خاتمة

انتهينا في التمهيد إلى أنَّ الفكر الاعتزالي لم ينشأ مستقلًّا عن الظروف الاجتماعية للمجتمع الإسلامي، وكان القول بالاختيار مُحاولةً للوقوف ضد النزعة الجبرية التي تستَّر وراءها النظام الأموي لتكريس استغلاله لجماهير المسلمين. وقد حاول الحسن البصري التخفيف من الصياغة المسيحية لمبدأ الاختيار، فاكتفى بنفي إسناد المعاصي إلى الله وأثبت مسئولية الإنسان عنها. وانتهينا إلى أنَّ الخلاف حول مرتكب الكبيرة لم يكن مجرَّد خلاف فقهي، بل كان خلافًا يُجسِّد مواقف سياسيةً مُتباينة. وكان قول المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتَين مُحاولةً لرأب صدع الخلاف بين الفرق المختلفة، وخلق جبهة مُوحَّدة ضد النظام الأموي، وكان من نتيجة ذلك أنَّ آراء الفرق تقاربت في كثير من القضايا، واستطاع واصل بن عطاء أن يُوحِّد بين المعتزلة والشيعة الزيدية توحيدًا يكاد يكون تامًّا.

غير أنَّ المعتزلة شغلتهم — إلى جانب ذلك — مهمة الدفاع عن الإسلام ضد مهاجميه من أبناء الأديان الأخرى، وكان عليهم من ثمَّ أن يُنظِّموا وسائلهم الاستدلالية لإقامة أفكارهم على أساس معرفي مكين. وكان الإعلاء من شأن العقل هو وسيلتهم لتحقيق الغايتَين معًا، إلى جانب ما يؤدِّي إليه هذا الإعلاء من التسوية بين البشر، وإلى عدم التفرقة بينهم على أساس الجنس أو الثروة. وإذا كان القرآن نفسه قد أعلى من شأن العقل والفكر، فقد كان للمعتزلة الفضل الأكبر في الانطلاق من هذا الأساس إلى آفاق أرحب؛ حيث انتهَوا إلى أنَّ العقل هبة من الله وهبها جميع البشر دون تمييز، وجعلوه أساسًا للتكليف ومقدمةً ضرورية له. والعقل عند المعتزلة هو مجموعة من العلوم الضرورية التي يخلقها الله في المُكلَّف، وهي علوم لا ينفك عنها الإنسان ولا يشك في متعلَّقها. هذه العلوم الضرورية هي الأساس الذي يستطيع الإنسان به الوصول إلى المعرفة، وذلك عن طريق التفكير والنظر في الأدلة. وحين قارن المعتزلة بين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية انتهَوا إلى إثبات المعرفة الحسية إذا كانت تؤدِّي إلى سكون النفس إلى ما تتناوله من المدرَكات. وقامت هذه النظرة عندهم على أساس أنَّ الإدراك عملية محايدة من جانب المدرِك لا تُؤثِّر فيما يُدركه سلبًا أو إيجابًا. أمَّا المعرفة العقلية فهي تلك التي تتم عن طريق النظر في الأدلة نظرًا صحيحًا، وبهذا النظر يستطيع الإنسان الانتقال من العقل الفطري — العلوم الضرورية — إلى العلوم النظرية، وهي المعرفة.

ولقد كان من الطبيعي أن تتحدَّد وظيفة المعرفة عند المعتزلة بأنَّها معرفة الله بصفاته من التوحيد والعدل، ثمَّ معرفة أوامره ونواهيه، وذلك حتَّى يستطيع أداء ما كلَّفه الله به من الأعمال التي تؤدِّي به إلى الثواب، وتُنجيه من العقاب. ونتيجةً لذلك انقسمت الأدلة عندهم إلى أنواع ثلاثة، يؤدِّي كل نوع منها إلى مرحلة من مراحل المعرفة الدينية؛ فالنوع الأول من الأدلة هو الذي يدلُّ بالوجوب، وذلك كدلالة الفعل على الفاعل، وهذا النوع من الأدلة هو الذي يؤدِّي إلى التوحيد. والنوع الثاني من الأدلة هو الذي يدلُّ بالدواعي والاختيار، وهذا النوع هو الذي يؤدِّي إلى معرفة أفعال الله، ويؤدِّي بنا إلى معرفة عدله. والنوع الثالث من الأدلة هو الذي يدلُّ بالمواضعة والقصد، وذلك كدلالة الكلام على ما يدلُّ عليه، وهذا النوع يؤدِّي بنا إلى معرفة كلام الله وأوامره ونواهيه.

ولقد انتهى المعتزلة إلى أنَّ هذه الأنواع الثلاثة يترتَّب بعضها على بعض ترتُّب النتيجة على المقدمة، بمعنى أنَّ كلام الله لا يقع دلالةً إلا بعد معرفة صفاته من التوحيد والعدل.

ولقد كان من الطبيعي أن يختلف الأشاعرة مع المعتزلة في ترتيبهم أدلة الشرع على أدلة العقل، ومن ثمَّ اعتبروا كلام الله دالًّا بمفرده على ما يدل عليه. وقد انعكس هذا الخلاف بدوره على شروط الدلالة اللغوية؛ حيث اشترط المعتزلة — إلى جانب المواضعة — معرفة قصد المُتكلِّم وحاله لوقوع كلامه دلالة. وهذا شرط لم يُشر له الأشاعرة من قريب أو من بعيد. وإذا كان المعتزلة والأشاعرة قد اتَّفقوا على أنَّ المواضعة شرط لدلالة الكلام فقد اختلفوا في أصل المواضعة على اللغة، هل هي توقيف من الله أم اصطلاح؟ وكان هذا الخلاف بدَوره امتدادًا لخلافهم حول قِدَم القرآن وحدوثه. فقول الأشاعرة بقدم القرآن أدَّى بهم إلى أنَّ المواضعة أصلها التوقيف من الله؛ وذلك لاعتبارهم الكلام صفةً ذاتية قديمة. وعلى العكس من ذلك ذهب المعتزلة تأسيسًا على أنَّ الكلام صفة من صفات الفعل لا من صفات الذات. ومن جهة أخرى فقد ربط المعتزلة بين المواضعة والإشارة الحسية، وهي إشارة لا تجوز على الله؛ ولذلك ذهبوا إلى أنَّ المواضعة اللغوية اصطلاح وليست توقيفًا. ولقد حدَّد القاضي عبد الجبَّار الغاية من المواضعة اللغوية بأنَّها الإخبار عن الأشياء حالة غيابها عن الحواس أو الإخبار عن تلك الأشياء التي لا تظهر للحس أصلًا، وهي بذلك تُعدُّ بديلًا للإشارة الحسية. وحين قارن بين المواضعة على الكلام، والمواضعة على الحركات أو الإشارات، انتهى إلى أنَّ البشر تواضعوا على الكلام — الأصوات — لأنَّها أكثر اتساعًا للتعبير عن حاجات الناس دون الحركات والإشارات.

وانتهى القاضي إلى أنَّ المواضعة على الأسماء مجرَّد مواضعة عُرفية، بمعنى أنَّ العلاقة بين الاسم والمُسمَّى علاقة إشارية بحتة، والجماعة — بقصدها — هي التي تُقيم هذه العلاقة، وهي العلاقة التي نُشير إليها اليوم باسم المعنى. وحين انتقل القاضي إلى اللغة على مستوى التركيب ربط بين قصد المُتكلِّم والمعنى الذي يدل عليه كلامه. وكان هذا الربط نتيجةً طبيعة لدوران هذه المباحث كلها في إطار الفكر الديني، الذي يسعى إلى معرفة الله بتوحيده وعدله وقصده من كلامه. وإذا كانت معرفة قصد المُتكلِّم شرطًا أساسيًّا لمعرفة ما يدل عليه كلامه، فلا مانع والحالة هذه من وقوع الاشتراك والاتساع والمجاز في الكلام، فذلك كله لن يؤدِّي لاستغلاق معنى الكلام؛ لأنَّ معرفتنا بقصد المُتكلِّم وحاله تجعلنا قادرين على فهم ما يُريد التعبير عنه. وكان هذا كله دفاعًا عن وجود المجاز في القرآن — كلام الله — ونفي صفة الكذب عنه.

ولقد تحدَّد مفهوم المجاز نفسه باعتباره قسيمًا للحقيقة على يد المعتزلة ابتداءً من الجاحظ. ولا شك أنَّهم قد استفادوا من جهود المُفسِّرين واللغويين حول النص القرآني. وإذا كان المصطلح نفسه لم يرد في القرآن، لا بمعناه اللغوي أو الاصطلاحي، فقد كان مصطلح «المثل» هو المصطلح البديل في مرحلة نشأة التفسير الذي ارتبط بالخلاف حول تأويل النص القرآني بين الفِرق المختلفة. وكان ورود هذا المصطلح بكثرة في القرآن بمثابة إعطاء شرعية له ليُستخدم في الدلالة على عدم إرادة المعنى الحرفي للفظ أو العبارة. ومع نمو حركة التفسير والتأويل تحدَّدت عناصر المجاز وأنواعه المختلفة كالكناية والتشبيه والاستعارة والحذف وغيرها. ولم ينفصل هذا التحديد عن الغاية التأويلية للنص القرآني. ومِمَّا له دلالته في هذا الصدد أنَّ أول كتاب اتخذ «المجاز» عنوانًا له، هو كتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة الخارجي. وهو كتاب يتعرَّض لتأويل آيات كثيرة تأويلًا يتفق في عمومه مع معطيات الفكر الاعتزالي، خصوصًا أفكار التوحيد والتنزيه التي التقى فيها الخوارج مع المعتزلة. وإذا كان أبو عبيدة قد استخدم مصطلح «المجاز» بمعنًى عام جدًّا يشمل كل تغيُّر في الأسلوب، فإنَّ معاصره الفَرَّاء — وله ميول اعتزالية واضحة — كان أكثر تحديدًا في استخدام المصطلح، وذلك رغم مدخله النحوي عمومًا، ورغم أنَّه لم يستخدم كلمة «مجاز» واستخدم منها صيغة الفعل «تجوَّز». ورغم التداخل بين المصطلحات في مؤلفات الجاحظ، فإنَّه يُعدُّ أول من حدَّد مفهوم المجاز باعتباره قسيمًا للحقيقة، وأدخل في عناصره التشبيه والمثل والاستعارة والكناية والحذف. واستطاع الرُّماني أن يُبلوِر كثيرًا من جوانب التأثير النفسي الذي تُحْدِثُه العبارة المجازية، تلك الآثار التي تعجز العبارة الحقيقية عن التعبير عنها. وتفرُّد الرماني بالتركيز على جانب التأثير النفسي للتعبير المجازي يُعدُّ نتيجةً طبيعية لانشغاله بالبحث عن أوجه الإعجاز في القرآن، وعدم انشغاله بالغايات التأويلية والدفاعية التي انشغل بها سابقوه. غير أنَّ الرماني — وهو معتزلي — لم يكن بعيدًا تمامًا عن الغاية التأويلية، ولكنَّها جاءت هامشيةً في كتابه، ولم يضع فيها جهده كله.

ولم ينفصل البحث في المجاز عند القاضي عبد الجبَّار عن تصوُّره لطبيعة اللغة وشروط دلالتها. ولقد انتهى إلى جواز وقوع المجاز في الاسم المفرد وفي التركيب معًا. غير أنَّه اشترط في الاسم المفرد أن يكون له حقيقة أولًا قبل نقله من معناه الحقيقي لمعنًى مجازي، كما اشترط وجود مشابهة بين المعنى المنقول إليه اللفظ، والمعنى المنقول عنه.

وعلى مستوى التركيب أجاز وقوع المجاز في الكلام، ما دامت معرفة قصد المُتكلِّم ستؤدِّي بنا إلى معرفة مراده. وفي هذا الصدد فرَّق القاضي بين المُتكلِّم في الشاهد، والمُتكلِّم في الغائب — وهو الله — وذهب إلى أنَّ معرفتنا بقصد المتكلِّم في الشاهد هي معرفة اضطرار. وعلى عكس ذلك معرفتنا بقصد الله فهي معرفة نظرية استدلالية. وإذا كانت معرفتنا بعدل الله — وهي قصده في أفعاله عمومًا — معرفة عقلية لا تستند إلى الشرع، فإنَّ معرفتنا بكلامه — والكلام فعل من أفعاله — لا تتم إلا بعد معرفة قصده. فإذا ورد في كلامه ما يُوهم التناقض مع معرفتنا العقلية بقصده، كان ذلك مجازًا. وهكذا يُصبح المجاز وسيلةً لرفع التناقض الظاهري بين كلام الله، وبين معرفتنا العقلية بعدله وتوحيده. أو بمعنًى آخر يُصبح المجاز وسيلةً للتأويل وأداةً رئيسية له. ومن الطبيعي — والحالة هذه — أن يتسع المجاز ليشمل كل ما اندرج تحته من عناصر تصويرية أو أسلوبية.

ولقد وجد المعتزلة في تقسيم القرآن إلى مُحكم ومُتشابه وسيلةً دينية شرعية للتأويل، رغم أنَّهم أخضعوا دلالة القرآن كله للدليل العقلي. وكان من الطبيعي أن تكون الآيات التي تسند وجهة نظرهم وأفكارهم العقلية مُحكمة، وأن تكون تلك التي يستدل بها خصومهم متشابهةً في حاجة للتأويل. وسلَك خصوم المعتزلة نفس مسلكهم. وكان القول بالمجاز عند كليهما وسيلةً للتأويل وإخراج النص عن ظاهره. وحين يعجز المعتزلة عن تأويل النص استنادًا إلى تركيبه اللغوي، يلجئون إلى الاستناد إلى الدليل العقلي. وكلا الدليلَين عندهم سواء في تأويل النص القرآني. وقد اتضح ذلك كله في تأويل الآيات التي تتصل بقضيتَي رؤية الله وخلق الأفعال، وهما القضيتان اللتان أخذناهما كمثالَين للتدليل على العلاقة الوثيقة بين مفهوم المجاز والتأويل من ناحية، وبين قضايا الفكر الاعتزالي من ناحية أخرى.

وكان الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في قضية رؤية الله امتدادًا لخلافهم حول قضايا التوحيد ونفي الصفات عن الله. وقد نفى المعتزلة نفيًا قاطعًا أن يُرَى الله، على أساس أنَّ الرؤية إنَّما تجوز على الأجساد المتحيِّزة في المكان والقائمة في جهة. واستندوا في التدليل على صحة رأيهم بآيات من القرآن أهمها قوله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، واعتبروها آيات محكمات تدل بظاهرها. أمَّا تلك الآيات التي لا تتفق مع وجهة نظرهم فقد اعتبروها متشابهات في حاجة للتأويل. وكان «المجاز» هو سلاحهم الرئيسي في عملية تأويل هذه الآيات، وهو سلاح يشمل العبارة واللفظ، والحروف أيضًا إن احتاج الأمر. والهدف النهائي عند المعتزلة هو نفي مُشابهة الله للبشر وتأكيد وحدانيته المطلقة وتفرُّده الكامل. وفي سبيل هذا الهدف لا بأس من إخراج النص عن ظاهره بادِّعاء المجاز فيه.

أمَّا قضية خلق الأفعال فهي أساس مبدأ العدل، ذلك المبدأ الذي يسعى لنفي فعل القبيح أو إرادة فعله عن الله، ومن ثمَّ يسعى لتأكيد قيام الفعل الإنساني على الاختيار والحرية، لا على الضرورة والاضطرار. وإذا كان الأشاعرة قد ذهبوا إلى إطلاق الإرادة الإلهية لتشمل كل المرادات، ومنها كفر الكافر، وكذب الكاذب، فإنَّ المعتزلة ميَّزوا بين ما يريده الله من فعل نفسه، وبين ما يريده من فعل غيره. وذهبوا إلى أنَّ إرادة الله للفعل الإنساني إنَّما هي إرادة على سبيل الاختيار لا الإلجاء. وحين انتقل المعتزلة للاستدلال على أفكارهم تلك بالقرآن الكريم، نازعهم خصومهم في صحة استدلالهم. ومن ناحية أخرى أوردوا عليهم أدلةً أخرى تتناقض مع مُسلَّماتهم العقلية.

وكان القول بالمجاز هو الأداة الرئيسية للتأويل. وحين يعجز التحليل اللغوي عن بيان وجه التجاوز في العبارة، يعتصم المعتزلة بالقرينة العقلية، التي اعتبروها أشدَّ دلالةً من القرينة اللفظية المتصلة بالكلام.

وأيًّا كان تقويمنا لجهود المعتزلة، فالذي لا شكَّ فيه أنَّهم حاولوا مُخلصين رفع التناقض بين العقل والشرع من جانب، وبين النصوص المتعارضة ظاهريًّا في القرآن من جانب آخر. وكانت جهودهم في مجالات المعرفة واللغة والمجاز — لخدمة هذه المهمة — إنجازًا له آثاره العديدة على هذه المجالات، وعلى المتخصِّصين فيها في تراثنا العربي. ولعلَّ هذه الدراسة أن تكون تمهيدًا لرصد هذه التأثيرات التي تركها المعتزلة في غيرهم من أعلام الثقافة العربية وعلومها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤