الفصل الحادي والعشرون

الدَّعَوات الإسلامية وَالإسْلام وَوَحْدة الجمَاعَة١

عرضت صحيفة «التايمز» الأدبية لكتابين عن الإسلام في عدد واحد، وهو العدد الصادر في الحادي عشر من شهر أغسطس الماضي (سنة ١٩٦١).

والكتابان هما: كتاب «الدعوات الإسلامية» Moslem Devotions لمؤلفته السيدة كونتسانس بادويك، وكتاب «الإسلام ووحدة الجماعة» Islam and the Intepation of Society لمؤلفه الدكتور مونتجومري وات، أشهر المؤلفين عن الإسلاميات من المستشرقين الإنجليز في الوقت الحاضر.

ينقسم كتاب الدعوات إلى ثلاثة أقسام: قسم الدعوات والصلوات المفروضة، وقد جمعت فيه المؤلفة آيات القرآن الكريم، ومن التحيات ودعوات القنوت، التي تتلى في الصلوات الخمس وفي غيرها من صلوات يؤديها المسلم أحيانًا وإن لم تكن من أركان العبادة.

والقسم الثاني: يشتمل على دعوات توافق دعوات الصلاة وتضاف إليها من قبيلها على سبيل التوسع والتفسير.

والقسم الثالث: تسبيحات مستقلة يتعبد بها المسلم على انفراد أو مع الجماعة، وأكثرها من دعوات الصوفية باللغة العربية وغير العربية.

والمؤلفة تسمي هذه الأقسام الثلاثة بأسماء ترتضيها وتفضلها للدلالة على غرضها، فمنها قسم داخل الصلاة المفروضة، وقسم على عتبة الصلاة المفروضة، وقسم خارج هذه الصلاة يختاره، ولا يلزم أن يكون من باب الفرائض ولا من باب السنة النبوية، بل يجوز لكل مسلم أن يختار له عبارته وعنوانه ومناسبته على حدة أو مع إخوان له في الطريق وفي حلقات الأذكار الخاصة.

وجملة ما اختارته المؤلفة مقبول عن جماعة المسلمين مع اختلاف المذاهب، إلا طائفة منه يتمادى بها الشطط إلى القول بالحلول أو القول «بوحدة الوجود» على النهج الذي يرفضه أهل السنة بالإجماع، وهو ذلك النهج الذي يوشك أن يتطوح بأهله إلى تأليه الكون بمظاهره المادية وبواطنه الخفية، وليس هذا القسم من الدعوات بالكثير وإن كان ناقد الكتاب يقول: إن دعواته أقرب إلى تسبيحات المتصوفة منه إلى العبادات العامة أو العبادات المقررة للجميع، وهي على حد تعبيراتهم «العبادات الأرثوذكسية».

ويقول ناقد الصحيفة الأدبية: «إن نشر هذه الدعوات بين المسيحيين، وهي مما يغلب عليه اللطف المستحب؛ خليق أن يقرب أسباب التفاهم بين الديانات فيما هو أقرب الأمور إلى جوهرها جميعًا وهو العبادة. وإن العبادة الإسلامية بأسلوبها الصوفي على الخصوص لتحمل كثيرًا من معاني المشابهة والمشاركة بينها وبين العبادة المسيحية.»

ويمضي الناقد قائلًا: «ولم تقصر المؤلفة اختيارها على هذا النوع — يعني نوع الدعوات الصوفية الخالصة — بل هي تعرض لنا ما يلتبس بشيء من الكثافة في أوراد المتصوفين المعاصرين، وإن هذين النمطين من أنماط الدعوات الصوفية ليظهران معًا بين المسلمين كما يظهران متصاحبين في تقاليد أكبر الكنائس الغربية.»

نقول: إن عيب هذا الكتاب وأمثاله أن مؤلفيها يحشرون فيها كل ما ينقلونه عن الإسلام إلى صعيد واحد، ولا يكتفون بالجانب الخالص منه متعللين بدعوى الحيدة واجتناب التحيز لهذا الفريق أو ذاك فيما ينسبونه إلى أتباع الديانة التي هم غرباء عنها متهمون بالغرض إذا تشيعوا لفريق من أتباعها على غيره. ولولا هذا الخلط الذريع لكانت هذه الدعوات عنوانًا صالحًا للديانة الإسلامية في جوهرها، وهو جوهر العبادة كما قال ناقد الكتاب.

وعندنا أن الإسلاميات التي تنشر في الغرب تحتمل الترتيب والتقديم بالأولية من وجهة النظر الإسلامية، فأجدرها بالنشر — وأولها في هذا الترتيب — أمثال هذه الدعوات والصلوات، على شريطة السلامة من شوائب التصوف الكثيف، كما وصفه ناقد الكتاب، ومن شوائب التصوف المدخول الذي تطرق إلى الإسلام من بقايا الديانات الشرقية الخالية، ومنه ذلك الإغراق في دعوى الحلول ودعوى «الإلهية الكونية» التي تسمى عند أصحابها بوحدة الوجود، ولا ينكر المسلم أن يؤمن بالتجلي الإلهي في آيات الكون بين السموات والأرضين، فإنه مأمور بالبحث عن هذه الآيات بنصوص الكتاب ووصايا الأحاديث النبوية، ولكنه ينكر أن يؤمن بالوثنية الكونية التي تصدق على من يؤله الكون كما تصدق على من يؤله جزءًا من أجزائه، فهو في تنزيهه للوجود الإلهي لا يرفض عقيدة من العقائد كما يرفض هذه «الوثنيات».

فإذا سلم كتاب الدعوات الإسلامية من أوراد أدعياء الصوفية، ومن لوثة الحلول، ووحدة الوجود، فكل ما بقي منها فهو الدين الحق على أفضل ما يكون في عقل الإنسان وضميره، وليس لدين من الأديان دعوات، أو صلوات ترتقي إلى أفق من التنظيم أرفع من أفقها الذي ارتفعت إليه في الإسلام.

ففي البرهمية سبحات من التصوف الروحاني تعلو إلى الذروة بين الدعوات الدينية، ولكنها تفارق التوحيد دائمًا كلما أوغلت في أعماق العقيدة أو رجعت إلى التشبيه بالقوى الطبيعية. وكثيرًا ما ينتهي بها أسلوبها في التنزيه إلى فناء كالعدم يتساوى فيه الوجود المطلق و«اللاوجود» على الإطلاق!

وفي غير البرهمية من الديانات الكبرى أوصاف للإله تهبط بالخالق إلى مشابهة الخليقة وتنسب إليه أفعالًا كأفعال أرباب الديانات الأولى، وهذه جميعًا شوائب للإيمان بالربوبية يتنزه عنها الإسلام ولا تخفى على غير المسلمين، بل يحسبها بعضهم غلوًّا في «الإبعاد بين الخلق والخالق»!

ودعوات الإسلام حقيقة أن تسكت المتخرصين عليه ممن يتهمونه بالمادية أو بالوقوف عند حدود الحياة «العملية» التي تتجافى بالمسلمين عن صفاء الروح وتلصقهم بنعيم الأرض حتى حين يتصورون نعيم السماء.

ولو أن كتاب الدعوات الإسلامية خلا من الدعوات المدخولة لكان في الطليعة من الكتب التي يحق لها النشر بين الأوروبيين من وجهة النظر الإسلامية، ولكننا نستكثر على مؤلف غير مسلم أو مؤلفة غير مسلمة أن يعمل لإبراز الإسلام على هذه الصورة المثلى، وحسبه أنه يعف عن محاسنه فلا يطمسها.

•••

أما الكتاب الآخر عن الإسلام ووحدة الجماعة فقد كتبنا عنه منذ شهرين في مجلة منبر الإسلام، وخلاصته في بضعة سطور أن الدعوة المحمدية كانت دعوة تجديد بين أناس غير محافظين، لأن كفار قريش كانوا قد تبدلوا في معيشتهم وخالفوا سنن البداوة العربية من قبلهم، ولكن الفارق بين تجديدهم وتجديد الإسلام أن الإسلام أعطى ضمير الفرد «مثلًا أعلى» يستقيم عليه وجوده بين أبناء قومه وبين بني الإنسان عامة، وأنه أعطى الجماعة الإسلامية كيانًا يسمى «الأمة» ويجعل لها من ثمة قبلة واحدة وإمامة واحدة تثبت على تقلبات الأيام وصروف التاريخ.

وإنما نعود إلى الكتاب على هذه الصفحات لنعلق على تعليق الصحيفة الإنجليزية، فإن ناقد التاريخ — على خلاف العادة في هذه الصحيفة — قد أنحى على الكتاب ومؤلفه إنحاء يكاد أن ينحدر إلى الإهانة والتنديد، ولعله بهذا المسلك العجيب يعزز الشبهة التي تساور أذهان قراء الصحيفة في السنوات الأخيرة، وهي شبهة الهوى المصبوغ بصبغة التطرف الاجتماعي الذي يقترن أحيانًا بالإسرائيليات ونزعات الهدم والفوضى في الفن والأدب، وكأنما استحق الدكتور مونتجومري ذلك الإنحاء عليه من ناقده المتطرف لأن كتابته في نظره قد تحسب من قبيل المحاباة للإسلام، وإن تكن في نظر القارئ المسلم دون حق الإسلام في التعظيم والتحقيق.

وأكبر مآخذ الناقد على مؤلف الكتاب أنه نسي «قابلية الدين» للمفارقات وهو يكتب عن الإسلام وعن النظم السياسية والاجتماعية في تاريخه، فاستعظم على الإسلام أن ينجو من الاتهام بمصادمة الواقع ومخالفة المعقول، كأنه كان يطالب المؤلف بتكرار المقال عن جمود النظام الاجتماعي في الإسلام؛ لأنه لم يقرر مبادئ الاجتماع التي تتابعت بعد قيام دعوته لينقض بعضها بعضًا إلى هذا الزمن الأخير، وليس تعليقنا على هذا التعليق إنكارًا لما ادعاه عن موقف الإسلام من المذاهب الاجتماعية التي ظهرت منذ قيامه ولا تزال تظهر إلى اليوم، ولكننا نعلق عليه لنقول: إن الإسلام قد استوفى شرط الدين حقًّا؛ لأنه عقيدة تثبت على تقلب المذاهب الاجتماعية ولا تزول مع كل عقيدة منها، وقد يزول نظام رأس المال ويزول غيره من النظم التي تعاديه أو تواليه، ولكن الإسلام يقيم للمجتمع نظامًا قويمًا لا يعنيه تبدل الأسماء حين يكفل له تحريم الاحتكار ويوجب فيه إنصاف العاملين ومعونة العاجزين عن العمل، وأيما نظام يمتنع فيه كنز الذهب والفضة وتداول الثروة بين الأغنياء، ويلتزم فيه المجتمع بأعباء الضعفاء والمحرومين، فهو نظام إسلامي مشروع، وهو كذلك نظام إنساني متجدد، والمسلمون الذين يطبقونه أناس مفروض فيهم أنهم خلائق عاقلة، تنطلق أيديها بتدبير مصالحها ولا تُملَى عليها قبل ولادتها إملاء الحروف والبنود، لكي تطاع على السماع، ولا تسمح لمن تُملِي عليهم بموقف غير موقف الخضوع والاتباع.

١  الأزهر سبتمبر ١٩٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤