الفصل الأول

دعائم النهضة

بدأ عهدٌ جديد في تاريخ اليابان، وتغير اسم إيدو Edo — التي أصبحت عاصمة البلاد — إلى طوكيو Tokyo (وتعني العاصمة الشرقية) وفي ربيع العام التالي، انتقل الإمبراطور من كيوتو إلى العاصمة الجديدة ليعلن بذلك بداية عصر مايجي (وتعني الحكم المستنير)، وقُدِّر لذلك العصر أن يستمر حتى عام ١٩١٢م، ولكن الانتقال من عصر إلى آخر يعني الكثير؛ لأنه ليس مجرد تغيير لسلطةٍ أو شخصِ مَن يُمسك بمقودها، ولكنه تغيير لمجتمع بأسره، شمل واقعه الاقتصادي والاجتماعي، كما شمل أداة الحكم والقوة التي تمسك بزمام الأمور في البلاد، كما تغيرت الأفكار والعادات والقيم الاجتماعية، أو — بعبارة أخرى — كان التغيير إرساءً لدعائم النهضة التي حققتها اليابان، ونُقِلت نتيجةً لها من هامش العالم إلى قلبه.
fig11
كوبري يؤدي إلى قصر الإمبراطور – طوكيو.

كان الإمبراطور متسوهيتو (الذي لُقِّب بمايجي) عند بداية العهد الجديد صبيًّا في السادسة عشرة من عمره، لا يمتلك من الخبرة السياسية والاستعداد الفكري ما يؤهله لتغيير النظام القائم، فلم يكن سوى رمز للحركة الجديدة، وظل كذلك — إلى حدٍّ كبير — طوال حكمه، أما السلطة الحقيقية في بداية العهد، فكانت بيد مجموعة صغيرة من نبلاء البلاط، بالإضافة إلى حفنة من العسكريين (الساموراي) الذين ينتمون إلى المقاطعات التي ساهمت في صنع النظام الجديد، وكوَّنوا معًا النخبة الحاكمة التي صنعت النهضة.

وكان على القيادة الجديدة أن تواجه المشكلات المُلحَّة، وعلى رأسها إصلاحُ ماليةِ البلاد، ومقاومة الزحف الغربي، وكان حل المشكلة الأخيرة يرتبط بحل الأولى؛ لأن مواجهة الأطماع الغربية تتطلب إيجاد قاعدة صلبة يقوم عليها اقتصاد البلاد، وإقامة مثل تلك القاعدة يحتاج إلى إدخال تغييرات جذرية على الواقع الاقتصادي للبلاد، يجعلها قادرة على الوقوف أمام الدول الغربية وقفة الند للند.

ولم يكن ذلك يحتمل الإرجاء؛ لأن الخطر الغربي كان ماثلًا؛ فبريطانيا وفرنسا كانتا تتربصان باليابان الدوائر، وأيقن القادة الجدد أن قيام حربٍ أهلية قد يُتيح الفرصة أمام الدولتين للتدخل المسلح، أضِف إلى ذلك ضعف مركز اليابان في سلسلة المعاهدات غير المتكافئة التي أجبرت على إبرامها مع الدول الغربية، والتي سلبتها حقها في تقرير الضرائب الجمركية، واستثنت الأجانب من الخضوع للقضاء الياباني، وأعطت الدول الغربية حقوق الدولة الأولى بالرعاية دون أن يكون لليابان نفس الحق.

وأدرك قادة العهد الجديد أن الدول الغربية استهانت ببلادهم لتخلفها حضاريًّا عن الغرب، وخاصة في المجال الاقتصادي والعسكري، فعملوا على اللحاق بالغرب في هذين الميدانين، ومن ثَم اتخذوا من شعار «إثراء الأمة وتقوية الجيش» شعارًا لانطلاق النهضة وكان ذلك يعني إقامة دولة حديثة على النمط الغربي.

وهكذا وجد الرجال — الذين حملهم إلى السلطة عداؤهم للغرب — أنفسهم في موقف يلزمهم بإقامة علاقات ثقافية وتجارية وثيقة مع دول الغرب التي تملك وحدها مفاتيح الخبرة التقنية والعلم الحديث.

وجاءت الإشارة إلى ضرورة انفتاح اليابان تمامًا على العالم الخارجي رغم المعارضة لذلك ضمنًا في المرسوم الإمبراطوري الصادر في ١٤ من مارس ١٨٦٨م، وعُرف باسم «ميثاق العهد ذو المبادئ الخمسة» فنصَّ على:
  • (١)

    إقامة مجالس استشارية على نطاق واسع، وتقرير أمور البلاد بمعرفة الرأي العام.

  • (٢)

    اتحاد جميع الطبقات — العليا والدنيا — في إدارة البلاد بفعالية تامة.

  • (٣)

    السماح لعامة الناس بانتهاج السبل التي يختارونها كالموظفين المدنيين والعسكريين، حتى لا تؤدي اللامبالاة العامة إلى إفساد البلاد.

  • (٤)

    حظر ممارسة العادات السيئة القديمة، وإرساء القواعد على الأسس القانونية العادلة الخاصة بالسماء والأرض.

  • (٥)

    التماس المعرفة من شتى أرجاء العالم لتقوية دعائم الحكم الإمبراطوري.

الإصلاح الإداري

وجاء التطبيق العملي لهذه المبادئ في النظام الإداري الذي صدر به مرسوم إمبراطوري عام ١٨٦٨م، أصبحت السلطة العليا في البلاد — بموجبه — بيد «مجلس الدولة» الذي ضم ثلاثة أقسام: قسم تشريعي، وقسم تنفيذي، وثالث قضائي، وبذلك تحقَّق — نظريًّا — مبدأ الفصل بين السلطات الذي يعكس التأثُّر «الشكلي» بالنظم السياسية الغربية؛ لأن التطبيق العملي لذلك المبدأ ظل غائبًا، وأُدخِلت تعديلات أخرى على النظام الإداري في صيف ١٨٦٩م، ثم استقر النظام في صيف ١٨٧١م، واستمر كذلك حتى أدخل النظام الوزاري عام ١٨٨٥م، فأصبح «مجلس الدولة» ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
  • (١)
    مجلس مركزي برياسة المستشار، يضم في عضويته مَن عُرِفوا بالنواب، ثم استبدل بهم — فيما بعد — وزراء من المجلسين الآخرين، وعدد من المستشارين.
  • (٢)
    مجلس اليسار، وكانت وظيفته في الأصل تشريعية، غير أنه كان بمثابة هيئة استشارية لصناع القرار.
  • (٣)
    مجلس اليمين، ويضم الهيئة التنفيذية ممثلة في الوزراء ونوابهم، وكانت الهيئة التنفيذية تتكون من وزارات الخارجية والمالية والحربية والأشغال العامة وشئون البلاط، والتعليم والشنتو (العقيدة) والعدل ثم أُضِيف إليها وزارة الداخلية عام ١٨٧٣م.

وقد تم إلغاء نظام المقاطعات في أغسطس ١٨٧١م، فقُسمت البلاد إلى محافظات تضم كل منها عددًا من الوحدات الإدارية، وتنقسم كل وحدة إلى عدد من الوحدات الإدارية الأصغر، واحتفظت الحكومة لنفسها بحق تعيين المحافظين.

fig12
رسم لطبقة النبلاء من القرن الثامن عشر.

الإصلاح الاجتماعي

كان إلغاء النظام الإقطاعي يتطلب — بالضرورة — تعديل النظام الطبقي بما يتلاءم مع الأوضاع الجديدة، وقد وضعت الحكومة تصنيفًا للقوى الاجتماعية (عام ١٨٦٩م) جعل من أرستقراطية البلاط وحكام المقاطعات السابقة طبقة واحدة عُرفت باسم «النبلاء».

يليهم طبقة الساموراي التي ضمت شريحتين إحداهما لكبار الساموراي والأخرى لصغارهم، وفي عام ١٨٧٠م أصبح من حق العامة اتخاذ ألقاب العائلات، وسُمح في العام التالي بالتزاوج بين الطبقات العليا والدنيا، كما سُمِح للعامة بارتداء الملابس الرسمية الخاصة بالمناسبات وركوب الخيل في أسفارهم (وهي حقوق كانت مقصورة على الساموراي وحدهم)، وحُظِر على الساموراي حظرًا تامًّا قتل العامة دون رحمة (وهو حق إقطاعي كانوا يتمتعون به منذ القدم) وسُمِح للنبلاء وكبار الساموراي بالاشتغال بالزراعة والتجارة والصناعة، واستُثنِيَ من ذلك من يتقلد منصبًا حكوميًّا.

fig13
فتاة من الجيشا.

وفي عام ١٨٧٢م، أعادت الحكومة تصنيف القوى الاجتماعية من جديد، فجعلتهم ثلاث طبقات: النبلاء وكبار الساموراي والعامة وبذلك دخل صغار الساموراي ضمن طبقة العامة، كما أُلحِق المنبوذون — نظريًّا — بطبقة العامة، وأصبحت الطبقات سواءً أمام القانون (نظريًّا أيضًا) فمن الناحية العملية حظي النبلاء وكبار الساموراي باستثناءات قانونية كثيرة، فكان لهم أن يدفعوا غرامة مالية بدلًا من معاقبتهم بالسجن في حالة الإدانة في قضايا الجنح، والجنايات، ونال موظفو الحكومة — على اختلاف مواقعهم الاجتماعية — نفس الاستثناءات.

واضطُرت الحكومة (في خريف ١٨٧٢م) أن تسنَّ قانونًا يجرم الاسترقاق وتجارة الرقيق، غير أن استرقاق النساء ظل سائدًا في اليابان حتى ثلاثينيات القرن العشرين (بصورة اختيارية) حيث استمر الفلاحون يبيعون بناتهم سدادًا لديونهم ليعملن بالحانات وبيوت الدعارة.

وكان إلغاء التقسيم الطبقي الإقطاعي وتطبيق نظام المعاشات للساموراي، ثم استبدال سندات الدولة بالمعاشات يمثل تجريدًا شبه كامل للساموراي من امتيازاتهم المادية، مما جعلهم يتذمرون من النظام الجديد ويقومون بحركات تمرد ضده شهدتها السبعينيات من القرن التاسع عشر، ولم تتجاوز نسبة مَن التحقوا بوظائف الدولة مِن الساموراي العشرة بالمائة، فاشتغلوا بالتدريس، أو التحقوا بخدمة الجيش الحديث أو الشرطة، أما الباقون فاشتغل بعضهم بالزراعة والتجارة والحِرَف، وعضَّ الفقرُ بنابِه بعضَهم فاضطُروا أن يبيعوا بناتهم لبيوت الدعارة من أجل الحصول على ما يقتاتون به.

الإصلاح القضائي

كان النظام القضائي في عهد طوكوجاوا يختلف باختلاف المركز الاجتماعي للمتقاضين، واقتصرت مهمة القضاة على التوفيق بين المتخاصمين.

ووقف هذا النظام عقبة أمام محاولات حكومة مايجي إقناع الدول الغربية بتعديل المعاهدات غير المتكافئة ما دامت اليابان لا تأخذ بنظم التقاضي الغربية، وما لم تنسج قوانينها على منوال الغرب.

لذلك كانت حكومة مايجي حريصة على إصلاح النظام القضائي على نحو تتقبله الدول الغربية، وتوافق على خضوع رعاياها له عند النظر في تعديل المعاهدات، ووقع اختيار الحكومة على النظام الفرنسي الذي يعتمد على القضاة المُحترِفين، ولا يسمح باستخدام نظام المحلفين، ولكنَّ النظام الجديد كان مُحقِّقًا لمبدأ «السيادة بالقانون» وليس لمبدأ «سيادة القانون» على نحو ما عُرِف في الغرب، فرغم أنَّ النظام جاء مؤكدًا للحكم عن طريق القوانين، إلا أنه لم يضع حدودًا أو ضوابطَ لصلاحيات السلطة الإدارية في ميدان التشريع، فلم تتحقق سيادة القانون القائمة على الاعتراف بحقوق الإنسان، وإشراك الشعب في صياغة القوانين والاقتراع عليها إلا بعد الحرب العالمية الثانية.

وتضمَّن النظام القضائي الجديد المحاكم الجزئية التي كان الفصل فيها من سلطة رجال الشرطة، ثم محاكم الأقاليم، فمحاكم الاستئناف ومحكمة النقض، كما أنشئت محكمة إدارية خاصة للبت في المنازعات التي تدخل السلطات الإدارية طرفًا فيها، وكان ذلك يعني عدم خضوع السلطات الإدارية للقضاء العادي بدرجاته المختلفة.

وأُعِد قانون العقوبات عام ١٨٨٠م بمعاونة خبير فرنسي، كما أُعِد القانون التجاري بمعاونة خبير ألماني وكذلك الحال بالنسبة للقانون المدني، وقد طُبِّق قانون العقوبات عام ١٨٩٠م، والقانون المدني عام ١٨٩٨م، أما القانون التجاري فطُبِّق عام ١٨٩٩م.

الجيش الحديث

رأى رجال نظام مايجي أن إقامة حكومة مركزية قوية، قادرة على مواجهة التحديات الخارجية، يتطلب — بالضرورة — إقامة أداة عسكرية قوية تدين بالولاء للحكومة المركزية وحدها، ومن ثَم اتفقت وجهات النظر على ضرورة تأسيس جيش وطني حديث، ولكنها اختلفت حول طريقة تكوينه؛ فهناك من رأى تكوين الجيش من الساموراي الذين جاءوا من المقاطعات الثلاث التي لعبت دورًا هامًّا في تصفية النظام القديم، وهناك من رأى إقامة جيش وطني يعتمد على التجنيد الإجباري العام، وبعد صِراعٍ بين أصحاب الاتجاهين لعب فيه الساموراي دورًا عنيفًا للدفاع عن مصالحهم ووجودهم بلغ حد اغتيال من دعا للتجنيد الإجباري العام أساسًا لتكوين الجيش الوطني، صدر قانون التجنيد الإجباري (يناير ١٨٧٣م) ليجعل من «ضريبة الدم» أساسًا للخدمة في الجيش الجديد.

وبموجب قانون التجنيد، يتم اختيار عدد معين من الشباب حسب درجة الإنتاج الزراعي في القرية، على أن تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين، يُجنَّدون لمدة أربع سنوات يُسمح بعدها لمن يشاء أن يستمر في الخدمة متطوعًا، وحدد القانون أسلوب معاملة المجندين ماليًّا، وأناط بوزارة الجيش والبحرية مهمة الإشراف على التجنيد.

fig14
احتفال لضباط الساموراي بزيهم التقليدي.

ورغم الصعوبات التي واجهت تطبيق قانون التجنيد بسبب مقاومة السَّواد الأعظم من الفلاحين له، أصبح الجيش الإمبراطوري الجديد قوة عسكرية ذات شأن، وبحلول عام ١٨٨٣م كان جميع جنود الجيش مِن المجندين للخدمة الوطنية، وتقبَّل الساموراي نظام الجيش الحديث عندما خدم بعضهم فيه كضباط، واتُّخذ النظام العسكري الألماني أساسًا للجيش الياباني.

كذلك شغلت حكومة مايجي بإنشاء قوة بحرية حديثة ولكن خطواتها — في هذا السبيل — كانت وئيدة، فأنشِئت إدارةٌ خاصة للبحرية عام ١٨٧٢م، وكانت اليابان تعتمد على الدول الأوروبية — وخاصة بريطانيا — في بناء سفنها الحربية، وفي الاستفادة بخبرتها العسكرية البحرية.

وقد ازداد عدد القطع البحرية اليابانية بمرور الزمن: مِن سبع عشرة سفينة حربية بلغت حمولتها ١٣ ألف طن (عام ١٨٧٣م) إلى ثمانٍ وعشرين سفينة حربية بحمولة قدرها ٨٧٦٠٠ طن، وأربعة زوارق طوربيد عند قيام الحرب الصينية-اليابانية (عام ١٨٩٤م)، وبحلول عام ١٨٨٢م كانت البحرية اليابانية قد استغنت عن المدربين الأجانب استغناءً تامًّا، ومع نهاية الحرب العالمية الأولى كانت اليابان تحتل المركز الثالث بين القوى البحرية العالمية الكبرى.

ورغم تكوين الجيش الحديث الذي يقوم على أساس الخدمة العامة والولاء للوطن، لم تستقر تلك المفاهيم في أذهان الجنود والضباط الذين تعوَّدوا الولاء للأقاليم التي تربوا فيها وجاءوا منها، مما جعل الحاجة ماسَّة إلى إصدار مرسوم إمبراطوري (عام ١٨٨٢م) ليؤكد معاني الولاء والواجب والطاعة التي يجب أن يتحلى بها الجنود والضباط، وأكد — أيضًا — أن للجيش الوطني دورًا خاصًّا في خدمة الإمبراطور.

التعليم الحديث

انتعشت آمال المعلمين التقليدين — عند قيام نظام مايجي — لجعل الشنتو والكنفوشية قاعدة النظام التعليمي في العهد الجديد الذي كان يعني — بالنسبة لهم — إحياء القيم التقليدية للأمة اليابانية، وفي عام ١٨٦٩م، اختير أحد هؤلاء المعلمين للإشراف على «مكتب التعليم» وكانت النية تتجه — عندئذٍ — نحو جعل الشنتو عقيدةً رسميةً للبلاد، وأساسًا لنظام التعليم فيها، وحدد المرسوم الإمبراطوري الصادر عام ١٨٧٠م أهداف التعليم بأنها «احترام طريق الآلهة الممتلئ بالنور، وتنقية العلاقات الإنسانية … وخدمة البلاط الإمبراطوري.»

وأُعيد فتح المدرسة الكنفوشية التي كانت تزاول نشاطها في عهد طوكوجاوا، وأصبحت مركزًا للدراسات الشنتوية والكنفوشية.

ولكن ذلك التيار المرجعي انقلب على عقبيه نتيجة تصدي دعاة حركة «التحضُّر والتنوير» له، فقد كانوا يرون أن تحويل اليابان إلى دولة حديثة لا يتحقق إلا بتبني الأفكار التربوية الغربية ووضعِها موضع التطبيق، وما لبث الأخذ بالأفكار التربوية الغربية وتطويعها لحاجات المجتمع الياباني أن نال تأييد واهتمام الجناح التقدمي من النخبة الحاكمة، مما فتح الباب على مصراعيه لإقامة نظام التعليم الحديث.

fig15
«تراكورا» الأسلوب التعليمي قبل عصر مايجي – في المدراس الخاصة.

وكان إدخال المعارف الغربية يتطلب — بالضرورة — خفض نسبة الأمية، وجاءت لائحة التعليم (عام ١٨٧٢م) لتؤكد عزم الحكومة على محاربة الأمية، وإقامة نظام للتعليم العام على مرحلتين دراسيتين، يلتحق بهما الأطفال جميعًا دون تمييز (وإن كان ذلك من الناحية النظرية)، وأكدت أن مجال التعليم يشمل اللغات الأجنبية والكتابة والحساب إضافة إلى القانون والفلك والطب … إلخ، فجميع المعارف التي تهم الإنسان تدخل في إطار التعليم، ونسج نظام التعليم — الذي حددته اللائحة — على المنوال الفرنسي، فقسمت البلاد إلى ثماني مناطق تعليمية، بكل منها ٣٢ مدرسة متوسطة و١١٠ مدارس ابتدائية، ولكن هذه الخطة الطموحة لم ترَ النور، فلم تُنشئ الحكومة — في مطلع عصر مايجي — إلا عددًا محدودًا من المدارس المتوسطة والابتدائية، وكان التعليم — في معظمه — يعتمد على الجهود الخاصة في البيوت ومدارس المعابد (التي كانت قريبة الشبه بالكتاتيب عندنا).

ولما كان نظام التعليم الحديث يحتاج إلى معلمين مُدرَّبين وفق الأصول التربوية الغربية، فقد أنشئت مدرسة للمعلمين بمعاونة خبير أمريكي لإعداد المعلمين للعمل بالمدارس الحديثة، وكان ذلك الخبير يؤكد على استخدام النماذج والعينات وغيرها من الوسائل التعليمية في عملية التعليم، فينقل تلك الأفكار إلى تلاميذه اليابانيين، فتأثر به جيل كامل من المعلمين.

وتحمَّل الفلاحون — الذين كانوا يُمثِّلون القطاع الأكبر من دافعي الضرائب — عِبءَ تغطية تكاليف النظام التعليمي الحديث؛ فقد تحملت الحكومة ٩٠٪ من نفقات التعليم، ولم يدفع أولياء أمور التلاميذ سوى ١٠٪ على شكل رسوم دراسية، وكان القصد من ذلك إتاحة الفرصة للسواد الأعظم من أبناء النبلاء لتلقِّي العلم في المدارس الحديثة، وقد تأثَّرت برامج الدراسة في المدارس الابتدائية بالنظام الأمريكي.

وعُدِّل نظام التعليم عام ١٨٧٩م، فأصبح التعليم في كل محافظة يخضع لمجلس مدينة يدخل في اختصاصه إقامة المدارس، وصيانة الأبنية التعليمية وتحددت مدة التعليم الإلزامي بأربع سنوات دراسية.

غير أن تلك الإصلاحات عجزت عن تقوية دعائم نظام التعليم الحديث، بل أدت إلى إنقاص عدد المدارس؛ لأن مجالس التعليم المحلية كانت تغلق بعض المدارس أو تدمجها في بعضها البعض للحد من نفقات التعليم التي كانت تُثقِل كواهل الفلاحين.

وفي عام ١٨٨٠م، استعادت الحكومة المركزية سيطرتها على نظام التعليم، مع إعطاء المحافظات بعض الصلاحيات في الإشراف على المدارس، وأصبحت مدة التعليم الإلزامي ثلاث سنوات دراسية.

وخلال الثمانينيات من القرن التاسع عشر، بُذِلت جهود مُضنِيَة للتخفيف من الصبغة الليبرالية للمناهج الدراسية، فأُلغِيت الكتب الدراسية التي ألفها ليبراليون من اليابانيين، واستُبدِلت بها كتبٌ أخرى ركزت على التاريخ القومي، والقيم الاجتماعية والثقافية المستمدة من الكنفوشية والشنتوية، وأكدت على فكرة الولاء للإمبراطور، وكان ذلك التغيير استجابة لمد الشعور الوطني المُتطرِّف الذي كان آخِذًا في الارتفاع خلال تلك الحقبة، فاصطبغ التعليم العام بالصبغة العسكرية، واختير بعض الضباط لإدارة المدارس وكان الطلاب يقيمون في مدارس داخلية، ويَحيَون حياة قريبة الشبه بحياة الجنود في الثكنات وأصبح شعار التعليم: «الطاعة، والصداقة، والكرامة».

ومع عُلُو هذا الاتجاه المرجعي في نظام التعليم، اختفى التأثير بالفكر التربوي الأمريكي، وبدأ الاهتمام بأساليب التربية الألمانية التي تركزت على الجوانب الخلفية، وكانت تؤمن أن هدفَ التعليم خلق الإدارة المستنيرة القادرة على التمييز بين الصواب والخطأ.

وارتفعت نتيجة لهذا التيار أصوات المنادين بالكف عن الاقتباس من الغرب، وإحياء القيم الفلسفية القديمة، وكان لذلك كله أبلغ الأثر على لائحة التعليم التي صدرت عام ١٨٩٠م.

وأولت حكومة مايجي تعليم البنات اهتمامًا خاصًّا، فأوفدت بعثة من خمس بنات إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كما افتتحت أول مدرسة للبنات بطوكيو عام ١٨٧٢م، لتعليم البنات اللاتي تتراوح أعمارهن بين ٧–١٤ عامًا، بغض النظر عن أصولهن الاجتماعية.

وبدأت أول مدرسة ثانوية للبنات نشاطها عام ١٨٨٢م، وأسست أول كلية للبنات لتعليم اللغة الإنجليزية عام ١٩٠٠م، كما قامت يوشيوكا يايوا — أول طبيبة يابانية — بتأسيس كلية طب النساء في العام ذاته، وفي العام التالي (١٩٠١م) افتتحت «كلية اليابان للبنات» ولكنَّ الجامعات اليابانية لم تفتح أبوابها أمام البنات إلا بعد انتهاء عصر مايجي، عندما قبلت جامعة طوهوكو الإمبراطورية ثلاث طالبات على سبيل التجربة عام ١٩١٤م.

وفي عام ١٨٧٧م، أُنشئت «جامعة طوكيو الإمبراطورية» من اندماج ثلاث مؤسسات تعليمية كانت قائمة في أواخر عصر طوكوجاوا، ولم تبرز الجامعة ككيان مستقل إلا بعد صدور لائحة الجامعة عام ١٨٨٦م، فأصبحت تضم كليات الحقوق، والطب، والهندسة، والعلوم، والآداب، ثم افتُتِحت «جامعة كيوتو الإمبراطورية» عام ١٨٩٧م، ورغم تأسيس جامعتَين أُخرَيَين في السنوات الأخيرة من عصر مايجي (جامعة طوهوكو في سنداي عام ١٩٠٧م، وجامعة فوكوأوكا في كيوشو عام ١٩١٠م) ظلت جامعة طوكيو تتصدر التعليم الجامعي في البلاد، مُوجِّهة نشاطها العلمي لخدمة أهداف الدولة، وعملت على مَدِّها بالكوادر الإدارية والفنية.

وهكذا كانت الرغبة في تجسير فجوة التخلف الحضاري عن الغرب، والحرص على امتلاك مفاتيح القوة التي استطاع بها أن يفرض إرادته على اليابان، هي التي حددت أسس دعائم النهضة التي شملت الإصلاح الإداري والإصلاح الاجتماعي، والإصلاح القضائي، وإقامة الجيش الحديث، وصاحَب ذلك بناءُ نظامٍ تعليمي حديث شكَّل حجر الزاوية للنهضة التي قامت على قاعدة اقتصادية وفَّرت العوامل المادية لنجاح النهضة في تحقيق أهدافها على نحو ما سنرى في الفصل التالي.

fig16
فصل دراسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤