فقاقيع الأدب

من نكد العربية والأدب العربي في هذه البلاد: أن نكبهما الزمان ببعض المتطفلين المغرورين، وجدوا الميدان خاليًا لا حسيب ولا رقيب، واتسعت لهم أعمدة الصحف تشجيعًا لهم، فغرهم هذا التشجيع وظنوها عروش الأدب وقد اعتلوها، فتنكبوا عن جادة الأدب الصحيح، وانحرفوا عن صراطه المبين، وعكروا منهله الصافي. حيث ذهبوا يفلون قمامات الصحف والمجلات، يلتقطون منها بعض التعاريف الشاذة، والرطانات النابية، يتشدقون بها في مجالسهم ثم يقحمونها في مقالات يشوهون بها صحائف الأدب الناصعة، وينكبون بها القراء، ويأخذ القارئ البسيط يقرأ ويعيد وهو لا يفهم شيئًا، فيتهم فهمه ويتهم ذوقه وهو لا يدري أن هؤلاء الكتَّاب أنفسهم لا يفهمون مما يكتبون شيئًا، ولا يوجد في طياتها ما يتطلب الفهم.

الأدب العربي أدب الأسلوب السلس والمعنى المتين، أدب البيان والتبيين، لا يمت بصلة إلى هذه الشقشقة الغامضة المخنثة التي أغرم بها هؤلاء الفقاقيع أيما غرام.

وإلى القارئ أنموذجًا من هذا اللون من الأدب «الملتوي»، ولا تحاول أيها القارئ أن تفهم منه شيئًا، فهو فارغ لا يحتوي على مادة تُهضم أو معنى يُفهم … قال أحد فقاقيع الأدب لزميله وقد جمعتهما ندوة ندية وكان كل منهما يلوك لبانة أميريكية يتشدق بمضغها كتشديقه بمضغ كلماته: ما قولك في السمو الفني … يا عزيزي …؟

وأجابه عزيزه قائلًا: لا يستقيم السمو الفني في خمائله الفينانة إلا إذا كان نتيجة إيجابية مشرقة الجانب التصويري تمتاز بروح التعمق، بعيدة عن طابع السطحية ولا سيما إذا كان الصدق العاطفي أبرز معانيه، والطابع النفسي هو مقياس الجمال في فلسفته الماورائية. أما التجلي اللامع الذي تبدو طقوسه البراقة جلية في معبد الجمال لا تستقيم قدسيته إلا إذا ما اتصل طرفه بالذوق الذاتي، وإن كان هذا الأخير إكلاسيكية حديثة من أبرز معاني «الرصيد الفني» الذي يعد اليوم من أخصب عناصر الأدب الحديث وخصائصه الأصلية.

ورفع الثاني طرف جبته واستوى في مقعده وقال: هذا حق يا عزيزي ولكن الرومنتيكية التي تتجلى بوضوح في نفثات بعض كتابنا يبدو لي أن الجانب الرمزي فيها ينقصه محراب الفن ليتبرز في إطار روحي أبدعته ريشة الفنان المطبوع، هذا وحده هو جانب التعمق في البحث إذا ما أردنا أن تستقيم لنا ذاتية الهيكل وتنسجم لنا ألوان الرسم، ويخضع لنا التعمق الفكري في معانيه البارزة حيث تشع أحلامه الذهبية في منعرجات أنغامه الموسيقية فيبدو في إشراقة الفجر وقد تخلص من الجفاف الفكري وتحلى بطابع السمو والمعنى الندي في أعماق التجربة الشعورية.

– فأنا أوافقك إلى حد يا أستاذ ولكن لا تنسَ أن الأصالة في الإشعاع الذوقي فرع من اللاشعورية القارة، وذاتية الأدب لا تقوم جوانبها إلا إذا اعتمدت على تركيز النقد وتحككت بموضوعية العلم ولو من بعيد، دون أن تخلو من أشعة الأداء النفسي.

– حقًّا، تلك هي أسس التعمق في البحث الحديث يجب على الكُتاب ألا يهملوها إذا ما أرادوا التحليق في أجواء الإبداع الفني وأرادوا أن يستقيم لهم التجاوب الفعال ذو الأصداء الحالمة في صفته الانطوائية الصاخبة بالحيوية العارمة المنسابة من ينابيع العبقرية الجامحة التي لا تخضع إلا للأسلوب الحديث المتمرد عن الأوضاع البيئية، المتعلقة دومًا بالمهية الكلية.

– فإن كتابنا يا أستاذي، سطحيون ابتعدوا كل البعد عن الأدب الوجداني الملتزم الذي تبدد أنواره اللاهوتية تلك الظلمة الكثيفة التي تكشف الروحانية الحسية فتفقدها الحرارة الأثيرية المستمدة من قبس الإبداع الفني الرائع.

– نعم … نعم … أنا لا أشك في أن هذا وحده هو الطرف الإيجابي في السمو الفني وما عداه فكله سطحي لا يستند على التعمق المرتكز ولا يرتكز على السمو العميق. ا.ﻫ.

وبعد، فهذا نموذج من أدب «السونيق» الحديث وقد راجت سوقه بين أدباء المظهر في الشرق قبل سنوات ولكن الشرق تخلص منه بعض الشيء، بعد الضربات القاسية التي وجهها له الزيات وحسين شفيق المصري وغيرهما، وكنا نظن أن العربية تخلصت منه إلى الأبد وإذا بنا نرى بوادره في أدبنا وقد بدت في صور أكثر انحلالًا وأشد غموضًا، ولكننا له بالمرصاد وسنقضي على بذوره قبل استفحالها، ولا نقبل في شمالنا الأفريقي إلا أدبًا عربيًّا مبينًا، أخذ من الماضي متانته، ومن الحاضر سلاسته، أدبًا شعبيًّا مفيدًا وليذهب الرصيد الفني والشعورية القارة وفقاقيع الأدب إلى الجحيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤