تمهيد

الإطار التاريخي لنشأة الفكر الاعتزالي

لا تطمح هذه الصفحات لرصد العوامل التاريخية لنشأة الفكر الاعتزالي، بقدر ما تُحاول تفهُّم هذه الظروف بُغية فهم الفكر الاعتزالي نفسه في إطار ظروفه البيئية والتاريخية؛ وذلك إيمانًا بأنَّ الفكر لا ينشأ من فراغ، أو مستقلًّا عن الظروف الموضوعية — الاجتماعية والسياسية — التي يكون هذا الفكر نفسه استجابةً لها ومحاولةً للتصدي لها تغييرًا أو تأييدًا. ومن جهة أخرى فتفسير الفكر الاعتزالي بعوامل التأثير الثقافي الأجنبي — وهو ما درج عليه كثير من المستشرقين وبعض الدارسين العرب١ — هو نفي لفعالية هذه الظروف الموضوعية، أو إعطاء دَور سلبي لها في أحسن الفروض. وإنكار هذا التأثير الأجنبي — وهو ما حاوله بعض الباحثين المتحمِّسين من العرب٢ — رد فعل يُناقض الحقيقة التاريخية والعلمية. ولكن الأساس في التأثير الفكري بين ثقافتَين أو حضارتَين، أنَّ الأفكار الواردة على الثقافة والحضارة من الصعب أن تُمَارس تأثيرها الفعَّال والمُثمر في هذه الحضارة ما لم تكن الظروف الموضوعية — الاجتماعية والسياسية — مُهيَّأةً لتلقي هذه البذور واحتضانها، وتهيئة المُناخ المُلائم لها لكي تنمو وتزدهر وتُؤتي أُكلها.
هذا الأساس يصدق على الفكر الاعتزالي، وعلى ظروف نشأته في الفكر الإسلامي. وإذا كانت المبادئ الفكرية للمعتزلة — بعد تطوُّرها ونضجها — قد أمكن تلخيصها في مبدءَين رئيسيَّين هما: «أنَّ الله واحد … وأنَّه العدل في قضائه الرحيم بخلقه.»٣ وهما ما أُطلِق عليهما مبدآ «التوحيد والعدل»، فإنَّ باقي أفكار المعتزلة، أو مبادئها الخمسة يُمكن أن ترتد — في التحليل النهائي — إلى هذَين المبدءَين؛ فمبدأ «الوعد والوعيد» داخل في العدل لأنَّه كلام في أنَّه تعالى إذا وعد المطيعين بالثواب، وتوعَّد العصاة بالعقاب، فلا بد من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده، ومن العدل أن لا يخلف ولا يكذب، وكذلك المنزلة بين المنزلتَين داخل في باب العدل … وكذا الكلام في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».٤ ومعنى ذلك أنَّ مبدأ «العدل» يتضمَّن كل مبادئ المعتزلة — عدا التوحيد — ومنها القول بالمنزلة بين المنزلتَين، وهو القول الذي تُجْمِع المصادر على أنَّ واصل بن عطاء خالف به أستاذه الحسن البصري، وانفصل بسببه عن حلقته مُكوِّنًا حلقةً جديدة كانت اللبنة الأولى في بناء المذهب الاعتزالي.

والواقع أنَّ هذا الخلاف بين واصل وأستاذه الحسن حول وصف مرتكب الكبيرة، والحُكم عليه، يظل مجرَّد خلاف فقهي ما لم ننظر إليه في ظل الظروف التاريخية التي طرحت هذا السؤال على علماء العالم الإسلامي، والتي حدَّدت في نفس الوقت طبيعة الإجابات التي طُرِحت عليه من كافة الاتجاهات السياسية والدينية في ذلك الوقت.

(١)

تُعَد الفتنة التي انتهت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان مفتاح كل الخلافات السياسية والعقائدية في المجتمع الإسلامي. ويُحدِّد الأشعري (ت٣٣٠ﻫ) هذه البداية بقوله: «وكان الاختلاف بعد الرسول في الإمامة. ولم يحدث خلاف غيره في حياة أبي بكر رضوان الله عليه وأيام عمر، إلى أن وُلِّي عثمان ابن عفان رضوان الله عليه، وأنكر قومٌ عليه في آخر أيامه أفعالًا … فصار ما أنكروه عليه اختلافًا إلى اليوم، ثمَّ قُتِل رضوان الله عليه، وكانوا في قتله مختلفين، فأمَّا أهل السنة والاستقامة فإنَّهم قالوا: كان رضوان الله عليه مُصيبًا في أفعاله، قتله قاتلوه ظلمًا وعدوانًا، وقال قائلون بخلاف ذلك، وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم.»٥
وإذن فقد كانت نقطة البداية هي الخلاف حول الإمامة وشروطها ومدى السلطة المُخوَّلة للخليفة. وقد أثار قتل عثمان على أيدي الثوار من الأمصار — وعلى رأسهم ثُوار مصر — قضيةً شرعية الخروج على الإمام والثورة على الخليفة. ولقد حدَّدت ظروف الفتنة منذ بدايتها طبيعة القوى التي اشتركت في الثورة، ومن ثمَّ ساهمت في الجدل الفكري والعقائدي حول الإمامة والخلافة. ولقد بدأت هذه القوى تتشكَّل ملامحها حين أباح عثمان لأعلام قريش «أن يتملَّكوا الضياع ويُشيِّدوا القصور في الولايات الإسلامية المفتوحة كالعراق والشام ومصر، كما سمح لهم أن يستبدلوا بأملاكهم في الحجاز أملاكًا في تلك الأمصار.»٦ وكانت هذه السياسة مُخالفةً تمام المخالفة لسياسة الخليفة عمر بن الخطاب الذي حظر على الصحابة مغادرة المدينة أو الإقامة في الأمصار خوفًا عليهم أن تفتنهم الدنيا وتشغلهم عن أمور الدين. وكان من الطبيعي أن تُثير هذه السياسة المتساهلة — إلى جانب مجاملة عثمان لأقاربه وتساهله معهم — غضب أتقياء الصحابة مثل عمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري اللذَين لم يُخفيا غضبهما. ولم تتسم سياسة عثمان إزاء هذَين الصحابيَّين بالحِلم والكَيَاسة، بل قابل اعتراضهما على سياسته بالشدَّة والنفي حتَّى صارا من أشد المُعارضين لخلافته.
وإذا كانت سياسة عثمان أثارت ضدَّه بعض الصحابة، فإنَّها — من جانب آخر — أثارت سخط مُسلمي الأمصار الأخرى كالكوفة والبصرة ومصر. وقد كان من شأن سياسته الاقتصادية المتساهلة، وتهاونه مع أقاربه، أن تكوَّنت طبقةٌ من الأرستقراطية الدينية والقرشية في مقابل أهل الأمصار وفقراء المقاتلين الذين وقع عليهم الغبن على يد ولاة عثمان وحُكَّامه «باستئثارهم بالفيء والغنائم لأنفسهم وخزائن دولتهم وحرمان المقاتلين منها، مُدَّعين أنَّ الفيء لله وليس للمحارب إلا أجر قليل يُدْفَع إليه.»٧
ولا نُريد الخروج عن مهمة هذا البحث بتتبُّع الجذور الاقتصادية والسياسية للفتنة٨ بقدر ما تُهمنا الإشارة إليها لتحديد طبيعة القوى التي أسهمت فيها ومن ثمَّ أسهمت في الحوار الفكري حول قضاياها. والذي يكشف عن طبيعة هذه القوى «اختلاف الوفود التي أتت من الولايات الإسلامية لخلع عثمان، على مَن تُولِّيه خَلَفًا له، حتَّى قال أهل البصرة نُولِّي الزبير، وقال أهل الكوفة نُولِّي طلحة.»٩ وتمسُّك أهل البصرة بالزبير، وأهل الكوفة بطلحة، وكلاهما من أثرياء الصحابة، ينم عن طبيعة القوى التي تساندهما، وهي قوًى لها أسبابها للثورة ضد عثمان الذي رفع أسرته فوق قريش كلها بما فيها الصحابة.
أمَّا ثُوار مصر الذين اشتركوا في الثورة، فقد كان لهم منحًى آخر؛ إذ ذهبوا إلى المطالبة بتولية علي بن أبي طالب، ولقد قام عبد الله بن سبأ بدور خطير في الثورة ضد عثمان، وفي تأليب الأمصار ضده. وعلاقة عبد الله بن سبأ بأبي ذر الغفاري في الشام، واعتراضهما معًا على سياسة معاوية يُؤكِّد الأساس الاقتصادي للفتنة، والثورة. وقد وجد عبد الله بن سبأ لدعوته في مصر صدًى لم يجده في كلٍّ من الكوفة والبصرة. وكان يخطب في المصريين قائلًا: «إنَّ عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهذا علي وصي رسول الله ، فانهضوا في هذا الأمر فحرِّكوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر.»١٠ ومن الواضح أنَّ عبد الله بن سبأ قد استغلَّ بعض الأفكار الدينية اليهودية — كالقول بوصاية علي — للدعوة للثورة ضد عثمان.

ولكن هذا لا يجعلنا نلجأ لتفسير حركة التاريخ بالهوى الفردي كما يذهب إلى ذلك كل من قالوا بأنَّ عبد الله بن سبأ سعى للفتنة لحقده على الإسلام ورغبته في الكيد لأهله.

وقد كان أهل الشام — تحت إمرة معاوية بن أبي سفيان — من القوى المساندة لعثمان بحكم أنَّ معاوية من المستفيدين بخلافته؛ ولذلك كان من الطبيعي ألَّا يستطيع أهل الشام المشاركة في الثورة على عثمان. ولقد احتفظ معاوية بقواه العسكرية في حالة حياد، حتَّى ليغلب على الظن أنَّه تماطل في إرسال العون إلى عثمان بالمدينة حتَّى قتله الثوار، ثمَّ ثار بعد ذلك مُطالبًا بدمه وقاتِله ومرتديًا قميصه الملطَّخ بالدم. وقد بلغ من ذكاء معاوية السياسي أنَّه لم يتدخَّل في الحرب بين علي وطلحة والزبير مكتفيًا بالمساندة الكلامية لطلحة والزبير؛ وذلك حتَّى تقضي إحدى القوتَين على الأخرى، ثمَّ ينشط هو بقواته الكاملة للقضاء على القوة المنتصرة. من الصعب إذن التيقُّن ممَّا إذا كان معاوية — والقوى التي ساندته — يعمل لحساب بني أمية منذ أول الفتنة، أم إنَّه كان يعمل لحساب عثمان حتَّى قُتِل، ثمَّ تحوَّل ليعمل لحساب نفسه بعد ذلك، وكلا الأمرَين على أي حال سواء في الدلالة على الجذور الاقتصادية والاجتماعية للفتنة وما ترتَّب عليها من خلاف سياسي وديني.

نجحت الثورة في تحقيق هدفها، واستطاع الثوار — والمصريون على رأسهم — أن يفرضوا علي بن أبي طالب خليفةً على المسلمين بعد عثمان. ولكن الفتنة كانت قد كسرت — فيما كسرت — إجماع أهل الحل والعقد في الدولة الإسلامية؛ أعني الصحابة أنفسهم. وقد تجلَّى ذلك في أنَّ البيعة لعلي لم ينعقد عليها الإجماع الذي انعقد لسابقيه، وإن انعقد عليها إجماع من نوع جديد، هو إجماع عامة المسلمين الذين كانوا يُشكِّلون جماهير الثورة ضد عسف حكام عثمان وولاته.١١

وقد كان على علي أن يُواجه كل القوى المناهضة له، ومنها زعامات لها قدرها وشرفها الديني مثل طلحة والزبير والسيدة عائشة. ومن الطبيعي أن يكون دم الخليفة المقتول هو الستار الذي يُخفي حقيقة الصراع وأبعاده. وكانت موقعة «الجمل» التي انتهت بانتصار علي بن أبي طالب هي المواجهة العسكرية الأولى للقوى المتصارعة. وظلَّ معاوية في انتظار ما تُسفر عنه الأحداث. وحين انتصرت القوى الموالية لعلي، خرج معاوية مرتديًا نفس الرداء ومُطالبًا بقاتل عثمان وثأره. وليس من قبيل الصدفة أن يُوجد في معسكر علي كلٌّ من عمار بن ياسر وأبو ذر الغفاري وعبد الله بن سبأ المعترضين على سياسة عثمان ومعاوية، والذين تعرَّضوا للنفي والتشريد، رغم جلال قدر بعضهم وصلتهم بالرسول وصحبتهم الطويلة له.

وفي هذا الصراع الدموي كانت ثمَّة قوة أخرى اعتزلت هذا الصراع، وخشيَت الخوض في الفتنة كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وعمران بن الحصين وأبي بكرة وغيرهم مِمَّن وقف موقف الحياد في النزاع، وحجتها في ذلك الحديث الشريف الذي رواه أبو بكرة عن الرسول : «ستكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، إلا إذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه.»١٢ فالقعود هنا يعني التحرُّج عن الخوض في هذا الصراع الذي لا يُعرف المُحِق فيه من المُبطل. ولقد تطوَّر هذا التوقُّف فيما بعد — بعد انتهاء الأمر إلى معاوية — إلى نزعة تبريرية أُطْلِق عليها اسم الإرجاء وأُطْلِق على أصحابها اسم المرجئة. وإذا كان القعود — الذي حاول أن يتزيَّا بالدين ويعتصم به — كانت له مُبرِّراته في الصراع بين علي وغيره من الصحابة وفيهم زوج الرسول ، السيدة عائشة، فإنَّه بعد ذلك تحوَّل إلى طاقة تبريرية وصلت إلى حد القول — روايةً عن الرسول — «وكنْ حِلْسَ بيتك، فإن دخل عليك فادخل مخدعك، فإن دخل عليك فقلْ بُؤ بإثمي وإثمك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل.»١٣ «أي افعل هذا في زمن الفتنة، واختلاف الناس على التأويل وتنازع سلطانَين كل واحد منهما يطلب الأمر ويدَّعيه لنفسه بحجة. يقول فكن حِلْسَ بيتك في هذا الوقت ولا تَسُل سيفًا ولا تقتل أحدًا فإنَّك لا تدري من المُحِق من الفريقَين ومن المُبْطِل، واجعل دمك دون دينك.»١٤ ومن شأن هذا المنطق السلبي أن يُضيف للظلم قوةً عن طريق الانتقاص من قوى الحق بهذه السلبية، وهو ما عبَّر عنه الرسول بقوله: «الساكت عن الحق شيطان أخرس.» ولكن المرجئة في الواقع لم تظل على سلبيتها هذه، بل شاركت — في أواخر العصر الأموي — في الثورة وكان لها دورها الذي لا يُنْكَر في القضاء على الأمويين كما سنُشير بعد قليل.

وننتهي من ذلك كله إلى أنَّ الفتنة تمخَّضت عن وجود ثلاث قوًى أساسية في الصراع؛ هي قوة العلويين في مواجهة قوة الأمويين، وبينهما القاعدون أو المتحرِّجون أو معتزلة الصراع الذين تطوَّروا إلى المرجئة فيما بعد. ولقد أدَّت مهزلة التحكيم المعروفة إلى انقسام القوة الكبرى التي كانت تقف خلف علي إلى ما عُرِف بالشيعة والخوارج. وكان من شأن هذا الانقسام — بمستويَيه العسكري والفكري — أن ينتهي إلى انتصار الأمويين، واستيلائهم على السلطة وانفرادهم بها. وتنازل الحسن بن علي لمعاوية عن حقه في الخلافة، وتنازل بالتالي عن حقوق كل القوى التي كانت تقف خلف أبيه وتُسانده. وكان هذا الاستسلام من جانب الزعامة الأساسية يعني التسليم بسلطان الأمويين المطلق في كافة الولايات الإسلامية.

ولقد اعتبر المسلمون — فيما يقول نيكلسون — «انتصار بني أمية وعلى رأسهم معاوية انتصارًا للأرستقراطية الوثنية التي ناصبت الرسول وأصحابه العداء، والتي جاهدها رسول الله حتَّى قضى عليها وصبر معه المسلمون على جهادها ومقاومتها حتَّى نصرهم الله، فقضَوا عليها وأقاموا على أنقاضها دعائم الإسلام … لذلك لا نُدهش إذا كره المسلمون بني أمية وغطرستهم وكبرياءهم وإثارتهم الأحقاد القديمة، ونزوعهم للروح الجاهلية، ولا سيما أنَّ جمهور المسلمين كانوا يرَون بين الأمويين رجالًا كثيرين لم يعتنقوا الإسلام إلا سعيًا وراء مصالحهم الشخصية. ولا غرو فقد كان معاوية يرمي إلى جعل الخلافة ملكًا كِسرويًّا، وليس أدلَّ على ذلك من قوله — فيما يروي اليعقوبي: «أنا أول الملوك».»١٥

(٢)

لم يَكُف الخوارج وكذلك الشيعة عن نضالهم السياسي والعسكري ضد الحكم الأموي. وفي مواجهة الأفكار التبريرية للمرجئة كان لا بد من التسلُّح بالفكر الديني الذي يلتزم النص القرآني لمواجهة الصراع الفكري جنبًا إلى جنب مع الصراع السياسي والعسكري. وكانت قضية الإمامة والحكم على الإمام الجائر هي أساس الحوار الفكري والعقائدي الذي تمايزت به القوى السياسية، واصطبغت من خلاله بالصبغة الدينية والعقائدية.

«والخوارج بأسرها يُثبتون إمامة أبي بكر وعمر، ويُنكرون إمامة عثمان — رضوان الله عليهم — في وقت الأحداث التي نُقِم عليه من أجلها، ويقولون بإمامة علي قبل أن يُحكِّم، وينكرون إمامته لمَّا أجاب إلى التحكيم، ويُكفِّرون معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري، ويرون أنَّ الإمامة في قريش وغيرهم إذا كان القائم بها مُستحقًّا لذلك، ولا يرَون إمامة الجائر.»١٦ وهو موقف واضح وصريح ويتسم بالشجاعة والجرأة وقليل من المغالاة خصوصًا في إنكارهم إمامة علي لقَبوله التحكيم. ومن جانب آخر فرأيهم في الخلافة وفي جواز أن تكون في قريش أو غيرها، ورأيهم في إنكار إمامة الجائر، كل ذلك يتطابق تطابقًا كاملًا مع سعيهم الدائب لإزالة حكم بني أمية بالسيف، حتَّى كانوا — فيما يُقال — يتهافتون على الموت تهافت الفراش على النار.
ولقد كان من الطبيعي أن يستقطب الفكر السياسي الثوري للخوارج «الطبقات المعدِمة الرقيقة الحال في المجتمع الإسلامي، التي راقتها كثيرًا ميول الخوارج الديمقراطية واحتجاجهم على مظالم الحُكَّام والولاة.»١٧ كما انضمَّ إليهم أيضًا «أولئك العرب الخُلَّص من رجال الصحراء وبخاصة بعض القبائل العربية ذات الخطر والشأن مثل قبيلة تميم وأبطال القادسية ورؤساء الجند.»١٨

أمَّا المرجئة — وهم مفكِّرو الحزب الأموي — فلم يتناولوا مسألة الإمامة تناولًا صريحًا. وليس في أقدم مصادر الفِرق والمقالات أيَّ إشارة لرأي لهم في هذا الخلاف المُستعر حولهم، بل كانت القضية التي شغلتهم هي تعريف الإيمان والكفر وتأويل آيات الوعيد. وتتفق كل فِرَق المرجئة على أنَّ الإيمان هو المعرفة بالله والتصديق دون العمل، أو هو المعرفة والتصديق والإقرار باللسان. وكلهم تقريبًا لا يجعلون العمل شرطًا من شروط الإيمان. هذا التعريف للإيمان من شأنه أن يحكم على الحاكم الجائر بأنَّه مؤمن، لا كافر كما حكمت الخوارج؛ وذلك تأسيسًا على أنَّ التصديق بالقلب والإقرار باللسان كافيان للحكم على الإيمان. وما دام الحاكم — مهما اشتدَّ ظلمه — مؤمنًا، فلا يحق لأحد الخروج عليه.

«وأجمعت المرجئة بأسرها أنَّ الدار دار الإيمان، وحُكم أهلها الإيمان، إلا من ظهر منه خلاف الإيمان.»١٩ ويُجمع المرجئة أيضًا على تأويل آيات الوعيد الواردة في القرآن الكريم على أساس أنَّ فيها استثناءً مُضمَرًا، أو أنَّها خاص وردت مورد العام. وهو مسلك تبريري يفتح الباب على مصراعَيه للمظالم والمفاسد، ما دام الإيمان هو التصديق بالقلب أو الإقرار باللسان دون العمل، وما دام باب الغفران مفتوحًا بلا حدود ولا ضوابط، «وما دامت لا تضر مع الإيمان معصية.»٢٠ ولا شك أنَّ المرجئة — بهذا التحرُّج والخشية من اتخاذ موقف صريح وواضح — يُعَدُّون امتدادًا طبيعيًا لأولئك الذين اعتزلوا صراع علي وطلحة والزبير، وتوقَّفوا في الحُكم على عثمان.٢١
وكان من الطبيعي — في مجال الصراع الفكري — أن يقرن الخوارج بين الإيمان والعمل، وأن يُنكروا ما يقول المرجئة من أنَّ الإيمان هو التصديق بالقلب أو الإقرار باللسان دون العمل. ومن الصعب على الباحث أن يُحدِّد بدقة الفترة التي بدأ الخوارج فيها يُساهمون في الجدل الفكري، إلى جانب تحمُّلهم عبء المقاومة العسكرية. ويُشير بعض الباحثين إلى أنَّ الخوارج بدءوا هذه المساهمة في خلافة عبد الملك بن مروان؛ حيث مزجوا بين آرائهم في الإمامة وهي آراء سياسية ذات صبغة دينية، وبين الأبحاث الدينية البحتة، أو التي تبدو كذلك؛ «فقالوا إنَّ العمل بأوامر الدين من صلاة وصيام وصدق وعدل جزء من الإيمان، وليس الإيمان الاعتقاد بالله ورسالة محمد فحسب، فمن اعتقد أن لا إله إلا الله وأنَّ مُحمَّدًا رسول الله، ثمَّ لم يعمل بما يفرضه الدين، وارتكب الكبائر؛ فهو كافر.»٢٢

وإذن فالصراع السياسي بين الخوارج والأمويين، وازاه صراع فكري حول قضيتَين أساسيتَين، هما قضية الإمامة، وقضية الحُكم على مرتكب الكبيرة، أو الإمام الجائر إذا استخدمنا لغة الخوارج. والمُعسكران اللذان أسهما في الحوار هما الخوارج والمرجئة. ولمَّا كان المرجئة هم ممثِّلو الحزب الأموي فقد امتنعوا عن الخوض في أحقية الإمامة أو شروطها؛ لأنَّ واقع الخلفاء الأمويين ومسلكهم العملي إزاء عامة المسلمين اتَّسم بالعَسف والجَور، الأمر الذي منع مُفكِّريهم من الخوض في قضية الإمامة؛ لأنَّها بكل المعايير ستكون قضيةً خاسرة. وبناءً على ذلك تحوَّلوا بالقضية إلى خلاف فقهي حول تعريف الإيمان والكفر وعلاقتهما بالعمل. وتصدَّى الخوارج للرد على هذه النزعة التبريرية التي تُخلُّ في النهاية بمعايير الثواب والعقاب، وتؤدِّي إلى نوع من الفوضى الأخلاقية والاجتماعية، نتيجةً لفتح باب الغفران على مصراعَيه.

غير أنَّ البُعد السياسي لهذه الخلافات الدينية لا ينبغي أن يلفتنا عن الوجه المتصل بالتقوى الدينية، تلك التقوى التي جعلت كثيرًا من المسلمين — والذين لم يكونوا من الخوارج — لا يستريحون لسلوك كثير من خلفاء بني أمية، هؤلاء الخلفاء الذين قتلوا آل بيت رسول الله وهدموا بيت الله ونبشوا القبور ومثَّلوا بالجثث … إلخ. كان أتقياء المسلمين إذن غير راضين عن أحوال الدولة، ولكنَّهم لم يكونوا يملكون سوى الصمت. وبديهي أنَّ أفكار المرجئة «لم تكن تتفق وعاطفة أولئك الورعين الذين لا يرَون في سياسة وصول الأمويين للحكم، وفي رجالاتهم وعُمَّالهم، إلا عدم تقوى، بل كفر.»٢٣ ولقد حاول الأمويون الدفاع عن سياستهم القائمة على العَسف والظلم، وكان طبيعيًّا أن يُحاولوا استغلال التصوُّر الديني — القائم على التقوى أيضًا — الذي يرى أنَّ كل شيء في هذا الكون إنما هو خاضع لإرادة الله ومشيئته، تلك الإرادة الحُرَّة التي لا يُمكن أن تحد منها الإرادة الإنسانية. حاول الأمويون أن يستغلوا هذا التصوُّر لتثبيت دعائم سلطانهم على أساس ديني مكين. ولمَّا كان من الصعب على وجدان المسلم التقي أن يَحُدَّ من قدرة الله وإرادته، وأن يضع الإرادة الإنسانية كمقابل للإرادة الإلهية، فقد كان من الطبيعي أن يتلقَّى العلماء المسلمون الرد على ذلك من علماء الكلام أو اللاهوت المسيحيين؛ «فدمشق المركز العقلي للإسلام في عصر الخلافة الأموية، كانت في الوقت نفسه مركز التفكير النظري في القدَر، وفي المذهب الجبري أيضًا، ومن هناك انتشر هذا التفكير سريعًا في ميدان أكثر اتساعًا.»٢٤
ولقد كان من الطبيعي أن يكون للموالي في هذا الصراع الفكري، وفي التأثُّر بالأفكار اللاهوتية المسيحية أو اليهودية دور ليس للعرب الخُلَّص بحكم ثقافتهم المزدوجة أولًا، وبحكم المكانة التي وضعتهم فيها الدولة الأموية بسبب طبيعتها العربية لا الإسلامية. وكان من الطبيعي أن يُمثِّل المَوَالي قطاعًا كبيرًا من قطاعات الثورة ضد الحكم الأموي، ومن ثمَّ انضموا للأحزاب المناوئة لهذا الحكم والتي كانت تمنحهم حقوقًا مُساوية لحقوق العرب الخُلَّص تحت راية التعاليم الإسلامية. «وقد سبق الخوارج إلى ذلك، فقبلوا المَوَالي في جماعتهم وفي جيشهم، وجعلوهم على قدم المساواة مع العرب. وقد ترسَّم الشيعة خطى الخوارج في ذلك ونجحوا أكثر منهم بكثير.»٢٥
ويبدو أنَّ إعلان مقولة «الجبر» كنوع من التبرير الديني، كان القصد منه أن تُوحي إلى أتقياء المسلمين «أنَّ الله قد حَكَم أزلًا أن تصل هذه الأسرة إلى الحكم، وأن ما يعملون ليس إلا أثرًا أو نتيجة لقدر إلهي مُحْكَم.»٢٦ ولذلك وقف خلفاء بني أمية موقفًا غايةً في العنف من أولئك المفكِّرين الأوائل الذين قالوا بحرية الإرادة الإنسانية وبمسئولية الإنسان عن فعله؛ فالخليفة عبد الملك بن مروان لم يتورَّع عن قتل معبد الجهني (ت٨٠ﻫ)، ولم يتورَّع خالد بن عبد الله القَسْري أن يذبح الجعد بن درهم (ت١٢٠ﻫ) أسفل المنبر بعد صلاة العيد. وكلاهما ذهب إلى «القول بالقدر وإنكار إضافة الخير والشر إلى القدر.»٢٧ أمَّا غَيلان الدمشقي (ت٩٩ﻫ) فقد قتله هشام بن عبد الملك أيضًا. وتنسب المصادر إلى معبد الجهني أنَّه أخذ فكرته في القدر عن مُعلِّم نصراني لا تتفق في تحديد اسمه،٢٨ أمَّا الجعد بن درهم فقد «كان يُقيم بدمشق إذ كانت له دار بالقرب من القلاسين إلى جانب الكنيسة.»٢٩ وجدير بالذكر أنَّ الجعد بن درهم كان مُؤدِّبًا لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وذلك أيام كان واليًا على الجزيرة وقبل أن يتولَّى الخلافة، وفي هذا دلالة على ثقافته وسمعته الطيبة.

ولقد كان من الطبيعي أن ترتبط مقولة «التوحيد» ونفي مشابهة الله للبشر بمقولة «العدل» ومسئولية الإنسان عن أفعاله منذ البداية، وذلك رغم التعارض الظاهري بينهما. ويبدو هذا التعارض في توهُّم أنَّ القول بحرية الإرادة الإنسانية يعني الحد من حرية الإرادة الإلهية، أو التعارض معها على الأقل.

ولقد كان الوجدان المسلم أقرب إلى التسليم بحرية الإرادة الإلهية حريةً مطلقة، وباعتبار الإرادة الإنسانية محكومةً بإرادة الله القادر على كل شيء وخاضعةً لها. وبدت أفكار معبد الجهني والجعد بن درهم وغيلان الدمشقي غريبةً على التفكير الديني حتَّى «تبرَّأ منهم المتأخِّرون من الصحابة كعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى، وعقبة بن عامر الجهني وأقرانهم.»٣٠ لكن هذا التعارض الظاهري بين «العدل» و«التوحيد» لم يكن قائمًا في ذهن مؤسِّسيه الأوائل، على أساس أنَّ الواقع الاجتماعي والسياسي الذي حاول تبرير قبحه برفع مقولة «الجبر» كان، بالتالي، ينسب كل مظاهر الظلم والشر إلى الإرادة الإلهية باعتبارها هي الإرادة النافذة. وثمَّة حادثة لها دلالتها في هذا الصدد بصرف النظر عن الصدق الحَرْفِي لوقائعها. وليس من قبيل الصدفة أن تقع هذه الواقعة في عهد عبد الملك بن مروان أيضًا؛ إذ يُروى أنَّه لمَّا قتل عمرو بن سعيد «أمر برمي رأسه إلى جمهور المُخلصين له الذين كانوا ينتظرون أمام القصر عودته، كما أمر بإعلامهم أنَّ «أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ.»٣١ ومعنى ذلك أنَّ كل مظالم بني أمية كانت تُنسب — تحت مقولة الجبر — إلى الإرادة الإلهية. وكان على الذين يحملون لواء المعارضة، بعد أن أعلنوا مقولة «الاختيار» ضد «الجبر» أن ينفوا عن الله إرادة الظلم والقتل والعسف. هذا النفي كان من شأنه أن يؤدِّي إلى التفرقة بين الصفة الإنسانية والصفة الإلهية، وإلى نفي مشابهة الله للبشر ذاتًا وفعلًا، ما دام البشر — بإرادتهم المختارة — هم الذين يفعلون الشر.
ومن المؤسف أنَّ أقوال هؤلاء المفكِّرين الأوائل في حرية الإرادة والتوحيد لم تصلنا مُفصَّلةً باستثناء إنكار الجعد بن درهم أن يكون الله متكلِّمًا وقوله بخلق القرآن، وهما القولان اللذان تجعلهما المصادرُ سببًا لذبحه. أمَّا غيلان الدمشقي فقد ذهب إلى جانب قوله «بالقدَر خيره وشره من العبد في الإمامة أنَّها تصلح في غير قريش، وكل من كان قائمًا بالكتاب والسنة كان مُستحقًا لها، وأنَّها لا تثبت إلا بإجماع الأمة.»٣٢ وهو قول يضعه في معسكر الخوارج ويُخرجه من معسكر المرجئة الذي يضعه فيه مؤرِّخو المقالات كالأشعري والبغدادي والشهرستاني. ولكن علينا أن نُلاحظ أنَّ الإرجاء لم يثبت على أفكاره السلبية التبريرية في أوائل العصر الأموي، وإنَّما تحوَّل بحكم عوامل كثيرة، من أهمها العنف الذي واجه به الأمويون كل مخالف في الرأي، ثمَّ سوء معاملة الموالي، وجل مفكري المرجئة المتأخرين من الموالي. كل ذلك جعل أفكار المرجئة تتطوَّر من السلبية إلى الإيجابية، بل جعل المرجئة أنفسهم يُشاركون في الثورة على بني أمية. ويُقابلنا أول تقسيم لفِرق المرجئة عند البغدادي حيث يقول: «والمرجئة ثلاثة أصناف؛ صنف منهم قال بالإرجاء في الإيمان وبالقدَر على مذاهب القدَرية المعتزلة، كغيلان وأبي شمر، ومحمد بن شبيب البصري … وصنف منهم قالوا بالإرجاء في الإيمان، وبالجبر في الأعمال على مذهب جهم بن صفوان، فهم إذن من جملة الجهمية؛ والصنف الثالث منهم خارجون عن الجبرية والقدَرية.»٣٣ أمَّا الشهرستاني فإنَّه يُضيف فِرقةً رابعة يُطلق عليها «مرجئة الخوارج»،٣٤ ولعل في ذلك ما يُؤكِّد ما يذهب إليه بعض الباحثين من أنَّ المرجئة حاولوا «تثوير» عقائدهم؛ «إذ تأثَّرت بآراء الخوارج والشيعة في الثورة على الظلم، كما تبنَّت بعض مبادئ القدَرية في الحرية الإنسانية.»٣٥
ولقد يبدو في الجمع بين آراء القدَرية أو الشيعة أو الخوارج وبين القول بالإرجاء نوع من التناقض؛ فالإرجاء أو التوقُّف عن الحكم على الحاكم الجائر أو مرتكب الكبيرة يعني السلبية إزاء معطيات الواقع اليومية، كما أنَّه يتناقض مع الخروج وحمل السيف، وهو ما فعله جهم بن صفوان (ت۱۲۸ﻫ)؛ حيث كان في صفوف الحارث بن سريج الذي خرج على هشام بن عبد الملك لأنَّه «فاجأ … الموالي بضريبة خراجية لا قِبَل لهم باحتمالها.»٣٦ ويبدو التناقض أشد مع جهم بن صفوان بالذات لأنَّه جبري إلى جانب أنه مرجئ. ولكن هذا التناقض تخف حدته إذا نظرنا لثورة جهم وفكره في ظل السياسة المالية والضرائبية إزاء الموالي في العصر الأموي. وإذا استثنينا عصر عمر بن عبد العزيز من الخلفاء الأمويين، وجدنا سياستهم تتسم بالاستغلال؛ فقد ألغى الحجاج — والي عبد الملك بن مروان — رفع الجزية عمَّن يدخل الإسلام من أهل الذمة، ووضع بذلك مبدأً خطيرًا يتناقض مع نصوص الإسلام الصريحة وذلك تلافيًا للنقص في بيت المال. وكان من شأن هذا القرار أن يُثير ثائرة الموالي المسلمين، الذين رفع عنهم الإسلام هذا القيد المادي.
فإذا أضفنا إلى ذلك سوء معاملة الموالي بشكل عام، واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية «لم يصلوا إلى التمتُّع بالحقوق المدنية للمواطنين ولا بالحقوق الحربية ومزاياها المادية، فاعتُبروا موالي للقبائل العربية، ولم تتسع لهم الدولة الثيوقراطية إلا على هذه الصورة؛ أعني صورة التبعية للقبائل العربية.»٣٧ إذا وضعنا في اعتبارنا كل ذلك، نجد من الطبيعي أن يشترك جهم بن صفوان في ثورة الحارث بن سريج، وهي ثورة كانت مُوجَّهةً أصلًا ضد هشام بن عبد الملك الذي فرض على الموالي ضرائب جديدةً لا قِبَل لهم باحتمالها. وكان عمر بن عبد العزيز قبل ذلك قد رفع عنهم الجزية وعاملهم معاملة المسلمين العرب بكل حقوقهم وواجباتهم.
وليس من الطبيعي أن يتحوَّل جهم بن صفوان من التبرير إلى الثورة دون أن تتطوَّر أفكاره. ومع ذلك فالمصادر التي بين أيدينا تكتفي بذكر المقالات كاملةً دون بيان لتطوُّرِها عند نفس المُفكِّر أو عند أتباعه، الأمر الذي يجعلنا نظل في مجال التخمينات والافتراضات. ويفترض محمد عمارة أنَّ جهم بن صفوان نقم على الأمويين «موقفهم الذي يرفض الاعتراف بإسلام الموالي من أهل فارس وخراسان، بحجة أنَّ إسلامهم غير خالص لله.» ويُضيف: «فالجهمية كالأمويين كانوا جبريةً مرجئة، وإن كان الخلاف بينهما قد كان في حقل الإرجاء، وعلى من يستفيد من هذا الإرجاء … الحُكَّام الأمويون؟ أم الجماهير التي أسلمت من موالي فارس وخراسان؟»٣٨ وإذا كان هذا الافتراض — على وجاهته — قد فسَّر إرجاء جهم، فإنَّه لم يُفسِّر جبريته، ومن ثمَّ يحتاج ذلك إلى افتراض آخر ذي شقَّين؛ الشق الأول يكمن في الروح العدائية التي قوبل بها القول بالقدَر عند معبد الجهني والجعد بن درهم وغيلان الدمشقي من جانب الخلفاء الأمويين وأتقياء المسلمين معًا، أمَّا الشق الثاني فيكمن في ذلك التعارض القائم بين القول بالقدر والتوحيد المطلق. وإذا استعرضنا أقوال جهم في الجبر والتوحيد فسنلحظ على الفور أنَّه أوقع نفسه في التناقض الذي لا يُمكن حلُّه إلا عن طريق القول بالجبر. والتوحيد — عند جهم — هو نفي مشابهة الله للأشياء، «لا أقول إنَّ الله سبحانه شيء لأنَّ ذلك تشبيه له بالأشياء.»٣٩ «وامتنع عن وصف الله تعالى بأنَّه شيء أو حي أو عالِم أو مريد، وقال: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشيء، وموجود، وحي، وعالِم، ومريد، ونحو ذلك. ووصفه بأنَّه قادر، ومُوجد، وفاعل، وخالق، ومحيي، ومميت؛ لأنَّ هذه الأوصاف مختصة به وحده، وقال بحدوث كلام الله تعالی كما قالت القدَرية، ولم يُسمِّ الله متكلِّمًا به.»٤٠ وهذا الفصل الكامل بين صفات الله وصفات غيره بحيث لا يقع بينهما وصف مشترك يُطلق على كلَيهما، هو الذي أدَّى بجهم — لكي يكون مُخلصًا لمبادئه — إلى القول بالجبر. فكل الصفات التي أحسَّ جهم أنَّها تُطلق على الإنسان — أو الأشياء — نفى أن تُطلَق على الله. وفي مقابل ذلك فقد وصف جهم الله بصفات نفى أن تُطلَق على الإنسان ومنها الوصف بأنَّه قادر. ونفي القدرة عن الإنسان، وجعلها من صفات الله أدَّت بجهم إلى أن يقول «إنَّه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده، وأنَّه هو الفاعل، وأنَّ الناس إنَّما تُنسب إليهم أفعالهم على المجاز، كما يُقال: تحرَّكت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس، وإنَّما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله — سبحانه — إلا أنَّه خلق للإنسان قوةً كان بها الفعل، وخلق له إرادةً للفعل واختيارًا له منفردًا بذلك، كما خلق له طولًا كان به طويل، ولونًا كان به متلونًا.»٤١
القول بالجبر إذن عند جهم هو محاولة لتأكيد التوحيد وتثبيته، وعلينا أن نُلاحظ — إن صحَّت رواية الأشعري السابقة — أنَّه جبرٌ لا ينفي فعالية الإنسان نفيًا كاملًا كجبر الأمويين؛ فللإنسان قوة وإرادة، ولكنَّهما مخلوقتان لله، بمعنى أنَّهما خاضعتان للمشيئة الإلهية التي لا يند شيء في العالم عن قدرتها. والدليل على ذلك ما يرويه الأشعري أيضًا من أنَّ جهمًا كان «ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.»٤٢ وهو اتجاه يُقرِّبه من الخوارج الذين كان هذا المبدأ من أهم مبادئهم بعد رأيهم في الإمامة ومحاربة الإمام الجائر.
إذا كان المرجئة قد تطوَّرت أفكارهم ومبادئهم مع ازدياد الضغط الأموي ضد الثوار والموالي حتَّى إنَّهم التقَوا مع الخوارج في بعض أفكارهم الثورية، خصوصًا رأيهم في الإمامة الذي عبَّر عنه غيلان الدمشقي والذي أشرنا له سالفًا، فإنَّهم من جانب آخر قد اقتربوا من الشيعة في قولهم بالمهدي المنتظر، فيُروى عن الحارث بن سريج، الذي حارب جهم بن صفوان في صفِّه وكان مُتحدِّثًا باسمه في المفاوضات بينه وبين سَلْم بن أحوز أنَّه كان «يزعم أنَّه المهدي الذي أرسله الله لتخليص المضطهدين والأخذ بناصر المظلومين حتَّى انضم إليه في ثورته هذه أنصار من العرب، وسرعان ما استولى على المدن الواقعة على ضفاف نهر سیجون.»٤٣ غير أنَّ أفكار الشيعة تحتاج لوقفة هادئة.

(٣)

أشرنا إلى دور عبد الله بن سبأ في الثورة على عثمان وفي الدعوة لعلي في الكوفة والبصرة ومصر. ويبدو أنَّ عداء عبد الله بن سبأ لمسلك معاوية في الشام كان وراء ثورته على عثمان، فقد كان يقول لأبي ذر الغفاري: «يا أبا ذر ألَا تعجب إلى معاوية يقول المال مال الله؟ ألَا إنَّ كل شيء لله، كأنَّه يُريد أن يحتجنه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين.»٤٤ وقد ذهب عبد الله بن سبأ — متأثرًا في ذلك بمعتقداته اليهودية — إلى القول بوصاية علي في أول الأمر، وبرجعة الرسول وقال في ذلك: «إني لأعجب مِمَّن يقول برجعة عيسى ولا يقول برجعة محمد» وقد قال الله عزَّ وجل: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ (سورة القصص، ۲۸: ٨٥).٤٥
وتطوَّرت أفكار ابن سبأ مع تطوُّر الفتنة؛ ففي البداية «زعم أنَّه كان نبيًّا، ثمَّ غلا فيه حتَّى زعم أنَّه إله، ودعا إلى ذلك قومًا من غواة الكوفة … وخاف (علي) اختلاف أصحابه عليه، فنفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن، فلمَّا قُتِل علي رضي الله عنه زعم ابن سبأ أنَّ المقتول لم يكن عليًّا، وإنَّما كان شيطانًا تصوَّر للناس في صورة علي، وأنَّ عليًّا صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى ابن مريم عليه السلام، وقال: كذبت اليهود والنصارى في دعواها قتل عيسى، كذلك كذبت النواصب والخوارج في دعواها قتل علي، وإنَّما رأت اليهود والنصارى شخصًا مصلوبًا شبَّهوه بعيسى، وكذلك القائلون بقتل علي رأَوا قتيلًا يشبه عليًّا فظنوا أنَّه علي، وعلي قد صعد إلى السماء، وأنَّه سينزل إلى الدنيا وينتقم من أعدائه، وزعم بعض السبئية أنَّ عليًّا في السحاب وأنَّ الرعد صوته، والبرق سوطه، ومن سمع من هؤلاء صوت الرعد قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين. وقد رُوِي عن عامر بن شراحيل الشعبي أنَّ ابن سبأ قيل له: إنَّ عليًّا قد قُتِل، فقال: إن جئتمونا بدماغه في صُرَّة لم نُصدِّق بموته، لا يموت حتَّى ينزل من السماء، ويملك الأرض بحذافيرها.»٤٦
وإذا حاولنا أن نُعيد ترتيب هذه الوقائع في نسق تاريخي، فمن السهل أن نُقدِّر أنَّ فكر عبد الله بن سبأ قد مرَّ بثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى هي فكره إبَّان الثورة على عثمان والدعوة لعلي حيث قال بوصاية علي للرسول مثلما كان يوشع بن نون وصيًّا لموسى عليه السلام، وليس ببعيد أن يكون عبد الله بن سبأ قد ذهب في هذه المرحلة إلى رجعة النبي قياسًا على إيمان المؤمنين برجعة عيسى عليه السلام مُستدلًّا بالآية التي أوردناها. أمَّا المرحلة الثانية فهي مرحلة الصراع الذي خاضه علي ضد طلحة والزبير أولًا، ثمَّ معاوية ثانيًا، والخوارج ثالثًا. في هذه المرحلة لا يُسْتبعَد أن يكون عبد الله بن سبأ قد رفع عليًّا إلى مرتبة النبوة وذلك لتأكيد حقه في الخلافة خصوصًا بعد مهزلة التحكيم المشهورة. وتأتي المرحلة الثالثة بعد قتل علي على يد عبد الرحمن بن ملجم، فذهب ابن سبأ إلى وجود جزء إلهي في علي رضي الله عنه، وأنَّه لم يمت، وأنَّه سيعود ليملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلِئت جورًا، وسيملك الأرض وينتقم من أعدائه. وهذا الترتيب يستبعد أن يكون عبد الله بن سبأ قد ادَّعى كل هذه الشناعات في حياة علي؛ إذ ليس من المعقول أن يكتفي علي بنفيه إلى المدائن على حين حرَق قومًا من أتباعه. وما يورده البغدادي في هذا الصدد لا يكاد يتفق مع شخصية علي التي لا تعرف هوادةً فيما يتصل بالدين. يقول: «فنهاه ابن عباس عن ذلك (يعني عن قتل ابن سبأ)، وقال له: إن قتلتَه اختلف عليك أصحابك، وأنت عازم على العود إلى قتال أهل الشام، وتحتاج إلى مداراة أصحابك.»٤٧ ولا أظنُّ أنَّ سوء الحال كان قد بلغ بعلي رضي الله عنه مبلغًا يجعله يتجاوز عن مثل هذا التخريب العقائدي في الدين. ولو كان علي يُداري أصحابه لتاب من قَبوله التحكيم لكي يُرضي الخوارج وهم القوة التي لم يكن يُستهان بها قوةً وعددًا وشجاعة، والذين أدَّى انشقاقهم عليه إلى التعجيل بانتصار معاوية.
ولا شك أنَّ هذه الأفكار على ما فيها من بُعدٍ عن الإسلام، كانت محاولةً لرفع الروح المعنوية للشيعة، ودفعهم للتماسك والاستمرار ما دام إمامهم ما يزال حيًّا، وما دام باب الأمل مفتوحًا وأنَّه سيعود — يومًا ما — ليقودهم إلى النصر النهائي ضد الظَّلَمَة الجبَّارين. ولا ينبغي — في نفس الوقت — أن يغيب عن الأذهان أنَّ هذا التفسير لنشأة الفكر الحلولي التجسيدي لا ينفي وجود المؤثرات اليهودية والمسيحية، وخصوصًا تلك المؤثرات غير المباشرة؛ فالعقائد المسيحية واليهودية موجودة في الجزيرة العربية، وفي المدينة خصوصًا، منذ فترة باكرة وقبل البعثة النبوية؛ «فعند اليهود والنصارى أنَّ النبي إيليا قد رُفِع إلى السماء، وأنَّه لا بد أن يعود إلى الأرض في آخر الزمان لإقامة دعائم الحق والعدل، ولا شك أنَّ إيليا هو الأنموذج الأول لأئمة الشيعة المختفين الغائبين، الذين يحيَون لا يراهم أحد، والذين سيعودون يومًا كمهديين منقذين للعالم.»٤٨
وإذا كُنَّا لا نُنْكِر التأثير غير المباشر للفكر اليهودي أو المسيحي، ونربطه بواقع المجتمع الإسلامي، فإنَّنا لا نتقبَّل ببساطة تلك الفكرة الساذجة التي ترى في هذه الأفكار محاولةً مقصودة لهدم الإسلام من الداخل عن طريق اعتناقه وتخريبه بعقائد أجنبية؛ «فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة ولم تمتدَّ إلى العناصر الإسلامية غير السامية إلا خلال ثورة المختار، بل إنَّ قواعد نظرية الإمامة، والفكرة الثيوقراطية المناهضة لنظرية الحكم الدنيوية، وكذا الفكرة المهدية التي أدَّت إليها نظرية الإمامة والتي تجلَّت معالمها في الاعتقاد بالرجعة ينبغي أن نُرجعها كلها، كما رأينا، إلى المؤثرات اليهودية والمسيحية. كما أنَّ الإغراق في تأليه علي، الذي صاغه في مبدأ الأمر عبد الله بن سبأ، حدث في بيئة سامية عذراء لم تكن قد تسرَّبت إليها بعد الأفكار الآرية، وانضمَّ لهذه الحركة في بدء قيامها جموع غفيرة من العرب، حتَّى إنَّ أول الواضعين لجزء من مبادئ التجسيم والحلول قوم لا شك أنَّهم من الجنس العربي الصميم.»٤٩
ويؤكِّد ابن خلدون فكرة التأثير غير المباشر حين يقول: «وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذٍ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك (يعني من بدء الخليقة وأسرار الوجود) إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب.»٥٠ ولا شك أنَّ النزعة التجسيدية والتشبيهية كانت كامنةً في نفوس بعض العرب الذين كانوا ما يزالون قريبي عهدٍ بالجاهلية، وكان الانتماء لعلي بن أبي طالب باعتباره ابن عم رسول الله وزوج ابنته وأقربهم إليه يُعبِّر عن عاطفة دينية عميقة خصوصًا في ظروف تعرَّض فيها المجتمع الإسلامي لمحنة التمزُّق الداخلي. ولم يكن معاوية — بكل تاريخ أسرته في محاربة الإسلام — بالذي يستطيع أن يجمع حوله قلوب المسلمين وإن استطاع أن يشتري سيوفهم.
بعد انتهاء الصراع لصالح الحزب الأموي، واستسلام الحسن بن علي له فيما سُمِّي بعام الجماعة على شرط أن يجعل الأمر بعده شورى للمسلمين، سكن الشيعة لبعض الوقت حتَّى بدأ معاوية يأخذ البيعة لابنه يزيد. ومع خلافة يزيد كان واضحًا أنَّ الدولة الدينية تتحوَّل إلى مُلْك كسروي وراثي. وإذا أضفنا إلى ذلك السيرة الخاصة ليزيد، والتي لم تكن مقبولةً من أي مُسلم تقي، أدركنا أنَّ خروج الشيعة كان ضرورةً حتمية للدفاع عن مصالحهم من جهة، ولإقامة حكم الإسلام من جهة أخرى. وبعد فشل ثورة الحسين وارتكاب الأمويين لمذبحة كربلاء، ثار عبد الله بن الزبير باعتباره مُمثِّلًا للقوى التي سبق أن ناهضت علي بن أبي طالب في موقعة الجمل. ومع ثورة عبد الله بن الزبير حاول أن يستعين بالخوارج، ولكنَّهم حاولوا امتحانه عن طريق سؤاله عن رأيه في عثمان، وحين وجدوه مُخالفًا لهم حيث قال: «أُشهدكم ومن حضرني أنِّي ولي لابن عفان وعدو لأعدائه.»٥١ لم يُساعدوه، وكان ذلك في عصر عبد الملك بن مروان. وعلى الجانب الثاني حاول عبد الله بن الزبير أن يستعين بمحمد ابن الحنفية على حرب الأمويين، ولكنَّه رفض.٥٢ ولعل في هذه الواقعة دلالةً على بداية الإحساس بضرورة التجمُّع والتوحُّد في وجه العدو المشترك. ومن ناحية أخرى يؤكِّد ذلك أنَّ الخلاف حول الحكم على المتحاربين في الفتنة ظلَّ هو جذر الخلاف بين الفِرق المختلفة، وهو خلاف لسنا بحاجة إلى تأكيد نشأته على يد الخوارج بعد التحكيم.
الذي نريد التأكيد عليه هنا هو أنَّ الشيعة رفعوا فكرة الدولة الدينية والإمام المُقدَّس في مواجهة الدولة الدنيوية التي أسَّسها الأمويون، وكان للضربات المتلاحقة التي وجَّهها الأمويون ضدهم، تلك الضربات التي بلغت قمتها المأساوية في التمثيل بسبط الرسول بكربلاء، أثرها في تأكيد فكرة المهدي المنتظر الذي ألحَّ الشيعة على قداسته: «وهكذا غلب الجانب الديني في التشيُّع على الجانب السياسي وتقدَّم عليه، ووجد الشيعة في أقدم دولة ناوأوها وهي دولة الأمويين، الفرصة الأولى في أن يتَّجهوا في حركتهم اتجاهًا دينيًّا، وكان مسلك الأمويين دائمًا — إذا تركنا جانبًا مسألة الحق الشرعي في الخلافة — عنوانًا للمخازي والفضائح في نظر الأتقياء؛ لأنَّهم كانوا يضعون نصب أعينهم المصلحة الدنيوية للحكومة الإسلامية ويجعلونها في المحل الأول، بينما رأى الأتقياء تغليب المصلحة الدينية.»٥٣
وإذا كان الشيعة قد انقسموا إلى ثلاث فِرق رئيسية تندرج تحت كل منها فروع كثيرة، فإنَّ الفِرق الثلاث وهي الغالية والإمامية والزيدية تتفق في إمامة علي وأحقيته للخلافة. ويُعتبر عبد الله بن سبأ مؤسِّس «الغالية»؛ لأنَّه غالى في علي حتَّى جعله إلهًا، أمَّا مؤسس الإمامية فهو المختار بن عبيد «الذي خرج وطالب بدم الحسين بن علي ودعا إلى محمد ابن الحنفية»٥٤ عام ٦٦ﻫ في عهد عبد الملك بن مروان. وكان محمد ابن الحنفية بعد مقتل أخيه الحسين «قد اختار العزلة، فآثر الخمول على الشهرة.»٥٥ ودون أن نتعرَّض لتفاصيل أفكار المختار أو «الكيسانية» كما يُسمِّيها كُتَّاب الفِرق، فإنَّ فكرة الإمامة هي الفكرة الأساسية التي قامت عليها دعوة المختار. وواضح أنَّ دعوة المختار كانت أول انشقاق في صفوف الشيعة، وذلك عن طريق الدعوة لمحمد ابن الحنفية، وكانت الإمامة قبل ذلك مقصورةً على أولاد علي من فاطمة وهما الحسن والحسين وأعقابهما. وعلى يد المختار نمَت فكرة عصمة الإمام وانفراده بعلم تأويل الشريعة، واختفائه ورجعته. والفارق بين السبئية والكيسانية يكمن في أنَّ السبئية يعتبرون إمامهم شخصًا مُقدَّسًا بطبيعته، أمَّا الكيسانية فيعتبرونه رجلًا رفيع المقام مُحيطًا بعلوم ما وراء الطبيعة. وبصرف النظر عمَّا تحكيه كتب المقالات من استنكار ابن الحنفية لمثل هذه الأفكار، فإنَّ الذي يُهمنا هو بيان تطوُّر فكرة الإمامة لتُلائم طبيعة الظروف المتغيِّرة في الدولة الإسلامية. والذي لا شك فيه أنَّ المُختار نجح في إثارة القلق في أرجاء الدولة الأموية، ولو استطاع مع ابن الزبير أن يُكوِّنا جبهةً واحدة مع الخوارج، لكان للتاريخ قول آخر، ولكن اختلاف مصالح القوى كان كفيلًا بأن يُفرِّق بينها.
أمَّا الفرقة الثالثة من فرق الشيعة فهي الزيدية، وهم ينتسبون إلى زيد بن علي زين العابدين: «وكان زيد بن علي بُويع له بالكوفة في أيام هشام بن عبد الملك وكان أمير الكوفة يوسف بن عمر الثقفي، وكان زيد بن علي يُفضِّل علي بن أبي طالب على سائر أصحاب رسول الله ، ويتولَّى أبا بكر وعمر، ويرى الخروج على أئمة الجور، فلمَّا ظهر في الكوفة في أصحابه الذين بايعوه سمع من بعضهم الطعن على أبي بكر وعمر، فأنكر ذلك على من سمعه منه، فتفرَّق عنه الذين بايعوه.»٥٦ وسنتعرَّض بعد قليل لفكر الشيعة الزيدية ومدى اتفاقه مع فكر المعتزلة في كثير من المبادئ والتفاصيل باستثناء فكرة النص على إمامة علي. والذي يهمنا الآن أن نلمح الطابع الواقعي لفكر الشيعة الزيدية، وهو طابع تخفَّف كثيرًا من غلواء السبئية والكيسانية، وكذلك من غلواء الخوارج في تكفير عثمان وعلي بعد أن قَبِل التحكيم. وفي خلاف زيد بن علي مع أصحابه في تكفير أبي بكر وعمر ما يؤكِّد لنا مرةً ثانية أنَّ الخلاف حول الحكم على الأئمة والخلفاء ظلَّ خلافًا أساسيًّا يُفرِّق بين الاتجاهات المختلفة حتَّى داخل حزب واحد كالشيعة.

(٤)

يُعدُّ عصر عبد الملك بن مروان (٦٥–٨٦ﻫ) عصر العواصف التي ملأت كل مدة خلافته تقريبًا؛٥٧ فهو الذي قتل عمرو بن سعيد — كما سبقت الإشارة — وألقى بجثته إلى أتباعه زاعمًا أنَّه قتله بقضاء الله السابق. وهو الذي قتل معبدًا الجهني (٨٠ﻫ) أول من قال بالقدر، وهو الذي فرض ضرائب جديدةً على الموالي أثقلت كواهلهم حتَّى خرج عليه الحارث بن سريج. وهو الذي ولَّى الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قال عنه الحسن البصري: «ما زال النفاق مقموعًا حتَّى عُمِّم هذا عمامةً وقُلِّد سيفًا.»٥٨ هذا كله إلى جانب العصبيات القبلية التي أسهب المؤرِّخون في وصفها. وإذا كان يُعدُّ بحق «المؤسس الثاني للدولة الأموية»،٥٩ فإنَّه من جانب آخر يُعدُّ مؤصِّل العداوة الأصيلة ضد الدولة الأموية. ويحس الباحث أنَّ هذا العصر قد شهد تحوُّلًا في مشاعر أولئك المسلمين الأتقياء الذين تعايشوا — بحكم الأمر الواقع — مع خلفاء بني أمية.

وإذا كان القول بالقدر وبمسئولية الإنسان وحريته في الاختيار، لم يجد صدًى في قلوب أولئك الأتقياء الذين يميلون في الغالب إلى التسليم بقدرة الله القاهرة، فإنَّ تستُّر الأمويين وراء القول بالجبر كان كفيلًا — مع ازدياد جرائمهم — برفع الغشاوة عن هذه العيون المؤمنة لتُدْرِك المغزى السياسي لهذه الدعوى. ولا شك أنَّ المؤمن العميق الإيمان، وحتَّى الزاهد الورع، يؤمن إيمانًا عميقًا بالثواب والعقاب، وأنَّهما يكونان حسب العمل؛ فالثواب هو جزاء العمل الخيِّر، والعقاب جزاء العمل الشرير، ويستطيع المؤمن الورع أن يجمع — دون أدنى تعارض — بين إيمانه هذا، وبين الإيمان بقدرة الله القاهرة وإرادته الشاملة التي لا يُمكن لإرادة الإنسان أن تتصدَّى لها أو تُخالفها. ولذلك من السهل أن نُفسِّر كراهية الصحابة المتأخِّرين للقول بالقدر ونفورهم من قائله على أساس أنَّهم — دون إدراك لمغزاه السياسي — اعتبروه دعوةً مناقضة للإيمان الكامل. ومن ناحية أخرى فإنَّ القول بالقدر — كما سبقت الإشارة — كان يحمل في طيَّاته رائحة الفكر المسيحي الذي كان شائعًا في دمشق، وهذا من شأنه أن يُؤدِّي إلى نفور المسلم الورع. ولكن هذا النفور لم يدم طويلًا؛ إذ سُرعان ما كشفت سياسة الخلفاء الأمويين عن طابعها اللاديني، وبذلك فقدت صمتَ هؤلاء المتديِّنين الورعين واستسلامهم للأمر الواقع، كما فقدت أيضًا توقُّف المرجئة وتبريريتهم حتَّى تحوَّل بعضهم إلى مشاركين في الخروج على خلفائها كما رأينا في حالة جهم بن صفوان.

وإذا كانت المصادر الاعتزالية والشيعية تردُّ القول بالقدر إلى علي بن أبي طالب، وتربطه على لسانه بالوعد والوعيد، على أساس أنَّ نفي قدرة الإنسان واختياره تؤدِّي إلى إبطال الثواب والعقاب، وسقوط الوعد والوعيد،٦٠ فإنَّ ذلك يُعدُّ — في نظر الباحث — مُحاولةً لتأصيل هذا الفكر ورده إلى الإمام الأول عند الشيعة، أو إلى صحابي جليل القدْر عند المعتزلة. وقد يكون علي بن أبي طالب قد واجه هذا السؤال في عصره، وقد يكون قد أجاب عليه مثبتًا مسئولية الإنسان عن فعله، لكن هذا الربط بين القول بالقدر والوعد والوعيد والثواب والعقاب هو بلا شك من اجتهاد المعتزلة والشيعة والزيدية. وواضح من هذه الرواية أنَّ المعتزلة والشيعة معًا يُحاولون أن يُلصقوا بخصومهم — على لسان علي — ما اتهموهم به من تهمة القدرية، ومن ثمَّ يجعلون عليًّا يقول عن منكري القدر: «تلك مقالةُ عَبَدَة الأوثان، وحزب الشيطان، وخصماء الرحمن وشهداء زور، وقدرية هذه الأمة ومجوسها.»٦١
وأقرب الشخصيات التي يُمكن اعتبارها أساس نشأة الاعتزال هو الحسن البصري (ت١١٠ﻫ) أستاذ كل من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد مؤسسَي المذهب الاعتزالي باتفاق المصادر القديمة. وينتمي الحسن البصري من حيث أصوله الاجتماعية إلى قطاع الموالي؛ فهو من «أهل ميسان» مولًى لبعض الأنصار، «وكان اسم أمه خيرة، مملوكة لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله.»٦٢ ومن الطبيعي أن يكون الحسن — بكل تقواه وورعه — ناقمًا على بني أمية مظالمهم.
ولقد بلغت سطوة الأمويين على العراق أشُدَّها في عصر عبد الملك بن مروان حين وُلِّي الحجاج بن يوسف عليها بعد أن قضى على ثورة ابن الزبير وهدمَ الكعبة. ولا شك أنَّ مشاعر المسلمين قد استاءت إزاء هذا الاعتداء على الكعبة ومهبط الوحي، غير أنَّهم كانوا يتَّقون سطوة الحجاج. ولم يكن الحجاج يعرف أقدار الأتقياء، فقد أراد أن يقتل الحسن لقول قاله في غَيبته، وما أكثر أقوال الحسن في الحجاج، «وأمر بالنطع والسيف فأُحْضِرا، ووجَّه إليه، فلمَّا دنا الحسن من الباب، حرَّك شفتَيه والحاجب ينظر إليه، فلمَّا دخل قال له الحجاج: ها هنا، وأجلسَه قريبًا من فرشه، وقال له: ما تقول في علي وعثمان؟ قال: أقول قول من هو خير مني عند من هو شر منك؛ قال موسى عليه السلام لفرعون إذ قال له: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (طه: ٥١–٥٢). علم علي وعثمان عند الله تعالى.»٦٣
ولقد كان من شأن هذه القسوة في معاملة الحسن وأمثاله — على قدرهم وورعهم — أن تجعلهم أقرب إلى المهادنة والتقية، على الأقل في مواجهة الحجاج وأمثاله. وإن كانوا حين يخلون إلى تلاميذهم يُعلنون رأيهم بصراحة. وقد روي أنَّ الحسن تلا يومًا: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ (الأحزاب: ۷۲)، ثمَّ قال: «إن قومًا غدَوا في المطارف العتاق، والعمائم الرقاق، يطلبون الإمارات ويُضيِّعون الأمانات، يتعرَّضون للبلاء وهم منه في عافية، حتَّى إذا أخافوا من فوقهم من أهل العفَّة، وظلموا من تحتهم من أهل الذمَّة؛ أهزلوا دينهم وأسمنوا براذينهم، ووسَّعوا دينهم، وضيَّقوا قبورهم.»٦٤
وإشارة الحسن إلى إخافة أهل العفَّة، وظلم أهل الذمَّة، لها دلالتها في تحديد طبيعة الثورة النفسية التي تعتمل في نفس رجل من الأتقياء، يُدرك الظلم ويلمس مظاهره الاجتماعية في الإثراء على حساب الدين وفقراء المسلمين وغيرهم من أهل الأديان الأخرى. وجاء رجل يسأله يومًا عن عطاء له عند بني أمية فقال: «آخذ عطائي أم أدعه حتَّى آخذه من حسناتهم يوم القيامة؟ فقال له: قمْ ويحك خذْ عطاءك فإنَّ القوم مفاليس من الحسنات يوم القيامة.»٦٥ ومعنى ذلك أنَّ نزعة الزهد التي اشتهر بها الحسن لم تمنعه من إدراك الظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي يُمارسه رجال الدولة الأموية ضد جماهير المسلمين، ولم تحُل بين عينَيه وبين رؤية مظاهر هذا الظلم.
وإذا كان عداء الأمويين السافر كان مُوجَّهًا ضد الخوارج والشيعة ومَن حَمَل السلاح في وجوههم، ولم يمنع ذلك الحجاج من امتحان الحسن وسؤاله عن رأيه في علي وعثمان، فقد كان من الطبيعي أن يلجأ الحسن إلى التقية حين يُحدِّث عن علي بن أبي طالب، رغم أنَّه لم يكن شيعيًّا. فقد صار حُب علي تهمةً يُعاقَب عليها: «وكان الحسن إذا أراد أن يُحدِّث في زمن بني أمية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال أبو زينب.»٦٦

لم يكن من الطبيعي أن يظل أمثال الحسن على سلبيتهم إزاء مظاهر الظلم المُتعدِّدة أمام أعينهم. وإذا كان متأخِّرو الصحابة قد استشعروا كثيرًا من سوء الظن بقول معبد الجهني بالقدَر، فإنَّ تعلُّل الأمويين — وعبد الملك بن مروان بالذات — بالجبر تبريرًا لأفعالهم وجرائمهم كان كفيلًا برفع الغشاوة عن أعين هؤلاء المؤمنين الأتقياء من أمثال الحسن. ولم يتردَّد الحسن في تبني القول بالقدر على مذهب معاصره معبد الجهني. وليس من المستبعد أن يكون الحسن قد عدَّل قليلًا من قول معاصره الذي ذهب إلى أنَّ القدر خيره وشره من العبد كما تحكي عنه كتب المقالات. ولقد كان تعديل هذا القول ضرورةً لا غنى عنها حتَّى لا يؤدِّي ذلك إلى نفي قدرة الله أو الانتقاص منها.

ولمَّا كان بنو أمية يرفعون القول بالجبر لتبرير معاصيهم، فإنَّ إسناد المعاصي إلى قدرة العبد كافٍ في الرد عليهم دون أن يؤدِّي ذلك إلى الانتقاص من قدرة الله. لذلك كله عدَّل الحسن من قول معبد وغيلان والجعد، وقال: «كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي.»٦٧ وهذه الصياغة لمبدأ القدر تنفي عن الله فعل الشر وتُثبت قدرة العبد عليه. ومن شأن هذه الصياغة للمبدأ أن تجعله مقبولًا لدى أتقياء المسلمين؛ لأنَّها رفعت عنه الحرج السابق الذي يؤدِّي إلى إيهام أنَّه يتناقض مع الإيمان الحق. كما أنَّها من جانب آخر تُثبت مبدأ الثواب والعقاب الذي يُعدُّ ركنًا أساسيًّا في العقيدة الدينية، ذلك المبدأ الذي يُخل به القول بالجبر وينفي مسئولية الإنسان عن فعله.
ويقول الحسن مؤكِّدًا مبدأه وكاشفًا عن مراميه: «من زعم أنَّ المعاصي من الله عزَّ وجلَّ جاء يوم القيامة مُسودًّا وجهه، ثمَّ قرأ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ (الزمر: ٦٠).٦٨ ويُشير ابن قتيبة إلى علاقته بمعبد الجهني عَرَضًا حين يقول: «وكان (أي الحسن) تكلَّم في شيء من القدر ثمَّ رجع عنه، وكان عطاء بن يسار قاصًّا ويرى القدر … فكان يأتي الحسن هو ومعبد الجهني فيسألانه ويقولان يا أبا سعيد، إنَّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون الأموال ويفعلون ويقولون إنَّما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال كذب أعداء الله.»٦٩ وهذه العلاقة التي تجعل معبدًا الجهني يأتي ليسأل الحسن عن رأيه في القدر، تؤكِّد ما نذهب إليه من تعديل الحسن لمقولة معبد. ويبدو أنَّ الحسن — خلافًا لِمَا يزعمه ابن قتيبة — كان يتحرَّج من القول بالقدر، ويبدو أنَّ سؤال معبد له، بهذه الطريقة الاستفزازية، كان المقصود منه ضمه إلى رأيه حتَّى يكتسب أنصارًا من كبار التابعين أمثال الحسن. وسرعان ما استجاب الحسن لرأي معبد بعد أن صاغه تلك الصياغة التي توائم بينه وبين الإيمان المطلق بقدرة الله. وأغلب الظن أنَّ قتل معبد على قوله كان له دخل كبير في تمسُّك الحسن بقوله والمجاهرة به، بعد أن كان لا يقوله إلا في خاصته.
وقد وصلتنا عن الحسن رسالة في نفي القدر ترجع إلى عصر عبد الملك بن مروان. ويُنكر الشهرستاني نسبة هذه الرسالة إلى الحسن، وينسبها إلى واصل بن عطاء، على أساس «أنَّ الحسن ما كان مِمَّن يُخالف السلف في أنَّ القدر خيره وشره من الله تعالى.»٧٠ وهو قول يُنكره ما أوردناه لابن قتيبة سالفًا وهو مصدر أقدم من الشهرستاني. ومن جهة أخرى فسواء نُسِبت الرسالة للحسن أو لواصل بن عطاء، فإنَّ دلالتها على ما نحن بصدده تظل قائمة.
وتبدو أهمية الرسالة فيما تُثيره من اعتراض عبد الملك بن مروان؛ فالرسالة رد على تساؤل من عبد الملك بن مروان وجَّهَه للحسن حول ما بلغه عنه من أنَّه يقول بالقدر. ولم يكن عبد الملك بن مروان بالساذج حتَّى يفعل بالحسن ما فعله بمعبد الجهني؛ فالحسن — بزهده وورعه وتقواه — قد يُثير سخط العامة؛ ولذلك يلجأ عبد الملك إلى أسلوب النقاش: «وقد كان أمير المؤمنين يعلم منك صلاحًا في حالك، وفضلًا في دينك، ودرايةً للفقه، وطلبًا له وحرصًا عليه. ثمَّ أنكر أمير المؤمنين هذا القول من قولك، فاكتب إلى أمير المؤمنين بمذهبك، والذي به تأخذ، أعَنْ أحد من أصحاب رسول الله أم عن رأي رأيته، أم عن أمر يُعرف تصديقه في القرآن؟ فإنَّا لم نسمع في هذا الكلام مجادِلًا ولا ناطقًا قبلك.»٧١ وتبدو في لهجة الرسالة نبرة الضيق التي ترى تناقضًا بين الصلاح والفضل والفقه وبين القول بالقدر، ممَّا يؤكِّد أنَّ انتماء الحسن إلى صف القائلين بالقدر أقلق الخليفة الأموي ودفعه لهذه التساؤلات حول أصل هذا الرأي ومنشئه في القرآن أو السنة أو آراء السلف الصالح. ولم يكن صعبًا على الحسن أن يستشهد بالقرآن على صحة مذهبه؛ ففي القرآن آيات كثيرة تُحمِّل الإنسان مسئولية فعله. ويلجأ الحسن إلى تأويل تلك الآيات الأخرى التي تُوهم بالجبر، وهذه مسألة سنتعرَّض لها في الفصل الخاص بالتأويل والمجاز. أمَّا الذي نُريد التركيز عليه الآن فهو لمز الحسن لمُعاصريه على قولهم بالجبر: «وقد أدركنا، يا أمير المؤمنين، السلف الذين عملوا بأمر الله، وروَوا حكمته، واستنُّوا بسنة رسوله فكانوا لا يُنْكِرون حقًّا ولا يُحِقُّون باطلًا، ولا يلحقون بالرب تبارك وتعالى إلا ما ألحق بنفسه، ولا يحتجُّون إلا بما احتجَّ الله به على خلقه في كتابه.»٧٢ ثمَّ ينتهي إلى أنَّه «لمَّا أحدث المحدَثون الكلام في دينهم ذكرتُ من كتاب الله خلافًا لِمَا قالوا وأحدثوا.»٧٣ والحسن في هذا الرد يتهم معاصريه بأنَّهم أحدثوا — القول بالجبر — قولًا لم يقل به أحد من السلف الصالح، وألحقوا بالرب ما لم يُلحِق بنفسه من نسبة معاصيهم إليه، فكان عليه أن يتصدَّى لهم، ويكشف عن زيف معتقدهم.

وننتهي من ذلك كله إلى أنَّ القول بالقَدَر وبمسئولية الإنسان عن فعله كان سلاحًا فكريًّا وعقائديًّا ضد تستر الأمويين وراء مبدأ الجبر لتبرير أعمالهم. وقد رفع لواء هذا المبدأ مُفكِّرون دفعوا حياتهم ثمنًا له، وتحرَّج متأخِّرو الصحابة والتابعون من القول به لِمَا يوهمه من انتقاص للقدرة الإلهية. وظلَّ الأمر كذلك حتَّى عدَّل الحسن البصري من صياغة هذا المبدأ بما يجعله يتلاءم مع الإيمان المُطلق بقدرة الله ومشيئته اللانهائية. وكان الذي دفع الحسن إلى ذلك هو انكشاف البعد السياسي لمقولة «الجبر» في عهد عبد الملك بن مروان. ويُعدُّ ما فعله الحسن بذلك بمثابة إعطاء شرعية دينية وفقهية لمبدأ يُثير الشك في وجدان المسلم العادي؛ وذلك عن طريق الاستشهاد بآيات القرآن التي تتمشَّى مع المبدأ، وفي نفس الوقت تأويل تلك الآيات التي يوهم نصها الحرفي مناقضة هذا المبدأ.

(٥)

سبقت الإشارة إلى أنَّ الخلاف الذي اعتزل بسببه واصل بن عطاء (ت١٣١ﻫ) حلقة أستاذه الحسن هو الخلاف حول مرتكب الكبيرة. ولقد رأينا في الصفحات السابقة أنَّ هذا الخلاف يمتد إلى بداية نشأة حركة الخوارج، وإن أطلقوا عليه «الإمام الجائر» لا «مرتكب الكبيرة». ولقد كان الخوارج واضحين ومتسقين مع نزوعهم الثوري، فذهبوا إلى تكفير كل من خالفهم، وذهبوا إلى ضرورة الخروج على الإمام الجائر ومحاربته بالسيف. ولم يُفرِّق الخوارج بين إمامهم الأول «علي بن أبي طالب» وبين «معاوية بن أبي سفيان» ما داموا قد آمنوا بأنَّ كلَيهما على باطل، وإن اختلفت درجة باطل كل منهما. وفي الجانب الآخر كان المرجئة يحكمون على «مرتكب الكبيرة» بالإيمان، وذلك تأسيسًا على تعريفهم للإيمان الذي سبقت الإشارة إليه. وقد انشغل الشيعة، الغالية منهم والإمامية، بقضية الإمامة دون غيرها من القضايا. أمَّا الحسن البصري — الفقيه الورع الزاهد — فقد تحرَّج في تكفير من شهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، كما أنَّه من جانب آخر لم يكن يستطيع أن يفصل الإيمان عن العمل كما فعلت المرجئة؛ ولذلك انتهى إلى أنَّ مرتكب الكبيرة منافق، ليس كافرًا وليس مؤمنًا.

وممَّا يرتبط بهذا الخلاف ما سبقت الإشارة إليه من أنَّ الحكم على عثمان وعلي وطلحة والزبير كان جزءًا من الخلاف بين الفرق والاتجاهات المختلفة. ولقد امتحن الخوارج عبد الله بن الزبير وحين خالفهم لم يُحاربوا معه. وكذلك امتحن زيد بن علي أصحابه في هذه القضية، وانفضُّوا عنه حين رفض الخوض في أبي بكر وعمر. وليس ببعيد عنَّا امتحان الحجاج للحسن البصري حين سأله عن عثمان وعلي.

وإذن فالخلاف حول قضايا مرتكب الكبيرة والحكم على المتنازعين لم يكن مجرَّد خلاف فقهي وإن بدا كذلك على يد الحسن وتلميذه واصل، ومَرَد ذلك إلى طبيعة الضغوط التي تعرَّض لها الحسن على يد الحجاج، وهي ضغوط جعلته في كثير من الأحيان يلجأ للتقيَّة والمداراة.

لم يقبل واصل بن عطاء رأي الخوارج في الحكم على مرتكب الكبيرة بأنَّه كافر، وكذلك لم يقبل رأي المرجئة بأنَّه مؤمن، ثمَّ خرج على أستاذه الحسن أخيرًا ولم يقتنع بقوله إنَّه منافق. وخرج بوصف له بأنَّه فاسق في منزلة بين المنزلتَين؛ أي بين منزلة المؤمن والكافر. وحكم عليه بأنَّه يخلَّد في النار إن مات على غير توبة. وقد يبدو هذا الرأي الذي أثاره واصل في مرتكب الكبيرة مذهبًا رابعًا يُضاف إلى المذاهب الثلاثة السابقة عليه. ومن الواضح أنَّ هذا المذهب ليس مذهبًا محايدًا كما ذهب إلى ذلك نلينو،٧٤ كما أنَّه ليس خروجًا عن الإجماع كما ذهب إلى ذلك كل خصوم المعتزلة؛ فواصل يتفق مع الخوارج في خلود مرتكب الكبيرة في النار، ويشترط عدم التوبة. وهو شرط لا يجعله مُخالفًا لهم وإن لم يَنُصوا عليه. وسلوك الخوارج العملي في استتابة مخالفيهم يؤكِّد الاتفاق بينهم وبين واصل في هذه النقطة. وهو لم يتفق مع المرجئة الذين يجعلونه مؤمنًا ويفتحون أمامه باب الأمل في رحمة الله الواسعة. ويبدو أنَّ خلاف واصل مع أستاذه — بحسب ما تُتيحه المصادر — هو خلاف في التسمية فقط. ومعنى ذلك كله أنَّ واصلًا في حكمه على مرتكب الكبيرة — إذا أضفنا شرط التوبة — يتفق مع الخوارج ويختلف مع المرجئة.
وفيما يرتبط بمسألة إطلاق الأسماء، يبدو أنَّ واصلًا كان يسعى لتوحيد الحكم على مرتكب الكبيرة بين الفرق المختلفة بدلًا من هذا الخلاف في تسميته والحكم عليه. وكان اشتراط التوبة هو الحل السعيد لطرفَي النقيض بين الخوارج والمرجئة؛ فالتوبة تُمثِّل باب الأمل المشروط عند واصل، بدلًا من الباب المفتوح على مصراعَيه عند المرجئة. ويُنكِر الخيَّاط خروج واصل في قوله في مرتكب الكبيرة عن الإجماع بقوله: «وجد الأمة مجمعةً على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور، مختلفةً فيما سوى ذلك من أسمائهم، فأخذ بما أجمعوا عليه وأمسك عمَّا اختلفوا فيه. وتفسير ذلك أنَّ الخوارج وأصحاب الحسن كلهم مُجمعون على أنَّ صاحب الكبيرة فاسق فاجر. ثمَّ تفرَّدت الخوارج وحدها فقالت: هو مع فسقه وفجوره كافر. وقالت المرجئة وحدها: هو مع فسقه وفجوره مؤمن. وقال الحسن ومن تابعه: هو مع فسقه وفجوره منافق. فقال لهم واصل: قد أجمعتم أن سمَّيتم صاحب الكبيرة بالفسق والفجور، فهذا اسم له صحيح بإجماعكم وقد نطق به القرآن في آية القاذف وغيرها من القرآن، فوجب تسميته به.»٧٥ وهذا الموقف الذي اتخذه واصل من مرتكب الكبيرة وقفه الشيعة الزيدية فيما يقول صاحب المقالات.٧٦
أمَّا الحكم على المتحاربين؛ علي وطلحة والزبير، وكذلك على عثمان وقاتليه، فقد كان أيضًا محل خلاف بين الخوارج والشيعة من جانب، وبين الشيعة بفرقها المختلفة من جانب آخر. ذهبت الشيعة إلى تكفير كل من حارب عليًّا وتخطئته، بل غالى بعضهم وخاض في أبي بكر وعمر وشكَّك في أحقيتهما للخلافة، وذهبت الخوارج كذلك إلى تخطئة عثمان في أواخر خلافته، وكذلك خطئوا عليًّا بعد قَبوله التحكيم، ولم ينجُ من أحكامهم أحد من مخالفيهم كما سبقت الإشارة. أمَّا موقف واصل من عثمان «فقد توقَّف فيه وفي خاذليه وقاتليه وترك البراءة من واحد منهم … وذلك أنَّه قد صحَّت عنده لعثمان أحداث في الست الأواخر فأشكل عليه أمره فأرجأه إلى عالمه.»٧٧ ونفس الموقف يقفه هو وزميله عمرو بن عبيد من علي ومحاربيه طلحة وعائشة والزبير؛ «فقد كان القوم عندهما أبرارًا أتقياء مؤمنين قد تقدَّمت لهم سوابق حسنة مع رسول الله وهجرة وجهاد وأعمال جميلة، ثمَّ وجداهم قد تحاربوا وتجالدوا بالسيوف فقالا: قد علمنا أنَّهم ليسوا بمُحقين جميعًا، وجائز أن تكون إحدى الطائفتَين مُحقَّةً والأخرى مُبطلةً ولم يتبيَّن لنا من المحق منهم مِن المبطل، فوكَّلنا أمر القوم إلى عالِمِه، وتولَّينا القوم على أصل ما كانوا عليه قبل القتال، فإذا اجتمعت الطائفتان قلنا: قد علمنا أنَّ إحداكما عاصية لا ندري أيُّكما هي.»٧٨

ويبدو مذهب واصل وعمرو بن عبيد في هذه القضية أقرب إلى المرجئة منه إلى الخوارج، ولكنَّهم مرجئة لا ينفون الخطأ ولا يُغمضون أعينهم عنه، فثمَّ أخطاء وقعت في الست الأواخر من حكم عثمان، ولكن النفس التقية التي تتأثم من الرجم بالغيب تتوقَّف في الحكم، وتُرجئ الأمر لعلَّام الغيوب. والمعتزلة — على عكس المرجئة — لا يفتحون باب الرحمة ولا يحكمون بالإيمان أو الكفر، بل يتوقَّفون مع الإقرار بوقوع الخطأ. وهم يختلفون مع المرجئة في إقرارهم بالخطأ دون تحديد المخطئ، ويختلفون مع الشيعة والخوارج كذلك بتوقُّفهم عن تحديد المخطئ.

أمَّا الموقف من الأمويين فهو مختلف تمامًا؛ فالحكم الأموي قائم، والتوقُّف عن الحكم عليه إرجاء واضح ومظالم الأمويين تملأ الآفاق. وموقف أستاذهم الحسن من الأمويين واضح وضوحًا بيِّنًا؛ ولذلك فهم «مُجمعون على البراءة من عمرو ومعاوية ومن كان في شِقهما … وهذا قول لا تبرأ المعتزلة منه ولا تعتذر من القول به.»٧٩ وفي هذا القول يتفق المعتزلة مع كلٍّ من الشيعة والخوارج، ويختلفون مع المرجئة بكل اتجاهاتها ومذاهبها.٨٠
وتُثير مسألة خلاف واصل مع أستاذه الحسن حول وصف مرتكب الكبيرة علامة استفهام تحتاج للإجابة والتوضيح، خصوصًا وهما يشتركان في كراهية بني أمية. ويُحس الباحث أنَّ هذا الخلاف كان خلافًا شكليًّا يتصل بالتسمية دون أن يرتدَّ إلى خلاف أعمق من ذلك. وليس معنى وصف الخلاف بأنَّه شكلي التهوين من شأنه، فمن الواضح أنَّ هذا الخلاف كانت له أهميته عند واصل حتَّى ناظر عليه عمرو بن عبيد واكتسبه إلى جانبه.٨١ وترتدُّ هذه الأهمية في نظرنا إلى ما سبق أن ألمحنا إليه من رغبة واصل في رفع الخلاف حول تسمية مرتكب الكبيرة والحكم عليه، وتوحيده بهدف توحيد قوى المعارضة، وإزالة أسباب الخلاف بينها. ولسنا بحاجة لتأكيد أنَّ الحسن كان يُمثِّل تلك الجماعة من أتقياء المسلمين وزُهَّادهم الذين تعايشوا — لفترة — مع الحكم الأموي بحكم الأمر الواقع، وإن لم يُجاهروا بعدائه خوفًا من سطوة حُكَّامه وجبروتهم خصوصًا في عهد عبد الملك بن مروان، وواليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي. ولم تمنعهم هذه المعايشة من محاولة التصدي — فكريًّا — لكل الأفكار التي حاولت أن تدعم هذا النظام وتُسانده. ولقد كان من الطبيعي أن تؤدِّي هذه النظرة التقية المسالمة إلى الحكم على مرتكب الكبيرة بأنَّه منافق، «وحكم الله في المنافق أنَّه إن ستر نفاقه فلم يعلم به وكان ظاهره الإسلام فهو عندنا مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم.»٨٢ ومن المؤكَّد أنَّ أحدًا من الحُكَّام الأمويين لم يُعلن نفاقه، ومن ثمَّ فمعاملتهم معاملة المسلمين أمر واجب على أتقياء المسلمين. ومن الضروري ألَّا يغيب عن الأذهان أثر الضغط الأموي، وتزايُد سياستهم الإرهابية في تكوين هذه النظرة المسالمة إذا قورنت بنظرة الخوارج الواضحة كالسيف.

ولقد كان من الطبيعي أن ينفر أمثال الحسن من الخروج ومن شهر السيوف، وأن يؤدِّي بهم هذا النفور إلى مُعاداة الخوارج، خصوصًا مع مبالغتهم في استخدام مبدأ «التكفير» والعرض على السيف لكل من خالفهم في الأصول أو التفاصيل.

ولم يكن هذا الموقف المهادن وقفًا على الحسن وأمثاله؛ فالشيعة ركنت — بعد مأساة كربلاء — إلى مهادنة الأمويين. وإذا استثنينا ثورة التوَّابين وثورة المختار، وهي ثورات لم تكن تحت قيادة علوية مباشرة، لا نجد خروجًا شيعيًّا مُسلَّحًا إلا مع ثورة زيد بن علي بن الحسين (ت٩٥ﻫ) في عهد هشام بن عبد الملك. ولقد رفض محمد ابن الحنفية الخروج مع عبد الله بن الزبير، كما أنَّه — فيما يُقال — استنكر أقوال المختار الذي خرج باسمه. ولم يخرج من أبناء الحسن أو الحسين أحد حتَّى قرَّر زيد بن علي الخروج. ويبدو أنَّ خروج زيد لم يكن أمرًا مُتَّفقًا عليه بينه وبين باقي أهل البيت من إخوته، وفيهم من هو أحق بالإمامة والخروج منه بحكم السن. ودون الخوض في تفاصيل هذا الخلاف وأسبابه، يُهمنا أن نُشير إلى أنَّ الموقف السياسي كان وراء رفض بعض الأئمة الخروج، «وكان الباعث على ذلك الشدة التي اتبعها الأمويون تجاه مَنْ يخرج على سلطانهم؛ فقد أدرك أئمة الشيعة أنَّ الثورات المحلية المُسلَّحة لا تُجدي نفعًا ما دامت الدولة الأموية تُعزِّز سلطانها بالجند والمال؛ لهذا أشاعوا بين أتباعهم التزام الهدوء أمام الأحداث التي كانت جاريةً آنذاك، مهما بلغت من العنف والقسوة، اللهم إلا في حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي حدود معيَّنة لا يتعرَّض فيها المؤمن إلى فتك السلطان.»٨٣ ويبدو أنَّ الخلاف الذي واجهه زيد بن علي كان حادًّا حتَّى إنَّه — فيما يقول الشهرستاني — ذهب إلى أنَّ «كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة، أن يكون إمامًا واجب الطاعة سواء من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين رضي الله عنهما.»٨٤ وهو قول يجعل القدرة على الخروج وحمل السيف شرطًا للإمامة ومُسوِّغًا لها. ولقد كان من الطبيعي أن يعترض أخوه محمد الباقر على قوله هذا حتَّى قال له يومًا: «على مقتضى مذهبك، والدُك ليس بإمام؛ فإنَّه لم يخرج ولا تعرَّض للخروج.»٨٥
ولم يكن واصل بن عطاء على أي حال بعيدًا عن جو الخلاف الشيعي هذا. ونحن بالقطع لا نستطيع أن نتقبَّل تلك الرواية التي تجعل من واصل تلميذًا مباشرًا لمحمد ابن الحنفية، بل وتدَّعي أنَّه «أخذ علم الكلام عنه، وصار كالأصل لسنده.»٨٦ وتُبَالِغ حتَّى تنسب إليه أنَّه «ربَّى واصلًا وعلَّمه حتَّى تخرَّج واستحكم.»٨٧ والسبب في ذلك أنَّ واصلًا وُلِد عام ٨١ﻫ وهو نفس العام الذي تُوفي فيه ابن الحنفية. ومن المحتمل أن يكون واصل قد عرف أفكار ابن الحنفية عن طريق ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد (ت٩٨ﻫ)، وهذا أمر تؤكِّده سلسلة السند التي يعتزُّ بها كلٌّ من المعتزلة والشيعة، والتي تنتهي إلى واصل وعمرو، «وهما أخذا عن عبد الله بن محمد، وعبد الله أخذ عن أبيه محمد ابن الحنفية.»٨٨ ومن جهة أخرى تؤكِّد هذه المصادر صلة واصل بأبي هاشم هذا: «وكان معه المكتب.»٨٩ ولسنا نذهب من هذه الرواية إلى نسبة الاعتزال إلى محمد ابن الحنفية كما تُحاول المصادر الاعتزالية والشيعية أن تفعل، بقدر ما نُحاول إثبات الصلة بين واصل والشيعة في هذه الفترة لرصد التأثير المتبادل بينهما. ومن المحتمَل أن يكون ابن الحنفية الذي «اختار العزلة، فآثر الخمول على الشهرة» قد ذهب إلى الإرجاء أو التقيَّة تبريرًا لهذا الموقف الذي فرضته عليه الظروف.
ولقد ظلَّ هذا الرأي الذي يرى الهدوء والتريُّث والتقية سائدًا بين صفوف الشيعة حتَّى قرَّر زيد بن علي الخروج. وكان قراره هذا موضعًا لخلاف أخيه محمد الباقر وابن أخيه جعفر بن محمد الصادق. ويبدو أنَّ واصلًا كان على رأي زيد في ضرورة الخروج حتَّى اتهمه جعفر بن محمد بأنَّه أتى أمرًا يُفرِّق الكلمة ويطعن به على الأئمة. وكان رد واصل على هذا الاتهام — في حضور زيد بن علي وغيره من آل البيت: «وإنك يا جعفر ابن الأئمة شغلك حب الدنيا فأصبحت بها كَلِفًا.»٩٠
ويُمكننا أن نستنبط من الاتهام والرد معًا أنَّ الخلاف بين واصل وبين جعفر لم يكن حول قضيةٍ من قضايا الفكر الاعتزالي الشهيرة، أو أصولهم الخمسة؛ لأنَّ هذه الأصول لا تتضمَّن أي إساءة للأئمة. وأغلب الظن أنَّ هذا الخلاف كان حول مشروعية الخروج وشهر السيف ضد الخليفة الأموي، وهو أمر لم يكن يراه جعفر بن محمد، وكان يراه زيد بن علي الذي عضَّده واصل. وليس أدل على صدق هذا الاستنتاج من أنَّ اشتراط زيد لصحة الإمامة القدرة على الخروج والثورة — وهو ما أنكره باقي آل البيت خصوصًا أخوه الباقر — يتفق مع قول المعتزلة في هذه القضية. وموقف زيد من أبي بكر وعمر وتولِّيهما وعدم الخوض فيهما — وهو ما أنكره بعض أنصاره — يؤكِّد أثر واصل وأثر الفكر الاعتزالي في الشيعة الزيدية. ويؤكِّد الشهرستاني هذا الأثر بقوله عن زيد بن علي: «فتلمذ لواصل بن عطاء الغَزَّال الألثغ رأس المعتزلة، ورئيسهم … وصارت أصحابه كلهم معتزلة.»٩١
يرى بعض الباحثين أنَّ ثورة زيد بن علي «كانت أول دعوة علوية نهجت نهجًا سريًّا في نشر مبادئها.»٩٢ وليس من المستبعد — والحالة هذه — أن يكون واصل بن عطاء قد ساهم بشكل ما في تنظيم هذه الدعوة؛ فلقد كان لواصل دُعاة كثيرون أرسلهم إلى الآفاق: «بعث عبد الله بن الحارث إلى المغرب فأجابه خلق كثير، وبعث إلى خراسان حفص بن سالم … وبعث القاسم إلى اليمن، وبعث أيوب إلى الجزيرة، وبعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة، وعثمان الطويل إلى أرمينية.»٩٣ وليس من المعقول أن تكون مهمة هؤلاء الدعاة هي مجرَّد الدعوة إلى أفكار المعتزلة في العدل والتوحيد، أو في نشر الإسلام، دون أن ترتبط هذه الأفكار بمغزاها الاجتماعي والسياسي، وبالدعوة للثورة ضد النظام الأموي.
وإذا كانت ثورة زيد بن علي قد أمكن القضاء عليها، فإنَّ العلاقة بين المعتزلة والثورات الزيدية التالية ظلَّت قائمة، حتَّى مع انتهاء الخلافة الأموية وقيام دولة بني العباس. وتتبدَّى علاقة عمرو بن عبيد بمحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي المعروف بالنفس الزكية (قتله المنصور ١٤٥ﻫ) من نص يُورده الشريف المرتضى عن حوار دار بينه وبين الخليفة المنصور: «قال: بلغني أنَّ محمد بن عبد الله بن الحسن كتب إليك كتابًا، قال: قد جاءني كتاب يُشبه أن يكون كتابه. قال: فبماذا أجبته؟ قال: أولستَ قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا وأنِّي لا أراه؟ قال: أجل ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي. قال: لئن كذبتك تقيةً لأحلفن لك تقية.»٩٤ وهي علاقة من الواضح أنَّها تُقلق الخليفة المنصور الذي يطلب من عمرو بن عبيد — رغم ثقته فيه واحترامه الزائد له — أن يُقسم له.
ولقد شارك المعتزلة بشكل إيجابي وفعَّال في ثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أخي محمد النفس الزكية الذي ثار بالبصرة: «فغلب عليها وعلى الأهواز وعلى فارس وأكثر السواد، وشخص عن البصرة في المعتزلة وغيرهم من الزيدية يُريد محاربة المنصور ومعه عيسى بن زيد بن علي، فبعث إليه أبو جعفر بعيسى بن موسى وسعيد بن سلم، فحاربهما إبراهيم حتَّى قُتِل، وقُتِلت المعتزلة بين يديه.»٩٥ وجدير بالذكر أنَّ هذَين الثائرَين من الزيدية (كانا ممَّن دعاهما واصل إلى القول بالعدل، فاستجابا له، وذلك لمَّا حجَّ واصل، ودعا الناس بمكة والمدينة).٩٦
ومعنى ذلك كله أنَّ القول «بالمنزلة بين المنزلتَين» — رغم توفيقيته الظاهرة — كان محاولةً للخروج من حالة التقية التي غلبت على موقف الحسن وعبَّرت عن نفسها بالقول بنفاق مرتكب الكبيرة من جهة، وكانت أيضًا مُحاولةً لبث روح الثورة في موقف الشيعة الذي كان قد سكن وركن للهدوء. ومن جهة أخرى يُعدُّ هذا الموقف وقوفًا ضد النزعة الدموية التي سيطرت على الفكر الخارجي خصوصًا الأزارقة الذين فقدوا عطف أتقياء المسلمين. غير أنَّ هذا الخلاف بين واصل والخوارج ليس خلافًا جوهريًّا؛ إذ إنَّ اشتراط التوبة لدخول مرتكب الكبيرة الجنة يرفع الخلاف بين واصل وبين الخوارج. ويظل خلاف واصل مع المرجئة في قضية مرتكب الكبيرة هو الخلاف الأساسي والجوهري. والفارق بين واصل والمرجئة أنَّ واصلًا لم يفتح باب العفو والأمل على مصراعَيه، بل جعله مرهونًا بالتوبة الصادقة. وهذا كله يُؤكِّد البعد السياسي لقضية مرتكب الكبيرة وينفي عنها تلك الصبغة الفقهية الخالصة التي تصبغها بها كتب المقالات.٩٧
ويؤكِّد أيضًا ما نذهب إليه من أنَّ واصلًا كان يسعى للتوفيق بين قوى المعارضة وخلق جبهة مُوحَّدة ضد حكم الأمويين ما سبق أن بيَّناه من رأيه في عثمان وعلي وطلحة والزبير رغم ما يبدو عليه من طابع الإرجاء في مواجهة أحداث الماضي. ومن الواضح أنَّ مرتكب الكبيرة الذي اختلف الناس حول الحكم عليه «كان المقصود به تحديد الموقف من الأمويين، باعتبارهم مرتكبي الكبائر هم وعُمَّالهم وأنصارهم في حق جماهير المسلمين.»٩٨ وذلك خلافًا لِمَا يذهب إليه زهدي جار الله من أنَّ المقصود بهم عامة المسلمين «الذين كثر إقدامهم على ارتكاب الكبائر بسبب اختلاف القادة على الخلافة وما جرَّ وراءه من فتن أدَّت إلى مصرع عثمان بن عفان … يُضاف إلى هذا أنَّ المسلمين انتقلوا بعد الفتح من مُحيط الصحراء الضيق إلى محيط واسع فيه كثير من ضروب اللهو والترف وأسباب الفساد.»٩٩
ويرتبط بهذا القول، القول بمسئولية الإنسان عن الفعل وقدرته عليه في مواجهة مبدأ «الجبر» الذي رفعه الحزب الأموي، وهو مبدأ أخذه واصل عن أستاذه الحسن الذي أخذه بدوره عن معبد الجهني. ومن المحتمل أن يكون واصل قد أخذه مباشرةً عن غيلان الدمشقي؛ ذلك أنَّ الحسن بن محمد ابن الحنفية هو «أستاذ غيلان ويميل إلى الإرجاء؛ ولهذا قالت به الغيلانية من المعتزلة،١٠٠ ويؤكِّد هذه العلاقة بين غيلان والمعتزلة احتفاؤهم به في كتبهم ووضعهم إيَّاه في الطبقة الرابعة منهم. والقارئ لقصة اعتراضه على استغلال بني أمية لفقراء المسلمين واعتراضه على ثرائهم الفاحش، ثمَّ قتلهم إيَّاه على هذا الموقف. القارئ لذلك في كتابات المعتزلة يُدرك مكانته عندهم حتَّى إنَّهم حوَّلوا عملية صلبه في عهد هشام بن عبد الملك إلى مُظاهرة سياسية تجعله — في كتبهم — بطلًا يبكيه الناس، وتحف به أرواح الشهداء.١٠١

وتؤدِّي هذه الأفكار بالضرورة إلى تأكيد فكرة الثواب والعقاب؛ فمسئولية الإنسان عن فعله وقدرته عليه، تجعل مرتكب الكبيرة مسئولًا عن كبيرته ومُحاسبًا عليها؛ إذ لا يُمكن أن يتساوى المطيع والعاصي وإلا أدَّى ذلك إلى نفي صفة العدل عن الله. ولتأكيد هذه الصفة كان لا بد من القول بأنَّ الله لا بد أن يُحقِّق وعده للمؤمن ووعيده للكافر. وفي هذا المبدأ «الوعد والوعيد» يتفق المعتزلة مع الخوارج بكل اتجاهاتهم ما عدا مرجئتهم، ويختلفون مع المرجئة بكل اتجاهاتهم.

أمَّا المبدأ الرابع — الذي يرتبط بالعدل — فهو «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وهو مبدأ لا يختلف عليه أحد من المسلمين، شيعة أو خوارج أو مرجئة. ويتركَّز الخلاف حول كيفية تحقيق هذا الهدف؛ فالخوارج رأت ضرورة الخروج والعَرض على السيف لمخالفيهم. ورأى زيد بن علي — متأثرًا بواصل — أنَّ القدرة على الخروج شرط للإمامة، وبذلك قرن بين فكر الشيعة وفكر الخوارج. ومن المؤكَّد أنَّ واصلًا له أثره في هذا الربط والتقريب بين المذاهب كما سبقت الإشارة.

وإذن فقد ضمَّ مبدأ «العدل» في إهابه كل أفكار المعتزلة، وهي أفكار يغلب عليها — إذا استثنينا القول بالمنزلة بين المنزلتَين — الطابع الانتقائي الذي يؤكِّد ما سبق أن افترضناه من أنَّ واصلًا كان يسعى لتوحيد الفرق المختلفة لا الخروج عليها. ولا يخرج عن هذا التفسير قول واصل بالتوحيد ونفي مشابهة الله للبشر. وإذا كانت الاتجاهات التجسيدية والتشبيهية قد تركَّزت في فرق الشيعة الغاليَّة التي ترتد إلى الأثر اليهودي الذي أدخله عبد الله بن سبأ لتأكيد إمامة علي، فإنَّ مبدأ «التوحيد» ونفي مشابهة الله للبشر يُعد — في هذا الإطار — محاولةً لتأكيد المفهوم القرآني عن الله، وهو مفهوم يؤكِّد الهوَّة الواسعة بين الله والإنسان، وإن استخدم تعبيرات وصفات لها طابعها الإنساني بحكم طبيعة اللغة الإنسانية. ولقد كان من الطبيعي أن يذهب القائلون بالقدَر إلى نفي مشابهة الله للبشر، على أساس أنَّ النموذج البشري المستقر على قمة الهرم الاجتماعي، والمُتمثِّل في الخليفة الأموي كان عنوانًا للظلم والشر، وكان القول بعدل الله ورحمته يعني بالضرورة الفصل بين صفاته وبين صفات البشر. وقد سبقت الإشارة إلى تأثُّر معبد الجهني وغيلان الدمشقي بالاتجاهات اللاهوتية المسيحية، كما سبقت الإشارة إلى نفور جيل الصحابة الأواخر من قولهم بالقدَر لِمَا يُوهمه من الانتقاص من قدرة الله الشاملة. وإذا كان الحسن البصري قد استطاع أن يُعدِّل صياغة مبدأ القدَر لكي يجعله مناسبًا لروح التسليم المطلق بقدرة الله وإرادته الشاملة، فمن الطبيعي أن يفتح هذا التعديل الباب لتأثُّرات أخرى مِمَّا كان شائعًا في دمشق من أقوال يحيى الدمشقي في المسائل الدينية التي كان يُعالجها عن صفات الله في الكتاب المقدس وضرورة تأويلها بما يتفق مع التوحيد السليم الذي ينفي مشابهة الله للبشر.١٠٢
ولقد استعرضنا فيما سبق قول جهم بن صفوان في صفات الله، وحاولنا تفسير جَمعِه بين القول بنفي الصفات وبين القول بالجبر. ومن المؤكَّد أنَّ واصل بن عطاء قد عرف أفكار جهم وتأثَّر بها، بل تنسب كتب المعتزلة لواصل أنَّه علَّم جهمًا كيف يردُّ على السُّمنية ويُدلِّل على وجود الله.١٠٣ ولكنَّها من جانب آخر تجعل من واصل خصمًا لجهم يُرسل إليه حفص بن سالم يُناظره ويقطعه في ترمذ، حتَّى «رجع إلى قول الحق، فلمَّا عاد حفص إلى البصرة رجع جهم إلى قول الباطل.»١٠٤ والروايتان ليستا مُتعارضتَين على أي حال؛ فواصل يتفق مع جهم في مبدأ التوحيد ونفي مشابهة الله للبشر، ويختلفان حول «القدَر»؛ فجهم جبري ينفي قدرة الإنسان ليثبت تفرُّد الله بصفة «القُدرة» وحده كما سبقت الإشارة، بينما واصل قَدَرِي على مذهب الحسن ومعبد وغيلان. ومعنى ذلك أنَّ المناظرة التي دارت بين حفص وجهم كانت حول القدَر. ومن المؤسف أنَّ المصادر لا تدلنا كيف استطاع واصل أن يحل المأزق الذي لم يستطع جهم أن يحله والذي أوقعه في مقولة «الجبر». ومن المحتمل أنَّ واصلًا لم يواجه هذا المأزق أصلًا لأنَّ الحسن أثبت قدرة العبد على المعصية حين قال «كل شيء بقضاء وقدَر إلا المعاصي»، وهو القول الذي خفَّف به من قول معبد وغيلان حتَّى صار مقبولًا في الأوساط المؤمنة.
غير أنَّ البُعد السياسي الواضح لنشأة الاعتزال يُمكن أن يُفسِّر لنا ما يرويه الشهرستاني من أنَّ «القول بنفي صفات الباري تعالى، من العلم والقدرة، والإرادة والحياة. وكانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة. وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر، وهو الاتفاق على استحالة وجود إلهَين قديمَين أزليَّين. قال ومن أثبت معنى صفة قديمة فقد أثبت إلهَين.»١٠٥ ومعنى ذلك أنَّ قضية «التوحيد» ونفي مشابهة الله للبشر لم تكن قضيةً ملحَّة، على عكس قضية العدل — بكل تفريعاتها — التي ارتبطت بظروف الخلافات السياسية، ومن ثمَّ ارتبطت بأهداف اجتماعية وعملية. وعلينا أن نُلاحظ أنَّ نفي إلهَين قديمَين فكرة قرآنية أصلًا لا تحتاج لتأصيل فلسفي، إلى جانب أنَّها تتضمَّن ردًّا على فكر الشيعة الغاليَّة في تأليه علي ورجعته، وهي فكرة أدَّت إلى السلبية الكاملة لهذا القطاع من الشيعة؛ حيث إنَّهم رفضوا الخروج إلا مع إمامهم المهدي المنتظر الذي اختلفوا في تحديده وتعيينه. وكان من آثار فكرة المهدي — الذي يحمل جانبًا إلهيًّا — الغرق في الفكر الغنوصي الإشراقي الذي يتناقض بطبيعته مع الفعَّالية الإنسانية التي سعى المعتزلة لتأكيدها والدفاع عنها.
١  انظر على سبيل المثال نلينو: بحوث في المعتزلة، في «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية»، ص٢٠٢، ٢٠٣؛ أوليري: الفكر العربي ومركزه في التاريخ، ص٦٧؛ دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ٤٨–٤٩؛ زهدي جار الله: المعتزلة، ص٢، ٣٦، ٧٥.
٢  انظر: محمد عمارة: المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، ١٧–٢٤.
٣  الخياط: الانتصار، ١٣–١٤.
٤  القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة، ١٢٣.
٥  مقالات الإسلاميين، ١: ٤٧–٤٩.
٦  حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي، ١: ٣٥٧.
٧  المرجع السابق، ١: ٣٥٧–٣٥٨.
٨  انظر المرجع السابق، ١: ٣٥٤ وما بعدها؛ طه حسين: الفتنة الكبرى، ١: ١٨٠–١٨٥.
٩  حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي، ١: ٣٥٧–٣٥٨.
١٠  حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي، ١: ٣٦٠، نقلًا عن الطبري.
١١  راجع فلهوزن: تاريخ الدولة العربية، ٥١–٥٢.
١٢  أحمد أمين: فجر الإسلام، ١: ٣٣٣ وما بعدها.
١٣  ابن قتيبة: تأويل مختلِف الحديث، ٣–٤.
١٤  المرجع السابق، ١٩٣.
١٥  حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي، ١: ٢٧٨–٢٧٩؛ وانظر جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ٧٠–٧١.
١٦  الأشعري: «مقالات الإسلاميين»، ١: ٢٠٤.
١٧  جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ١٧٢.
١٨  حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي، ١: ٣٨٨.
١٩  الأشعري: مقالات الإسلاميين، ١: ٢٢٥.
٢٠  المرجع السابق، ١: ٢٢٥–٢٣٤.
٢١  انظر جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ٧٧–٧٨.
٢٢  حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي، ١: ٣٨٩.
٢٣  جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ٧٦.
٢٤  المرجع السابق، ٨٤؛ وانظر أيضًا زهدي جاد الله: المعتزلة، ٢٣ وما بعدها.
٢٥  فلهوزن: تاريخ الدولة العربية، ٦٧–٦٨.
٢٦  جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ٨٦.
٢٧  الشهرستاني: الملل والنحل ١: ٣٠؛ انظر أيضًا البغدادي: الفَرْق بين الفِرق، ١٨–١٩.
٢٨  انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي، ١: ٤١٩؛ أيضًا مقالات الإسلاميين: المقدمة، ١٠–١١.
٢٩  خالد العلي: جهم بن صفوان ومكانته في الفكر الإسلامي، ٤٩.
٣٠  البغدادي: الفرق بين الفرق، ١٩.
٣١  جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ٨٧، نقلًا عن ابن قتيبة: الإمامة والسياسة.
٣٢  الشهرستاني: الملل والنحل، ١: ١٤٣.
٣٣  البغدادي: الفرق بين الفِرق، ٢٠٢.
٣٤  الملل والنحل، ١، ١٣٩.
٣٥  محمود إسماعيل: الحركات السرية في الإسلام، ٥٣.
٣٦  حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي، ١: ٣٣٣.
٣٧  فلهوزن: تاريخ الدولة العربية، ٦٧.
٣٨  محمد عمارة: المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، ٢٨، ٢٩.
٣٩  الأشعري: مقالات الإسلاميين، ١: ٣٣٨.
٤٠  البغدادي: الفرق بين الفرق، ٢١١، ٢١٢؛ وانظر أيضًا الشهرستاني: الملل والنحل ١: ٨٦–٨٧.
٤١  الأشعري: مقالات الإسلاميين، ١: ٣٣٨؛ انظر الشهرستاني: الملل والنحل، ١: ٨٧.
٤٢  المقالات، ١: ٣٣٨.
٤٣  حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي، ١: ٣٣٣.
٤٤  المرجع السابق، ١: ٣٥٨–٣٥٩، نقلًا عن الطبري.
٤٥  السابق، نفس الصفحة.
٤٦  البغدادي: الفرق بين الفرق، ٢٣٣–٢٣٤؛ وانظر المقالات، ١: ٨٦؛ الملل والنحل، ١: ١٧٤.
٤٧  الفرق بين الفرق، ٢٣٥.
٤٨  جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ١٩٢.
٤٩  المرجع السابق، ٢٠٥.
٥٠  المقدمة، ٣٧٥.
٥١  حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي، ١: ٣٨٢–٣٨٣ نقلًا عن ابن الأثير.
٥٢  انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي، ١: ٤٠٣–٤٠٤.
٥٣  جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ١٧٦.
٥٤  الأشعري: المقالات، ١: ٩١.
٥٥  الشهرستاني: الملل والنحل، ١، ١٥٠.
٥٦  الأشعري: المقالات، ١: ١٣٦–١٣٧.
٥٧  انظر فلهوزن: الدولة العربية، ١٩٦.
٥٨  المرتضى: الأمالي، ١: ١٦١؛ وانظر أيضًا أقوالًا مشابهة للحسن: الجاحظ: الحيوان، ١: ٢٢٥، ٥: ١٠٠.
٥٩  حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي، ١: ٢٩٢.
٦٠  انظر على سبيل المثال: المرتضى: الأمالي، ١: ١٥٠–١٥١.
٦١  السابق: نفس الصفحة؛ وانظر أيضًا: القاضي عبد الجبار: فرق وطبقات المعتزلة، ٢٤.
٦٢  السابق، ١: ١٥٢.
٦٣  الأمالي، ١: ١٦١.
٦٤  السابق، ١: ١٥٤.
٦٥  السابق، ١: ١٥٩.
٦٦  الأمالي، ١: ١٦٢.
٦٧  السابق، ١: ١٥٣.
٦٨  الأمالي، ١: ١٥٣.
٦٩  المعارف، ١٥٣.
٧٠  الملل والنحل، ١: ٤٧. ويُلاحَظ أنَّ واصلًا وُلِد عام ٨٠ﻫ، ولا يتفق هذا مع أنَّ الرسالة موجهة لعبد الملك بن مروان (٦٥–٨٦ﻫ).
٧١  محمد عمارة: رسائل العدل والتوحيد، ١: ٨٢.
٧٢  نفس المصدر، ١: ٨٣.
٧٣  نفس المصدر، ١: ٨٨.
٧٤  بحوث في المعتزلة، ١٨١.
٧٥  الانتصار، ١١٨–١١٩؛ وانظر أيضًا الأمالي، ١: ١٦٥–١٦٩، مناقشة بين واصل وعمرو بن عبيد تُؤكِّد الفكرة التي نذهب إليها.
٧٦  ٢: ١٦٧.
٧٧  الخيَّاط: الانتصار، ٧٣.
٧٨  الخيَّاط: الانتصار، ٧٣–٧٤.
٧٩  السابق، ٧٤.
٨٠  راجع رأي المرجئة مُفصَّلًا في المقالات، ١: ٢٢٩–٢٣٠.
٨١  انظر الشريف المرتضى: الأمالي، ١: ١٦٥–١٦٩؛ القاضي عبد الجبَّار: فِرق وطبقات المعتزلة، ٥٠–٥١.
٨٢  الخيَّاط: الانتصار، ١١٩.
٨٣  ناجي حسن: ثورة زيد بن علي، ١٤٨.
٨٤  الملل والنحل، ١: ١٥٤–١٥٥.
٨٥  السابق، ١: ١٥٦.
٨٦  القاضي عبد الجبَّار: فِرَق وطبقات المعتزلة، ٢٩.
٨٧  السابق، ١٧.
٨٨  القاضي عبد الجبَّار: فِرَق وطبقات المعتزلة، ١٨، ٣١.
٨٩  السابق، ٣٢.
٩٠  راجع القصة كلها: طبقات المعتزلة، ٤٤–٤٦. ويقول الشهرستاني عن جعفر بن محمد أنَّه: «دخل العراق وأقام بها مدة ما تعرَّض للإمامة قط، ولا نازع أحدًا في الخلافة قط» المِلَل والنحل، ١: ١٦٦.
٩١  الملل والنحل، ١: ١٥٥.
٩٢  ناجي حسين: ثورة زيد بن علي، ١٠٩.
٩٣  القاضي عبد الجبَّار: فِرَق وطبقات المعتزلة، ٤٤.
٩٤  الأمالي، ١: ١٧٥. حاول المعتزلة أحيانًا احتواء بعض الخلفاء وترشيدهم دون اللجوء للسيف كما فعلوا مع يزيد بن الوليد بن عبد الملك ومحمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية. انظر محمد إسماعيل: الحركات السرية في الإسلام، ١٤١.
٩٥  الأشعري: مقالات الإسلاميين، ١: ١٥٤.
٩٦  المرتضى: الأمالي، ١: ١٦٩.
٩٧  انظر محمود إسماعيل: الحركات السرية في الإسلام، ١٣٣، ١٤٠.
٩٨  محمد عمارة: رسائل العدل والتوحيد، المقدمة، ٦٧.
٩٩  المعتزلة، ٦٤.
١٠٠  القاضي عبد الجبَّار: فِرَق وطبقات المعتزلة، ٣٢، ٣٨.
١٠١  انظر المرجع السابق، ٣٨–٤١.
١٠٢  انظر زهدي جار الله: المعتزلة، ٢٦ وما بعدها.
١٠٣  انظر القاضي عبد الجبَّار: فِرق وطبقات المعتزلة، ٤٦–٤٧.
١٠٤  المرجع السابق، ٤٤.
١٠٥  الملل والنحل، ١: ٤٦؛ وانظر أيضًا محمد عبد الهادي أبو ريدة: إبراهيم بن سيَّار النظَّام وآراؤه الكلامية، ٨٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤