تمهيد – تكوين اليابان ما قبل النهضة

تقع اليابان في أقصى شرقي آسيا، وتتكون من أربع جزر رئيسية هي — مِن الشمال إلى الجنوب — هوكايدو، وهونشو، وشيكوك، وكيوشو، وما يزيد على مائة جزيرة صغيرة تحف بتلك الجزر، وتُكوِّن قوسًا طرفه الشمالي جزيرة سخالين وطرفه الجنوبي قبالة شبه جزيرة كوريا، ويفصل هذا القوسَ الذي ينتظم الجزر اليابانية عن الساحل الآسيوي بحرُ اليابان، وكانت بذلك اليابان على اتصال بالقارة الآسيوية من خلال سخالين وكوريا، وعبر هذين المعبرين جاء إلى الجزر اليابانية في القرنين الأخيرين قبل الميلاد نوعان مِن البشر سكنوا هذه الجزر، فجاء «الأينو» من جنوب سيبريا إلى هوكايدو وشمال هونشو، بينما جاءت عناصر ذات أصول مغولية إلى منطقة وسط اليابان (هونشو وشيكوك) عبر شبه جزيرة كوريا، وحمل البحر الأصفر والمحيط الهادي عناصر أخرى ذات أصول مالاوية جاءت عبر جزيرة فورموزا وجزر ريوكيو في الجنوب.

fig4

وتُلقِي هذه التكوينة البشرية بظلالها على ما أصبح يُسمَّى بالشعب الياباني؛ فالأينو طوال القامة نسبيًّا تميل بشرتهم إلى البياض، وتَضِيق حدقات عيونهم فيبدون شبه مُغمضِي الأعين، على حين تتسم العناصر ذات الأصل المغولي بالقامة المتوسطة وميل لون البشرة إلى الشحوب (وهو ما يطلق عليه البعض خطأً اللون الأصفر)، أما العناصر ذات الأصل المالاوي فتمتاز بقِصَر القامة والنحافة وسمرة لون البشرة.

ورغم غموض تاريخ اليابان القديم في القرنين السابقين على ميلاد المسيح (حيث يبدأ العصر الحجري الحديث في تلك البلاد مع بداية الميلاد)، فمِن المؤكد أن صراعًا دمويًّا دار بين العناصر التي سكنت تلك الجزر، كان ضحيته «الأينو» أقدم سكان اليابان فطُرِدوا أولًا من هونشو، فتجمعوا في هوكايدو، ثم تعرضوا في أوائل عصر مايجي (سبعينيات القرن التاسع عشر) إلى عملية تطهيرٍ عرقي حوَّلتهم إلى أقلية ضئيلة العدد، ظلت مهملة حتى منتصف القرن العشرين محرومة من الخدمات الأساسية التي تَمتعَ بها غيرهم من اليابانيين؛ كالتعليم والخدمة الصحية وظلوا يمارسون حرفة الصيد في الغابات، يقيمون في قرًى معزولة بعيدة عن العمران، أما العنصران الآخران: المغول والمالاو، فقد وحَّدهما الصراع ضد الأينو — على ما يبدو — فلا نسمع عن تصفيات دموية جرت بينهم على نحو ما حدث مع الأينو، ولعل مِن بين عوامل الوحدة بينهم تشابه درجة التطوُّر الحضاري بينهم مِن حيث كونهم أهل فلاحة واستقرار كما كانت لهم خبرة بركوب البحر والاعتماد عليه مصدرًا للرزق، بينما كان الأينو يعيشون مرحلة الصيد وما تطلبه من تنقُّل داخل الغابات بحثًا عن الرزق.

ولا يعرف المؤرخون على وجه الدقة متى بدأ اندماج المغول والمالاو ليكونوا شعبًا واحدًا، ولعل تلك العملية استغرقت نحو القرن من الزمان أو ما يزيد على القرن ببضعة عقود، أنتج بعدها هذا الاندماج الأسطورة التي تحدد إطارًا تخيُّليًّا لتلك المرحلة الغامضة من تاريخ اليابان القديم، تقول تلك الأسطورة بأن الأرض والسماء كانتا كتلةً واحدة، ثم انفصلت السماء عن الأرض، وبعد انفصالهما هبطت الإلهة إيزانامي والإله إيزاناجي من السماء إلى جزيرة أونوكورو (الأرض)، وخَلقَا معًا جزيرة أوياشيما (الجزر اليابانية)، ثم خَلقَا بعد ذلك بقية الآلهة، إله الرياح، وإله الجبال والغابات، وإله العواصف، ولقيت الإلهة إيزانامي حتفها حين وَضَعَت إله النار، وعندما اشتاق زوجها إيزاناجي لرؤيتها، ذهب إلى أرض الليل حيث التقى بها، ثم عاد مرة أخرى إلى العالم، واغتسل مِن تراب عالم الموت، فإذا بثلاثة آلهة يخرجون من عينَيه وأنفه، ومن بين هؤلاء الثلاثة إلهة الشمس التي أعطت اسمها لليابان Nippon (أي منبع الشمس) وأنجبت بدورها الأسرة الإمبراطورية الحاكمة، ومن ثَم فاليابان أرضٌ مُقدَّسة، يحكمها سليل الآلهة، وشعبها متميز على غيره من الشعوب التي لم يسعدها الحظ بهذا النسب؛ فهي تُعَد شعوبًا همجية أو متبربرة.
لقد حلت هذه الأسطورة مشكلة تكوين الشعب الياباني، وإن كانت تحمل (ضمنًا) ما يفيد اندماج المغول والمالاو ليكونوا شعبًا واحدًا في القرن الأول للميلاد (على أكثر تقدير)، وشكلت تلك الأسطورة إطار العقيدة اليابانية التي عرفت بالشنتو Shinto (أي طريق الآلهة)، وهى العقيدة التي بنيت عليها فكرة قداسة الإمبراطور (أي ألوهيته)، واعتقاد عامة الناس أنَّ النظر إلى شخص الإمبراطور يصيب المرء بالعَمَى لما يشعه سليل الشمس من ضوء وهَّاج، ومن ثَم يخرون له ساجدين مغمضي العيون أو ناظرين إلى الأرض!

وظل هذا الاعتقاد قائمًا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عندما احتل الجيش الأمريكي اليابان، وأجبر الإمبراطور هيروهيتو أن يُذيع بيانًا بصوته يعلن فيه أنه بشر كغيره من الناس، وأنه ليس إلهًا، ولا يمت للآلهة بصلة، وقد آذى هذا الإعلان مشاعر اليابانيين، ولم تختفِ فكرة ألوهية الإمبراطور نهائيًّا إلا بعد نشوء جيل جديد تربَّى على مناهج دراسية تركز على نفي هذه الفكرة ونقدها.

ما يعنينا هنا أن الشعب الياباني صاغ لنفسه — بهذه الأسطورة — هوية خاصة في القرن الأول للميلاد، وكان — في نفس الوقت — يتصل تجاريًّا وثقافيًّا بالصين، فتعلَّم اليابانيون مِن الصين الشيء الكثير فيما يتعلق بأمور الحياة اليومية في الزراعة وبناء المدن وغير ذلك مِن مُتطلبات الحياة، كما نقلوا عن الصين طريقة الكتابة الصينية باستخدام تراكيب رمزية تُخَط بطريقة معينة لتُعبِّر عن حركات صوتية، وقد جاءت «البوذية» إلى اليابان عبر الصين في القرن الثالث الميلادي، كما جاءتها «الكنفوشية» من الصين فيما بعد، وقد طوَّع اليابانيون كل ما اقتبسوه من الصين أو تعلموه منها لخدمة متطلبات حياتهم بقدر ما طوَّعوا «البوذية» و«الكنفوشية» لتتفق كلٌّ منهما مع «الشنتو» العقيدة اليابانية المتوارثة.

ولا يعني إضفاء القداسة على الأسرة الإمبراطورية الحاكمة أن اليابان عاشت في ظل إدارة مركزية تقبض على زمام الأمور في البلاد دون منازع، فقد شهد تاريخ اليابان صراعاتٍ بين الطامعين في السلطة جرت فيها الدماء أنهارًا، شارك في بعضها أمراء من البيت الإمبراطوري، كما شارك فيها بعضُ القادة العسكريين، وحاول كلٌّ مِن هؤلاء ومَن شايعه مِن الأتباع أن تكون له اليد العُليا في البلاط الإمبراطوري ولم يكن أمام الإمبراطور سوى أن يمنح بركاته واعترافه لمن غلب، فيخلع عليه مِن الألقاب ما يعطيه حقَّ النيابة عن الإمبراطور في حكم البلاد، وفي بعض المراحل من تاريخ اليابان كانت السلطة الفعلية للإمبراطور لا تتجاوز أسوار قصره في مدينة كيوتو التي كانت عاصمة البلاد.

fig5
معبد نارا: عصر نارا، القرن الثامن.
fig6
رابية مقبرة الإمبراطور «نينتوكو» أوائل القرن الخامس – محافظة أوساكا.
أما المتنافسون على السلطة فكان لمَن غلب منهم حق حكم البلاد حكمًا مطلقًا — باسم الإمبراطور — بل وتكوين إدارة خاصة به تتولى إدارة أمور البلاد، ويخضع لها الجميع، يختار لها مقرًّا بعيدًا عن العاصمة كيوتو حتى يتخلص مِن دسائس رجال البلاط؛ فكانت مدينة كاماكورا مقرًّا لهذه الإدارة التي عُرِفَت باسم الباكفو (أي الحكومة) فيما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر، وعادت إلى كيوتو نحو ١٣٠ عامًا لتسود البلاد بعد ذلك فترة من الفوضى والحرب الأهلية التي كان كل طرف فيها يدَّعي الدفاع عن الإمبراطور ومصالح الأسرة الإمبراطورية المُقدَّسة، واستمرت خمسة عشر عامًا نجح في ختامها أحد القادة العسكريِّين في إعادة الوحدة إلى البلاد لينتهي حكمه على يد زميل له، نصَّب نفسه حاكمًا على البلاد باسم الإمبراطور واختار مدينة إيدو Edo عاصمة لإدارته وتعاقبت أسرته على حكم البلاد لما يزيد عن القرنين ونصف القرن (١٦٠٣–١٨٦٨م)، وهي أسرة طوكوجاوا التي كان كبيرها يتولى منصب الشوجون وهو منصب عسكري إداري كبير، يخلعه عليه الإمبراطور ويفوضه أمر إدارة البلاد نيابةً عنه، على نحو شبيه بوزارة التفويض في الدولة العباسية، بل كان وضع الإمبراطور — في ظل ذلك النظام — يماثل وضع الخليفة العباسي، وكان وضع الشوجون يماثل وضع السلطان في العهود السلجوقية والأيوبية والمملوكية في تاريخ الإسلام.
fig7
رسم يُصوِّر حرب أونين – عصر كاماكورا.

واتجه نظام طوكوجاوا الإقطاعي إلى انتهاج سياسة تضمن استمراره، قامت على تجميد بُنيان المجتمع من خلال القيود والضوابط التي فُرِضت على كل طبقة مِن طبقاته؛ فكان لكلٍّ مِنها زيُّها الخاص وعاداتها الخاصة، وقيمها السلوكية الخاصة بها، والتي تختلف كثيرًا عن الطبقات الأخرى، وكان التميز واضحًا جليًّا بين طبقة المحاربين (الساموراي) وطبقة العامة من الفلاحين، فأصبح المجتمع — في ذلك العصر — يشتمل على مجموعة من الفئات الاجتماعية التي تعلو بعضها بعضًا تبعًا لدرجة سموها من الناحية الاجتماعية، ولم يجد الناس غضاضةً في هذا التميُّز الاجتماعي لأن فكرة «المساواة» لم تكن واردة في عقيدة «الشنتو» التي يؤمن بها اليابانيون، فالناس — عند الشنتو — غير متساوين؛ لأنَّ دماءَهم ليست واحدة؛ الإمبراطور — مثلًا — تجري في عروقه دماء الآلهة، وعِلية القوم تجري في عروقهم دماء نبيلة، أما عامة الناس (الفلاحون) فتجري في عروقهم دماء عادية، وكذلك الحال بالنسبة للتجار (وإن كانوا أدنى منزلة من الفلاحين)، أما المنبوذون فهم ليسوا من البشر، والدماء التي تجري في عروقهم دماء حيوانية.

fig8
ميثاق عصر إيدو.

كذلك حرص نظام طوكوجاوا على إبعاد كل تأثير أجنبي محتمل على البنيان الاجتماعي للبلاد، ولما كان تأسيس النظام قد واكب المد الاستعماري الأوروبي الإسباني والبرتغالي والهولندي في الشرق الأقصى، فقد حرصت حكومة طوكوجاوا على إبعاد البلاد عن أية مؤثرات قد تَفِد من الغرب، ومن ثَم حرم النشاط التبشيري المسيحي، وطرد التجار الإسبان (عام ١٦٢٤م) والبرتغاليين (عام ١٦٣٨م) وكان قد صدر قبلها بعام (أي عام ١٦٣٧م) قرار يمنع سفر اليابانيين خارج البلاد، نص على توقيع عقوبة الإعدام على أي شخص يغادر البلاد وذلك فور عودته إليها.

واقتصر الاتِّجار مع العالم الخارجي على محطة تجارية واحدة، أُقيمت فوق جزيرة صناعية في مواجهة ميناء نجاساكي، سُميت بجزيرة ديشيما، وكان يفصلها عن ساحل نجاساكي جسر متحرك يُنصَب في النهار ويُرفَع في الليل وسمح لكل من الصينيين والهولنديين بالاتِّجار مع اليابان على أرض تلك الجزيرة وحدها، وتحت الرقابة المشددة لحكومة طوكوجاوا.

وقبعت أسرة طوكوجاوا على قمة الهرم الاجتماعي يليها حكام المقاطعات ثم العسكر (الساموراي)، هم جميعًا يُكوِّنون كيانًا اجتماعيًّا متعدد الشرائح يمثل الحكام، وكان الفلاحون يُشكلون كيانًا اجتماعيًّا أدنى مرتبة، وينقسمون بدورهم إلى أصحاب الحيازات الزراعية يليهم من حيث المنزلة الاجتماعية الفلاحون المعدمون، وتحمَّل الفلاحون عبء إعالة طبقة الحكام بما يقدمون من ضرائب باهظة لم تترك لهم إلا فائضًا محدودًا لا يكاد يكفي لإقامة أَوْد عائلاتهم، حتى شاع بينهم وأد الأطفال عند ولادتهم تخلصًا من نفقة تربيتهم وكانوا يرهنون الذكور من أبنائهم مقابل ما يقترضون من ديون وباعوا بناتهم للاشتغال بالحانات والدعارة لسداد ما عليهم من ديون، وحرم عليهم الانتقال من قراهم، وقد أدَّى بؤس الفلاحين — في نهاية الأمر — إلى انفجار ثوراتهم في مطلع القرن التاسع عشر، وجاء الحِرفيون في المرتبة التالية للفلاحين، يليهم التجار؛ لأنهم — حسب الثقافة التقليدية السائدة — يحصلون على الثروة دون عمل، ويشجعون على الحياة المرفهة، ويُفسدون عقول الناس، ويقف المنبوذون خارج السلم الاجتماعي باعتبارهم أدنى منزلة من البشر، ويندرج في تلك الفئة من وُلدوا لآباء من المنبوذين أو مَن يشتغلون بمهن دنيئة كالجزارين والدبَّاغين والحلاقين وكذلك المعوقين وأصحاب العاهات البدنية حتى لو كانوا — أصلًا — من أبناء الفلاحين أو الحِرفيين.

وجرت العادة على استبعاد المنبوذين من التعداد الرسمي وإسقاط أماكن سكناهم من خرائط المدن، وكذلك استبعاد الطرق التي تمر بمساكنهم عند تقدير المسافات، وكان عليهم الإقامة في أماكن خاصة معزولة في أطراف المدن، واعتبرت نفس المنبوذ مُعادِلة لسُبْع نفس من نفوس غيرهم عند القصاص.

ولكن النظام الإقطاعي الذي أقامته أسرة طوكوجاوا في اليابان، والذي عُمِّر ما يزيد عن القرنين من الزمان، بدأ يعاني من الأزمات الاقتصادية اعتبارًا من مطلع القرن الثامن عشر، تلك الأزمات التي أخذت تنخر في النظام حتى أودت به في نهاية الأمر. وترجع أسباب تلك الأزمات إلى عجز موارد الزراعة عن تلبية الحاجات المتزايدة للحكام، مما اضطرهم إلى التوسع في الاستدانة من التجار في مقابل إفساح مجال العمل لهم، فتدخل التجار في الإنتاج الزراعي لتشجيع زراعة المحاصيل النقدية، وإقامة بعض الصناعات، وخاصة الصناعات الغذائية مما أدى إلى تجاوز حدود العزلة التي فرضتها الحكومة على القرى، وبدأت القرى والمدن تتصل ببعضها البعض عن طريق التبادل التجاري.

fig9
بعثة تنصيرية برتغالية في اليابان.

وازداد الحكام حاجة إلى القروض التي يفرضون على التجار تقديمَها لهم بقدر ما ازداد صغار الفلاحين بؤسًا وفقدوا حيازتهم لعجزهم عن سداد ديونهم، كما ازداد أثرياء الفلاحين ثراءً، ومع تفاقُم هذا الخلل الاجتماعي لم يجد الفلاحون سبيلًا سوى الثورة، فتعددت ثورات الفلاحين وأرهقت الإدارة في مقاومتها.

وجاء الضغط الغربي ليلعب الدور الأساسي في تفويض نظام طوكوجاوا، فبرغم العزلة التي فرضها النظام على البلاد، لم تتركها القوى الغربية وشأنها فكانت روسيا في طليعة الدول الأوروبية التي رَنَت ببصرها إلى اليابان منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر، كما أخذت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية يُبدِيان اهتمامًا بفتح مواني اليابان للتجارة الدولية، ولكن حكومة طوكوجاوا أصدرت أمرًا عام ١٨٢٥م إلى حكام المقاطعات بمَنع السفن الأجنبية مِن الاقتراب مِن الشواطئ اليابانية، وبعدما وصلت إلى اليابان أنباء هزيمة الصين في حرب الأفيون، أخذت حكومة طوكوجاوا تعزز قواتها العسكرية — تحسُّبًا للمستقبل — عن طريق صناعة المدافع وتدريب الرجال على استخدامها. وعندما أدركت أن ضغط القوى الأجنبية أقوى من أن يُقاوَم سمحت (عام ١٨٤٢م) بتزويد السفن الأجنبية التي ترد إلى مرافئ اليابان — مُضطَرَّة — بالطعام والماء والوقود دون الدخول معها في علاقات تجارية، ورفضت اليابان الاستجابة لنصيحة ملك هولندا (١٨٤٤م) بضرورة فتح موانيها للتجارة الخارجية.

غير أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت أقدر من غيرها من الدول على إجبار اليابان على فتح موانيها أمام العالم الخارجي، وبعد محاولات سلمية متعددة اقتحمت عمارة بحرية مُكوَّنة من أربع سفن حربية خليج إيدو (٨ يوليو ١٨٥٣م) بقيادة الكومودور ماثيو بيري مُتجاهِلة تحذيراتِ قوارب الحراسة اليابانية، ورفض بيري الانسحاب قبل أن يحصل على رد الشوجون على رسالة الرئيس الأمريكي التي طلب فيها ضمان المعاملة الإنسانية الكريمة للبَحَّارة الذين تتحطم سفنهم أمام الشواطئ اليابانية، والسماح للسفن الأمريكية بدخول المواني اليابانية للتزود بالطعام والوقود، وقيام علاقات تجارية — إن أمكن — بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، وأمهل بيري السلطات اليابانية ثلاثة أيام لتلقي الرد على رسالة الرئيس الأمريكي، ولما كان ذلك يعني تعرض إيدو — مركز الحكومة — للقصف في حالة الرفض، فقد اضطُرت إلى التسليم بالمطالب الأمريكية، وسمحت للعمارة الأمريكية بإلقاء مراسيها في ميناء أوراجا، عندئذٍ اكتفى بيري بتسليم رسالة الرئيس الأمريكي للشوجون، وأبلغه أنه سيحضر في العام التالي لتلقي الرد رسميًّا.

انقسمت الطبقة الحاكمة على نفسها في كيفية الخروج من المأزق الذي وُضِعت فيه، فعلى حين رأى البعض ضرورة «صد البرابرة» عارض البعض الآخر ذلك لخطورته على مصير البلاد، واضطُرت حكومة طوكوجاوا — لأول مرة — أن تلجأ إلى البلاط الإمبراطوري وإلى حكام المقاطعات طلبًا للرأي، مما أدى إلى إتاحة فترة ذهبية للمعارضة السياسية، فوحَّد دعاة إعادة السلطة كاملة إلى الإمبراطور صفوفهم مع المعادين للتدخل الأجنبي للعمل على تصفية نظام طوكوجاوا.

وذهبت الغالبية العظمى من الردود التي تلقتها الحكومة إلى التمسك بسياسة العزلة مع تجنب التورط في الحرب مع القوى الأجنبية بأي ثمن، وهو أمر صعب التحقيق، ورأت الأقلية أنه لا بد من المواجهة العسكرية ضد الاحتلال الأجنبي، وإزاء ذلك استقر الرأي على إرجاء الرد على المطالب الأمريكية لأطول فترة زمنية ممكنة، ولكن بيري بادر بالقدوم إلى خليج إيدو — مرة أخرى — في أوائل عام ١٨٥٤م على رأس عمارة من ثماني سفن حربية وارتعدت فرائص حكام إيدو أمام مظاهر القوة تلك فوافقوا على فتح ميناءَين أمام السفن الأمريكية هما هاكوداتي في جزيرة هوكايدو، وشيمودا على طرف شبه جزيرة إيزو، كما وافقوا على مراعاة معاملة البحارة معاملة كريمة والسماح لقنصل أمريكي بالإقامة في شيمودا.

وتضمنت الاتفاقية التي وقعت بهذا الشأن (٣١ مارس ١٨٥٤م) نصًّا على معاملة الولايات المتحدة الأمريكية معاملة الدولة الأولى بالرعاية رغم أن الاتفاقية لم تنصَّ على قيام علاقات تجارية بين البلدين.

وما لبثت بريطانيا وفرنسا وروسيا وهولندا أن وقَّعت مع اليابان اتفاقيات مماثلة حطمت أسوار العزلة التي فرضتها اليابان على نفسها، وحددت بذلك بداية النهاية لحكومة طوكوجاوا؛ لأن استسلامها للتدخل الأجنبي أعطى المعارضين لها سلاحًا ماضيًا لمهاجمتها بحجة عجزها عن الدفاع عن البلاد في مواجهة التدخل الأجنبي.

وفي أغسطس ١٨٥٦م، أرسلت الحكومة الأمريكية تاونسند هارس إلى ميناء شيمودا للضغط على الحكومة اليابانية من أجل توقيع معاهدة تجارية، وبعد مفاوضات طويلة حرص خلالها هارس أن يذكر للجانب الياباني أن أساطيل الدول الأوروبية تستعد للإقلاع صوب اليابان بعد انتصارها على الصين، وأن اليابان سوف تُضطَر إلى تقديم المزيد من التنازلات والامتيازات لتلك الدول ما لم تسارع بتوقيع المعاهدة مع الولايات المتحدة التي تصبح نموذجًا للتعامل بين اليابان والدول الأوروبية، لذلك سارع ممثل الشوجون بالتوقيع على المعاهدة مع هارس (٢٩ يوليو ١٨٥٨م) وبموجبها تقرر فتح ثلاثة موانٍ جديدة أمام التجارة الأمريكية فورًا، على أن تضاف إليها اثنتان فيما بعد، وسمح للأجانب بالإقامة في إيدو وأوساكا اعتبارًا من عام ١٨٦٢م بالنسبة للأولى، وعام ١٨٦٣م بالنسبة للثانية، وأصبح المواطنون الأمريكيون — بموجب المعاهدة — خارج دائرة السلطة القضائية اليابانية، كما ضمنت لهم حرية العبادة، وبمجرد توقيع المعاهدة الأمريكية اليابانية، وقَّعت حكومة طوكوجاوا معاهدات مماثلة مع بريطانيا وفرنسا وروسيا وهولندا.

وأدَّى الانفتاح على العالم الخارجي إلى احتكاك اليابانيين في المواني والمدن التي فُتِحت للتجارة الخارجة (وخاصة يوكوهاما) بالأجانب في محاولة للتعرُّف على ثقافتهم، وأنشأت الحكومة مدرسة لتعليم موظفيها اللغات الأجنبية، كما أرسلت الوفود الرسمية وبعثت الطلاب إلى أمريكا وأوروبا، وأقبل بعض الشباب على دراسة اللغات الأجنبية على أيدي المبشرين الأجانب وبعض المعلمين من أهل البلاد، وعلى الصعيد الاقتصادي زاد الطلب الخارجي على السلع اليابانية، وخاصةً الحرير الخام مما أدَّى إلى التوسُّع في الإنتاج وارتفاع أسعار السلع محليًّا، كما لعب التجار الأجانب دورًا خطيرًا في نزح الذهب من اليابان بما يترتب على ذلك من آثار سلبية على الاقتصاد الياباني.

ولا ريب أن هذه التطورات التي نتجت عن سياسة الانفتاح على العالم الخارجي زادت من فعالية المعارضة السياسية لنظام طوكوجاوا، واكتسبت حركة استرداد سلطة الإمبراطور ومعاداة الأجانب العديد من الأنصار من بين الساموراي، ووَجَّهت الحركة اللوم إلى الحكومة لإبرامها المعاهدات مع الدول الأجنبية دون الحصول على موافقة الإمبراطور، ونظم أعضاء تلك الحركة حملة اغتيالات طالت بعض كبار رجال الحكومة وبعض الأجانب، وانضم إلى المعارضة بعض حكام المقاطعات الجنوبية فحرَّكت قواتها ضد الباكفو (حكومة طوكوجاوا) وأنصارها من رجال البلاط الإمبراطوري، وبذلك أصبحت البلاد على شفا حرب أهلية.

وأيقن المعارضون لسياسة الانفتاح على الخارج أنه لا سبيل لإنقاذ البلاد سوى الإطاحة بالباكفو، وإقامة حكومة مركزية قوية تدخل الإصلاحات العسكرية والمدنية، وإزاء تفاقم الأوضاع المنذرة بوقوع حرب أهلية اضطُر الشوجون إلى تقديم التماس إلى الإمبراطور الجديد مايجي طلب فيه إعادة السلطة الإدارية الكاملة للإمبراطور (نوفمبر ١٨٦٧م) حلًّا للأزمة التي تواجهها البلاد، واقترح تأسيس مجلسين لمعاونة الإمبراطور يضم أحدهما نبلاء البلاط، ويتكوَّن الآخر من مجموعة منتقاة من الساموراي، على أن يصبح الشوجون — في ظل النظام الجديد — بمثابة رئيس للوزراء.

وفي آخر يناير ١٨٦٨م، أصدر الإمبراطور مرسومًا قضى بتجريد أسرة طوكوجاوا من إقطاعاتهم، وإلغاء الشجونية وتورط الشوجون في القيام بعمل عسكري موجه ضد حكام المقاطعات الذين وقفوا وراء إصدار هذا المرسوم الإمبراطوري، فلقيت قواته هزيمة منكرة قرب كيوتو، وفرَّ عائدًا إلى إيدو حيث أصدر أوامره بتسليم المدينة للقوات المؤيدة للإمبراطور دون قتال (إبريل ١٨٦٨م) وبذلك طويت صفحة من تاريخ اليابان اقتلعت معها جذور النظام الإقطاعي، وتركت التربة صالحة لقيام نظام جديد صنع النهضة اليابانية الحديثة.

fig10
الحروب الأهلية في اليابان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤