مقدمة

تنبَّه الباحثون إلى أثر القرآن الكريم في نشأة العلوم العربية عامة، وفي نشأة علوم النقد والبلاغة بصفة خاصة. وحاولوا في أبحاث كثيرة الكشف عن هذا الأثر وتحديد ملامحه وأبعاده. واختلفت زوايا التركيز بين الباحثين تبعًا لاختلاف زاوية الاهتمام.

ولم يحظَ أهم مبحث من مباحث البلاغة، وهو مبحث «المجاز» بدراسة مستقلة تُعنى بتقَصي ظروف نشأته، وأثر القرآن في تحديد ماهيته ووظيفته في التعبير البليغ. ولقد أشار الباحثون إلى أثر المعتزلة بصفة خاصة في إنضاج مفهوم «المجاز» من خلال سعيهم الدائب لنفي التصوُّرات الشعبية عن الذات الإلهية وعن أفعالها. غير أنَّ هذه الإشارات جاءت مجملةً في سياق موضوع أعم هو موضوع الصورة الأدبية في النقد العربي. وأهم هذه الإشارات الفصل الذي خصَّصه الدكتور مصطفى ناصف للمؤثرات الروحية في بحث الاستعارة، وذلك في كتابه عن «الصورة الأدبية»، وكذلك ما أشار إليه الدكتور جابر عصفور في تمهيده للفصل الخاص بالأنواع البلاغية للصورة، وذلك في كتابه عن «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي». وكان لهذه الإشارات — على عموميتها — الفضل في تنبيه الباحث إلى أهمية الموضوع، وضرورة التوفُّر على دراسته دراسةً تفصيلية تهدف إلى الكشف عن تلك العلاقة الوثيقة بين الفكر الاعتزالي وبين بحث المجاز في القرآن. وهي علاقة كان لها أثرها — دون شك — في توجيه مبحث المجاز وِجهةً خاصة في دراسة الشعر والنثر على السواء.

ولكي يُحقِّق الباحث هذه الغاية، كان عليه أن يعتمد بصفة أساسية على المصادر الأصلية للفكر الاعتزالي، دون غيرها من المصادر التي تُؤرِّخ لهم أو تحكي آراءهم. وقد أُتيح لتلك المصادر أن ترى النور منذ فترة قليلة لا تزيد على السنوات العشر. وأهم هذه المصادر مؤلفات القاضي عبد الجبَّار الأسد آبادي المتوفَّى عام ٤١٥ﻫ، وهي مؤلفات كثيرة ومتنوِّعة. وأهم هذه المؤلفات موسوعته الضخمة «المغني في أبواب التوحيد والعدل» التي تقع في عشرين جزءًا ما تزال ستة أجزاء منها مفقودة، وهي الأجزاء؛ الأول، والثاني، والثالث، والعاشر، والثامن عشر، والتاسع عشر. ولم يكن حجم هذه المؤلفات يُمثِّل صعوبةً للباحث، وإنَّما تركَّزت الصعوبة الحقيقة في معاناة فهم هذه المادة المتشعِّبة بلغتها المعقَّدة التي كثيرًا ما ألجأت الباحث إلى محاولة إعادة تركيب الجمل تقديمًا وتأخيرًا، بل وإعرابها كلمةً كلمة في أحيان كثيرة، حتَّى يطمئن إلى فهمه للفكرة التي يُراد التعبير عنها. فإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ عملية تحقيق هذا الكتاب الضخم لا تكاد تتجاوز نَسخ المخطوط الوحيد الذي تعتمد عليه في أغلب الأحيان، إلى شرح للمصطلحات أو بيان لأفكار المؤلف. إذا أضفنا ذلك كله أدركنا العبء المزدوج الذي كان على الباحث أن يقوم به؛ عبء الفهم وتقويم النص معًا.

ونظرًا لهذه الصعوبات، أحسَّ الباحث أنَّه من الضروري أن يقف بالحدود الزمنية لبحثه عند القرن الرابع الهجري — عصر القاضي عبد الجبَّار — دون أن يتجاوزه، هذا القرن الذي يُمثِّل النضج النهائي للفكر الاعتزالي في عصر نهضته الثانية في بلاط الدولة البُوَيهِية. وكانت الإشارة للمؤلفات المتأخرة في بعض الأحيان تهدف إلى بيان الفكرة وتوضيحها دون التركيز على تحليلها في هذه المؤلفات.

ومن الطبيعي أن تفرض طبيعةُ المادة على الباحث طريقة التناول ومنهج العرض. وإذا كانت الأبحاث اللغوية والدلالية في مؤلفات المعتزلة قد جاءت متناثرةً ومتفرقة، فقد كان على الباحث أن يُحاول وضعها في نسق يُحقِّق مبدأ الوحدة الفكرية التي حرص المعتزلة أنفسهم على تحقيقها، وإن حقَّقوها بوسائلهم الخاصة التي خضعت في الغالب لمنهج التأليف القديم، ذلك المنهج الذي يعتمد على الاستطراد والإسهاب والتفريع. هذا علاوةً على ما تميَّز به المعتزلة خاصةً من الجدل عن طريق الرد على اعتراضات الخصوم أو توهُّم اعتراضات يوردها المؤلف على نفسه.

وإذا كان المجاز وسيلةً خاصة من وسائل الأداء اللغوي، فإنَّ أي فهم لطبيعة المجاز ولوظيفته لا يُمكن أن ينفصل عن تصوُّر ما لطبيعة اللغة ودلالتها. وهذا التصوُّر لطبيعة اللغة إنَّما يتم في ضوء تصوُّر أعم لطبيعة النشاط العقلي في سعيه نحو المعرفة. ولقد كان لإعلاء المعتزلة من شأن العقل، هذا الإعلاء الذي ميَّزهم عن غيرهم من المتكلِّمين، أثره في تنبُّههم للترابط بين مبحث المجاز وبين مجالات اللغة والمعرفة بشكل عام. ونتيجةً لذلك كان من الطبيعي أن ينقسم البحث إلى تمهيد وثلاثة فصول.

يتناول التمهيد نشأة الفكر الاعتزالي ويُحاول أن يُفسِّرها في ضوء الظروف الاجتماعية للمجتمع الإسلامي أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني الهجري، وذلك لإدراك العلاقة بين الواقع والفكر الاعتزالي بأبعاده المتعدِّدة. ويتناول الفصل الأول العلاقة بين المعرفة والدلالة اللغوية عند المعتزلة، ويكشف عن أثر الفكر الديني الاعتزالي في صوغ اللغة بين أنواع الدلالة العقلية، وجعلها آخر هذه الأنواع. وكانت الشروط التي وضعها المعتزلة لصحة الدلالة اللغوية بمثابة مدخل طبيعي لمناقشة مفهوم المجاز عند المعتزلة، كان من الضروري الإشارة إلى التطوُّر التاريخي لمفهوم الانتقال في الدلالة وذلك منذ المراحل الأولى لنشأة علم التفسير، وبيان العلاقة بين نضج المفاهيم البلاغية عامة، وبين تأويل النص القرآني لخدمة الخلافات العقائدية بين الفرق المختلفة. غير أنَّ هذه العلاقة بين المجاز والتأويل كانت في حاجةٍ لفصل خاص — الفصل الثالث — للكشف — بشكل أعمق — عن هذه العلاقة على المستويَين المعرفي والديني على السواء.

ولقد اعتمد البحث بشكل رئيسي على المقارنة بين المعتزلة والأشاعرة خاصة، وهي مقارنة تهدف إلى الكشف بعمق عن خصوصية الفكر الاعتزالي دون أن تتجاوز ذلك إلى بيان الأصول الفكرية للأشاعرة؛ فذلك أمر يحتاج إلى بحث مستقل.

وكل ما يرجوه الباحث، أن يكون قد وُفِّق في الكشف عن جانب هام من جوانب تراثنا الديني الإسلامي في مجال البحث النقدي والبلاغي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤