًا لا سلكيًّا لأغراض تجارية عملية. وجاء أعظم إنجازاته إثارةً في ديسمبر العام ١٩٠١م، عندما نجح في إرسال أول إشارة لا سلكية عبر الأطلسي. وأُنشئت بعد ذلك على الفور شركة ماركوني للتلغراف اللاسلكي التي تولت مسئولية إقامة الكثير من محطات الإرسال اللاسلكي حول الساحل البريطاني، وجهزت السفن بأجهزة اللاسلكي. وكانت فجيعة غرق السفينة تيتانيك العام ١٩١٢م مناسبة مبكرة أكدت جدوى استعمال جهاز اللاسلكي للحصول على إغاثة عاجلة للسفينة في نكبتها، وأدى هذا الحدث إلى تركيز الانتباه على قيمة هذا النوع من الاتصالات في عرض البحر.

وكانت عمليات النقل باللاسلكي في الفترة الباكرة عمليات مشفرة، مثلها مثل التلغراف، وكانت الإشارات ضعيفة. وتهيأ إمكان تحقيق مزيد من التقدم بفضل الصمام الثرميوني (أو الأنبوب حسب الاستعمال الأمريكي)؛ ذلك أن استحداث هذا الصمام هيَّأ إمكان تكبير الإشارات وتصحيحها، بحيث بات بالإمكان نقل الأصوات إلى الأذن واضحة وعالية عن طريق جهاز استقبال هاتفي معدل، وكان الصمام الثرميوني منتجًا آخر يمثل ثمرة التفاعل الوثيق بين البحث العلمي والخبرة العملية، وهذا الصمام مشتق من الفتيلة المتوهجة للمصباح الكهربائي الذي اخترعه توماس إديسون وجوزيف سوان العام ١٨٨١م. وأدى البحث التجريبي المكثف بغية اكتشاف أفضل فتيلة إلى الملاحظة التي رصدها إديسون، وهي أنه حين تشتعل الفتيلة لساعات طويلة داخل فراغ المصباح الكهربائي يحدث نوع من السواد داخل جدران المصباح. وانتهى البحث العلمي، عن صواب، إلى أن عزا هذه الظاهرة المسماة «ظاهرة إديسون» إلى تيار عشوائي من الإلكترونات الطليقة المنطلقة من الفتيلة المتوهجة (الكاثود أو القطب السالب) إلى داخل المصباح، واكتشف بعد ذلك أن هذا التيار الضعيف يمكن تسخيره خلال أسطوانة معدنية موجودة داخل المصباح (الثنائي) عندما تُضبط بمساعدة صفيحة أخرى (إذ يكون المصباح في هذه الحالة ثلاثيًّا)، وهنا يصبح بالإمكان تلقي رسائل صادرة من مسافات بعيدة، وتكبيرها لتغدو مثل الأصوات البشرية أو الموسيقية التي نقلت عنها أصلًا. والجدير ذكره أن الفضل في هذه الاختراعات كان موضوع جدال ومنافسة حادة بين جي إيه فليمنج ولي دو فورست، ولكن يمكن القول من وجهة نظر تاريخ التكنولوجيا إن ما حدث هو مثال آخر لميل العقول المبتكرة إلى التلاقي حول مشكلات بذاتها. وعلى أي حال كانت ثمرة هذا كله هي إدخال نظام الإذاعة كوسيلة عامة للاتصال الجماهيري في عشرينيات القرن العشرين. وبدأ الإنتاج الكبير لأجهزة اللاسلكي المجهَّزة بصمامات ثرميونية، والتي تستمد التيار من بطارية أو من مصادر توصيل رئيسية ومُبيَّتة داخل صندوق مغطًّى بمادة الراتنج الصناعي «الباكلايت». وجاء ذلك تلبيةً لمتطلبات سوق تتوسع سريعًا. وسرعان ما أصبح للراديو دور مهم في حياة العامة من الناس، فضلًا عن نقل الأنباء والمعلومات، علاوة على أسباب التسلية.

ولكن هذا الخط البحثي ذاته الذي فسر ظاهرة إديسون هو الذي قاد في النهاية إلى تطوير أنبوب أشعة الكاثود، ومن ثم إلى التليفزيون. لقد ظل علماء كثيرون خلال العقود الأولى من القرن العشرين غير متصورين تلك القفزة من استنساخ الصوت لا سلكيًّا إلى نقل الصورة البصرية، ولكن في العام ١٩٢٦م أثبت المخترع الاسكتلندي جون بيرد أن هذا أمر ممكن التطبيق عمليًّا، واستخدم بيرد طريقة ميكانيكية لمسح الموضوع المطلوب نقله عبر سلسلة من الثقوب في قرص دوار. حقًّا كانت طريقة بطيئة ولكنها قابلة للتشغيل، شريطة ألا يتحرك الموضوع حركة سريعة جدًّا. واستُخدم بشكل جادٍّ لخدمات الإرسال العام في بريطانيا. ولكن لم يكد بيرد يثبت جدوى الإرسال البصري حتى بدأت شركة ماركوني في ألمانيا عملية تطوير طريقة أخرى أكثر فعالية للمسح الإلكتروني الذي سرعان ما حل محل نظام بيرد، وطبَّقته على خدمات التليفزيون التي بدأت العمل في أوروبا وأمريكا خلال ثلاثينيات القرن العشرين. ولم يتحقق تقدم كبير؛ نظرًا لأن الحرب العالمية الثانية تسببت في توقف كثير من الخدمات المنتظمة، ولم يُسهِم التليفزيون بشيء في الحرب. ولكن بمجرد أن وضعت الحرب أوزارها حتى استعاد المشروع نشاطه، واستحوذ على اهتمام الناس في حياتهم المنزلية في غرب أوروبا وشمال أمريكا. وشهدت تكنولوجيا التليفزيون تحسنًا متصلًا مع تقديم صور أكثر دقة ووضوحًا. ثم بدأ استخدام إرسال الصور الملونة، واستخدام الاتصال بواسطة الأقمار الصناعية، وبذا أصبح كل جزء في العالم داخل نطاق الاتصال البصري المباشر. وأثبت التليفزيون أنه ابتكار قابل لاستعمالات عدة للغاية؛ لِما له من تطبيقات واسعة النطاق في المجالات العلمية والطبية والتعليمية والصناعية، علاوة على أهميته الطاغية كوسيلة للاتصال الجماهيري.

وإن هذا التعاون المعلوماتي بين العلم والتقانة — الذي أدى إلى إنتاج الصمام الثرميوني وأنبوب أشعة الكاثود — أدى أيضًا إلى إنتاج الرادار والترانزستور والكمبيوتر الإلكتروني. والرادار في جوهره تقنية خاصة بموجات اللاسلكي الارتدادية، المرتدة عن موضوع ما بهدف كشف الإشارة العائدة، ومن ثم يحدد موقع هذا الشيء أو الموضوع. وتطور الرادار أول ما تطور بنجاح كبير كوسيلة لتسجيل موقع الطائرة خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن سرعان ما فرض نفسه كأداة ملاحية لا غنى عنها. وجرى تعديله ليكون أداة رسم خرائط خاصة بالنسبة للأماكن التي لا يمكن استبيانها بغير هذه الوسيلة، مثال ذلك المواقع على أسطح الكواكب، مثل كوكب الزهرة الذي تغطيه السحب دائمًا.

وأصبح الكمبيوتر الإلكتروني من أهم اختراعات القرن العشرين وأكثرها تميزًا وإمكاناتٍ واعدةً، ولكن كانت ثمة سوابق مهمة له خلال القرن التاسع عشر، وربما قبل ذلك. والكمبيوتر في جوهره، وفي بداياته الأولى هو آلة حاسبة لأداء عمليات حسابية، مثل الجمع، ونعرف أنه كانت هناك وسائل قديمة لذلك، مثل لوح الحساب أو المِعداد، والذي كان منتشرًا قديمًا مع الأطفال لأداء عمليات جمع وطرح. والجدير ذكره أن بعض فلاسفة الرياضيات خلال القرن السابع عشر، من أمثال نابيير وباسكال، وضعوا تصورات عن وسائل مساعدة لعملية الحساب. وفي خلال القرن التاسع عشر استطاع أستاذ الرياضيات في كمبريدج شارلس باباج الذي اشتهر بذكائه الوقَّاد وأدواره الغريبة أن يبتكر ما أسماه «آلة تحديد الفارق» و«الآلة التحليلية» لأداء عمليات رياضية معقدة. ولعل الصواب أن نقول إنه شرع في إنشائهما؛ ذلك لأن موارده استُنفدت في الحالتين قبل أن يكتمل صنع الآلتين، وإن كان قد حقق تقدمًا مهمًّا يؤكد فعالية العمليات الميكانيكية. وتمثلت المشكلة مع هذه الماكينات في أنها تعتمد على سلاسل من التروس شديدة التعقيد، بحيث يتعين صناعة كلٍّ منها بدرجة عالية من الدقة، علاوة على التزام الحرص والحذر في تجميعها. وأوضح باباج أن جُملًا كثيرة يمكن ترجمتها إلى لغة الكمبيوتر، ومعالجتها على أساس الحساب الميكانيكي، ولكن تحويل هذا الإمكان النظري إلى واقع يستلزم تكنولوجيا مغايرة وأكثر سرعة.

اعترف باباج بأهمية أن يكون قادرًا على تخزين المعلومات والبرامج في الماكينة، ومن ثم أعدَّ صفوفًا من البطاقات المُخرَّمة على نحو ما يحدث في نول الجاكار وفقًا للغرض المقصود من آلة التحليل. وطبَّق من بعده هيرمان هوليرث نظامًا مماثلًا لتخزين البيانات، وذلك لتسجيل الإحصاء القومي الأمريكي للعام ١٨٩٠م، وقدَّم لهذا الغرض طرازًا جديدًا لماكينة جدولة؛ لكي تستخدمها السلطات الرسمية والمسئولون الإداريون في مجال الأعمال. وظهر بعد ذلك ما ساعد كثيرًا على تخزين المعلومات، ونعني بذلك نظام المنطق الرياضي الذي وضعه عالم الرياضيات البريطاني جورج بول، والذي عبَّر عن القضايا المنطقية في صورة متوالية من الأعداد الثنائية، بمعنى أنه استخدم فقط صفرًا وواحدًا. وطبَّق هذا النظامَ كلود شانون في معامل تليفون بيل العام ١٩٣٩م مُستخدِمًا حالتَي المكوِّن الإلكتروني؛ إما «شغالًا» أو «مُلغًى» تعبيرًا عن القيمتين. وهكذا يتهيأ أساس دائم لمنطق الكمبيوتر بحيث يستخدم فترات تناوب الهاتف أو غيره من التجهيزات الإلكترونية. والجدير ذكره أن العلماء الذين عكفوا على عمل هذه الأجهزة، من أمثال آلان إم تورنج بجامعة مانشستر كانوا في مسيس الحاجة إليها خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك لما تتميز به من مهارة في حل شفرات العدو المعقَّدة، واستطاعوا بذلك أن يطوروا ماكينات شديدة التعقيد لتساهم في هذه العملية. وكان اسم واحدة من هذه الماكينات «كولوسوس» أو الهولة، واستخدمت ١٥٠٠ صمام ثرميوني. وبدأ تشغيلها العام ١٩٤٣م، وأثبتت أنها أول كمبيوتر رقمي ذاتي التشغيل ذي كفاءة في تشغيله. واستطاع العلماء الأمريكيون في الوقت نفسه أن يطوروا حاسوبًا ثنائيًّا في معامل بيل يستخدم مرحلات الهاتف. ونذكر أيضًا أنه في هذا الوقت ذاته كان هناك فريق في المؤسسة الدولية لماكينات العمال التجارية (التي أسسها هوليرث العام ١٨٩٠م، وكانت تعمل بالتجارة أساسًا باسم شبكة هوليرث للجدولة الكهربائية، ثم عُرفت بعد ذلك باسم آي بي إم IBM). وأيضًا هارولد جي أيتكين بجامعة هارفارد. وكان هؤلاء يعملون في الاتجاه نفسه، واستطاعوا العام ١٩٤٤م أن يُكمِلوا الحاسوب تلقائي التسلسل المنضبط Automatic Sequence Controlled Calculator ويحمل اسم Mark I.

وحدثت فورة من النشاط عقب الحرب في كلٍّ من أمريكا وبريطانيا؛ إذ اكتشف العلماء إمكانات تطوير هذه الماكينات مع دمج برامج مُعبَّأة إلكترونيًّا. واستخدموا جميعًا الصمامات الثرميونية، والتي كانت بالضرورة كبيرة الحجم، ولكن بعد العام ١٩٤٨م بدأ في الظهور جيل ثانٍ من الكمبيوتر الإلكتروني يعتمد في التشغيل على الترانزستور وليس على الصمامات. وأول من حدد خلال هذا العام ترانزستور التماسِّ-النُّقْطي هم جون باردين ووالتر براتين ووليام شوكلي، وجميعهم في معامل بيل. وجاء اكتشافهم ثمرةً لعملهم على أجهزة إلكترونية ذات الحالة الصلبة، وأعطى هذا دفعة هائلة لعملية تصميم الكمبيوتر. وتبيَّن أن الترانزستورات لا يمكنها فقط أداء جميع وظائف الثرميوني، بل إنها تتميز — علاوةً على هذا — بقوة وجودة الأداء، فضلًا عن العمل داخل نطاق أصغر حجمًا. وأصبح بالإمكان على الفور بناء أجهزة كمبيوتر ذات حجم معقول، كما تزايدت إمكانات استعمالها سريعًا جدًّا. وفي خمسينيات القرن أصبحت الأجهزة ذات النطاق الكبير متاحة لمراكز الأعمال والمكاتب، ولكنها كانت باهظة الثمن جدًّا، فضلًا عن تحكُّم الصناع في طريقة استخدامها بناءً على إيجار الماكينة لفترة زمنية محددة، وأن يكون تلقيم أو تغذية الماكينة على بطاقاتهم المُخرَّمة أو شريط من الورق المُخرَّم.

وجاء الفتح العظيم الثاني الذي دشَّن الجيل الثالث من أجهزة الكمبيوتر مع استحداث دائرة التكامل التي تسمح بأداء الأعمال التي كانت تستلزم حتى ذلك الحين معدات كثيرة ضخمة للغاية، بواسطة قطعة صغيرة من أشباه الموصلات — الشريحة الرقيقة — مع صف من الترانزستورات الدقيقة مطبوعة أو محفورة عليها. وأصبحت هذه الكمبيوترات أسرع أيضًا في الأداء مع أنها أصغر كثيرًا في الحجم. وحصل الأمريكي جي إس كيلبي في العام ١٩٥٩م على أول براءة اختراع عن دائرة التكامل. وسرعان ما طبَّقت هذا الاختراعَ الشركاتُ المسئولة عن صناعة أجهزة الكمبيوتر لصناعة أجهزة مكتبية لاستخدامها في المكاتب والمنازل. وأصبح الكمبيوتر واحدًا من أجهزة الاستعمال في الحياة العامة، سواء للعمل أو التسلية. وسرعان ما أصبح الكمبيوتر الشخصي PC الحديث جزءًا مهمًّا من بين مستلزمات الحياة، وأصبحت صناعته من أهم صناعات الحقبة الأخيرة في القرن العشرين. وأدت السهولة الكبيرة في الاتصال ببنوك المعلومات القريبة والبعيدة إلى ميلاد مفهوم جديد هو «تكنولوجيا المعلومات»، والذي يصف نظامًا كاملًا يهيئ لأي امرئ من خلال الكمبيوتر الشخصي أن يتعامل مع أجهزة ضخمة تحتوي على معلومات غنية ومتنوعة. مثال ذلك أنه في بعض البلدان الصناعية المتقدمة تُمثِّل هذه التسهيلات إطارًا واسعًا من الخدمات (صفقات بنوك، وحجز تذاكر الطيران، وطلبات شراء … إلخ)، بحيث تُنجز فورًا على شبكة الاتصالات اللاسلكية عن طريق الكمبيوتر الشخصي. وليس ثمة ما يدعونا إلى الشك في أن مثل هذه الخدمات ستصبح أكثر انتشارًا ويسرًا خلال العقد التالي، على الرغم من استخدام هذه الشبكة في أعمال أخرى محظورة.

والملاحَظ في سعينا لبيان تحول الاتصالات الحديثة من خلال استخدامات الكهرباء أننا تتبعنا الخطوط الرئيسية للتطور ابتداءً من التلغراف الكهربي وحتى الكمبيوتر، ولكن ثمة جوانب أخرى من التحول تستحق الذكر لما لها من إسهامات مهمة لتيسير الاتصالات بصورة كبيرة على نحو ما نفيد بها اليوم. ونذكر من بين هذه التسهيلات تسجيل الصوت والصورة؛ إذ تطور بفضل معرفتنا بعلم الكهرباء، ولكن ثمة تسهيلات أخرى، مثل التصوير الضوئي، ما كان له أن يحدث من دون استخدام الكهرباء. وكان المخترع صاحب الإنتاج الغزير توماس ألفا إديسون أول من وضع تصميمًا لطريقة تسجيل الصوت. وسجل براءة اختراعه الحاكي أو الجراموفون العام ١٨٧٧م، أي قبل اختراعه المصباح الكهربائي بأربع سنوات، عندما اكتشف أن بالإمكان تسجيل الأصوات عن طريق استخدام مكبِّر صوتي بحيث يذبذب إبرة فتحفر خدوشًا على سطح طبلة فوقها رقيقة من مادة الطَّفْل، ويمكن استرجاع الصوت عن طريق تحريك إبرة في حركة سريعة عبر هذه الخدوش فتلتقط ذبذباتها لتنتقل إلى مكبر للصوت. وبدا هذا اكتشافًا مذهلًا غير مسبوق. وتصوَّر إديسون أن تطبيقاته ستكون أساسًا في مجال الأعمال والتجارة، وكان ذلك قبل اكتشاف الإمكانات الكبيرة للجراموفون، كما أصبح اسمه معروفًا بعد ذلك، ولكن سرعان ما شاع على نطاق كثيف كوسيلة لتسجيل جميع أنواع الموسيقى للترفيه في أوقات الفراغ. وطرأت عمليات تحسُّن كثيرة ومستمرة على هذا الجهاز حتى وصل إلى الجراموفون المعروف باسم «لاقط الإرسال» أو اﻟ «بيك أب» رفيع المستوى، وكذلك القرص المُدمَج أو السي دي المستخدم اليوم، ولكن المبادئ الأساسية لها جميعها هي ذات المبادئ التي وضعها إديسون على الرغم من أننا تخلينا تمامًا عن طريقته القديمة للتسجيل فوق سطح طبلة.

والمسجل هو جهاز سمعي أكثر منه جهازًا كهرومغناطيسيًّا، ولكن الكهرباء أصبحت ملحقًا ذا قيمة كبرى لتوفير آلية الحركة وتحسين نوعية الاسترجاع. ونعرف من ناحية أخرى أن الشريط المغناطيسي وثيق الارتباط بتطور القوى الكهربائية والإلكترونيات مثلما هي الحال بالنسبة لشريط التسجيل المغناطيسي الذي جاء من بعده. واختَرَع في بولسين العام ١٨٨٩م طريقة لاستخدام تيار كهربائي ناتج عن الصوت لمغنطة شريط من الصلب، وأطلق عليه اسم التلغرافون Telegraphone، ولكن هذا الاختراع لم يحقق على مدى عقود عدة أي تقدم ملحوظ في سوق يهيمن عليها الجراموفون. ولم تبدأ الاستفادة بهذه الفكرة تجاريًّا في المسجل الحديث إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وحققت منذ ذلك التاريخ تقدمًا كبيرًا، وأصبحت لها تطبيقات جديدة وكثيرة في مجال الصناعة والعلوم والتعليم والاتصالات، علاوة على الاستعمالات العدة لعلبة الشرائط التي لها دور كبير في سوق تسجيل الموسيقى للاستمتاع في أوقات الفراغ. وتمت أيضًا ملاءمة تقنيات التسجيل المغناطيسي للمعلومات للعمل في صورة قرص، والذي أصبح قَسَمة عامة لتكنولوجيا المعلومات المعاصرة.
وثمة تكنولوجيا أخرى، وإن كانت تستخدم مبادئ أساسية جديدة إلى حد كبير، وهي تكنولوجيا مستمدة من الضوء كحامل لتوصيل المعلومات. والمعروف أن كلارك ماكسويل أثبت أن هناك علاقة وثيقة بين الضوء والكهرومغناطيسية. وهيأ هذا الاكتشاف إمكان استخدام الضوء بديلًا من الإشارات الكهرومغناطيسية. وأُجريت بحوث على مدى العقود التالية للحرب العالمية الثانية تستهدف تكوين «ضوء متلاحم»، وذلك عن طريق موجات الضوء التي تنبعث عفويًّا، بحيث تتركز في صورة شريط أو حزمة واحدة، وهذا هو ما أدى إلى إنتاج الليزر laser (تضخيم الضوء عن طريق حفز انبعاث الإشعاع Light Amplification by Stimulated Emission of Radiation)، بما له من نتائج عملية واسعة النطاق؛ ذلك أن له استعمالات عسكرية في تكنولوجيا «حرب النجوم»، وفي الطب في مجال الجراحة الباطنية الدقيقة. وعلاوة على هذا بدأ استعمال الليزر في مجالات عدة تتعلق بتكنولوجيا الاتصالات؛ ذلك أن الليزر يوفر، من بين أشياء كثيرة، وسائل سريعة ورائعة لنقل المعلومات من أقراص الكمبيوتر في صورة مطبوع. ونعرف الآن أن تسجيلات الأقراص المدمجة التي نستمتع بموسيقاها في وقت الفراغ إنما تعتمد على تكنولوجيا الليزر.
وبدأ التصوير الفوتوغرافي منذ مطلع القرن التاسع عشر بعد أن أدرك الإنسان أن الضوء يسبب تفاعلات كيميائية في بعض المواد. وبدأت البحوث لتحديد أكثر المواد حساسية للضوء، ولمعرفة طريقة لتثبيت الصورة عند سقوط ضوء مناسب عليها. واستطاع عالم الطبيعة الفرنسي نيبس Niepce أن يلتقط أول صورة فوتوغرافية واضحة العام ١٨٢٦م مستخدمًا لوحة من مادة البيوتر Pewter (سبيكة من القصدير والرصاص) مغطاة بمادة البيتومين، وعرَّضها لضوء النهار يومًا كاملًا. ومضى مساعده داغير بالتجربة شوطًا أبعد مستعينًا بأسلوب معروف باسمه «التصوير الدغري»، واستخدم فيه لوحًا من النحاس المفضَّض، وأنتج صورًا شديدة الوضوح، ولكن لم يكن بالإمكان إنتاج أكثر من طبعة واحدة، ولا يمكن استنساخها. وكان في هذه الأثناء رجل إنجليزي يُدعى فوكس تالبوت يُجري تجارب على ورق مُغطًّى بمادة كلوريد الفضة، وأنتجت هذه الطريقة صورة سالبة، والتي يمكن أن نستخرج منها أي عدد من الصور الموجبة. وكانت أول صورة فوتوغرافية هي صورة منظر من نافذة بيته. وحصل على براءة اختراعه العام ١٨٤١م.

وكانت المهارات في مجال التصوير الضوئي (الفوتوغرافي) محدودة أول الأمر؛ وذلك بسبب تعقد العمليات وبطء المعدات؛ إذ كانت عملية تظهير الفيلم، وهي عملية حاسمة، يتعين إنجازها فورًا عقب تعريضه للضوء، كما تستلزم معالجة «رطبة» بعديد من السوائل، ولكن ابتكار تقنية «اللوح الجاف» أدى إلى تبسيط العملية؛ إذ لم تعد هناك حاجة لحمل غرفة معتمة متحركة ومعدات تظهير. وهكذا خطا التصوير الضوئي خطوات مهمة على الطريق ليصبح وسيلة شعبية للاتصال والترفيه. وحدثت تطورات مقابلة في حساسية طبقة الفيلم الحساسة للضوء، وكذلك في تصميم الكاميرا، واستخدام مادة السيلولويد البلاستيكية الجديدة كمادة أساسية لصناعة أفلام التصوير. وأدى هذا على يد الأمريكي جورج إيستمان إلى ابتكار الكاميرا المعروفة باسم كوداك العام ١٨٨٨م، وهكذا أصبح التصوير الضوئي ميسورًا لكل إنسان بأبسط الموارد المالية. ويجري تقطيع مادة السيلولويد إلى شرائح مع جعْلها حساسة للضوء، ثم لف الشريط في بكرات توضع داخل الكاميرا، وهنا يلتقط صاحب الكاميرا ما يشاء من الصور ليعود بآلته إلى ورشة التحميض لتظهير وطباعة الصور، وتركيب فيلم جديد فيها.

وهكذا انتشر التصوير الضوئي سريعًا منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وساعد على هذا صناعة آلات تصوير أفضل، وأفلام أكثر حساسية، واستحداث تقنيات رخيصة ودقيقة لاستنساخ الصور الملونة. وظهرت للتصوير الضوئي استعمالات كثيرة جدًّا، ونادرًا ما تكتمل الآن مراسم حفل زفاف أو عطلات الأسبوع للعائلات من دون تسجيل أحداثها بالصور الفوتوغرافية. وشهد التصوير الضوئي على المستوى المهني تقدمًا كبيرًا لما يقدمه من إسهامات متميزة في مجال الطب وفروع علمية أخرى، وكذلك التقنيات الصناعية، وفي الحرب. ووَجَد التصوير من حيث صلته الوثيقة والمباشرة بوسائل الاتصال مجالات واسعة لاستعماله كوسيلة لتصوير الصحف وغيرها من المطبوعات. وبدأ إصدار صحيفة ديلي جرافيك في يناير ١٨٩٠م، وهي أول صحيفة بريطانية مصورة على نحو شبه كامل. وبدأ استخدام عمليات مختلفة لاستنساخ الصور الفوتوغرافية، وأصبحت صور الأنباء أو الأنباء المصورة أسلوبًا عاديًّا لإضفاء مصداقية بصرية على المعلومات.

واستخدمت تكنولوجيات أخرى الكاميرا بنجاح كبير، خاصةً في مجالَي السينما والتليفزيون، وأصبح من المسلَّم به الآن أن التليفزيون جزء من تطور الاتصالات الكهربائية، ولكن الجدير ملاحظته أن هذا ما كان له أن يحدث لولا التحسينات السابقة في تكنولوجيا الكاميرا، وبخاصة كاميرا الأفلام السينمائية. والمعروف أن وليام فرايس جرين من بريستول أجرى في ثمانينيات القرن التاسع عشر تجارب على كاميرا السينما، ولكن الفضل في الوصول إلى اختراع ناجح يرجع إلى العالم الفرنسي ماري Marey، الذي صنع العام ١٨٨٢م كاميرا للسينما مُستخدِمًا ورق تصوير فوتوغرافي، ومصراعًا أو غطاء يحجب الضوء عن الفيلم في أثناء حركته. واستطاع أن يلتقط بهذه الكاميرا اثنتي عشرة لقطة في الثانية. وكان إديسون نشطًا هنا أيضًا كعهده في مجالات الابتكارات الأخرى في نهاية القرن التاسع عشر، وابتكر الفيلم المصنوع من السيلولويد مقاس ٣٥مم، الذي به ثقوب وعجلات مُسنَّنة لضبط حركة الفيلم. وافتتح إديسون دار تسجيل الحركة في برودواي العام ١٨٩٤م، ولكن معدات وتجهيزات الدار كانت سيئة غير ملائمة؛ إذ لم يكن باستطاعة أكثر من شخص واحد أن يشاهد الأداء. وهكذا يعود الفضل مرة أخرى، بالنسبة لأول عرض، إلى فرنسا حيث استطاع الأَخَوان لوميير افتتاح سينما في بدروم مقهى باريس العام ١٨٩٥م. وسرعان ما قُلِّد إنجازهما هذا في أمريكا وبريطانيا.

وحظيت السينما بشعبية لا مثيل لها خلال النصف الأول من القرن العشرين، وتطورت سريعًا مع تقديم عروض صغيرة لأفلام قصيرة؛ إذ كان هذا هو المتاح آنذاك، وصولًا إلى عرض «الملاحم» والمسلسلات الكبرى التي يمتد عرضها ساعات عدة أمام جمهور واسع. وكانت «العروض السينمائية» جميعها على مدى العقود الثلاثة الأولى عروضًا صامتة وإن صاحبتها أحيانًا بعض المؤثرات الموسيقية في صورة عازف للبيانو يعزف بشخصه، أو مؤثرات موسيقية غير مرئية. وبدأت في الثلاثينيات من القرن العشرين أول الأفلام السينمائية الناطقة؛ إذ كان يُسجل مدرج التسجيل الصوتي على جانب الفيلم ليتحول إلى صوت بواسطة خلية كهروضوئية وصمامات ثرميونية، وبعد ذلك مباشرةً بدأ استخدام الفيلم الملون في التسجيل السينمائي بديلًا من الفيلم الأبيض والأسود، وأدت هذه التطورات إلى أن زادت قبضة السينما إحكامًا في الهيمنة على الخيال العام، وشجعت على قيام صناعة ضخمة للسينما في هوليوود وكاليفورنيا وغيرهما، كما ظهر معها نظام «نجوم السينما» الذي حظي بفضله كبار الممثلين على شهرة شعبية تطبق الآفاق. والملاحظ أنه خلال الوضع الدولي الحرج في ثلاثينيات وأربعينيات القرن قدمت السينما خدمة عظمى فيما يتعلق بالأنباء والمعلومات عن طريق ما يُعرف باسم الشريط الإخباري، والأفلام التسجيلية، واستُخدمت السينما على نطاق واسع كأداة دعاية «بروباجندا»، وأصبحت السينما — بمعنًى ما — أول وسائل اتصال جماهيرية حديثة قبل الراديو.

وأدى الانتشار السريع للتليفزيون منذ الحرب العالمية الثانية إلى حدوث انكماش كبير لأثر السينما؛ إذ تغيرت العادات الاجتماعية تغيرًا مفاجئًا وحادًّا بعد أن أصبح التليفزيون يقدم جميع الخدمات التي كانت تقدمها في السابق دور عرض السينما في الأحياء المحلية، ولم يستمر سوى دور السينما في المدن الكبرى، وإن اضطُرت هي الأخرى إلى إدخال تعديلات في بعض أنشطتها. وتوارت شرائط الأخبار، وبدأ نظام عرض برامج سينمائية من فيلمين كبيرين، علاوة على عدد من الحيل التكنولوجية المختلفة، مثل الشاشات العريضة «السينما سكوب» لتأكيد التميز على شاشات التليفزيون. ولا تزال صناعة الأفلام واسعة النطاق؛ إذ تُنتَج بكميات كبيرة، ولكنها بدأت تعتمد جزئيًّا على التليفزيون التماسًا لأوسع سوق ممكنة. هذا علاوة على أن النفقات المالية الضخمة التي تستلزمها أدت إلى تركز إنتاج السينما في أيدي عدد محدود جدًّا من الشركات الكبرى، ولكن العروض السينمائية العامة ما فتئت تحظى بشعبية كبيرة في الهند والصين. وتُعتبر السينما هناك وسيلة مهمة من وسائل الاتصال الجماهيري على الرغم من انحسار نفوذها في بلدان الغرب.

أخيرًا، ونحن نختتم هذا العرض العام لمظاهر التحول في تكنولوجيا الاتصالات منذ مطلع القرن التاسع عشر، يجدر بنا أن نعود إلى حيث بدأنا لنتأمل التغيرات التي طرأت على أقدم تقنيات الاتصال الحديثة، ونعني بها عالم الطباعة. حدث عمليًّا تقدم طفيف في عملية الطباعة ذاتها على مدى القرون الثلاثة بعد نشر أول كتاب مطبوع بحروف متحركة، وهو الكتاب المقدس الذي طبعه جوهان جوتنبرج، وأكمَلَه في بلدة مينز العام ١٤٥٦م. والملاحظ أن نجاح جوتنبرج مُستمَد من قدرته على الجمع بين عدد من التقنيات الموجودة سابقةً عليه؛ الطباعة الخشبية التي طُوِّرت لاستخدامها في عمليات صناعة النبيذ، وصبُّ الأحرف الذي تم وفقًا لنماذج خاصة بتقنيات سبك المعادن، وهي تقنية راسخة، ثم الحبر المصنوع من مادة زيتية القاعدة ونستخدمه في الرسم. وأخيرًا الورق المصنوع من عجينة لُباب الخِرَق البالية، والذي أصبح متاحًا في غرب أوروبا آنذاك منذ فترة وجيزة، ولكن استمرار اختراعه يمثل شيئًا لافتًا للأنظار ويعكس حجم إنجازه. لقد غمر أوروبا طوفان من الكتب من جميع الأشكال والأحجام تتناول كل الموضوعات التي يتصورها العقل. وأمكَنَ بفضل هذه الوسيلة تواصُلُ حجم هائل من المعلومات بين الناس، سواء على مستوى الأفراد أو من أنشطة جماعية.

وتزايد نطاق الكلمة المطبوعة أكثر فأكثر خلال القرن الثامن عشر مع تزايد انتشار الصحف والمجلات، علاوة على اطراد اتساع نطاق عادات القراءة على مدى القرن التاسع عشر مقترنًا بتطور التعليم الابتدائي والمؤسسات الديمقراطية، وتأسيس قاعات للقراءة في المكتبات العامة، واستلزم هذا التوسع تقدمًا في تكنولوجيا الطباعة، وهو ما تحقق على سلسلة من المراحل خلال القرن التاسع عشر. وجاءت «أول خطوة» في اتجاه مكننة الطباعة العام ١٨١٤م، وقتما طبقت صحيفة التايمز طريقة فريدريك كوينج (أسطوانة التشكيل بالكبس)، وهذه عبارة عن ماكينة طبع تتحكم في قوة دفع البخار الواصل إلى فرشة أحرف ترددية بحيث تُنتِج صحائف مطبوعة بمعدل ١١٠٠ في الساعة، وهو ما يعادل أربعة أضعاف ناتج الطباعة اليدوية. وجاءت «الخطوة الثانية» وهي التحول إلى الحركة الدورانية في الطباعة بما يسمح للمطبعة بالدوران في حركة مستمرة وليست متقطعة. وأنتج الأمريكي آر إم هو أول مطبعة دوارة تعمل بصورة مُرضية العام ١٨٤٤م. وتميزت إحدى ماكيناته التي ركبتها صحيفة التايمز العام ١٨٥٦م بالقدرة على طبع ٢٠ ألف نسخة في الساعة. وجاءت بعد ذلك خطوة أبعد مدًى، وهي استخدام بكرة الورق التي تدور في حركة مستمرة، وأدى هذا إلى استحداث ماكينات الطبع الأوتوماتيكية بالكامل. وأول من أنجزها هو دبليو يولوك في أمريكا في ستينيات القرن التاسع عشر، ثم الماكينة الدوارة التي أنجزها والتر، وأدخلت عليها صحيفة التايمز تحسينات لتبلغ حدًّا كبيرًا من الكمال.

ومع التحولات التي طرأت على ماكينات الطبع حدثت تطورات في قطاعات أخرى خاصة بعملية الطباعة، مثل عملية صب أحرف الطباعة وتنضيدها. وأصبحت هذه عملية آلية بالكامل بحلول العام ١٨٨٤م، وذلك مع اكتشاف ماكينة «اللينوتيب»؛ أي ماكينة تنضيد وسبك أحرف الصف بأكمله. وأخذت هذه الماكينة اسمها من واقع أن قوالب الأحرف تُجمع آليًّا بواسطة لوحة مفاتيح، وصب كل سطر من الأحرف في قطعة واحدة من المعدن المنصهر، معنى هذا أنه لم تعد هناك حاجة إلى الكدح من أجل جمع الأحرف يدويًّا، ثم إعادة توزيعها وإعادتها إلى أماكنها بعد الانتهاء من عملية الطبع؛ إذ يكفي الآن صهر الأحرف بعد استخدامها.

وأصبحت عملية التحكم عن طريق لوحة المفاتيح أمرًا عاديًّا مألوفًا. وعزَّز هذه العمليةَ كثيرًا اختراعُ آلة كتابة جديدة على يد الطَّباع الأمريكي سي إل شولس، وصنعت شركة رمنجتون العام ١٨٧٣م أول آلة كاتبة قادرة على تحمُّل الخدمة الشاقة، وسرعان ما استخدمتها مؤسسات الأعمال في الوقت الذي أخذت تتزايد فيه أحجام المشروعات الصناعية، علاوة على أن الحاجة إلى تسجيلات دقيقة جعلت من الآلة الكاتبة أداة خدمة عالية القيمة للغاية. وهكذا استطاعت الآلة الكاتبة، وكذا ماكينة الجدولة، وآلة تسجيل النقد والهاتف أن تُحدِث ثورة في مجال الأعمال المكتبية مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ولعل أعظم دلالة اجتماعية لهذه الثورة أنها عجَّلت بخروج المرأة للعمل وتدفُّقها على أعمال السكرتارية. والجدير ذكره أن إحصاء العام ١٨٨١م سجَّل وجود ٧ آلاف امرأة يعملن في الأعمال الكتابية في إنجلترا وويلز. ثم ارتفع العدد بحلول العام ١٩٠٠م إلى ١٤٦ ألفًا، ولكن — وعلى الرغم من ذلك — كانت بريطانيا متخلفة عن أمريكا في هذا الصدد. وهكذا تهيأت فرص العمل المهني للمرأة من خلال الآلة الكاتبة، وهو ما أدى بالمرأة إلى أن يكون لها دور مهم في حركة المجتمع من أجل المساواة بين الجنسين.

وفي القرن العشرين أدى نظامَا التنضيدِ الضوئي للأحرف، وتوضيبِ الفيلم إلى الإسراع بالطباعة خطوات واسعة إلى الأمام، بينما جرى استخدام الحَفْر الفوتوغرافي، أو ما يُعرف باسم الليثوغرافية الضوئية (أي: الطباعة بصفائح مُعَدة فوتوغرافيًّا) لأنواع كثيرة من الاستنساخ التصويري. واستُحدثت طريقة جديدة للاستنساخ السريع لخدمة المكاتب ولأغراض أخرى، من بينها التصوير الجاف «زيروجرافي» الذي ابتكره الأمريكي شيستر كارلسون في ثلاثينيات القرن العشرين. وأَدخلت هذه الطريقة تقنية جديدة لطباعة أي عدد من نسخ الوثيقة، وهذه هي تقنية الموصلية الضوئية؛ إذ إنها نتيجة تأثير كهروضوئي حيث تزيد الموصلية الكهربية لمواد بذاتها عند سقوط الضوء عليها. ووَجَد التصوير الجاف (زيروجراف) — شأن وسائل الاستنساخ السريع — استخدامات واسعة في مؤسسات الأعمال الحديثة وفي المؤسسات الإدارية. ولاقت أجهزة الفاكس (النقل طبق الأصل) نجاحًا مماثلًا لمسح الصفحات المطلوب طباعتها ونقلها بواسطة شبكة الهاتف ثم استنساخها عند نقطة التسلم.

وهكذا شهد إنتاج الكلمة المطبوعة كوسيلة اتصال تحولات مهمة جذرية على مدى القرنين الأخيرين، وهو ما يعادل الابتكارات في أشكال الاتصال الأخرى القائمة على استغلال الكهرباء. وأسهمت يقينًا بنسبة موضوعية كبيرة في زيادة حجم المعلومات التي أضحت الآن متاحة دائمًا لكل فرد بفضل التكنولوجيا التي في خدمته. إن تكنولوجيا المعلومات، والتي تشتمل على إعداد برامج للتحكم في أجهزة الكمبيوتر، وتخزين كميات كبيرة من البيانات على شريط أو قرص مُمغنَط، والتبادل الفوري بين شبكات معلومات متباعدة بعضها عن بعض بعدًا كبيرًا؛ كل هذا تطور خلال ثلاثة عقود، وتحول من مجرد فضول معرفي نظري ليصبح شيئًا عاديًّا شائعًا في المجتمعات الصناعية. ويتعين النظر إلى هذا المرفق الخاص بالاتصالات الفورية على نطاق العالم باتساعه، باعتباره الجانب الأهم والأكثر إثارة من بين جوانب الثورة التكنولوجية جميعها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤