الفصل الخامس

التطور الفكري

شهد عصر النهضة اليابانية (عصر مايجي) ازدواجيةً في الحياة الفكرية، تمثَّلت في إحياء الفكر التقليدي المستمد من التراث الياباني القديم، والذي شكل في جملته عقيدة الشعب الياباني — الأصيل منها والمكتسب على حدٍّ سواء — إلى جانب التيارات الفكرية الجديدة التي هبت على اليابان من الغرب، والتي نتجت عن الاحتكاك بالحضارة الغربية في مرحلة النهضة، وما امتازت به تلك المرحلة من اقتباس نماذج من النتاج الحضاري للغرب، ولم يكن باستطاعة اليابانيين تفادي البُعد الثقافي لتلك الحضارة، وما ارتبط به من أفكار تتباين تمامًا مع الأساس الذي قام عليه الفكر الياباني التقليدي، غير أنه استطاع أن يجد لنفسه مكانًا بفضل جهود من تأثروا بالثقافة الغربية من كتاب وأدباء عصر النهضة اليابانيين.

fig37
هيكل لأسرة تعتنق الشنتو.
fig38
هيكل لأسرة بوذية.

الفكر التقليدي

ولكن دراسة التطور الفكري لليابان في عصر النهضة تتطلب منا وقفة أمام الفكر التقليدي الذي تأصَّل في وجدان الشعب الياباني، وكان له أثره البالغ في تحديد إطار النظام السياسي الذي عاشته اليابان منذ عصر مايجي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كما كان له أثره في تحديد القيم الاجتماعية والسلوكية لليابانيين لما يقرب من القرن، وقام على أساسه النظام الإمبراطوري بإطاره الثقافي-السياسي.

ويرتكز الفكر التقليدي على عقيدة «الشنتو» التي ترفع الإمبراطور إلى مصافِّ الآلهة، وتجعل تقديسه فرضًا على كل ياباني استنادًا إلى الأساطير (التي أشرنا إليها في التمهيد) في مزيج يضفي القداسة على اليابان نفسها، والتميُّز على شعبها، وطوَّع اليابانيون «البوذية» التي جاءتهم من الهند — عن طريق الصين — والكنفوشية التي جاءتهم من الصين، للعقيدة الشنتوية؛ ففي البوذية اعتُبر الإمبراطور «سليل بوذا العظيم» وفي الكنفوشية اعتُبر «منبع الفضائل التي يقوم على أساسها المجتمع الخيِّر.»

وكذلك كانت الحال بالنسبة لفكرة المساواة؛ فقد كان اليابانيون يَنشَئون — منذ نعومة أظفارهم — على تقبُّل فكرة التفاوت في المكانة الاجتماعية للناس، ووَجد هذا الموقفُ التبريرَ المناسب في العقيدة اليابانية؛ فالناس غير متساوين لأن دماءهم ليست واحدة؛ الإمبراطور — مثلًا — تجري في عروقه دماء الآلهة لأنه انحدر من نسل آلهة الشمس، وعلية القوم انحدروا من سلالة ذات منزلة رفيعة متأصلة.

وإذا كان هذا موقف الشنتوية من فكرة المساواة الاجتماعية فإن التطبيق الياباني للكنفوشية أخذ بهذا المبدأ أيضًا، فاعتبر الناس مختلفين اجتماعيًّا بقدر ما يتوفَّر لهم من الفضائل؛ فذوو الفضائل العالية السامية يتمتعون بمكانة اجتماعية ممتازة، أما أولئك الذين لا يتوفر لهم إلا درجات محدودة من الفضائل، فيصنفون اجتماعيًّا حسب حظهم من تلك الدرجات، كذلك عالج التطبيق الياباني للبوذية فكرة التفاوُت الاجتماعي، فربَط مكانةَ الناس الاجتماعية بما لديهم من قدرة على الكفاح من أجل الخلاص، وهم كما يتفاوتون في الصبر على الكفاح، يتفاوتون — كذلك — في المنزلة الاجتماعية.

وكان التراث الياباني يضع إطارًا محددًا جامدًا للعلاقات داخل المجتمع، يدور حول «وحدة المجتمع» كما عبرت عنها الكنفوشية اليابانية؛ فالفردُ في ظل فكرةِ وحدة المجتمع لا قيمةَ له بذاته، ولكن قيمته من قيمة الجماعة التي ينتمي إليها، سواء كانت الأسرة أو القرية أو الأمة؛ إذ تسمو الروابط الاجتماعية على العلاقات الشخصية الفردية، ورغم الاعتراف بما للفرد من شخصية مستقلة فإن ذلك لا يعني أن الأفراد يتمتعون بمكانة مستقلة عن الجماعة.

وقيمة الفرد ترتبط بمكانة الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وهي ظاهرة اجتماعية يتردد صداها في اللغة اليابانية التي لا تحتوي على صيغة مفرد وصيغة جمع، وإنما هناك صيغة واحدة تُستخدم للمفرد والمثنى والجمع دون تمييز، كما تبدو أيضًا في أسلوب المخاطبة حيث تُراعي منزلة المخاطب داخل الجماعة فيستخدم الصغير صيغة معينة عندما يتحدث مع مَن يكبره سنًّا أو مقامًا.

وألقت هذه الظاهرة بظلالها على البوذية، فعندما اعتنقها اليابانيون لم يهتموا بالاختلاف الواضح بين النفوس البشرية الذي تُبرِزه البوذية في أصلها الهندي، وعلى حين تذهب البوذية الهندية إلى القول بأنه «لا يعني الأبناء ولا الآباء ولا الأقارب للمرء شيئًا حين يدنو أجله …» وإنه «لا سلطان على النفس سوى النفس ذاتها» فركزت بذلك على الاعتماد على النفس باعتباره ركن الفضائل، ورأت أن «الخير في الارتكان إلى النفس والبعد عن الناس»، وبذلك تقوم البوذية — في أصلها الهندي — على التمحوُر حولَ الذات (الفردية) ونبذ الجماعة، نجد التطبيق الياباني للبوذية يتواءم مع طبيعة المجتمع الياباني وتراثه التقليدي القائم على نبذ الفردية والالتحام بالجماعة، فتذهب البوذية اليابانية إلى القول بأنه «يجب أن يكون الفرد أقرب إلى إخوانه في البوذية منه إلى نفسه» وبذلك تُعبِّر عن ذوبان الفرد في الخلية الاجتماعية التي ينتمي إليها (الأسرة) وذوبان تلك الخلية الصغيرة في الخلية الاجتماعية الأكبر (القرية)، لتُشَكل مع غيرها من الخلايا الكبرى كيانًا واحدًا (الوطن).

ولعل انفراد اليابانيين بهذه السمة الثقافية يرجع إلى طابع الحياة الاجتماعية الذي ساد اليابان، والذي يتفق مع الظروف الطبيعية للبلاد؛ فهي بلاد جبلية وعرة تكسوها الغابات وتثور فيها البراكين من حينٍ لآخر، فتلحق الدمار والخراب بما حولها، وتكاد الزلازل أن تكون حدثًا يوميًّا، ولا توجد بها سهول واسعة، إذ لا تتجاوز مساحة السهول خُمس مساحة السطح، وهي تجمع — من حيث المناخ — بين الصيف الحار شديد الرطوبة غزير الأمطار، والشتاء القارس البرد الذي يتساقط فيه الجليد بغزارة، وخاصة في الشمال والشمال الغربي، لذلك عاش اليابانيون في نضال مستمر ضد الطبيعة، ومثل هذا الصراع لا يقوى عليه الفرد، وإنما يقتضي تضافُر جهود الجماعة من أجل البقاء، فكان لا بد أن يعيش الناس في جماعات ذات تنظيم دقيق، يتمتع فيها رئيس الجماعة بسلطات واسعة على أفراد جماعته.

fig39
أحد احتفالات الشنتو.

وتركت هذه الظروف الطبيعية آثارًا واضحة على التكوين النفسي للناس، يُعبِّر عنه القول المأثور الذي تناقلته الأجيال منذ القدم، والذي يذهب إلى أن «هناك أربعة يثيرون الفزع، الزلزال، والعاصفة الرعدية، والحريق، والأب (أو رب العائلة)»، وليس مِن الغريب أن تكون سلطة الأب أو رب العائلة وكبيرها صارمة كصرامة الكوارث الطبيعية؛ لأن مواجهة الحياة في مجتمع له مثل تلك الظروف الطبيعية القاسية يقتضي وجود تنظيم دقيق للجماعة، يتمتع — في ظله — رئيس الجماعة بسلطات واسعة وكلمة مسموعة مرهوبة، ومن ثَم كانت التربية اليابانية قائمة على غرس قيم الولاء للعائلة الصغرى (الأسرة) والعائلة الكبرى (الأمة) في نفوس البشر.

ومن هنا أصبحت فكرة «البيت» ذات مدلول واسع المعنى — في الثقافة اليابانية — يتجاوز حدود بيت الأسرة، ليشمل بيت الأمة (الوطن)، ولا يوجد بيت بدون آباء، فالمحافظة على البيت تقتضي مراعاة تراث السلف، ولذلك وجب على الأفراد تدعيم البيت، والعمل على رفع شأنه، وتوقير وطاعة رب البيت، ولا تعني فكرة «البيت» — كما استقرَّت في الوجدان الياباني — أن تكون رابطة الدم هي أساس العلاقة بين مَن يقيمون فيه، فلا وزن هنا لصلة الدم أو الرحم، إنما رابطة المكان هي التي تجمع بين أهل «البيت» وكذلك رابطة العمل أيضًا، فالذين يعملون لدى صاحب الأرض الزراعية يعدون من أفراد أسرته، وكذلك مَن يعمل لدى التاجر في متجره، أو صاحب الحِرفة في ورشته، لجميع هؤلاء ما لأفراد الأسرة من الحقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات.

fig40
زلزال كانتو الكبير سنة ١٩٢٣م الذي دمر طوكيو ويوكوهاما وبعض المدن الكبرى.

وكان لفكرة «البيت» دور هام في نمو الاقتصاد الياباني الحديث فلم تكن المشروعات المالية والصناعية الخاصة ترتبط بأفراد بعينهم، ولكنها ارتبطت بعائلات (بالمفهوم الياباني للعائلة) وكثيرًا ما كان أصحاب رأس المال بمنأًى عن إدارة تلك المشروعات، التي أدارها خبراء لهم مطلق التصرف لا سلطان لأحد عليهم سوى مجلس الإدارة الذي هو — في نفس الوقت — مجلس العائلة، وعلى سبيل المثال، كان البيت المالي الشهير «ميتسوي» في القرن التاسع عشر يتكون — في حقيقة الأمر — من إحدى عشرة أسرة رأسمالية متساوية تقريبًا، لا ترتبط ببعضها البعض بصلة الدم أو الرحم، ولكنها كانت تحمل اسم عائلة ميتسوي الذي مارست نشاطها المالي به، وكذلك الحال بالنسبة لبيت «سوميتومون»، وكان كل من يعمل بإحدى الشركات التي أقامتها تلك البيوت المالية يُعَد مسئولًا عن رواج نشاطها، شأنه في ذلك شأن أصحاب رأس المال أنفسهم.

كما كانت الطريق مفتوحة أمام من يُظهِر كفاءة ومقدرة مُتميِّزة من العمال للترقِّي في مناصب الإدارة حتى أرفعها، وقد تكافئه العائلة صاحبة الشركة فتتبنَّاه رسميًّا، وتمنحه لقبها، فإذا وصل بكفاءته إلى رئاسة الشركة أصبح رئيس العائلة وكبيرها الذي يلتزم الجميع بطاعته حتى مَن جاءوا من صُلب صاحب رأس المال، ومن ثَم كان التفاني في العمل هدف الجميع حتى يظل «البيت» مزدهرًا، ويتحقق النجاح لمشروعاته، واستُخدِمت هذه الفكرة — في جانبها السلبي — في استغلال العمال في الصناعة الحديثة باسم «الواجب نحو البيت» أسوأ استغلال، وفي جانبها الإيجابي ساعدت على دفع النمو الاقتصادي الحديث إلى الأمام، فلم يعتمد النمو الاقتصادي على الإمكانات المادية وحدها، وإنما زودته الثقافة التقليدية اليابانية — التي تقول بوحدة المجتمع — بطاقة هائلة دفعته إلى الأمام.

fig41
«إيتشيوجويا»؛ أحد محلات بيع الأقمشة والثياب في إيدو، وقد أسسه «متسوي هاتشيرونيمون» الذي أصبح الآن متجر ميتسوكوشي.

وأثمرت هذه الوحدة الاجتماعية الفريدة اتجاهًا أخلاقيًّا يدفع الفرد إلى التضحية بالنفس من أجل عشيرته في العهد الإقطاعي، ثُم مِن أجل الإمبراطور والوطن في عصر النهضة الحديثة، وأدى ذلك إلى تميُّز التكوين الفكري الياباني بروح التطرُّف الوطني الذي يمتزج فيه الولاء للوطن وطاعة الإمبراطور والتضحية الواجبة بالنفس في سبيلهما، وغذت العقيدة الشنتوية هذا الشعور الوطني المُتطرِّف بتأكيد أن العائلة الإمبراطورية المُقدَّسة هي نواة الشعب الياباني كله، وارتبط بها مفهوم «الأمة المقدسة» الذي بلغ أوجه في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، واستمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، واستقر في أذهان اليابانيين أن بلادهم «أعظم بلاد العالم قاطبةً؛ لأن الآلهة صنَعَتها قبل أن تصنع بقية بلاد العالم؛ فهي أرض لها قداستها واحترامها.» ومِن ثَم أطلقوا على بلادهم «اليابان العُظمى» واعتبروا الإمبراطور أبًا للأمة اليابانية.

وتطورت «الوطنية» اليابانية من مفهوم «الدولة» الياباني ذاته الذي أطلقوا عليه اسم «النظام الإمبراطوري»، وليس مِن مفهوم «الدولة» في علم السياسة، ولذلك صِلة وثيقة بمفهوم «الوحدة الاجتماعية» التي تربط بين الناس والأرض والسلطة برباط واحد، وساعد الموقع الجغرافي لليابان على دعم ذلك المفهوم وأنبتت له الشنتوية جذورًا في وجدان اليابانيين منذ القدم، وبذلك توفرت لليابان ملامح «وطنية» واضحة قبل القرن التاسع عشر بزمن بعيد، وقبل وصول المؤثِّرات الفكرية الغربية الحديثة إلى البلاد، قامت تلك الملامح على أسس راسخة من التراث الثقافي الياباني؛ لتعبر عن واقع يختلف اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا — اختلافًا جذريًّا — عن فكرة «القومية» بمفهومها السياسي الحديث.

مرحلة الانتقال

بدأت وفود المؤثرات الفكرية الغربية إلى اليابان خلال ما اصطلح على تسميته «بالقرن المسيحي» عند المؤرخين اليابانيين، ويبدأ بعام ١٥٤٩م الذي شهد وصول أول إرسالية تبشيرية كاثوليكية إلى اليابان، وينتهي بعام ١٦١٤م الذي حظرت فيه حكومة طوكوجاوا المسيحية وقامت بتصفية مُعتنِقيها من اليابانيين، واقتصرت الأفكار الجديدة الوافدة — عندئذٍ — على الفكر الديني المسيحي الذي قامت الإرساليات التبشيرية بترجمته إلى اليابانية وطبعه، غير أن أثر تلك الأعمال تلاشى مع تحريم المسيحية وطرد الإرساليات التبشيرية، وفرض العزلة على البلاد.

وكثيرًا ما تشير المصادر إلى تأثر بعض المثقفين — في عصر طوكوجاوا — بالفكر الغربي بدرجةٍ ما، ولكن هذا التأثُّر لم يؤدِّ إلى إيجاد تقارُب بين الفكر التقليدي الياباني، والفكر الغربي الوافد إلى البلاد عبر تلك النافذة الخلفية التي أبقتها حكومة طوكوجاوا مفتوحة على العالم الخارجي، ونعني بها جزيرة ديشيما التي كانت تقع أمام شاطئ نجاساكي، والتي اقتصر التعامُل التجاري فيها على الهولنديين.

وكان التأثر بالفكر الغربي أكثر وضوحًا عند مفكري القرن الثامن عشر، وخاصةً ما عُرِف باسم «علوم الهولنديين» التي سمحت الحكومة (عام ١٧٢٠م) بترجمة ما اتصل منها بالطب والجغرافيا، والعلوم العسكرية الخاصة بصناعة الأسلحة وبناء الحصون، ولكنها حرمت كل ما اتصل بالفلسفة والفكر، وكان هذا النوع من الكتب التي تعالج المسائل الفكرية يهرب إلى البلاد على يد التجار الهولنديين، ولما كان الممنوع مرغوبًا، فقد اشتد الإقبال على قراءة تلك الكتب، وانعكس ذلك على كتابات بعض المفكرين اليابانيين المعاصرين.

fig42
قلعة هيمجي في هيوجو – نهاية القرن ١٦.

وجاء التحدي الكبير الذي واجهته اليابان من القوى الغربية والذي دفعها إلى فتح بعض موانيها للتجارة الخارجية (عام ١٨٥٤م)، ليُحرِّك تيارًا فكريًّا شُغِل بقضية الساعة؛ الانفتاح على العالم، أو البقاء وراء أسوار العزلة، وقامت تلك الحركة التي دعت إلى «توقير الإمبراطور وطرد البرابرة» على أكتاف الساموراي، الذين كان جناحهم المثقف بمثابة الرافد الرئيسي للتيار الفكري الجديد، وهو تيار وطني راح يبحث عن حل للمأزق الذي وقعت فيه البلاد، ورأى أن الأمر يتطلب تغييرًا سياسيًّا يتيح لأفكاره فرصة التطبيق العملي، وأعطى ذلك التيارُ للحياة الفكرية في مرحلة الانتقال من عصر طوكوجاوا إلى عصر النهضة (مايجي) ملامحَها المميزة لها، والتي انعكست في أفكار الرواد من أمثال: شوزان، وشونان، وبوشيدا. وقد اتفق ثلاثتهم — فيما صدر عنهم مِن كتابات — على ضرورة الإلمام بمعارف الغرب لتقوية البلاد في مواجهة ضغوط الغرب، وتفاوتت اهتماماتهم من الحرص على توظيف العلوم الحديثة لمصلحة البلاد إلى ضرورة التعرف على أفكار الغرب والاستفادة منها، وذهب بعضهم إلى ضرورة تصفية نظام طوكوجاوا وإقامة نظام ثوري جديد يستفيد بعلوم الغرب ويعمل على بناء دولة حديثة قوية في اليابان تضارع دول الغرب.

وقد تأثَّر بكتابات هؤلاء المفكرين أولئك الذين أطاحوا بنظام طوكوجاوا وأقاموا نظام مايجي، وتبنوا مشروع النهضة.

مرحلة التحضر والتنوير

يُطلِق المؤرخون اليابانيون على المرحلة الممتدة من ١٨٧٣م حتى ١٨٧٧م مرحلة «التحضُّر والتنوير» فقد أخلى شعارُ توقير الإمبراطور وطرد الأجانب — في سِنِي طوكوجاوا الأخيرة — مكانَه لشعار «التحضُّر والتنوير» الذي أُطلِق في السنوات التي شهدت التوسع في الاقتباس من الغرب.

fig43
الإمبراطور الحالي «إكيهتيو» والإمبراطورة ميتشيكو.

ولعل من الملاحَظ أن تلك المرحلة لم تبدأ مع بداية عصر مايجي (١٨٦٨م) ولكنها تأخرت قليلًا، وكان ميثاق العهد الذي أعلنه الإمبراطور أداة الانتقال إلى مرحلة التحضُّر والتنوير؛ فقد بدأ التأثر بأسلوب الحياة الغربية في تلك السنوات (١٨٦٨–١٨٧٣م) يُصبح ظاهرةً ملموسة، ترددت أصداؤها في الأعمال الأدبية التي كانت تنضح بالسخرية مِن أولئك الذين قلدوا الغرب في أسلوب حياتهم.

وتعد رواية «آكل اللحم» للكاتب الياباني روبون (١٨٢٩–١٨٩٤م) أبرز مثال لتلك الكتابات الناقدة؛ فقد اتخذ المؤلفُ بطلَ روايته مِن بين شباب تلك الأيام، وصوره في شكل شاب يحمل مظلة أوروبية الصنع، ويتمنطق بساعة ذات سلسلة مطلية بالذهب، يرتاد المطاعم الجديدة التي أقيمت على الطراز الغربي لتقدم وجبات شهية من اللحم البقري الذي أقبل عليه الشباب إقبالًا شديدًا في تلك الأيام، بعد أن كان اليابانيون يأنفون من أكل اللحم لأنه يتنافى مع تعاليم البوذية، ويعتقدون أنَّ مَن يأكله لا يرقى إلى مستوى البشر، وصفف بطل الرواية شعره على طريقة أبناء الغرب، وحرص على أن يغسل يديه بالصابون المعطر، كما كان يتعطر بماء الكولونيا وهو يخرج ساعته من جيبه — من حين لآخر — لا ليعرف الوقت، ولكن ليراها الناس في يده.

وامتلأت شوارع طوكيو بأولئك الذين يرتدون ملابس غريبة، تجمع بين الزي الياباني التقليدي والزي الغربي وشاعت مصطلحات جديدة تداولها الناس في أحاديثهم اليومية، مثل «التجارة» و«التوظف في الحكومة» تعبر عن التطلعات الجديدة لشباب العهد الجديد، وحتى الأمهات كن يغنين لأطفالهن أغاني شاعت — في تلك الأيام — تدعو للطفل أن يكبر لتراه أمه موظفًا حكوميًّا من ذوي الرواتب الشهرية، وأصبحت عادات اليابانيين — التي درجوا عليها بالأمس — «عادات بربرية»، وحاولوا اقتباس عادات الغرب التي كانت «بربريةً» بالأمس، فأصبحت اليوم تمثل «المدنية» و«العصرية».

وفي يوليو ١٨٧٣م، أسس جماعة من المثقفين اليابانيين جمعيةً أدبيةً فِكرية، كان لها أثرها في الفكر الياباني في تلك المرحلة هي «جمعية العام السادس من عصر مايجي» التي تزعمها أرينوري، وكان يَشغَل منصب القائم بالأعمال في الولايات المتحدة الأمريكية، حيثُ بهره نشاط الجمعيات العلمية والأدبية هناك، فحمل فكرتها معه عندما عاد إلى بلاده في تلك السنة، وفاتَح بعض أصدقائه مِن المثقفين في إقامة جمعيات يابانية مماثلة، وكان مِن بين هؤلاء: نيشيمورا، وشندو، وأماني، وفوكوزاوا، وغيرهم من أقطاب الجيل المخضرم مِن المثقفين الذي نشأ على الثقافة التقليدية، ثُم تأثَّر بالتيارات الفكرية التي سادت في مرحلة الانتقال ونهل من الثقافة الغربية في مرحلة التحضر والتنوير.

ودرجت الجمعية على عقد اجتماع عام في أوائل كل شهر، وآخر في السادس عشر من الشهر بأحد المطاعم الغربية، حيث يتناولون العشاء معًا، ثُم يلقي أحدهم محاضرةً تعالج قضية فكرية أو أدبية أو علمية، أو يعرض لنظرية من النظريات الغربية في تلك المجالات، واختلف إلى تلك الاجتماعات الكثير مِن موظفي الحكومة والمثقفين للاستماع إلى المحاضرات والمشاركة في المناقشات.

وما كاد يمر عام واحد على تأسيس الجمعية، حتى أصدرت «مجلة السادس من عصر مايجي» لتصبح منبرًا رائدًا في الفكر الحديث، ولتعبر عن أفكار الرواد الذين بشروا بالفكر الغربي، وكانت المجلة تصدر نصف شهرية (فبراير–أكتوبر ١٨٧٤م)، ثُم أصبحت تصدر كل عشرة أيام اعتبارًا من نوفمبر. وبلغ حجم توزيعها ثلاثة آلاف نسخة، وهو رقم قياسي، إذا علمنا أن أكبر صحيفة يومية كانت توزع — عندئذٍ — ثمانية آلاف نسخة يوميًّا.

وإلى أعضاء «جمعية العام السادس من عصر مايجي» يرجع الفضل في إثراء اللغة اليابانية بمفردات تعبر عن مصطلحات جديدة، بل يرجع إلى فوكوزاوا الفضل في ابتداع لفظ «خطابة» و«مناقشة» ولم يكن لهما وجود بين مفردات اللغة من قبل، وبرز مِن بين أعضاء الجمعية مَن برعوا في الخطابة، وأقيمت أول قاعة اجتماعات كبرى بجامعة كيو (التي أسسها فوكوزاوا) عام ١٨٧٥م.

وكان مِن بين أعضاء الجمعية ناكامورا (١٨٣٢–١٨٩١م) الذي اعتنق المسيحية، وروَّج لفكرة التسامح الديني وحرية العقيدة على صفحات مجلة الجمعية، كما كان رئيسها — أرينوري — رائد الدعوة إلى تحرير المرأة اليابانية، وطالب بضمان حقوقها في سلسلة من المقالات نشرها على صفحات مجلة بعنوان: «في الزوجات والمحظيات» وشاركه فوكوزاوا الرأي في بعض مقالاته التي ساهم بها في الدعوة إلى تحرير المرأة، كما كتب شندو مقالًا حول «مساواة المرأة بالرجل في الحقوق».

كذلك دعا أرينوري — الذي اعتنق المسيحية — إلى حرية العقيدة، مُؤكِّدًا أنها تأتي في مُقدمة الحريات الشخصية التي يجب أن تتوفر للفرد، وعندمَا أصبح وزيرًا للتعليم، فتح مدارس الحضانة للأطفال، وركز جهوده على تعليم البنات، وأوفد أول بعثة من الطالبات اليابانيات للدراسة في أمريكا.

أما فوكوزاوا، فكان رائد الفكر الليبرالي في عصر مايجي بلا منازع. ونستطيع أن نُميِّز بين ثلاث مراحل تطوَّر خلالها فكره: المرحلة الأولى (١٨٦٢–١٨٦٩م) ركز خلالها على التعريف بالحضارة الغربية من خلال بعض الكتب التي ذاع صيتها في تلك الفترة مثل «قدوم وذهاب الأجانب» و«الأحوال في الغرب» و«دليل السياحة في الغرب» و«العلوم الطبيعية المصورة» و«حول جميع البلاد» وفي المرحلة الثانية (١٨٦٩–١٨٧٧م) اهتم فوكوزاوا بإبراز ما يمكن أن تفيد به اليابان من حضارة الغرب وعلومه، فكتب في تلك المرحلة كتابين مهمين هما: «تشجيع المعرفة» و«إلمام بالحضارة»، أما المرحلة الثالثة والأخيرة (١٨٧٧–١٩٠١م) فقد وضع فيها صيغة يابانية للفكر الحديث، في محاولة للتوفيق بين الموروث والمكتسب من الأفكار.

fig44
ثلاث نساء – لوحة مرسومة في القرن الثامن عشر.

وذهب فوكوزاوا إلى أن الغرب يمتاز عن الشرق باعتماده على المنهج العقلي والرياضيات، واهتمامه ببث روح الاستقلال واحترام حرية الفرد، ومن ثَم رحَّب فوكوزاوا بالمدنية الغربية مِن خلال ما وجَّهه مِن نقد للمجتمع الإقطاعي في أواخر عصر طوكوجاوا، ورأى أن التاريخ يكتسب مغزاه من كونه تاريخًا للحضارة … وحاول أن يُفسِّر أسبابَ تخلف الشرق عن اللحاق بالغرب حضاريًّا من خلال هذا المنظور، فذهب إلى أن التاريخ ينقسم إلى ثلاث مراحل: التوحُّش، والبربرية، والمدنية، وتشمل المرحلة الأولى حياة الترحال والصيد وبداية الزراعة، أما الثانية فتشمل المجتمع الزراعي حتى قيام الإقطاع، أما المرحلة الأخيرة، فهي مرحلة المدنية المتقدمة القائمة على أساس العلم والتي تمثل المجتمع الحديث.

وطبق فوكوزاوا ذلك على بلاد العالم، فرأى أن أفريقيا تعيش مرحلة التوحُّش، والصين واليابان وتركيا تعيش مرحلة البربرية، وأن أوروبا الغربية وأمريكا تعيشان مرحلة المدنية، فإذا أرادت اليابان أن تأخُذ بأسباب التقدم، فإنَّ عليها أن تطرح عنها مرحلة البربرية وتجد السير في طريق التمدن، وتجعل المدنية الغربية هدفها الأسمى، وتتخذ من الغرب مثلها الأعلى.

وركز فوكوزاوا على أهمية التجربة كسبيل للتقدم؛ لأن «التقدُّم لا يتحقق إلا من خلال مئات وآلاف التجارب»، والتجارب تقوم على «الشك» ومن خلال الشك والتجربة تطورت الحضارة الغربية. ولا يتحقق استقلال بلد ما إذا لم يتحقق استقلال الفرد فيه، ولما كان الفرد الياباني محرومًا من استقلاليته مرتبطًا بالجماعة، «فلا نستطيع القول إن في اليابان أمة، ولكن هناك حكومة … لأن ذلك (فقدان الفرد الياباني لاستقلاله) جعل اليابان محرومة منذ القدم من إمكانية تكوين أمة»، والعلاقة بين الشعب والحكومة علاقة تعاقُدية قائمة على الأخذ والعطاء، وكما أنَّ على الشعب واجبات، فلا بد أن تكون له حقوق، وأبرزها حق المشاركة في السلطة، فليس الناس عبيدًا للحكومة، وما الحكومة إلا أداة لخدمة الشعب، ويجب أن يكون التمايُز بين الناس قائمًا على أساس ما يحصلونه من علم.

وينتقل فوكوزاوا من هذا الإطار الفكري، إلى تحليل النظام السياسي في اليابان في كتابه: «في العائلة الإمبراطورية» (نشر عام ١٨٨٢م)، فذهب إلى أنَّ احترام الأسرة الإمبراطورية شيء والمؤسسات السياسية شيء آخر، فلا يجب الربط بينهما، ويجب أن يظل الإمبراطور بعيدًا عن التدخل في معترك السياسة، حتى تظل العائلة الإمبراطورية محتفظة بكرامتها وقدسيتها؛ فوظيفة الحكومة تشريعية وتنفيذية، ولا شأنَ لها بمشاعر الناس، ولا يجب أن تسعى للتحكم في تلك المشاعر، ويستطيع الإمبراطور أن يفعل الكثير لأبناء شعبه إذا صرف اهتمامه إلى تشجيع المعرفة والفنون.

وأشار فوكوزاوا — ضمنًا — في كتابه «في توقير الإمبراطور» (١٨٨٨م) إلى أن الإمبراطور يعلو فوق شئون الحكم، ولا يشارك فيه مباشرة؛ فالسياسة هي أحد جوانب الحياة في اليابان، ويجب أن يهتم الإمبراطور بجميع جوانب حياة أمته التي تُعَد عائلته، فلا يركز على جانب مُعَين على حساب الجوانب الأخرى، ولما كان الناس يُبجِّلون الإمبراطور، فإن «هذا التبجيل يجب أن يقوم على أساس قانوني.»

ويتجلى أثر الفكر الليبرالي في تكوين فوكوزاوا — بوضوح — في مفهوم التطور الحضاري عنده، فهو يرى أن هذا التطور يؤدي إلى زيادة تعقُّد العلاقات الإنسانية وتشابُكها على المستويين المحلي والعالمي سواءً بسواء، ويصحب هذا التطور تشعُّب الوظائف الاجتماعية لكل الفئات التي تعيش في المجتمع، فلا تستقر الأوضاع الاجتماعية على حال واحد، وتسقط كل الحواجز التي تصنف الناس حسب مولدهم، لذلك يجب النظر إلى الفرد من خلال أعماله، وليس من خلال أصله الاجتماعي، فعلى حد تعبيره: «ليست أعمال كل من انحدروا من أصول رفيعة أعمالًا طيبة بالضرورة، وليست أعمال كل من انحدروا من أصول متواضعة أعمالًا سيئة بالضرورة» وفي هذا نقد صريح للتراث الثقافي الياباني الذي يبرز قيم الأسرة، ويركز على الروابط الاجتماعية ذات الدائرة المغلقة، ولا يعتبر الفرد إلا في نطاق الجماعة التي ينتمي إليها — ففكرة المساواة الاجتماعية، وتقييم الفرد على أساس عمله — بِغَض النظر عن أصله الاجتماعي إنما كانت فكرة جديدة على العقلية اليابانية في ذلك العصر.

لذلك كان من الطبيعي أن يشن أنصار المحافظة على التراث التقليدي حملة شعواء ضد فوكوزاوا، تصدَّى الأخير لها فرد عليها بمقال نُشر بجريدة تشويا، جاء فيه: «إنهم يخلطون بين الأشياء بطريقة عشوائية … فهم يفترضون أن المساواة في الحقوق بين جميع أفراد الشعب مأخوذة من المبادئ الجمهورية، والجمهورية مأخوذة مِن المسيحية، والمسيحية ثقافة غربية … وهم يفترضون أنه ما دامت ثقافة فوكوزاوا غربية، فإن نظريته الخاصة بحقوق الشعب مُستمَدَّة مِن المسيحية والمبادئ الجمهورية … ويرجع ذلك إلى رؤيتهم الأشياء من جانب واحد … فتاجر الخمر ليس بالضرورة عاقرها، وصانع الحلوى ليس بالضرورة آكلها، ولا يجب أن نحكم على التاجر بمجرد رؤيتنا للبضاعة التي يضعها في متجره …» وبذلك يُشير فوكوزاوا إلى أن الأفكار التي يطرحها على مواطنيه، تُلبِّي حاجة المجتمع، تمامًا مثل البضاعة التي يعرضها التاجر لتلبية طلب السوق، وينفي عن نفسه تهمة الانقياد التام للأفكار الغربية.

مرحلة الحرية وحقوق الشعب

لم تنتهِ مرحلة «التحضر والتنوير» بنهاية «جمعية السادس مِن عصر مايجي» فقد استمرَّت الفكرة الليبرالية حتى عام ١٨٨٧م، ولكنها اتخذت طابع التطبيق العملي، وتحولت إلى حركة سياسية — طوال السنوات العشر الممتدة من ١٨٧٧م حتى ١٨٨٧م — على يد الجيل الجديد من الشباب الذي تأثر بما طرحه الجيل المخضرم من أفكار ليبرالية على صفحات «مجلة السادس من عصر مايجي» التي كانت نبراسًا لعدد من المجلات الثقافية والفكرية ظهرت في تلك الفترة، وتميَّزت عَن بعضِها البعض مِن حيث القضايا التي تصدَّت لها، وإن اتفقت جميعًا مِن حيث الغاية التي استهدفت تحقيقها.

وحرر معظم تلك المجلات مثقفون ممن اعتنقوا المسيحية، وبشَّروا بحقوق الشعب مِن منطلق إيمانهم بحرية العقيدة، وتُعَد «مجلة الدنيا» التي حررها كوزاكي، وبدأ ظهورها عام ١٨٨٠م، امتدادًا لمجلة «السادس من عصر مايجي» من حيث الاهتمام بالفكر الليبرالي والترويج لحقوق الإنسان، ونافست مجلة «صديق الأمة» التي ظهرت أواخر الثمانينيات ومجلة «الشمس» التي ظهرت في أواخر التسعينيات، ولم تكن «مجلة الدنيا» مجرد مجلة مسيحية ولكنها عُنِيت بتقديم الفكر السياسي الغربي، وعرف الفكر الاشتراكي طريقه إلى اليابان عبر صفحاتها، بينما ركزت مجلة «الفنون والعلوم الشرقية» اهتمامها على نظرية التطور (النشوء والارتقاء) وبذلك عارضت نظرية حقوق الإنسان التي استندت إليها حركة الحرية وحقوق الشعب، وقد اتُّخذ مفهوم مبدأ «البقاء للأصلح» دعامة للتيار الوطني المتطرف، كان سوجيوارا — أحد مؤسسي هذه المجلة — مِن كبار مُنظِّري الاتجاه الوطني المتطرف.

وهكذا حفل ذلك العقد (١٨٧٧–١٨٨٧م) بمختلف الاتجاهات السياسية والفكرية: من الليبرالية إلى الدارونية إلى الفكر المسيحي، ولكن التيارات السياسية كانت تحتل المكان الأول — مِن حيث الأهمية — تليها التيارات المسيحية. وبمرور الزمن غلب على الحياة الفكرية الإحساس بأن الإنسان ليس حيوانًا سياسيًّا فحسب، بل هو مخلوق له وجدان وروح، ولديه قدرات ومهارات وفنون، كما أنَّ له تاريخًا.

ومِن المُلاحَظ أن الحياة الفكرية — في تلك الحقبة — دارت حول حركة المطالبة بالحياة النيابية، ثم أصبحت ترتكز — بعد عام ١٨٨٧م — حول قضية السيادة (أو مصدر السلطات) بعدما اقترب موعد صدور الدستور، واختلف المُفكرون حول حق السيادة، وما إذا كان الشعب وحده مصدر السلطات، أم أن السيادة قسمة بين الشعب والحاكم، أم أن الإمبراطور وحده مصدر السلطات، أو — بعبارة أخرى — دار الجدل حول مفهوم «السيادة الشعبية» و«السيادة القومية»، وترددت أصداء ذلك الجدل على صفحات جريدتَي «أخبار طوكيو ويوكوهاما» التي مثلت الاتجاه الأول، و«طوكيو اليومية» التي عبَّرت عن الاتجاه الآخر.

الفكرة اليابانية والفكرة الشرقية

وعلى حين علا مد العمل السياسي خلال الفترة ١٨٧٧–١٨٨٧م، انحسر ذلك المد خلال العقد التالي (١٨٨٧–١٨٩٧م) بصورة تدريجية، ورسخت أقدام الرأسمالية المستندة إلى حماية الدولة والتي أعلنت شعار العودة إلى الفِكر الياباني التقليدي، ومن ثَم كان ظهور الشعور الوطني المُتطرِّف، أو ما يُمكِن أن نُطلق عليه «الفكرة اليابانية»، وحفلت تلك المرحلة بقضايا القيم الخلقية والدينية، وشهدت يقظة نوع من الإحساس بالذات عبر عن نفسه من خلال تطوُّر كل من الشعور الفردي والوعي القومي.

وساد في تلك المرحلة مزيج من الاتجاهات الإصلاحية والاتجاهات الرجعية، نستطيع أن نتبيَّن مِن خلال الشعبية التي حظِيَ بها شعار «اليابان الجديدة»، ثم برز الاتجاه الوطني المتطرِّف في أواخر المرحلة، كذلك امتازت الحقبة بإحياء الفنون والآداب اليابانية العريقة التي كادت تُهمَل منذ بداية عصر مايجي.

وشهدت المرحلة مولد عدد من الجمعيات الفكرية والثقافية من بينها تلك الجمعية التي تأسست عام ١٨٨٨م وكانت تصدر مجلة «اليابانيون» التي أصبحت تُعرف — فيما بعد — باسم «اليابان واليابانيون»، وفي عام ١٩٠٧م أصبحت هذه الجمعية تُعرف باسم «جمعية الفكر السياسي» ويعنينا هنا الوقوف على أفكار ميباكي محرر مجلة «اليابانيون» وكوجا محرر جريدة «اليابان» التي ظهرت عام ١٨٨٩م، وأفكار الرجلين تعبر عن الاتجاه الوطني المتطرف (السوفيتي).

fig45
إحدى الخطب العامة في حديقة أوينو، طوكيو سنة ١٩١٩م. شأن حق الانتخاب للشعب الياباني للمشاركة في الحياة النيابية والسياسية.

أما كوجا، فقد صاغ نظرية خاصة بالقومية، كانت وسطًا بين الشوفينية والقومية التي تدور حول محور الفرد التي عرفتها ليبرالية القرن الثامن عشر، وذهب إلى ضرورة تأسيس حزب وطني؛ «فالبيت الإمبراطوري والحكومة ينتميان إلى الأمة كلها، وعلى هذا النحو تحقق الوحدة القومية، والحزب الوطني يرمي إلى تجنُّب الأمة شر الانقسام والذاتية، ويهدف إلى جعل السلطة السياسية القومية ترتكز على الرأي العام، وهو يُحافِظ على القوى القومية، ويعمل على تطويرها»، وذكر في كتابه «أسس السياسة» (عام ١٨٩٣م) أن «الحكومة الدستورية» ليست إلا وسيلة لتحقيق غاية، ولا تُعَد غايةً في حدِّ ذاتها في إطار الحكومة القومية.

fig46
لفافة تعود للقرن ١٣ تصور حياة العلامة (سواجاوارنو-هيتشيزائي) (٨٤٥–٩٠٣م).

أما ميباكي، فقد رأى في الدولة «كائنًا حيًّا عظيمًا»، وليست مجرد «شركة» قائمة على أساس تعاقدي، إنها «الدولة اليابانية التاريخية»، وواجبات الأمة — عنده — تفوق ما لها مِن حقوق، لذلك كان على اليابانيين أن يبذلوا أقصى الجهد لأداء واجباتهم؛ لأن ذلك هو الطريق الوحيد لتحقيق السعادة.

وقد أثبت اليابانيون دائمًا أنهم أهل «إخلاص، وخير، وجمال» ولكن ميباكي لم يُغفل الإشارة إلى عيوب اليابانيين، وفي مقدمتها — في رأيه — الغطرسة، وسيطرة أمراء المال، وهو ما يجب أن يتخلص اليابانيون منه.

وبذلك وضع هذان المفكران جذور «الفكرة اليابانية» التي نمت وترعرعت في مرحلة تالية، وإن كان اهتمامها قد انصرف إلى «الفكرة الشرقية» التي تُعَد — عندهما — نقيضًا للرأسمالية والإمبريالية الغربية، وتبحث في كيفية حماية اليابان والشرق من خطر الغرب وأطماعه، وكان ذلك يتسق مع سياسة اليابان عندئذٍ، حيث كانت تلتزم جانب الدفاع، ولم تتحوَّل إلى التوسع إلا في أواخر تلك الحقبة.

وعبر أوكاكورا عن «الفكرة الشرقية» في كتاباته، وخاصة في «مثاليات الشرق» وفي «يقظة الشرق» فلم يكن أوكاكورا يرتاح إلى تفوق الغرب على الشرق، وقدرته على شن العدوان ولكن لم يدرِ بخلده أن يغزو الشرق الغرب؛ فللشرق — عنده — شخصيته الخاصة به، كما أن لليابان شخصيتها المميزة في إطار الشرق، لذلك رأى ضرورة احتفاظ الفن الياباني بسماته الخاصة «لأنه يُقدِّم اليابان إلى العالم».

وأيقن أوكاكورا من صحة نظريته عندما زار الصين، واكتشف أن الفن الياباني لا يعتمد على تراث الصين في كل شيء، وأنه يمكن أن يكون فنًّا مستقلًّا، وعندما زار الهند (١٩٠١م)، شعر أن اليابان تحوي الكنوز التاريخية للحضارة الآسيوية، وأن تاريخ الفن الياباني هو تاريخ للمُثُل الآسيوية، مما يقدم الدليل على «وحدة آسيا»، لذلك رأى أوكاكورا أنَّ من العار على اليابانيين أن يَبخسوا أنفسهم حقها، ويستهينوا بما لديهم مِن إمكانيات، وأنَّ عليهم أن يُحققوا ذاتهم، ولا يندفعوا نحو تقليد الغرب تقليدًا أعمى؛ «لأن الشجرة لا تستمد قوتها إلا من قوة بذرتها»، ورغم أنه يقر بما للعصر الحديث من فضل إبراز مفهوم الحرية الفردية، نجده يمتدح ما أسماه «الحرية الشرقية» حيث يعيش الناس تحت السحاب، يفترشون الجبال، ويعتنقون قيمًا أعلى مستوى مِن القيم الغربية القائمة على الحريات الشخصية «فعظمة آسيا تتجلى في ذلك الانسجام الذي يجمع بين الإمبراطور والفلاح.»

وذهب أوكاكورا إلى أن ثمة صراعًا مستمرًّا بين علم الغرب ومثالية آسيا وفنها، وعزا ما اعترى التذوق الفني من ضعف — في عصر مايجي — إلى انتشار الصناعة والترويج للديمقراطية وتحالف المسيحية مع أسلحة الدمار، ولذلك تحتاج آسيا واليابان — في رأيه — إلى نوعٍ من التنسيق الداخلي لتلافي الازدواجية، حتى تصبح قادرة على مقاومة المؤثرات الغربية.

ورغم أن أوكاكورا كان ناقدًا فنيًّا، لا يسعى لوضع نظرية سياسية تتصل بآسيا، لكنه يسوق الأفكار في إطار تحليل الظواهر الحضارية التي حظيت باهتمامه، إلا أن الفاشية اليابانية جعلت منه — فيما بعد — «نبيَّ النظام الجديد لشرق آسيا العظمى.»

فكرة تقديس الدولة

وشهد العقد الأخير من عصر مايجي (عصر النهضة اليابانية) علو مد «الفكرة اليابانية» نتيجة التوسع الإمبريالي الذي شنته اليابان على جيرانها، وتحولت تلك الفكرة إلى تقديس كامل للدولة، مهد له القانون المدني الذي صدر عام ١٨٩٨م، وجعل لأرباب العائلات اليد العليا على أفرادها، فلا يستطيع أحد أفراد الأسرة أن يُبرِم أمرًا دون الحصول على موافقة رب الأسرة، بما في ذلك الزواج واختيار بيت الزوجية، وأصبح لمن يخلف (كبير العائلة) في الرياسة حق وراثة ثروة الأسرة باعتباره راعيًا لها، وجعل للأب سلطة مطلقة على زوجته وأبنائه، وظل هذا القانون ساريًا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

وكان من الطبيعي أن يتجه المشرع إلى وضع كل السلطات في يد أرباب العائلات فيما يتصل بشئون عائلاتهم، فقد كان ذلك يعكس التراث الياباني التقليدي، كما يعكس النظام السياسي الذي يجعل من الإمبراطور كبيرًا للعائلة اليابانية (الأمة) وبذلك تفرقت السبل بالتجربة اليابانية ونظام الدولة الحديثة بالمفهوم الغربي.

وبرزت ثلاثة اتجاهات في الفكر القومي الياباني، الذي ضرب بجذوره في أعماق التراث التقليدي، عبرت عن المفهوم العائلي للدولة، نجملها فيما يلي:
  • (١)

    اتجاه يعدُّ «العائلة» ركيزة الدولة اليابانية، ويرى في قيم المجتمع وأخلاقياته امتدادًا لقيم الأسرة وأخلاقيتها، فينادي بالولاء للحاكم باعتباره واجبًا أخلاقيًّا يعادل الولاء لرب الأسرة، ويجعل مِن الشعور الوطني نوعًا من الانتماء العائلي.

  • (٢)

    اتجاه يربط بين الولاء للدولة والعائلة، وبين «تقديس الأسلاف» الذي ركزت عليه التربية — في ذلك الحقبة — على نحو يقوم على الربط بين حقائق التاريخ والأساطير؛ فاليابان «بلد الآلهة» تحكمها أسرة مقدسة، انحدرت من صلب الآلهة.

  • (٣)

    اتجاه ينسج التراث الأسطوري في صورة «عبادة الدولة» مستفيدًا بما استقر في وجدان الناس من عقائد متوارثة بعد صبغها بالصبغة السياسية.

وساعد على رواج هذه الاتجاهات والتفاف الناس حولها، انتصار اليابان في الحرب الصينية-اليابانية، والحرب الروسية-اليابانية، واتجاه البعض إلى تفسير تلك الانتصارات في إطار فكرة «الأمة المقدسة» وعبر عن تلك الاتجاهات هوزومي الذي صاغ الإطار النظري لفكرة تقديس الدولة.

انحدر هوزومي من أسرة من الساموراي، وتأثر بوالده الذي كان معلمًا للتراث القومي، وتخرج في جامعة طوكيو الإمبراطورية عام ١٨٨٣م، ثم أوفد إلى ألمانيا — في العام التالي — لدراسة النظم السياسية والتاريخ، فتأثَّر بالفكر القومي الألماني، ولكنه نظر إليه من زاوية فكرية، ساهم التراث الياباني التقليدي في صياغتها بنصيب أكبر مما ساهم به الفكر الغربي، وعبر عن آرائه على صفحات جريدتَي «طوكيو اليومية» و«بريد المثقف»، فرفض النظريات الخاصة بسيادة الشعب منذ كان طالبًا بجامعة طوكيو.

وبعد عودته إلى اليابان (١٨٨٩م) نشر مقالًا شهيرًا بعنوان «عقيدة الدولة المطلقة» فسَّر فيه الدستور الياباني مِن وِجهة نظر الفكر السياسي الألماني، فامتدح الشمولية واستهجن الاتجاه الفردي، ونادى بضرورة ذوبان الفرد في الدولة، وناقش — في مقال لاحق — القانون المدني الياباني، فامتدح تركيزه على «الأسرة»، ورأى فيه مفتاح الخير للبلاد؛ لأن اتجاه المشرع إلى إبراز مكانة الفرد من قبل، ساعد — في رأيه — على نمو الرأسمالية اليابانية بالصورة التي أدت إلى اتساع الهوة بين الغنى والفقر. ولما كانت اليابان «بلد عبادة الأسلاف، فنظامها الاجتماعي يقوم على العائلة، ومن ثَم تنبع السلطة من قانون الأسرة، وما الدولة إلا امتداد لنظام العائلة.»

وتبلور فكر هوزومي — عند عام ١٨٩٦م — حول فكرة تقديس الدولة التي عبر عنها في أحد مقالاته بقوله: «… إن بلادنا كانت منعزلة — في رأيي — منذ زمن بعيد، ولذلك لم تربطها علاقة صداقة بالدول الأجنبية، واستطاعت بلادنا بفضل مشاعرها القومية الفريدة أن تحتفظ بنظامها الاجتماعي والسياسي لما يربو على الألف عام. وتلك المُثُل الفريدة هي السبل التي تشكلت عن طريقها عادات وتقاليد وقيم مجتمعنا، وهي مُثُل ترجع أصولها إلى عقيدة أسلافنا، ومن ثَم يحتل الإمبراطور في بلادنا مكانة رب العائلة، وتمتد مبادئنا الخلقية العظيمة المستمدة من أسلافنا إلى من يرجع إليهم أصل أمتنا وطاعة من يمثل أسلافنا — رب عائلتنا — هو ما يجب أن ندين به للأسرة الإمبراطورية التي يرجع إليها أصل أمتنا.»

وذهب إلى أن تطبيق المفهوم الياباني للعائلة يُضفِي قدسية على الإمبراطور، لارتباطه بعبادة الأسلاف التي تشكل ركيزة العقيدة اليابانية، «فحول العرش تتجمع أرواح أجدادنا» وبذلك ربط هوزومي بين الدولة القومية الحديثة، ومفهوم الولاء الإقطاعي المستمد من الكنفوشية الذي كان لا يزال قويًّا في اليابان، وهو ما يعنيه بقوله: «الولاء للإمبراطور — رب العائلة اليابانية — وطنية وحب للوطن.»

وانعكست أفكار هوزومي على برامج التعليم الياباني في السنوات الأخيرة من عصر مايجي، وطوال عصر طايشو، فاهتمت وزارة التعليم بإدخال مناهج التربية الخلقية في جميع مراحل التعليم، ووضعت لها كتبًا دراسية خاصة أشرف هوزومي على تأليفها، ومن ثَم شارك في وضع أصول الاتجاهات الشوفينية التي غلبت على الحياة الفكرية السياسية في اليابان حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وخلقت تربة صالحة لنمو الفاشية.

وهكذا كان التطور الفكري في عصر مايجي (عصر النهضة) يموج بتيارات عديدة، بعضها يعكس المؤثرات الغربية كالليبرالية والمسيحية والاشتراكية وهي تيارات غلبت على الحياة الفكرية في النصف الأول من ذلك العصر، في مرحلتي «التحضُّر والتنوير» «وتقوية الجيش وإثراء الأمة» وهما المرحلتان اللتان بلغ التأثر بالغرب فيهما ذروته، وتحول التيار القومي — في النصف الثاني من عصر مايجي — إلى اتجاه شوفيني يستمد ركائزه من الفكر التقليدي القديم، ويقدم إطارًا نظريًّا لحركة التوسع الإمبريالي التي بدأتها اليابان في تلك الحقبة، وحققت فيها نجاحًا كبيرًا من الطريق أمام ذلك التيار الفكري الذي استقر على تقديس الدولة على أساس نظرية ربطت بين التاريخ والأساطير والعقائد الموروثة، وراح يصوغ من ذلك كله إطارًا للدولة الحديثة، وكان ذلك التناقُض الخطير الذي عاشه جيل ذلك العصر، وهو الجيل الذي نشأ في مجتمع أسرف في الاقتباس من منجزات الحضارة الحديثة، بقيم مستمدة من عصر الإقطاع، فعانى مثقفو عصر مايجي أزمة نفسية انعكست على الأدب، الذي حفل بمواقف الصراع بين الأسرة والفرد، حيث تكون الغلبة دائمًا للأسرة.

ونستطيع أن نبين ملامح ذلك الصراع الكامن تحت سطح المجتمع في أعمال ناتسومي سوسيكي (١٨٦٧–١٩١٦م). ففي روايته «ماذا بعد؟» يصف انطباع بطل الرواية الشاب عن أبيه، فيقول:

«تلقى والده تعليمه على النحو الذي كان ينشأ عليه الساموراي قبل عصر مايجي … وما تعلمه الأب أصبح يُغايِر حقائق الحياة اليومية، ولكنه ما زال يعتقد في صلاحية تلك القيم — التي تربَّى عليها — لكل العصور، رغم أنَّ ظروف الحياة أثبتت عكس ذلك، فقد تغيَّر أسلوب حياته بتغيُّر ظروف المعيشة، حتى أصبح واقعه اليوم لا يكاد يشبه واقع الأمس إلا قليلًا، رغم أنه لا يشعُر بذلك التغيير ولا ريب أنه يظن أن تربيته العسكرية الصارمة هي سر نجاحه ولكن دايسكي (الابن الشاب) ينظر إلى الأمور بصورة أخرى. فكيف يستطيع المرء تلبية حاجات الحياة العصرية مِن خلال قيم إقطاعية، إنه مهما بذل من جهد، فالصراع بينه وبين نفسه واقع لا محالة.»

ويتجلى ذلك التباين بين ما حققته اليابان من تطور عصري، وبين القيم التقليدية للمجتمع الإقطاعي في رواية أخرى كتبها شيمازاكي طوسون (١٨٧٢–١٩٤٣م) بعنوان «الوصية المهملة»، صور فيها موقف المجتمع — في عصر مايجي — من طبقة المنبوذين الذين لم يتقبلهم المجتمع رغم إلغاء النظام الطبقي القديم — قانونًا — ومنحهم حقوق طبقة العامة، فيبين لنا الطريقة المزرية التي عُومل بها معلم ناجح يحظى باحترام وتقدير تلاميذه، ويعترف زملاؤه ومدير المدرسة بكفاءته، عندما يكتشفون أصله الاجتماعي القديم، نتيجة اضطراره الاعتراف لهم بذلك (رغم وصية والده له بكتمان انتمائه للمنبوذين) ورغم تمسك التلاميذ بمعلمهم، فُصِل مِن وظيفته واضطُر إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ما دام المجتمع الياباني ينكره، ولا يعترف بآدميته، فضلًا عن الاعتراف بخدماته لوطنه.

ومهما كان الأمر، فإن هذا الصراع بين جيل الشباب الذين تفتحت أعينهم على مجتمع (عصري) يعيش بقيم إقطاعية بالية، لم يكن يستطيع التعبير عن سخطه بصراحة مطلقة؛ لأن أحدًا مِن اليابانيين لم يكن يجرؤ على الجهر بمناصبة قيم المجتمع العداء دون أن يجد نفسه في مواجهة تهمة الخيانة للدولة، ودون أن يُعَد خارجًا على عقيدة الأمة اليابانية، وقد تحمَّل المثقفون اليابانيون عبء هذه المعاناة نتيجة التناقض بين واقع الحياة، وقيم المجتمع ردحًا طويلًا من الزمان.

fig47
جبل فوجي خلف الأمواج – رسم كاتسوشيكا هو كاساي (١٧٦٠–١٨٤٩م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤