عائشة

عائشة امرأة ككل النساء الجزائريات، واحدة من آلاف النساء اللائي يموج بهن المجتمع الجزائري المظلم، لم تتخرج من مدرسة لا شرقية ولا غربية ولم تتلقَّ أية تربية خاصة أو نشأة معينة، عدا التربية الفطرية والنشأة المحافظة، المفروضتين من هذه البيئة الجزائرية الوحيدة التي لا تعرف التطور ولا التغير. وعاشت عائشة في محيطها الضيق المظلم لا تعرف عن العالم الخارجي شيئًا، ولا تعرف عن نفسها إلا أنها عورة يستحي ذووها من ذكر اسمها وأسماء والدتها وعمتها، فهن جميعًا يكوِّنَّ نوعًا خاصًّا من المخلوقات لم تفهم كنهه، ولم تحاول أن تدرك كنهه ولكنها تعلم حق العلم أن والدها وغيره من رجال الأسرة يطلقون عليهن جميعًا اسم «العباد» ولا يتلفظون بهذا الاسم إلا مقرونًا بكلمة اعتذار، وكثيرًا ما سمعت والدها يتحدث مع جاره فيقول «عبادي حشاك» يقصد جميع نساء الأسرة فيعتذر عن ذكر أسمائهن كما يعتذر حينما يتلفظ بلفظ قذر أمام شخص محترم. تعودت عائشة هذه النشأة وألفت هذه المكانة الخاصة في المجتمع، أو قُلْ إنها ورثت هذه المكانة كما ورثتها والدتها عن السابقات من النساء منذ عهد قديم.

هي إذن كائن تافه لا مسئولية له في الحياة، بل إنها أتفه من أي حيوان من الحيوانات التي يملكها والدها الذي لا يستحي من ذكر حماره أمام الناس، ويفتخر بذكر حصانه والحديث عنه ولكل منهما مسئوليته في الحياة، وبعض الحرية في تصرفاته وشئونه الخاصة. أما عائشة فإنها دولاب بشري تديره يد ذويها فلا تتحرك ولا تسكن إلا بإرادتهم ووفقًا لرغباتهم، وكل هذا لا يعنيها ولم تفكر فيه، بل إنها لا تملك حق التفكير فيه، فهي تسير في طريق مرسوم محدود، كما سارت وستسير بنات بجدتها في الماضي والحاضر والمستقبل لا يعرفن الجديد ولا القديم وإنما يعرفن حياة يومية متشابهة لا يختلف فيها يوم عن يوم …

وهكذا تتابعت أيام عائشة في قريتها إلى أن حدث الحادث الجليل الذي خرج بها عن المألوف وجعل من حياتها صورة تختلف عن صور بنات جنسها. وما الحادث إلا شاب من أبناء القرية عاد من أوروبا التي قضى فيها سنينًا طوالًا وحلَّ بين سكان البلدة كالنجم المتألق في حلته الإفرنجية الأنيقة، وشعره المصفف البراق، وحذائه الأسود اللامع. وسمعت به عائشة كما سمعت به بقية الفتيات وطرق أذنها الكثير مما يتحدث به من غرائب الأحاديث عن أشياء لم تسمع بها من قبل، ولم يهضمها عقلها الآن، وما برحت هذه الأحاديث حتى أصبحت مبعث العجب بهذا الشاب والافتخار بحفظ شيء من حديثه العذب، أو التلفظ بكلمة من ألفاظه الغريبة، أو رواية حادثة غريبة مما حدَّث به الكبار فنقلوه إلى الصغار، ورواه إلى الرجال فنقلوه إلى النساء. وأعجبت الفتاة كما أعجبت غيرها بهذا الشاب، أو بهذا الحادث الجديد الذي حلَّ بالقرية، وتحدثت عنه وحفظت شيئًا من أحاديثه أسوة بالأخريات، واكتفت بهذا الحديث فلم تفكر في أكثر من ذلك، لأنها لا تملك حق التفكير أكثر من ذلك. فحتى خيالها يبدو أنه محجوز عنها لا تستطيع الانطلاق في أجوائه الرحبة الجميلة.

•••

توجهت عائشة ذات يوم إلى منزل خالتها لأن والدها وذويها أرادوا منها أن تتوجه إلى ذلك المنزل. فهي مُسَيَّرَة في كل شيء، لا تعرف الاستقلال في قليل ولا في كثير من حياتها العامة والخاصة على السواء، وصادف أن قابلت ذلك الشاب في طريق خالٍ، وهو يتأرجح في مشيته، والتقت نظرتها بنظرته، وراقت للشاب، وهي تتمتع بشيء غير قليل من الحُسن والجمال، فابتسم لها ولكنها لم تفهم لماذا ابتسم ولم تدرِ أن هذه الابتسامة موجهة لها محمل زيادة على معنى الإعجاب بحسنها، معاني أخرى لم تفهم حقائقها إلا بعد أن دفعت الثمن غاليًا غلاء فاحشًا ونظرت هي بدورها إليه، ولكن نظرة بريئة، نظرة كتلك التي تعودت أن ترسلها إلى القمر الساطع في السماء، أو النجم المتألق في الأفق. نظرة وكفى، لا تحمل أي معنى ولا تنطوي على أي مقصد. ولكن الشاب لم يكتفِ بهذا الحل ولم يقف عند هذا الحد، بل حاول الاتصال بها. وتم له ذلك بواسطة عجوز استأجرها لهذا الغرض لم تعوزها الحيل للاستيلاء على عقل هذه المخلوقة العجماء. وما كاد يتصل بها حتى فتح لها بأحاديثه المعسولة أبوابًا كانت موصودة دونها. فحدَّثها عن بنات أوروبا وحريتهن. كما وضَّح لها حقوقها في الحياة، ولم ينسَ ذِكر ما ادخره لها القانون من الحقوق والمحافظة على رغبتها. ثم عرض عليها أن تفر معه لتعيش صحبته في عيش رغد محفوفة بالحرية والحب والسعادة، وأفهمها أن هذه حقوقها الشرعية لا ينازعها فيها منازع …

•••

انخدعت عائشة بحديث فتاها وانقادت لرغباته بثقة عمياء. ففارقت منزل والدها خلسة في ليلة ظلماء وسافرت مع الشاب إلى مدينة بعيدة، وسَرها أول الأمر أن ترى نفسها حرة تركب القطار، وتعيش في المدن في أحضان شاب أنيق لم تكن تحلم به. ولكن هذا السرور لم يدُم طويلًا لأن الفتى ما كاد يستولي على عفافها ويهتك سِتر شرفها حتى تركها وفر قافلًا إلى أوروبا من حيث أتى …

هامت الفتاة على وجهها في هذه المدينة المترامية الأطراف وكانت ذئاب البشرية لها بالمرصاد تتعقب خطاها، فاصطادوها في رمشة عين ودفعوا بها إلى طريق الغواية، فاحترفتها وقد وجدت مثيلاتها في بؤرتها يبعن أجسادهن مقابل لقمة من الخبز …

انتقلت عائشة من بلد إلى بلد ومن بؤرة إلى أخرى، واندفعت بحكم المهنة الشائنة إلى تعاطي المُسكرات والمخدرات، وتفوقت في هذا الميدان حتى أصبحت قطبًا فيه لا يباريها فيه رجل ولا امرأة، وبعث ذلك التفوق في نفسها شيئًا من الغرور فأخذت ترى نفسها أسمى مقامًا من زميلاتها وتتخيل نفسها من طينة تخالف طينتهم، ولهذا يجب أن تسموا بأفكارها عنهن، يجب أن تكون لها فكرة أوسع من أفكارهن وأحاديث تختلف عن هذه الأحاديث البسيطة المتكررة. فخرجت بفكرها من ذلك المحيط الضيق الذي تعيش فيه إلى محيط أوسع تبحث عن شيء ما، أي شيء كان يميزها عن الأخريات، شيء جديد وكفى. وشاء القدر أن تطرق سمعها أحاديث سياسية وأفكار وطنية، وشاعت أحاديث السياسة والوطن في تلك الأيام حتى عمت الأوساط المختلفة ووصلت إلى بيئتها، فرحبت بها واعتنقتها مدفوعة بدافع حب السمو ورغبة في أن تكون لها أفكار وأحاديث ترتفع عما تفكر فيه وتتحدث به الأخريات.

اشتهرت عائشة بأفكارها الوطنية وسخر منها الناس فزادها ذلك إصرارًا وعنادًا وتمسكًا بالفكرة، وحاولت مرارًا أن تشارك بدريهماتها القليلة في مساعدة هذه الفكرة التي تعرف عنها أنها ترمي إلى الوطنية والتحرير. والتحرير في فهمها هو خروجها من هذا الماخور العفن إلى عالم رحب تجد فيه لقمة عيشها دون الاضطرار إلى بيع جسدها. والوطنية عندها هي أن يكون لها منزل وبعل محترمان. استولت عليها هذه الأفكار فتمسكت بها بشدة كما يتمسك الغريق بحبل النجاة.

قالت عائشة عن نفسها إنها وطنية، وآمنت بذلك إيمانًا راسخًا، واعتقدت اعتقادًا قويًّا أنها لا بد من أن تجني ثمرة ذلك عاجلًا. وشاء ربك ألا تنتظر طويلًا، فقد انتشلتها هذه العقيدة المقدسة من خضم رذائلها، فأقلعت أولًا عن تعاطي المخدرات لأن عقلها أوحى لها أن من يتحلى بهذه الأفكار يجب أن يقلع عن ذلك، ثم أعقبت المخدرات بالانقطاع عن المسكرات، ولم تكد تفعل حتى ضج منها محيطها الموبوء وأصبح لا يتحملها ولا يقوى على احتمال نزعتها الجديدة التي تتضارب ومصلحة العمل الذي تصادمت رغباته بإرادتها، فلم يشأ أن يتساهل معها ويخضع لإرادتها ولم تشأ هي أن تنثني عن فكرتها وتتخلى عما اعتقدته منقذها الأوحد. وكثر الجدل واشتد الخصام، ولم تنتبه عائشة إلى نفسها إلا وهي في الشارع تبحث عن عمل حر طاهر تتعيش منه، ولم يُخفها الشارع، فقد أكسبتها التجارب المُرة خبرة، ولم يطل بها البحث، فتحصلت على عمل خادم في فندق محترم، ثم وُفقت للاهتداء إلى زوج متواضع صالح بنى بها دون أن يسألها عن ماضيها، ولم تشأ أن تسأله عن مستقبله، وإنما اكتفت بالعيش البسيط في أحضانه راضية وهي صامتة كالقبر، تدفن في نفسها ذكريات أليمة تبعث في نفسها الرعب وفي وجهها الخجل كلما تقهقرت بها الذاكرة إلى الوراء. ولكنه مرهمُ النسيان سريعًا ما فعل مفعوله فاندمل الجرح وانمحى الرسم ولم يبقَ من تلك الإحن والمحن إلا بصيص ضئيل من الذكريات المريرة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤